الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣] عام في الكفار الآيسين ما عاد أحد منهم يطمع في تبديل دين الإسلام بالكلية.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] عام في الدين ، لم يبق في شيء منه / [١٢٨ / ل] نقص.

(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] عام أريد به الخاص وهو نعمة الدين ، أما نعمة الدنيا ، ففي إتمامها نظر ؛ فإنها إنما تتم بملك الدنيا بأسرها كما ملكها سليمان ونحوه.

ولقائل أن يقول : لعل الاقتصار من نعمة الدنيا على بعضها من إتمام نعمة الدين في حق هؤلاء المخاطبين لئلا تلهيهم عن مهام الآخرة.

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] إن قيل : هاهنا وفي قوله ـ عزوجل ـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩) [آل عمران : ١٩] (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥) [آل عمران : ٨٥] جعل الإسلام هو الدين جميعه ، وفي حديث جبريل الصحيح جعل الإيمان والإسلام والإحسان هو الدين ، فالدين الذي / [٦١ / أ / م] هو الإسلام في الآيات الثلاث هو ثلث الدين الذي هو مجموع الأمور الثلاثة في الحديث ، فكيف الجمع؟

وجوابه من وجوه :

أحدها : أن الثلاثة لما كانت متلازمة في نظر الشرع جاز التعبير ببعضها عن جميعها ؛ لأن باقيها لا ينفك عن المذكور منها كما يقال : الإنسان هو الناطق ، ولا ينص على الحيوان للزومه إياه.

الثاني : أن يكون الدين مشتركا بين الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث ، وبين الإسلام وحده المذكور في الآية. فأراد في كل واحد منهما أحد المشتركين.

الثالث : يكون معناه : ورضيت لكم الإسلام من الدين ، أي رضيته لكم جزءا من الدين مضموما إليه الجزءان الآخران.

الرابع : أن معناه ورضيت لكم دين الإسلام وهو مجموع الأمور الثلاثة فتتفق الآية والحديث.

الخامس : أن الإسلام صار في العرف علما على ما يقابل اليهودية والنصرانية وسائر

٢٠١

الملل من الأديان ، فكأنه قال : ورضيت لكم هذه الملة الخاصة المقابلة لسائر الملل دينا ، وهو معنى الذي قبله.

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) [المائدة : ٣] عام في المضطر ، وهذا مخصوص لعموم التحريم المتقدم في الميتة ، وما بعدها وظاهره جواز الأكل مما أهل به لغير الله ـ عزوجل ـ وما ذبح على النصب للمخمصة.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤) [المائدة : ٤] ليس المراد بها ضد الخبائث المحرمات ، إذ كان يصير تقديره ، أحل لكم الحلال ، وهو دور لا يحصل به جوابهم ، وإنما المراد أحل لكم المستلذات والمستطابات ، فيكون عاما مخصوصا بما حرم منها كالخمر ولحم الخنزير ، والسباع والجوارح ، ونحوها من المستلذات المحرمة.

(وَما عَلَّمْتُمْ) [المائدة : ٤] أي وأحل لكم صيد الجوارح المعلمة ، وهو عام فيه ، خص بصور :

منها : ما أمسكه الكلب ونحوه على نفسه لا / [١٢٩ / ل] على صاحبه بدليل (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٤].

ومنها : ما أكل الكلب منه لدلالته على أنه إنما أمسك على نفسه.

ومنها : ما لم يسم الله ـ عزوجل ـ على الصائد عند إرساله عليه على خلاف فيه ، بدليل (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٤].

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١) [الأنعام : ١٢١] وغير ذلك من الصور المفصلة في الفقه ، والجوارح عام خص بصفة التعليم والتكليب.

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٤] عام خص بما لم يسم عليه على ما مر ، وبما شارك الكلب فيه غيره مما يقدح في الحل ، ككلب استرسل بنفسه ، أو كلب مجوسي ، أو ترد من علو أو ماء / [٦١ ب / م] مغرق أو كان الكلب مغصوبا ، إذ صيده لمالكه ، أو

٢٠٢

كان ما أمسكه الجارح ونحوه ، غير مأكول كسبع أو جارح مثله ، ونحو ذلك من الصور.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٤] فيه مسألتان :

إحداهما : أنه يدل على أن الاسم غير المسمى ، أما أولا فلإضافة اسم إلى الله ، والإضافة تقتضي التغاير.

وأما ثانيا : فلأن الذي يتحرك به لسان المسمي على الصيد ، ليس هو الذات القديمة قطعا ، وإنما هو لفظ دال عليها ، وذلك قاطع في التغاير.

الثانية : أن اسم الله هاهنا إما عام أريد به الخاص أو المراد به المعهود ، وهو لفظ الله ، وليس المراد عمومه ، وإلا لتوقف حل الصيد ، والذبيحة على ذكر كل اسم لله ـ عزوجل ـ أو على ذكر التسعة والتسعين اسما ، وأنه باطل بإجماع.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٥) [المائدة : ٥] عام خص بصور :

منها : ما حرم علينا ابتداء كالميتة والخنزير ، فيكون محرما علينا ابتداء ، بواسطة أهل الكتاب.

منها : ما حرم عليهم كذي الظفر من بهيمة الأنعام ، ونحوها ؛ لأننا تبع لهم في حل طعامهم فحرم علينا ما حرم عليهم.

ومنها : [شحم الثرب](١) والكليتين مما يحل لهم ذبحه يحرم عليهم وفي حله لنا قولان :

ومنها : الغدة ، وإذن القلب ، يكره أكله لنا مطلقا مما ذبحوه ، أو ذبحناه ، وفي تحريمه خلاف. وما كان من مثل هذه الصور.

(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة : ٥] عام ، ويخص منه شحم ذبائحنا المحرم عليه ، لو ذبحه هو.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) [المائدة : ٥] أي : العفائف يحل لكم نكاحهن ، ويخص منه ذوات الأزواج ، والمعتدة والمحرمة بسبب أو نسب مما ذكر في سورة النساء ، والمشتبهة

__________________

(١) الثرب : هو شحم قد غشي الكرش والأمعاء. انظر لسان العرب [١ / ٢٣٥] [ث ـ ب].

٢٠٣

كأخته المشتبهة بأجنبيات حتى تتعين ، والزانية على الزاني وغيره حتى تتوب ، وتعتد لمفهوم المحصنات / [١٣٠ / ل].

كل هؤلاء يحرم نكاحهن مطلقا أو مؤقتا ويخص بهن هذا العموم. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] عام في حرائر أهل الكتاب يحل نكاحهن من الذميات والحربيات ، وفي الحربيات خلاف ، الأصح جوازه للعموم ، والأصح امتناع نكاح إمائهم للتخصيص بالمحصنات ، وهن الحرائر ، إذ لا إحصان لأمة.

(وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥] عام مطرد.

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦) [المائدة : ٦] اقتضى بعمومه وجوب الوضوء لكل صلاة ، فإن تعذر الوضوء فالتيمم خص ذلك في الوضوء بالإجماع ؛ لكونه رافعا ، فلا يجب إلا على من أراد الصلاة وهو محدث ، وبقي في التيمم على عمومه / [٦٢ أ / م] فيجب عند إرادة كل صلاة بحيث لا يجمع بتيمم واحد فرضين في وقت واحد ، وهو مذهب الشافعي ، وقول لأحمد ، والصحيح عنده أن التيمم وظيفة الوقت ؛ فيصلي به ما شاء في الوقت من فروض ونوافل ، حتى يخرج.

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] عام في الوجه ، وهو من منابت شعر الرأس المعتاد إلى مجتمع اللحيين طولا ، وما بين الأذنين عرضا ، وخص منه داخل العينين ؛ فلا يجب غسله إذا خيف الضرر ، وإن أمن ففي استحبابه وجهان ، ومقتضى العموم وجوبه ، وفي المسترسل من اللحية عن مجتمع اللحيين قولان :

أحدهما : يجب غسله ؛ لاتصاله بمحل الفرض.

والثاني : لا يجب لخروجه عن حد الوجه ، وداخل الفم والأنف متردد بين ظاهر الوجه

٢٠٤

وباطن الحلق ؛ فمن ثم وقع الخلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق.

(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] عام ثم إن قيل : حد اليد إلى تحت الإبط كما فهمه الصحابة أولا ، فقد خص منها ما بين المرافق والآباط ؛ وإن قيل : إن حدها إلى الكوع ؛ كما في قطع السارق ؛ فهو عام مطرد ؛ وزيد عليه ما بين الكوع إلى المرفق ، بالغاية المذكورة إلى المرافق ؛ وبهذا [يتضح القول] في دخول المرافق في الغسل ؛ فعلى حد اليد الأول يكون دخول المرفق في الغسل بعموم لفظ اليد بعد تخصيص ما فوق المرفق إلى الإبط وعلى حدها الثاني. ينبني على أن «إلى» بمعنى مع على غير المختار ، فيدخلان في الغسل أو على أصلها في الغاية ؛ فينبني على أن الغاية تتناول ما بعدها ، فيه أقوال.

ثالثها : إن كان من جنسها ، تناولته وإلا فلا ، وهو اختيار المبرد.

ورابعها : أنها مجملة في التناول وعدمه ، يقف على الدليل فإن قلنا : يتناوله مطلقا ، أو إذا كان من جنسها دخل / [١٣١ / ل] في الغسل هاهنا ؛ لأن المرفق من جنس اليد ، وإن قلنا : يتناول ما بعدها ، أو هي مجملة يحتمل التناول وعدمه ، ففيه قولان :

أحدهما : يدخل في الغسل ؛ لبيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بفعله حيث توضأ فغسل يديه ، وأدار الماء على مرفقيه.

والثاني : لا يدخل ، هو قول زفر بن الهذيل (١) من أهل العراق ، عملا بمقتضى الغاية في عدم التناول أو اقتصارا على الأقل المتيقن إن جعلناها مجملة ، ويحمل فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غسل المرافق على الاستحباب ، والقول في (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] نحو منه في (إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦].

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] فيه مسائل :

الأولى : الباء ، قيل : للإلصاق. وقيل : زائدة. فتقتضي تعميم الرأس بالمسح أي امسحوا رءوسكم ملصقين بها أيديكم ، وهو مذهب مالك أحمد رحمهما‌الله.

وقيل / [٦٢ ب / م] : للتبعيض ، فيقتضي إجزاء مسح بعضه ، وهو مذهب الشافعي ـ رحمه‌الله ـ ولو شعرة لحصول مسمى المسح ، والزيادة والتبعيض ضعيفان ، وإن كان

__________________

(١) زفر بن الهذيل بن قيس العنبري الفقيه توفي سنة ١٥٨ ه‍ انظر العبر [١ / ٢٢٩] شذرات الذهب [٢ / ١٦١].

٢٠٥

التبعيض في الباء منقولا عن الشافعي ، ولو ثبت عنه كان حجة ، وقد خرج مسح البعض على غير تبعيض الباء ، وهو أن الباء إن وردت للتبعيض وغيره في الاستعمال فكانت في الآية مجملة لاحتمالها الأمرين ، فاقتصر فيه على الأقل المتيقن ، وهو ما يصدق عليه اسم المسح ، وهو تقرير الإمام فخر الدين ، في تفسيره.

وعند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ الواجب مسح ربع الرأس ، وعنه قدر الناصية ، وعنه قدر ثلاث أصابع ؛ لأن المسح يقتضي آلة يمسح بها ، وهي الكف ، وثلاث أصابع أكثره ، فقامت مقام جميعه ، وفي كون الباء للتبعيض أولا مباحث نظرية ، مذكورة في أصول الفقه لا نطيل بذكرها ، ويكفي في ذلك إطباق أهل اللغة على إنكار أنها للتبعيض إلا ابن كيسان (١) ، وما يروى عن الشافعي ، قال ابن برهان الأصولي النحوي (٢) : من زعم أن الباء للتبعيض ، فقد أتى أهل اللغة بما لا يعرفونه ، ومحل الخلاف ما إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه نحو : مسحت رأسي ، وبرأسي لا مطلقا.

المسألة الثانية : ذكر الرأس ، وهو ممسوح متخللا للمغسولات ، احتج به من رأى الترتيب فرضا في الوضوء ، هو الشافعي وأحمد ـ رحمهما‌الله ـ بناء على أن ذلك ، لا بد له من فائدة ، ولا فائدة إلا التنبيه على الترتيب ، وفيه نظر ؛ لأن لقائل أن يقول : إن تخلل الرأس للمغسولات هو بمقتضى الكلام القديم عبارة مسموعة جعل أو معنى ذاتيا ، والكلام القديم لا يعلل بالفوائد والعلل ، سلمنا أنه لا بد له من / [١٢٣ / ل] فائدة ، لكن جاز أن تلك الفائدة تعديل الكلام المعتبر في الإعجاز ، وجاز أنها للتنبيه على استحباب الترتيب لا وجوبه ، ومن الشافعية من بنى الترتيب في الوضوء على كون الواو العاطفة تقتضي الترتيب [لا وجوبه] وبعض الأعضاء معطوف على بعض بها. ويحكى أيضا عن الشافعي ، والصحيح أن لا ترتيب فيها وأنها للجمع المطلق كما مر.

ومنهم من أثبت بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ وقال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» (٣) ، وذلك الوضوء إما مرتب ؛ فيلزم ألا تقبل الصلاة إلا بوضوء مرتب ، وهو المطلوب ،

__________________

(١) هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان البغدادي توفي سنة ٢٩٩ ه‍.

(٢) هو أحمد بن علي بن علي بن محمد الوكيل المعروف بابن برهان توفي سنة ٥٨١ ه‍ انظر شذرات الذهب [٤ / ٦٢] وفيات الأعيان [١ / ٩٩].

(٣) رواه ابن ماجة [١ / ١٤٥] [٤١٩] والدارقطني [١ / ٨٠] [٤] ورواه عن أبي بن كعب [١ / ٨١] [٦] ورواه البيهقي أيضا عن ابن عمر [١ / ٨٠] ورواه ابن عدي [٣ / ٩٨ ، ٢٩٩] انظر الشرح الكبير [١ / ١٤٩] والإنصاف [١ / ١٣٨] المغني [١ / ١٥٦].

٢٠٦

أو غير مرتب ؛ فيلزم أن لا تقبل الصلاة إلا بوضوء غير مرتب ، وهو خلاف للإجماع ، وهي طريقة حسنة مطردة ، في جميع أبعاض الوضوء غير أنها منتقضة على كل مستدل بها بما لا يقول هو بوجوبه في الوضوء كالمضمضة والاستنشاق والموالاة / [٦٣ أ / م] وسائر السنن عند من لا يرى فرضية شيء منها ؛ فإن النكتة جارية فيه بعينها بأن يقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، ثم لا يخلو إما أنه عليه الصلاة والسّلام تمضمض فيه أو لا ، إلى آخرها.

المسألة الثالثة : (وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] قرأ نصف القراء بفتح اللام نصبا عطفا على الوجوه والأيدي في الغسل. واحتج به الجمهور ، وقرأ الباقون بكسر اللام جرا عطفا على الرءوس في المسح. واحتج به الشيعة.

ثم كل واحد من الفريقين تأول قراءة الآخر على خلاف الظاهر ؛ فالجمهور تأولوا قراءة الجر على المجاورة للرءوس ، نحو :

 ...

كبير أنا في بجاد مزمل

 ...

صفيف شواء أو قدير معجل

وجحر ضب خرب ، والأصل مزمل وخرب بالرفع ، وقديرا بالنصب ، وإنما جر الثلاثة لمجاورتها المجرور قبلها.

وردت الشيعة ذلك بأن الإعراب على المجاورة شاذ نادر ، أو ضعيف في القياس فلا تحمل عليه القراءة المشهورة ، ثم هو إنما يستعمل حيث يؤمن اللبس لا حيث يلبس كما هاهنا ، على أن معنى الشاهد الثالث : لكم جحر ضب خرب جحره ، فهو نعت سببي مقيس لكن حذف الفاعل لدلالة خبر المبتدأ عليه ؛ إذا التقدير : هذا جحر ضب خرب جحره.

والشيعة تأولوا قراءة النصب على أنها على محل (بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] وهو نصب نحو : «فلسنا بالجبال ولا الحديدا» ، وهو أقرب من الوجوه والأيدي ، والعطف على الأقرب أولى.

ورد الجمهور ذلك بأن العطف على محل (بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] وإن كان أقرب ، لكن العطف على لفظ الوجوه والأيدي أقوى / [١٣٣ / ل] واعتبار الأقوى أولى من اعتبار الأقرب ؛ لأن القوة معنى حقيقي ، والقرب معنى إضافي عدمي ، ثم أكدوا ذلك بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، واتفاق السواد الأعظم على غسل الرجلين.

٢٠٧

واعلم أن الخلاف لما قوي في هذه المسألة من الطرفين ذهب قوم من الجمهور إلى التخيير بين الغسل والمسح ، وآخرون إلى الجمع بينهما احتياطا ؛ فصار فيها أربعة مذاهب ، وخص من عموم الأعضاء الأربعة ما قام به مانع من التطهير كالجراحة والشجة ونحوها.

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [المائدة : ٦] عام خص منه من لا تشتهى لصغرها والمحرم ، على خلاف في ذلك ؛ فلا ينقض الوضوء مسها واللمس من غير قصد أو لغير شهوة عند بعضهم ، ثم إن الملامسة حقيقة وضعية في تماس البشرتين ، ومجاز في الوطء ؛ فمن اعتبرهما من لفظ واحد ـ كالشافعي ونحوه ـ ينقض الوضوء بالجماع واللمس ، ومن لم يعتبرهما في لفظ واحد ـ كأبي حنيفة ـ نقض / [٦٣ ب / م] الوضوء بالجماع للإجماع ، ولم ينقضه باللمس ، وإلا لاعتبر من اللفظ الواحد حقيقته ومجازه وأنه باطل عنده ، وهذا من مسائل الحقيقة والمجاز في أصول الفقه.

(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) [المائدة : ٦] هذا نكرة في سياق نفي ؛ فيعم ، ومقتضاه أنه إن لم يعدم جميع أفراد الماء المطلق لا يجوز له التيمم. وقد وقع النزاع في صور :

منها : الماء المتغير بالطاهرات تغيرا شديدا بحيث لا يخرجه عن طبيعة الماء وقوته ، هل يجوز الوضوء بناء على أن الماء المطلق يتناوله أم لا؟ (١).

ومنها : المستعمل في رفع الحدث (٢) ، أجاز مالك استعماله في الطهارة مع الكراهة ، ومنعه الباقون ؛ بناء على ذلك أو كونه صار نجسا عند بعضهم.

ومنها : نبيذ التمر عند عدم الماء في السفر ، هل يتوضأ به أم لا؟

منعه الأئمة إلا أبا حنيفة (٣).

حجة المانع : أن جميع أفراد الماء معدومة فوجب الانتقال إلى التيمم ؛ إذ لم يجعل الشرع بينهما واسطة فمن أجاز الوضوء بالنبيذ فقد أثبت الواسطة ، حيث لم يثبتها الشرع ، وأنه غير جائز.

__________________

(١) انظر بداية المجتهد [١ / ٢٠ ، ٢١] ونهاية المحتاج [١ / ٥٤] حاشية رد المحتاج [١ / ١٨١] ، فتح القدير [١ / ٦٢ ، ٦٤].

(٢) انظر المغني [١ / ١٨ ، ٢٠] ، الإنصاف [١ / ٣٥ ، ٣٦] وبداية المجتهد [١ / ٢١] ، الكافي [١ / ١٥٨] ومغني المحتاج [١ / ٢٠] شرح فتح القدير [١ / ٧٧ ، ٧٨].

(٣) انظر المدونة [١ / ٤] ، بداية المجتهد [١ / ٢٥ ، ٢٦] وشرح فتح القدير [١ / ١٠٣ ، ١٠٥].

٢٠٨

حجة من أجاز قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن مسعود ولم يجد معه إلا نبيذا : «ثمرة طيبة وماء طهور» (١) فسماه ماء ؛ ولأنه لا بد في النبيذ من أجزاء مائية ؛ فوجده لم يعدم جميع أفراد الماء فيلزمه استعمال تلك الأجزاء واستعمالها مفردة لا يمكن لاستهلاكها / [١٣٤ / ل] فيوصل إليه باستعمال الجميع ـ أعني الماء ـ وما استهلك فيه ، وصار ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

والجواب : أن الحديث قد ضعف ، والأجزاء المائية في النبيذ خرجت عن اسم الماء وطبيعته ؛ فلا يتناولها العموم ، فلا يجب استعمالها.

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة : ٦] اختلف في من هاهنا هل هي للتبعيض أو لابتداء الغاية؟ فعلى الأول يشترط فيما يتيمم به أن يكون له غبار يعلق بمحل التيمم ؛ تحقيقا لمعنى الباء في التبعيض ، وهو مذهب الشافعي وأحمد (٢) ، وعلى الثاني : لا يشترط ذلك ؛ لأن الواجب ابتداء المسح من الصعيد ، وهو حاصل بدون الغبار حتى لو ضرب بيده على حجر صلد ونحوه مما لا غبار فيه جاز ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة (٣).

ثم ألزم الشافعية الاكتفاء بمسح بعض الوجه في التيمم من قوله ـ عزوجل ـ : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) [المائدة : ٦] كما جاز الاكتفاء بمسح بعض الرأس من (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] وإلا فسووا بينهما في التعميم ، أو افرقوا بين الموضعين مع اتحاد الصيغة ، ووجود الباء المبعضة فيهما لكنهم فرقوا بأن المسح في الرأس أصل فعمل فيه مقتضى الباء التبعيض بخلاف المسح في / [٦٤ أ / م] الوجه فإنه ينزل عما يجب استيعابه به وهو الغسل فألحق بأصله.

__________________

(١) رواه أحمد في المسند [١ / ٤٩٩] وأخرجه أحمد [١ / ٤٠٢ ، ٤٥٠] وأبو داود كتاب الطهارة [٨٤] والترمذي كتاب الطهارة [٨٨] وابن ماجة كتاب الطهارة [٣٨٤] وابن أبي شيبة في المصنف [١ / ٣٨ ـ ٣٩] وأبو يعلى في مسنده [٨ / ٥٠٤٦] [٩ / ٥٣٠١] وابن عدي في الكامل [٤ / ١٣٣٠] [٧ / ٢٧٤] والطبراني في الكبير [١٠ / ٩٩٦٢ ، ٩٩٦٧] وابن حبان في المجروحين [٣ / ١٥٨].

(٢) انظر المغني [١ / ٢٨١] والشرح الكبير [١ / ٢٨٧] ، الإنصاف [١ / ٢٨٤] ، الأم [١ / ٦٦] ، نهاية المحتاج [١ / ٢٧٢].

(٣) انظر شرح فتح القدير [١ / ١٢٧ ، ١٢٨] ، حاشية الدسوقي [١ / ١٥٥] الخرشي [١ / ١٩١ ، ١٩٣].

٢٠٩

وهذا عند التحقيق ليس بالقوي ؛ لأن مقتضيات الألفاظ لا يؤثر فيها اختلاف الأحكام ، وهذا البحث يتعلق بحروف المعاني ، وهي من أبواب أصول الفقه.

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة : ٦] هو عام بدليل (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨) [الحج : ٧٨] وهو عام مطرد ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ لم يشرع حكما إلا وأوسع الطريق إليه ويسره ، حتى لم يبق دون حرج ولا عسر ويحتج بهذه الآية ونحوها من رأى أنه إذا تعارض في مسألة حكمان اجتهاديان ـ خفيف وثقيل ـ ترجح الخفيف دفعا للحرج. وفي هذا أقوال :

ثالثها : التخيير والأخذ بالأثقل أحوط ، وهذه من أصول الفقه.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) [المائدة : ٧] يحتمل [أن هذا] تذكير [للمؤمنين بالعهد المأخوذ عليهم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١٧٢) [الأعراف : ١٧٢] ويحتمل أنه تذكير لهم ببيعتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النصرة والإسلام والتزام أحكام الشريعة ، وهو أشبه / [١٣٥ / ل].

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٢) [المائدة : ١٢] يعني على طاعة موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو عام فيهم.

(وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة : ١٢] استشهد الإمامية بهذا على أن أئمة

٢١٠

الأمة من أهل البيت اثنا عشر على عدد نقباء بني إسرائيل ؛ لأن النقباء هنا الشهود بدليل سياق الآية ، والأئمة شهود على الأمة ؛ لقوله عزوجل : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧١) [الإسراء : ٧١] ولأن الإمام خليفة الرسول ، والرسول شاهد على الأمة فكذا خلفاؤه.

واعلم أن هذا تشبيه مجرد عن غير ربط لزومي ، وإنما الأشبه بنقباء بني إسرائيل نقباء الأنصار الذين بايعوا بيعة العقبة.

(وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) [المائدة : ١٢] أي بالنصرة والإعانة.

(وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) [المائدة : ١٢] عام مطرد في الإيمان بالرسل.

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [المائدة : ١٢] عام في تكفير جميعها ، ولا يجوز تخصيصه بالكفر لقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨) [النساء : ٤٨] لأن تكفير سيئاتهم إنما هو على تقدير الإيمان كما صرحت به الآية ، وهو والكفر لا يجتمعان ؛ فإذن تكفير السيئات عام مطرد فيما سوى الكفر.

(فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) [المائدة : ١٢] عام مطرد.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣) [المائدة : ١٣] يحتمل أن نقضهم إياه بمخالفة جميع أجزائه وهي الخمسة المذكورة في الآية قبلها «إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالرسل ، وتعظيمهم ، وإقراض الله ـ عزوجل ـ قرضا حسنا» ويحتمل أن نقضه بمخالفة بعض أجزائه ، ولو جزء واحد / [٦٤ ب / م] منه ؛ لأن ماهية الجملة تنتفي بانتفاء جزء منها ، كالعشرة تنتفي صورتها وماهيتها بعدم واحد منها.

ويحتج القدرية بهذه ونحوها ، ووجهه أنه ـ عزوجل ـ لعنهم بنقضهم الميثاق ، فلو كان نقضه مخلوقا له لكان لاعنا لهم على فعله ، وذلك جور. وقد عرف هذا وجوابه غير مرة على رأي الكسبية والمجبرة.

٢١١

(وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) [المائدة : ١٣] قسوة القلب صلابته ، فلا يلين لطاعة الله ـ عزوجل ـ وذكره ، وسببها ما يخلقه الله ـ عزوجل ـ في القلب من غلبة شهوات الدنيا عليه والاغترار بها فيخالف في تحصيلها المأمورات ، ويرتكب المحظورات ، وربما قال المعتزلة : إنه ـ عزوجل ـ جعل تقسيته لقلوبهم عقوبة على نقضهم للميثاق فلو كانت العقوبة والذنب جميعا من فعله وخلقه لما كان أحدهما بأن يكون ذنبا والآخر عقوبة أولى من العكس ، ويجاب عنه بالمنع بل نقول : لما كانا جميعا / [١٣٦ / ل] مخلوقين له بالقدرة والاختيار اختار أن خلق النقض ذنبا وتقسية القلوب عقوبة.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [المائدة : ١٣] قيل : حرفوه بالتبديل ، وقيل :

بالتأويل ، والحق أنهم حرفوه بالأمرين ، ولعل اختلاف العبارتين وهي (يحرفون الكلم عن مواضعه) و (من بعد مواضعه) إشارة إلى ذلك ، ويشبه أن تحريفه من بعد مواضعه بالتبديل ، وعن مواضعه بالتأويل ، لأن التبديل أخص التحريفين ، ومن بعد مواضعه أخص العبارتين ، فيجعل الأخص للأخص عملا بموجب المناسبة ، هذا كله في اليهود.

ثم قال الله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤) [المائدة : ١٤] أي بالتوحيد ، فثلثوا ، كما سبق من مذهبهم ، وهذا عام مطرد في النصارى.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) [المائدة : ١٧] هذا عام مطرد.

واعلم أنهم قرروا هذه الدعوى بأن قالوا : كلمة الله ـ عزوجل ـ حلت في هيكل المسيح ، وكلمة الله لا تنفك عن ذات الله ؛ فهيكل المسيح لا ينفك عن ذات الله بواسطة الكلمة الحالة. قالوا : ولا نعني بكون المسيح هو الله ، والله هو المسيح إلا أن ذاته لا تنفك عن ذاته بطريق الحلول ، وقد سبق بطلان هذه المقدمات.

وأجاب الله ـ عزوجل ـ عن دعواهم هذه بقوله ـ عزوجل : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ

٢١٢

شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١٧] وتقريره لو كان الله هو المسيح ابن مريم لامتنع عليه إهلاكه واللازم باطل فالملزوم كذلك ، بيان الملازمة أن الله ـ عزوجل ـ لو كان هو المسيح لكانا ذاتا واحدة قديمة ، [ولو كانا ذاتا واحدة قديمة لامتنع أن يهلك الله] ذاته القديمة / [٦٥ أ / م] إذ القديم لا يقبل العدم ولا الهلاك ولا التأثر بوجه.

بيان انتفاء اللازم وهو أن الله ـ عزوجل ـ قادر على إهلاك من في الأرض جميعا ، بل جميع العالم ، فعلى إهلاك المسيح وحده أولى ، وإذا كان قادرا على إهلاكه لزم أنه ليس هو الله ـ عزوجل ـ لأن إهلاك المسيح مقدور ، وإهلاك الله ـ عزوجل ـ نفسه غير مقدور ؛ ينتج أن المسيح ليس هو الله ، وينعكس كليا أن الله ـ عزوجل ـ ليس هو المسيح ، وهو المطلوب.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) / [١٣٧ / ل] [المائدة : ١٧] إشارة إلى ما سبق من أن العالم بأسره مملوك لله ـ عزوجل ـ ونفسه أو ابنه على تقدير قول النصارى ليس مملوكا له فلو كان المسيح هو الله ـ عزوجل ـ أو ابنه كما قالوا ؛ لكان المسيح خارجا عن عالم السماوات والأرض ، وأنه باطل ، وإذا ثبت أنه من العالم والعالم مملوك مخلوق فالمسيح بهيكله وروحه وكثيفه ولطيفه مملوك مخلوق ، ومختصر هذا أن المسيح من العالم ، وكل ما هو من العالم فهو مملوك مخلوق فالمسيح مملوك مخلوق.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٨) [المائدة : ١٨] تقريره أنكم أيها اليهود والنصارى معذبون بذنوبكم ، والأبناء والأحباء لا يعذبون بذنوبهم ، فأنتم أيها اليهود والنصارى لستم أبناء الله ولا أحباءه ، بل أنتم بشر من خلقه يغفر لمن شاء منكم ويعذب منكم من يشاء.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩) [المائدة : ١٩] معناه معنى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً

٢١٣

فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١٣٤) [طه : ١٣٤] ونحوه من الاحتجاج على الله ـ عزوجل ـ بنفي بعثه الرسل فقطع هذه الحجة عنه بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٠) [المائدة : ٢٠] يقتضي أن النبوة نعمة على النبي وعلى قومه لشرفهم به ، كما قال الله ـ عزوجل ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) (٤٤) [الزخرف : ٤٤] أي : شرف.

قال : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) [المائدة : ٢٧] يحتج به من يرى أن الفاسق لا يقبل له عمل ، ولعله رأي الخوارج ، وتقريره أن الفاسق ليس بمتق ، وكل من ليس بمتق لا يقبل منه عمل ، فالفاسق لا يقبل منه عمل ، أما الأولى فواضحة بذاتها ، وأما الثانية فلهذه الآية لاقتضائها حصر تقبل العمل في المتقين وحصر الشيء في الشيء يقتضي أن لا يوجد في غيره فالتقبل لا يوجد في غير المتقي ؛ وهو المطلوب. أو يقال : المتقبل عمله متق والفاسق ليس بمتق ، فالمتقبل منه ليس بفاسق ، وينعكس كليا الفاسق ليس متقبلا منه.

والجواب : أن هذه الشبهة مبنية على أن (إِنَّما) [المائدة : ٢٧] في الآية للحصر وأن التقوى هي العامة ، وهي تقوى المعاصي على / [٦٥ ب / م] الإطلاق وكلاهما ممنوع ؛ أما الأول فلما تقرر قبل من أن (إنما) / [١٣٨ / ل] لا تقتضي الحصر ، بل الإثبات المؤكد ، وأما الثاني فلأن المراد التقوى الخاصة ، وهي اجتناب الكفر ، وعلى هذا التقدير نمنع مقدمتي الدليل المذكور ، فلا نسلم أن الفاسق ليس بمتق ، ولا أن كل من ليس بمتق لا يتقبل منه ويدل على ما ذكرناه قوله ـ عزوجل ـ : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤) [التوبة : ٥٤] فحصر المانع من قبول النفقة في الكفر ، وذلك يقتضي أن غير الكفر لا يمنع من قبولها ، وحينئذ ينتظم الدليل هكذا : المانع من قبول النفقة هو الكفر ، والكفر غير موجود في الفاسق المؤمن ، فالمانع غير موجود في الفاسق المؤمن.

٢١٤

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١) [المائدة : ٣١] إن كان هذا الغراب ملكا كما قيل ، فلا عجب ، وإن كان غرابا حقيقيا فطالما أرشد الله ـ عزوجل ـ الإنسان ببعض الحيوان ؛ فهذا جالينوس الحكيم إنما استفاد الحقنة من طائر في البحر ؛ إذا أصابه تخمة زج بمنقاره من ماء البحر في دبره فيستطلق فيبرأ. واستفادوا أن الرازيانج فيه جلاء للبصر من الحية ؛ إذا طال مقامها في الشتاء تحت الأرض أظلم بصرها ، فتخرج إذا خرجت على الفور إلى الرازيانج الأخضر فتفتح عينها فيه ، وتجل به بصرها ؛ فيزول عنها ، وهذا النوع كثير في أسرار الحيوان ، وقد أعطى الله ـ عزوجل ـ كل شيء خلقه ثم هدى ؛ فإرشاد ابن آدم إلى دفن أخيه بالغراب من هذا الباب.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (٣٢) [المائدة : ٣٢] اعلم أن العلة الشرعية تارة تستفاد من النص عليها ، وتارة بالإيماء إليها ، وتارة بالسير والتقسيم ، وتارة بالدوران بالنص كما في هذه الآية ، وبها يستشهد في ذلك نحو. فعلت كذا لكذا ، أو من أجل كذا ، أو لعلة كذا ، ونحوه. وباقي الأقسام تشير إلى ما نمر به منه إن شاء الله ، عزوجل.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣٨) [المائدة : ٣٨] يحتج بها القدرية في أن أفعال العباد مخلوقة لهم ، وإلا لكان قطع السارق عقوبة له على خلق غيره ، وذلك جور.

وأجيب بأن قطعه على كسبه ، كما صرحت به الآية ، ولا يلزم من كون الفعل كسبا له أن يكون مخلوقا له.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا

٢١٥

فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٤١) [المائدة : ٤١] هذا حجة على المعتزلة في أن / [١٣٩ / ل] الله ـ عزوجل ـ يريد فتنة بعض الخلق أي : ضلالهم / [٦٦ أ / م] ولا يريد تطهير قلوبهم بالإيمان والهدى ، فيمتنعان منهم ، والآية فيه واضحة غنية عن البيان بتقرير البرهان.

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢) [المائدة : ٤٢] هذا مخصص لعموم قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (١٠٥) [النساء : ١٠٥] خص في أهل الكتاب بهذه الآية حيث خير في الحكم بينهم ، فأما الحكام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل يلزمهم الحكم بين أهل الذمة إذا ترافعوا إليهم؟ فيه خلاف وتفصيل.

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٣) [المائدة : ٤٣] يحتج اليهود بهذا على صحة توراتهم إلزاما للمسلمين ، لأن القرآن قد صرح بأن فيها حكم الله ، وكل ما فيه حكم الله فهو حق معتبر ؛ فالتوراة حق معتبر.

وجوابه : أن معنى (فِيها حُكْمُ اللهِ) أي بعضه أو حكم خاص كحكم الزانيين الذين كانت فيهما القصة ، ونحن لا ندعي تحريف جميعها ، بل ما نلزمهم به الحجة من صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوه ، ولا يلزم من تضمنها بعض حكم الله أن يكون جميعها حقا معتبرا ، وإنما يلزم ذلك أن لو قال : «في جميعها حكم الله». أو : «فيها جميع» ، أو : «كل حكم الله» ، لكنه لم يقل ذلك ، ثم قوله : وكل ما فيه حكم الله فهو حق معتبر ـ غلط أو مغالطة ؛ لأن قولنا : (فِيها حُكْمُ اللهِ) ظرف ومظروف فالمظروف الذي هو حكم الله هو الحق المعتبر ، أما الظرف الذي فيه الحكم فجاز أن يكون حقا وباطلا ، ولو صح ما ذكرت لكان إذا تحقق أن في الإنجيل أو كتاب المجوس ونحوه حكما واحدا حقا هو حكم الله ـ عزوجل ـ

٢١٦

وجب أن يكون جميع الإنجيل ونحوه حقا معتبرا. وأنت لا تقول به.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [المائدة : ٤٤] هذا إنما هو في التوراة المنزلة ، وهي حق ، فلا حجة لليهود فيه على حقية التوراة التي بأيديهم ؛ لأنها مبدل فيها ومحرف.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤) [المائدة : ٤٤].

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥) [المائدة : ٤٥].

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧) [المائدة : ٤٧] في فواصل الآيات الثلاث ، وإنما تفاوتت هذه الفواصل إما لأن الكفر يستلزم الظلم والفسق ، أو لأنه بحسب مراتب المخالفة في الحكم ، فتارك الحكم بما أنزل الله في التوحيد ونحوه من أركان الدين / [١٤٠ / ل] يكون كافرا ، وتاركه في أحكام الفروع كالقصاص ونحوه يكون ظلما فاسقا.

وهو عام فيمن لم يحكم بما أنزل الله ، أو يحكم بغير ما أنزل الله ، ويخص منه المكره والمخطئ في الاجتهاد ، وتارك الحكم بين أهل الذمة إذا ترافعوا إليه إذا / [٦٦ ب / م] قلنا : يخير في الحكم بينهم ، أو لإشكال الحكم وتعارض الدليل ونحو ذلك.

قوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يحتج به من رأى قتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، بناء على أصول :

أحدها : أن شرع من قبلنا شرع لنا ؛ إذ النفس بالنفس من شرع التوراة.

الثاني : أن المفهوم ليس بحجة ، فمفهوم الحر بالحر لا يخصص هذا العموم.

الثالث : آخر الآية : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤٥) [المائدة : ٤٥] يتناول أهل

٢١٧

الإسلام وغيرهم مع أهل التوراة.

وروى أبو حنيفة في مسنده بإسناده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل مسلما بذمي ، وقال : «أنا أحق من وفى بذمته» (١).

حجة الآخرين أن القصاص شرطه المكافأة ولفظه ينبئ عن ذلك ، والعبد لا يكافئ الحر ، والذمي لا يكافئ المسلم ، والأصلان الأولان مع الحديث الذي رواه ممنوعة. والأصل الثالث منصوص أو متروك بأقوى منه.

(وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] عام يخص بما تعذر فيه ذلك بأن لا يؤمن فيه الحيف كالجائفة ونحوها ، وجروح العبد لا يقتص بها من الحر لعدم التكافؤ بينهما ، كما مر.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٦) [المائدة : ٤٦] يعني الإنجيل المنزل لا المبدل ، فلا حجة في هذه للنصارى كما لا حجة لليهود في التي سبقت.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤٧) [المائدة : ٤٧] كانوا مأمورين بالحكم بالإنجيل المنزل قبل نسخ شريعتهم أو بعده إذا تحاكموا إلى حاكمهم وأمكنه معرفة الحكم المنزل.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨) [المائدة : ٤٨] [يحتمل أن هذا ناسخ لما سبق من تخييره [في الحكم] بينهم ، ويحتمل أن المعنى احكم بينهم بما أنزل الله إن اخترت الحكم بينهم ، نحو : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ

__________________

(١) رواه الدارقطني في السنن [٣ / ١٣٤ ، ١٣٥] والبيهقي في السنن الكبرى [٣ / ٣٠] وأخرجه عبد الرزاق في المصنف [١٠ / ١٠١] وأخرجه أبو داود في المراسيل [ص ٢٠٧] وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار [٣ / ١٩٥].

٢١٨

بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [المائدة : ٤٢]

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] يحتج به على أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ، إذ لو لم يكن كذلك لما خصت كل أمة بشرعة ومنهاج.

وأجيب بأن اختصاص كل أمة بشرعة إنما هو في فروع التكاليف ، أما التوحيد ونحوه من أصول الديانات فالشرائع فيه واحدة ، ثم إن الآية ليست في محل النزاع ؛ إذ / [١٤١ / ل] ما كان لنا فيه شرعة ومنهاج لا يحتاج فيه إلى شرع من قبلنا ، إنما محل النزاع هو الحكم الذي لا دليل عندنا فيه ، وهو موجود في شرع من قبلنا ، ولم يرد شرعنا بنسخه ، والآية ليست في ذلك.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المائدة : ٤٨] هو حجة على المعتزلة في أن الله ـ عزوجل ـ أراد اختلاف الأمم ، ويلزم من ذلك أنه أراد هداية المهتدي وضلال الضال ؛ إذ بهما يتقوم الاختلاف ، وفي هذا اللزوم نظر ، بل الاختلاف يحصل بإرادته هداية البعض ، أما ضلال البعض الآخر فهو منهم عند الخصم ، وبالجملة فالآية مراغمة لهم.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨) [المائدة : ٤٨] فيه إثبات البعث / [٦٧ أ / م] والمعاد ، وهو عام مطرد في الجميع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) [المائدة : ٥١] عام في ترك موالاتهم والاستعانة بهم بطريق الموالاة في أمر دين أو دنيا ، إلا حيث يضطر إليهم ولا يوجد مسلم يقوم مقامهم في كتابة أو تطبب ونحوه ؛ فيجوز على ما فيه ، أما بطريق المعاملة كالمبايعة والإجازة والمناكحة ، ونحو ذلك مجردا عن الموالاة فجائز.

والموالاة هي : العناية الظاهرة عن موادة باطنة.

(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [المائدة : ٥١] أي : إنما يصلح موالاة بعضهم لبعض لما بينهم [من جامع الكفر لا للمؤمنين ، لا أنهم في الواقع متوالون ؛ كيف وقد ألقي بينهم] العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) [المائدة : ٥١] ظاهره أنه يكفر بموالاتهم ، وهو كذلك ؛ إذ موالاتهم تستلزم معاداة المؤمنين ، وهي كفر.

٢١٩

أما من اعتنى بأمر بعضهم على جهة الرحمة أو رعاية الذمة ، أو استمالتهم إلى الإسلام ، ونحو ذلك مجردا عن موالاتهم فلا بأس لقوله ـ عزوجل ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٨) [الممتحنة : ٨].

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥٥) [المائدة : ٥٥] احتجت بها الشيعة على إمامة علي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقرير حجتهم منها من وجوه :

أحدها : حصر وليهم في المذكور بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو علي ، والولي هو الإمام ؛ لقوله عليه الصلاة والسّلام ـ : «إن عليا مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي» (١) وفي حديث آخر : «وهو وليكم بعدي» (٢) حديثان مشهوران رواهما أحمد ، والمفهوم من الولي هو الرئيس المطاع أو المتصرف النافذ التصرف ، كولي اليتيم والمرأة خصوصا ، وقد قال : «وليكم بعدي» وهذه البعدية / [١٤٢ / ل] تقتضي في العرف الاستخلاف ؛ لأنهم إنما يحتاجون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إمام يقوم مقامه بأمرهم العام.

الوجه الثاني : قوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) [المائدة : ٥٦] عام أريد به الخاص ، وهو علي عليه‌السلام كقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) [آل عمران : ١٧٣] يعني عروة بن مسعود قال لأبي سفيان ، ولأن جميع المؤمنين لما كانوا في رعاية إمامهم وحياطته وهم تابعون له وردا وصدرا ؛ جاز أن يعبر عنه بلفظهم خصوصا علي ـ رضي الله عنه ـ في شهرته

__________________

(١) صحيح رواه أحمد في مسنده [٤ / ٤٣٧] ورواه الترمذي في كتاب المناقب ح [٣٧١٢] ، [٥ / ٥٩٠ ، ٥٩١] والنسائي في الكبرى في كتاب المناقب ح [٨١٤٦] ، [٥ / ٤٥] وكتاب الخصائص ح [٨٤٥٣] ، [٥ / ١٢٦] والطيالسي [١١١] رقم [٨٣٩] أبو يعلى [١ / ٢٩٣] (٣٥٥) والطبراني في الكبير برقم (٢٦٥) ، [١٨ / ١٢٨ ـ ١٢٩] والحاكم في المستدرك [٣ / ١١٠ ـ ١١١] وأبو نعيم في الحلية [٦ / ٢٩٤].

(٢) رواه أحمد في المسند [٥ / ٣٥٦] ورواه أيضا في فضائل الصحابة [٢ / ٦٨٨] [١١٧٥].

٢٢٠