مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ٨

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ٨

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تلعب بالملاهي ، ولم تدخل الرّجال عليها» (١) ثم نقل الرّواية الدّالّة عليه.

ولعلّه في مواضع آخر (٢) ، أو يريد بعد استثناء ذلك ، وكلامه صريح في العدم.

وأيضا ما رأيت الأخبار الصّحيحة في الحداء ولا العرائس.

نعم يمكن كون خبر أبي بصير صحيحا كما أشرنا إليه ، مع أنّ فيه تأمّلا ، لاشتراكه ، وخبر عليّ بن أبي حمزة الظّاهر أنّه ضعيف ، لأنّ الظّاهر أنّه البطائني الضّعيف الّذي هو قائد أبي بصير يحيى بن القاسم ، بقرينة نقله عن أبي بصير ، والله يعلم.

وقد استثني مراثي الحسين عليه السلام أيضا ، ودليله أيضا غير واضح.

ولعلّ دليل الكلّ أنّه ما ثبت بالإجماع إلّا في غيرها ، والأخبار ليست بصحيحة صريحة في التّحريم مطلقا ، والأصل الجواز ، فما ثبت تحريمه يحرم ، والباقي يبقى ، فتأمّل فيه.

ويؤيّده أنّ البكاء والتّفجّع عليه عليه السلام مطلوب ومرغوب ، وفيه ثواب عظيم ، والغناء معين على ذلك ، وأنّه متعارف دائما في بلاد المسلمين في زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير ، وهو يدلّ على الجواز غالبا.

ويؤيّده جواز النّياحة بالغناء ، وجواز أخذ الأجرة عليها لصحيحة أبي بصير ، قال : «قال أبو عبد الله عليه السلام لا بأس بأجر النّائحة الّتي تنوح على الميّت» (٣).

ورواية حنان بن سدير ، قال : «كانت امرأة معنا في الحيّ ، ولها جارية نائحة ، فجاءت إلى أبي فقالت : يا عمّ أنت تعلم أنّ معيشتي من الله تعالى ثمّ

__________________

(١) التذكرة ج ١ ، الفصل الأول من أنواع المكاسب ص (٥٨٢).

(٢) يريد ان ما نقله صاحب المسالك عن العلامة في التذكرة ، لعله في غير هذا المقام.

(٣) الوسائل ج ١٢ ، كتاب التجارة ، الباب (١٧) من أبواب ما يكتسب به ، الحديث (٧).

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

من هذه الجارية النّائحة ، وقد أحببت أن تسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك ، فإن كان حلالا وإلّا بعتها وأكلت من ثمنها حتّى يأتي الله عزّ وجلّ بالفرج ، فقال لها أبي : والله إنّي لأعظّم أبا عبد الله عليه السلام أن اسئله عن هذه المسئلة ، قال : فلمّا قدمنا عليه السلام أخبرته أنا بذلك ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : أتشارط؟ قلت : والله ما ادري تشارط أم لا ، فقال : قل لها لا تشارط ، وتقبل كلّ ما أعطيت» (١).

ولا يضرّ القول في حنّان بأنّه واقفي ، وعدم التّصريح بتوثيقه.

وحمل مضمرة سماعة : «قال : سألته عن كسب المغنية والنّائحة فكرهه» (٢) على الكراهة مع الشّرط ، للجمع.

والظّاهر أنّه لا خلاف في جواز النّياحة مع عدم مفسدة أخرى مثل إسماعها الأجنبيّ إن كان حراما ، والكذب.

ويؤيّده عمل المسلمين في زمانه صلوات الله عليه ، وزمنهم عليه السلام إلى الآن.

وقوله صلّى الله عليه وآله «أن ليس لحمزة في هذا البلد (هذه البلدة خ) نائحة» (٣) وسماع أهل المدينة ذلك ، وجعلهم النّياحة على حمزة إلى الآن أوّلا ، ثمّ على ميتهم (موتاهم خ) مشهور.

__________________

(١) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ١٧ ، الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق والباب نفسه ، الحديث ٨.

(٣) سنن ابن ماجة ، ج ١ (٥٣) باب ما جاء في البكاء على الميت ص (٥٠٧) الحديث (١٥٩١) ولفظ الحديث (عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم مرّ بنساء عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم احد. فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم (لكن حمزة لا بواكي له) فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة ، فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال : ويحهن ما انقلبن بعد؟ مروهن فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم).

٦٢

ومعونة الظّالمين بالحرام ،

______________________________________________________

يفيد الجواز مطلقا.

وكذا صحيحة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال لي أبي : يا جعفر ، أوقف من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى (١) ولعلّ فيها حكمة يعلمها عليه السلام.

وكذا صحيحة أبي حمزة ـ كأنّه الثمالي ـ عن أبي جعفر عليه السلام حكاية نياحة أمّ سلمة بحضرة النبيّ ، حين استأذنت الرّواح إلى نياحة لابن عمّها (٢).

ويؤيّده أنّ التّحريم للطّرب على الظّاهر ، ولهذا قيّد بالمطرب ، وليس في المراثي الطّرب ، بل ليس إلّا الحزن ، وأكثر هذا يجري في استثناء مطلق المراثي ، وكأنّه ترك للظّهور.

وبالجملة : عدم ظهور دليل التحريم ، والأصل ، وأدلّة جواز النّياحة مطلقا بحيث يشمل الغناء بل الظّاهر أنّها لا تكون إلّا معه ـ يفيد الجواز ، والله يعلم.

ولكن لا بدّ من قصد التّفجّع ، والنّدبة عليه عليه السلام في الغناء بمرثيّته لا غير ، وهو ظاهر.

ثمّ أنّ الظّاهر أنّ المنع من بيع المغنية للتغنيّ مع العلم ، ويمكن المنع مع الظّنّ الغالب المتاخم للعلم كذلك ، لا مطلقا ، فإنّ لها منافع غير الغناء ، ويؤيّده جواز بيع العنب لمن يعمل خمرا ، كما تقدّم ، والاجتناب مطلقا اولى وأحوط.

قوله : «ومعونة الظّالمين بالحرام» متعلّق بمعونة ، أي : يحرم معونة الظّالمين بما يحرم ، يريد به الاحتراز عن معونتهم بالمباحات ، كالخياطة لهم والبناء والزّراعة وغيرها ، ويمكن كراهة ذلك أيضا ، لأنّه معاملة مع الظّالمين ، وتصرّف في المشتبهات

__________________

(١) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ١٧ ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر ، ونفس الباب ، الحديث ٢.

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

من الأجر الّذي يؤخذ عن أموالهم ، إلّا ان تعلم حلّيّته ، ولما سيجي‌ء.

ولا شكّ في تحريم معونة أحد من الظّلمة والفسقة في الظّلم والفسق.

ويدلّ عليه العقل والنّقل من الكتاب والسّنّة والإجماع ، مثل «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» (١).

قيل : الرّكون هو الميل القليل ، وإذا كان الميل القليل إليهم موجبا لمسّ النّار الّذي يدلّ على أنّه كبيرة ، فمعاونتهم بالطريق الأولى موجبة لمسّ النّار.

لعلّ المراد ب (الذين ظلموا) حكّام الجور وسلاطينهم (وسلاطينه خ ل) الّذين يجعلون أنفسهم قائمين مقام رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمّة صلوات الله عليهم من بعده كمعاوية وأعوانه واضرابه.

ويحتمل مطلق من يظلم غيره ، لا مطلق العاصي والفاسق ، لأنّه المتبادر إلى الفهم ، ولأنّ الظّاهر الميل إليه ـ لا غير ـ يكون بهذه المثابة لعظم عصيانه ووزره ، ويكون المراد المنع عن معونتهم وعن الدّخول في أعمالهم المحرّمة الموبقة.

كما تدلّ عليه الأخبار الكثيرة جدا مثل حسنة وليد بن صبيح ، قال : «دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فاستقبلني زرارة خارجا من عنده ، فقال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا وليد ، أما تعجب من زرارة؟ سألني عن أعمال هؤلاء أيّ شي‌ء كان يريد؟ أيريد أن أقول له : لا : فيروي ذلك عليّ ، ثمّ قال : يا وليد متى كانت الشّيعة تسأل عن أعمالهم؟ إنّما كانت الشّيعة تقول : يؤكل من طعامهم ويشرب من شرابهم ، ويستظلّ بظلهم ، متى كانت الشيعة تسأل من هذا؟» (٢) وفيه مذمّة لزرارة.

ورواية محمّد بن عذافر عن أبيه ، قال : «قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٣.

(٢) الوسائل ، التّجارة ، الباب ٤٥ مما يكتسب به ، الحديث ١.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عذافر ، نبّئت أنّك تعامل أبا أيّوب والرّبيع ، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظّلمة؟ قال : فوجم أبي ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام لمّا رأى ما أصابه : أي عذافر إنّما خوّفتك بما خوّفني الله عزّ وجلّ به ، قال محمّد : فقدم أبي فما زال مغموما مكروبا حتّى مات» (١) وصحيحة حريز ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «اتقوا الله ، وصونوا دينكم (أنفسكم خ ل يب) بالورع ، وقوّوه بالتّقيّة ، والاستغناء بالله عزّ وجلّ عن طلب الحوائج إلى صاحب سلطان ، واعلم انّه من خضع لصاحب سلطان أو لمن يخالفه على دينه طلبا (طالبا يب) لما في يديه (يده يب) من ديناه أخمله الله ، ومقّته عليه ، ووكله إليه ، فإن هو غالب على شي‌ء من دنياه ، فصار إليه منه شي‌ء ، نزع الله البركة ، منه ، ولم يأجره علي شي‌ء ينفقه في حجّ ، ولا عتق ، ولا برّ» (٢).

وما في حسنة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (في حديث) «إنّه ـ اي باب الوالي ـ لباب من أبواب النّار» (٣) في منع من يهنّئوه.

وحسنة أبي بصير ، قال : «سألت أبا جعفر عليه السلام عن أعمالهم فقال لي : يا أبا محمد ، لا ، ولا مدّة قلم ، إنّ أحدكم (هم خ) لا يصيب من دنياهم شيئا أصابوا من دينه مثله ، أو حتى يصيبوا من دينه مثله ـ الوهم من ابن أبي عمير» (٤).

وحسنة ابن أبي يعفور ـ كذا في المنتهى ، وفي حسنها تأمّل ، لوجود

__________________

(١) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٢ ، الحديث ٣.

(٢) نفس المصدر والباب ، الحديث ٤.

(٣) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٥ ، الحديث ٢ ، صدر الحديث هكذا عن محمد بن مسلم قال : كنّا عند أبي جعفر عليه السلام على باب داره بالمدينة ، فنظر إلى النّاس يمرّون أفواجا ، فقال لبعض من عنده : حدث بالمدينة أمر؟ فقال : أصلحك الله (جعلت فداك خ) ولي المدينة وال ففدا النّاس (اليه خ) يهنئونه ، فقال : إنّ الرّجل ليغدى عليه بالأمر يهنّأ به! إلخ.

(٤) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٢ ، الحديث ٥.

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بشر (بشير خ) (١) ، وهو مشترك ـ قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل (فدخل خ) عليه رجل من أصحابنا فقال له : أصلحك الله (جعلت فداك خ) ، إنّه ربّما أصاب الرّجل منّا الضّيق أو الشّدّة فيدعى إلى البناء يبنيه ، أو النّهر يكريه ، أو المسنّاة (٢) يصلحها ، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام : ما أحبّ أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء وإنّ لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظّلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد» (٣).

وأمثالها مثل ما نقل في المنتهى ، قال :

«وفي الصحيح عن يونس بن يعقوب قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : لا تعنهم على بناء مسجد» (٤).

ومثلها ما نقله في الكشّاف في تفسير قوله تعالي «لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ» (٥) في سورة البقرة عن أبي حنيفة أنّه قال : «لو أراد المنصور الدّوانقي وأمثاله من الظّلمة بناء مسجد ، وراودوني على عدّ آجره لما فعلت» (٦).

ويفهم منه اشتراط العدالة في الحاكم ، بل في إمام الجماعة أيضا ، مع أنّ المشهور أنّه لا يشترط عندهم العدالة ـ تدلّ على تحريم معونتهم مطلقا ولو في المباحات ، بل في العبادات ، فيمكن حملها على الكراهة وشدّة المبالغة ، ويمكن حمل الآجر على تقدير العلم بالغصبيّة ، فتأمّل.

__________________

(١) فإن سنده كما في الكافي هكذا علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير ، عن بشير عن ابن أبي يعفور.

(٢) المسنّاة : سدّ يبنى لحجز ماء السيل أو النّهر ، به مفاتح للماء تفتح على قدر الحاجة.

(٣) الوسائل ، التّجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٢ ، الحديث ٦.

(٤) نفس المصدر والموضع ، الحديث ٨.

(٥) البقرة ، الآية ١٢٤.

(٦) الكشاف ج ١ ص (١٨٤) ط بيروت ، وفيه (ارادوني) بدل (راودوني).

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي الحسن ، عن جهم بن حميد ـ لكنّه مجهول ـ (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه السلام لي : أما تغشى سلطان هؤلاء؟ قال : قلت : لا ، قال : ولم؟ قلت : فرارا بديني ، قال : وعزمت على ذلك؟ قلت : نعم ، قال لي : الآن سلم لك دينك» (٢).

وفي خبر آخر : (في حديث) «ألم انهاهم ـ يعني جماعة من المؤمنين ـ من الدّخول في عمل الظّلمة؟ ـ قاله ثلاثا ـ هم النّار ، هم النّار ، هم النّار (٣) أي الظّلمة ـ».

ورواية فضيل بن عياض ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أشياء من المكاسب فنهاني عنها ، وقال : يا فضيل! والله لضرر هؤلاء على هذه الأمّة أشدّ من ضرر التّرك والدّيلم ، قال : وسألته عن الورع من النّاس؟ ، قال : الّذي يتورّع عن محارم الله عزّ وجلّ ويجتنب هؤلاء ، وإذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه ، وإذا راى منكرا (المنكر ـ كا) فلم ينكره وهو يقدر عليه فقد أحبّ ان يعصي الله ، عز وجلّ ومن أحبّ ان يعصي الله فقد بارز الله عزّ وجل بالعداوة ، ومن أحبّ بقاء الظّالمين فقد أحبّ أن يعصي الله ، إنّ الله تبارك وتعالى حمد نفسه على هلاك الظّالمين ، فقال (٤) «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (٥).

وفيها أحكام ودلالة ما على كراهة المعونة مطلقا ، فافهم ، فالأخبار في ذلك لا تحصى كثرة (٦) ، وفي هذا القدر كفاية.

__________________

(١) يعني السند الي جهم بن حميد حسن بإبراهيم بن هاشم ، اما جهم فهو مجهول.

(٢) الوسائل ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٢ ، الحديث ٧.

(٣) المصدر نفسه ، الباب ٤٥ ، الحديث ٣. ومتن الخبر هكذا : الم أنهم؟ ا لم أنهم؟ ا لم أنهم؟ ا لم أنهم؟ هم النار إلخ.

(٤) الآية ٤٥ ، سورة الانعام.

(٥) الفروع من الكافي ج ٥ ص ١٠٨ ، والوسائل الباب.

(٦) لاحظ الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة ، الباب (٤٢) الى (٤٦) و (٤٨) من أبواب ما يكتسب به.

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا يؤيّد ما قلناه من أنّ المراد بالظّالمين هم حكّام الجور صريحا ، رواية سهل بن زياد يرفعه (رفعه ئل) عن أبي عبد الله عليه السلام : «في قول الله عزّ وجلّ «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» قال هو الرّجل يأتي السلطان فيحبّ بقائه إلى أن يدخل يده (في خ) كيسه فيعطيه» (١).

وما في الفقيه في باب جمل من مناهي النبيّ صلى الله عليه وآله : «وقال : ومن مدح سلطانا جائرا ، أو تخفّف وتضعضع له طمعا فيه كان قرينه في النّار» وقال صلى الله عليه وآله : «قال الله عزّ وجلّ (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» (٢).

وهذه تدلّ على أنّ الميل إليه ـ ليصل إليه من دنياه شي‌ء ـ داخل في الآية ، وإن أحبّ بقائه ووجوده لذلك كذلك.

فلعلّه المراد بالخبر السّابق أيضا ، لا مطلق الميل ، ولا مطلق حبّ البقاء ، فلو أحبّ شخص بقاء حاكم جور مؤمن ـ لحبّه المؤمنين وحفظه الأيمان والمؤمنين ولذبّه عن الأيمان وأهله ، ومنعه المخالفين عن التسلّط عليهم وقتلهم وردّهم عن دينهم وايمانهم ـ فالظّاهر أنه ليس بداخل في الآية فإنّه في الحقيقة محبّة للإيمان وحفظه ، لا ذلك الشخص وجوره وفسقه ، بل ولا ذاته ، بل كل ما تأمّل ينكره ويكرهه لجوره وظلمه.

بل ولا يبعد ذلك في مخالف لو فعل ذلك ، بل في كافر بالنّسبة إلى حفظ الإسلام والمسلمين.

ولهذا يجوز إعطاء المؤلّفة من الزّكاة حتّى يعينوا المسلمين ، وطلب الكفّار

__________________

(١) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٤ ، الحديث (١).

(٢) المصدر السابق ، الباب ٤٣ ، ذيل الحديث (١).

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

للإعانة ، ولا شك أنّه ـ حينئذ ـ حياتهم محبوبة للمسلمين ، بل للإمام عليه السلام ولا يريدون مغلوبيّتهم ومقتوليّتهم ، بل يريدون أن يبقوا ويقتلوا الأعداء ، ولهذا يمنعون عنهم ، بل يوجبون لهم قتل المسلمين الّذين تترّس بهم الأعداء.

وأيضا لهذا ذكر بعض الأصحاب أنّ القبيح مدح من هو يستحقّ الذّم من جهة القبيح ، لا مطلقا ، وهو ظاهر.

لكن لا شكّ أنّ الدّخول في عمله والاختلاف إلى بابه للدّنيا مالا أو جاها مذموم مرغوب عنه ، وإن لم يكن بمثابة أبواب المخالفين ، للإشعار في بعض الأخبار المتقدّمة أنّ لمخالفة الدّين أيضا دخلا في المنع والورع والمذمة واستحقاق ما تقدّم ، وهو ظاهر.

والظّاهر أنّ هذا مجرّد الميل إليهم والطّلب والطّمع منهم ، وإن لم يعلم تحريم ما أعطوا ، فإن علم فذلك وبال آخر ، وضمان لأصحابه ، ويجب ردّه إلى أهله مع العلم ، ومع الجهل التصدّق به ، والتّوبة كما قاله الأصحاب.

ويدلّ عليه رواية عليّ بن أبي حمزة قال : «كان لي صديق من كتاب بني أميّة فقال لي استأذن لي على أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت له فأذن له ، فلمّا أن دخل سلّم وجلس ثم كلّمه ، قال : جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا وأغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : لولا أنّ بني أميّة وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفي‌ء ، ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم النّاس وما في أيديهم لما وجدوا شيئا إلّا ما وقع في أيديهم ، قال : فقال الفتى : جعلت فداك ، فهل لي من مخرج منه؟ قال : فقال : إن قلت لك تفعل؟ قال : أفعل ، قال له : فاخرج من جميع ما كسبت (اكتسبت خ ل ئل) في ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدّقت به ، وأنا أضمن لك على الله عز وجل الجنّة. فأطرق الفتى طويلا ثمّ قال

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

له : لقد فعلت جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة : فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئا على وجه الأرض إلّا خرج منه ، حتّى ثيابه الّتي كانت على بدنه. قال : فقسمت له قسمة واشترينا له ثيابا وبعثنا إليه بنفقة. قال : فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتّى مرض فكنّا نعوده ، فدخلت يوما وهو في السّوق ، قال : ففتح عينه ثم قال : يا علي ، وفي لي والله صاحبك ، قال : ثم مات ، فتولينا أمره ، فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فلما نظر إليّ قال لي : يا علي ، وفينا والله لصاحبك ، قال : فقلت ، صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته» (١).

وأمّا ما يدل على أنّ الدّخول في عملهم حسن ، ويجوز أخذ الولاية عنهم ، بل موجب لثواب عظيم ، ومرتبة جليلة ، مع قضاء حوائج الإخوان ، كما ورد في الأخبار.

مثل مرسلة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن عليّ بن يقطين ، قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : «إنّ لله تبارك وتعالى مع السّلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه» (٢).

ورواية محمد بن إسماعيل بن بزيع وهي مشهورة في ترغيبه مذكورة في الخلاصة.

«وحكى بعض أصحابنا عن ابن الوليد قال :

وفي رواية محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال أبو الحسن الرّضا عليه السلام : إنّ لله تعالى بأبواب الظالمين من نوّر الله به البرهان ، ومكّن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله به أمور المسلمين ، لأنّهم ملجأ المؤمنين من الضرر وإليه يفزع ذو الحاجة من شيعتنا ، بهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظّلمة ، أولئك المؤمنون

__________________

(١) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٧ ، الحديث ١.

(٢) الوسائل ، التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٦ ، الحديث ١. وفيه ، قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام.

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

حقّا ، أولئك أمناء الله في أرضه ، أولئك نور الله في رعيّتهم (في رعيّته) يوم القيامة ، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الزهريّة (الدّرّيّة) لأهل الأرض ، أولئك من نورهم نور (يوم) القيامة ، تضي‌ء منهم القيامة ، خلقوا والله للجنّة ، وخلقت الجنّة لهم ، فهنيئا لهم ، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه ، قال : قلت له : بما ذا جعلني الله فداك؟ قال : يكون معهم فيسّرنا بإدخال السّرور علي المؤمن (المؤمنين خ) من شيعتنا ، فكن منهم يا محمّد» (١).

فبعد (٢) صحّة السند ، الظّاهر أنّ المراد مع التّقيّة ، وإمكان الخروج عن عهدة ما يجب عليه ويحرم ، وهو ظاهر ومصرّح في الأخبار وكلام الأصحاب ، وقد مرّت الإشارة إليه في الجهاد.

وأمّا الثّواب والتّرغيب فالظّاهر أنّه بالنّسبة إلى من لا يقصد إلّا قضاء حوائج الأخوان وسرورهم وامتثال اوامرهم عليهم السلام وقبول قولهم ، لا امرا آخر أصلا من المال والجاه ، لا لنفسه ولا لغيره ، كقرابته ، ولم يجعل ذلك في البين أيضا لما عرفت من الأخبار ، فإنّك إذا تأمّلتها تجد ما قلت لك.

أو المراد أنّه مع الاضطرار إلى الدّخول في عملهم والجلوس معهم تقيّة وضرورة ، يضمّ إليه حينئذ ذلك ، لا أن يجعل نفسه عاملا لهم ويحبّهم للدّنيا وقد يفعل قضاء الحاجة في البين ، فإنّ الظّاهر أنّه داخل فيما تلوناه من الأدلّة ، وإن فرض له بعض الأجر بذلك لو خلص فيه النيّة.

ولا يجعله سببا لزيادة الرّئاسة ، والرّشد ، وتوجّه النّاس إليه وذكره في المجالس ليمدحه النّاس بذلك ، ولا أن يمنّ بذلك عليه ويؤذيه ، ولو بالاعراض عنه في الجملة ،

__________________

(١) رجال النجاشي ، ط حجر ، ص ٢٣٣ ، ولم ترد هذه الرّواية في كتب الحديث المشهورة.

(٢) جواب لقوله قده : واما ما يدل إلخ.

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

والتقصير في تعظيمه كما هو ، وبالمنّ عليه حضورا وغيبة ، فإنّ ذلك مبطل للأجر كما نطق به الكتاب العزيز «لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى» (١).

فإن الظّاهر أنّه يجري في جميع القربات وليس بمختصّ بصدقة المال ، بل موجب للعذاب ، لقوله تعالى «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) ـ أي بمنجاة ـ (مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٢).

ولما روي في مذمّة المنّة : قال في المنتهى في بحث التّجارة (في حديث) : من اصطنع إلى أخيه معروفا فامتنّ به أحبط الله عمله وأثبت وزره ولم يشكر له سعيه (٣).

وبالجملة الأصل والأساس هو الإخلاص وهو قليل جدّا وصعب في الغاية كما يشعر به تشبيه من شبّهه من العلماء بإخراج اللّبن الخالص من بين فرث ودم ، وهذا التّشبيه في نهاية الحسن وغاية الكمال ، فافهم ، وفقنا الله للعمل به.

ثمّ مع ذلك قد يكون ما فعله جبرا لبعض ما ارتكبه ، وهو حينئذ على خطر ، كما تدلّ عليه الأخبار.

مثل ما روي عن طريق العامّة والخاصّة في الفقيه «كفّارة خدمة السّلطان قضاء حوائج الأخوان» (٤).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «سمعته يقول : ما من جبّار إلّا ومعه مؤمن يدفع الله عزّ وجل به عن المؤمنين وهو أقلّهم حظّا في الآخرة ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٦٤.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٨٨.

(٣) الوسائل ، كتاب الزكاة ، أبواب الصّدقة ، الباب ٣٧ ـ الحديث ٥.

(٤) المصدر نفسه ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٦ ، الحديث ٣. وفيه كفارة عمل السلطان.

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يعني : أقلّ المؤمنين حظّا لصحبة الجبّار» (١).

ورواية الحسن بن الحسين الأنباري عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام قال : كتبت إليه أربع عشر سنة استأذنه في عمل السلطان ، فلمّا كان في آخر كتاب كتبته اليه أذكر أنّي أخاف على خبط (٢) عنقي وأنّ السّلطان يقول لي : إنّك رافضي ، ولسنا نشكّ في أنّك تركت العمل للسّلطان للرّفض (للترفض كا) ، فكتب إليّ أبو الحسن عليه السلام : قد فهمت كتابك وما ذكرت من الخوف على نفسك ، فإن كنت تعلم أنّك إذا ولّيت عملت في عملك بما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وآله ثم تصيّر أعوانك وكتابك ، أهل ملّتك ، فإذا صار إليك شي‌ء واسيت به فقراء المؤمنين حتي تكون واحدا منهم كان ذا بذا ، وإلّا فلا» (٣).

انظر أيّها الأخ ما في هذا الخبر من المبالغة بعدم التّجويز مع خوف القتل والتّصريح بأنّه فهمت ما في كتابك من الخوف حتّى لا يحمل على غيره بعد طلب اربع عشر سنة إلّا مع الخروج عن عهدة ما وجب عليه ، وجعل الأعوان من إخوانه المؤمنين ، وشرطيّة إن وصل إليه نفع يكون هو وسائر الفقراء من المؤمنين مساويا فيه ، وعدم تجويز الدخول بدونه مصرّحا ـ بعد أن شرط ـ بقوله : وإلا فلا.

ولعلّه عليه السلام كان يعرف عدم حصول القتل وخوفه الموجب لذلك.

وتأمّل في رواية زياد بن أبي سلمة أيضا حتي تعلم حقيقة الأمر ، قال : «دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام فقال لي : يا زياد إنّك لتعمل عمل السلطان؟ قال : قلت : أجل ، قال لي : ولم؟ قلت : أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال

__________________

(١) الوسائل ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٤ ، الحديث ٤. وفيه كما في الكافي أيضا : مهران بن محمد بن أبي نصر (بصير خ ئل) وفي التهذيب : مهران بن محمد عن أبي بصير (نصير خ ل).

(٢) اي ضرب عنقي يقال : خبطت الشجر خبطا ، إذا ضربه بالعصا ليسقط ورقه (النهاية).

(٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب ٤٨ ، الحديث ١.

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وليس وراء ظهري شي‌ء ، فقال لي : يا زياد! لئن أسقط من حالق فأتقطّع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحد منهم عملا ، أو أطأ بساط رجل منهم ، إلّا لما ذا؟ قلت : لا أدري جعلت فداك ، قال : إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فك أسره أو قضاء دينه ، يا زياد! إن أهون ما يصنع الله جلّ وعزّ بمن تولّى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله عزّ وجل من حساب الخلائق (الخلق خ ل) يا زياد! فإن تولّيت (ولّيت كا) شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة ، والله من وراء ذلك ، يا زياد! أيّما رجل منكم تولّى لأحد منهم عملا ثمّ ساوى بينكم وبينهم فقولوا له : أنت منتحل كذّاب ، يا زياد إذا اذكرت مقدرتك على النّاس فاذكر مقدرة الله عليكم غدا ، ونفاد ما أتيت إليهم عنهم ، وبقاء ما أتيت إليهم عليك» (١).

تأمّل فيها فإنّها صريحة فيما ذكرت.

وقد عرفت من هذه الأخبار اهتما مهم عليهم السلام بقضاء حوائج المؤمنين والأخبار في ذلك لا تحصى وليس هنا محل ذكرها.

ويفهم من اهتمام الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله واهتمامهم عليهم السلام بأمر شيعتهم ومحبّيهم في أمر دنياهم الدّنيّة الفانية ـ الّتي لو لم يهتمّوا بها لم تضرّ كثيرا لفنائها وسرعة زوال ما فيها من النعم والنّقم ـ هذا المقدار من الاهتمام.

والّذي فهمته منها ـ من الثّواب للفاعل لهم إحسانا ، والعقاب لتاركه وتجويز ارتكاب أمر شنيع مثل الوقوع من شاهق ، بل جعلهم ذلك أفضل الأعمال وأثوبها ـ اهتمامهم بأمر آخرتهم الّتي لا مفرّ منها إلّا إلى الله وإلى رسوله وإليهم ، والّذي لا تفنى عقوبته ولا يوصف ضرره وهو له ، وقد يحصل العلم بذلك ، والعلم بأنّه

__________________

(١) نفس المصدر ، الباب ٤٦ ، الحديث ٩.

٧٤

والنوح بالباطل ، وحفظ كتب الضّلال ، ونسخها لغير النّقض و (أو خ ل) الحجّة

______________________________________________________

لا يردّوننا خائبين ، فحصل الرّجاء التّام بمحبّتهم صلوات الله عليهم كما هو مذكور في أخبار كثيرة جدّا ومذكورة في محالها (١) ، فما بقي إلا الموت على الأيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وبهم عليهم السلام رزقنا الله وإيّاكم ذلك بهم.

قوله : «والنّوح بالباطل» من المحرّم الّذي التّكسّب به حرام في نفسه النّياحة بالباطل ، بأن يذكر ما لا يجوز ذكره مثل الكذب.

ويمكن إسماع صوتها للأجانب داخلا فيه على تقدير تحريمه. ووجه التّقييد به أنّها بدونه جائزة والكسب حلال ، وقد مرّ ما يدلّ عليه في بحث الغناء.

وأمّا تحريمه مع القيد فهو ظاهر لأنّ المشتمل على الباطل ، باطل ، وإذا كان حراما لا يستحق به الأجرة وهو ظاهر عقلا ونقلا.

قوله : «وحفظ. إلخ» من المحرّم حفظ كتب الضّلال ، كأنّ المراد أعمّ من حفظها عن التّلف ، أو على الصّدر ، والأوّل أظهر ، وكأنّ نسخها أيضا كذلك ، بل هو أولى.

ولعلّ المراد بها أعمّ من كتب الأديان المنسوخة ، والكتب المخالفة للحق أصولا وفروعا ، والأحاديث المعلوم كونها موضوعة ، لا الأحاديث الّتي رواها الضّعفاء لمذهبهم ولفسقهم (٢) مع احتمال الصّدور.

فحينئذ يجوز حفظ الصّحاح السّتّة مثلا ـ غير الموضوع المعلوم ـ كالأحاديث الّتي في كتبنا مع ضعف رواتها لكونها زيديّة وفطحيّة وواقفيّة ، فلا ينبغي الإعراض عن الأخبار النّبويّة الّتي رواها العامّة فإنّها ليست إلّا مثل ما ذكرناها.

__________________

(١) راجع الوسائل ج ١ ، الباب (٢٩) من أبواب ، مقدمة العبادات.

(٢) اى الضّعفاء بسبب مذهبهم الفاسد أو بسبب فسقهم.

٧٥

وهجاء المؤمنين ،

______________________________________________________

ولعلّ دليل التّحريم أنّه قد يؤول إلى ما هو المحرّم ، وهو العمل به ، وأنّ حفظها ونسخها ينبئ عن الرّضا بالعمل والاعتقاد بما فيه ، وهو ممنوع ، وأنّها مشتملة على البدعة ويجب دفعها من باب النّهي عن المنكر وهما ينافيانه ، وقد يكون إجماعيّا أيضا يفهم من المنتهى.

ثمّ إنّ الظّاهر أنّ الممنوع منه هو الضّلال فقط لا مصنّف المخلف في مذهبه مطلقا ، وإن وافق الحق ، فتفاسير المخالفين ليست بممنوع منها إلّا المواضع المخصوصة المعلوم بطلانها وفسادها من الدّين. وإن الظّاهر (ان خ) لا قصور في أصول فقههم إلّا موضع نادر ، إذ الحقّ هنا ما ثبت بالدّليل ، وليس هنا شي‌ء مقرّر في الدّين قد خولف ، بل كتبهم في ذلك مثل كتبنا في نقل الخلاف واختيار ما هو المبرهن وهو الحق.

وكذا بيعها وسائر التكسّب بها ، على أنّه يجوز كلّه للأغراض الصّحيحة ، بل قد يجب كالتّقيّة والنّقض والحجّة واستنباط الفروع ونقلها ونقل أدلّتها إلى كتبنا وتحصيل القوّة وملكة البحث لأهلها.

قوله : «وهجاء المؤمنين» قيل : ـ بالكسر والمدّ ـ ذكر الغائب بالشّعر ، وقيد المؤمنين يخرج غيرهم ، فيجوز هجاؤه كما يجوز لعنه.

لعلّ المراد بذكر الغائب بالشّعر بما يدلّ على ما يؤذيه وينقصه ، وقيد الغائب كأنّه لاعتبار معنى اللّغة ، وإلّا فالتّحريم ليس بمخصوص به ، بل في الحاضر أشدّ.

ولعلّ دليل التّحريم هو الإجماع ، ذكره في المنتهى ، وأنّه غيبة.

والظّاهر أنّ عموم أدلّة تحريم الغيبة من الكتاب والسّنّة يشمل المؤمنين وغيرهم ، فإنّ قوله تعالى «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (١) إمّا للمكلّفين كلّهم ، أو

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية ١٢.

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المسلمين فقط ، لجواز غيبة الكافر ولقوله تعالي بعده «لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» وكذا الأخبار فإنّ أكثرها بلفظ النّاس أو المسلم.

مثل ما روى في الفقيه : «من اغتاب امرء مسلما بطل صومه ونقض وضوؤه وجاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّى به أهل الموقف ، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلا لما حرّم الله تعالى (١) ، ألا من سمع فاحشة فأفشاها فهو كالّذي أتاها (٢) ، ومن اصطنع إلى أخيه معروفا فامتنّ به أحبط الله عمله وأثبت وزره ولم يشكر له سعيه» (٣).

وقال ره في رسالة الغيبة : «قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : كلّ المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ، والغيبة تناول العرض ، وقد جمع بينها وبين الدّم والمال وقال صلّى الله عليه وآله :

لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا يغتب بعضكم بعضا ، وكونوا عباد الله إخوانا (٤).

وعن انس قال : قال البراءة : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى اسمع العواتق في بيوتها ، فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع الله عورته ، ومن يتّبع الله عورته يفضحه في جوف بيته» (٥) وغير ذلك.

__________________

(١) الى ان قال : الا إلخ.

(٢) الي ان قال : ومن إلخ.

(٣) الفقيه ج ٤ (١) باب ذكر جمل من مناهي النبي صلّى الله عليه وآله ص (٢) وجملة (من اصطنع. الى قوله. سعيه) وان كانت من الحديث نفسه غير انها ليست متّصلة بالجملة التي سبقتها في المتن ، ولا نعلم وجها لنقل هذه الجملة في هذا الموضع مع عدم مناسبتها لمحل البحث ، وكذا قوله : (الا ومن سمع فاحشة) الوسائل ، ج ٨ ، كتاب الحج ، الباب (١٥٢) من أبواب أحكام العشرة ص (٥٩٩) الحديث (١٣).

(٤) كشف الريبة ، المقدمة في إثبات حرمة الغيبة ، ص (٦).

(٥) كشف الريبة ، المقدمة في إثبات حرمة الغيبة ، ص (٧).

٧٧

وتعلّم السّحر ،

______________________________________________________

وبالجملة : عموم أدلّة الغيبة وخصوص ذكر المسلم يدلّ على التّحريم مطلقا ، وأنّ عرض المسلم كدمه وماله ، فكما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول عرضه الّذي هو الغيبة ، وذلك لا يدلّ على كونه مقبولا عند الله ، كعدم جواز أخذ ماله وقتله كما في الكافر.

ولا يدلّ جواز لعنه بنصّ ، على جواز الغيبة مع تلك الأدلّة بأن يقول : إنّه طويل ، أو قصير ، وأعمى ، وأجذم ، وأبرص ، وغير ذلك ، وهو ظاهر.

وأظنّ أني رأيت في قواعد الشهيد ره «أنّه يجوز غيبة المخالف من حيث مذهبه ودينه الباطل وكونه فاسقا من تلك الجهة لا غير ، مثل أن يقال : أعمى ، ونحوه» الله يعلم ، ولا شك أنّ الاجتناب أحوط.

قوله : «وتعلّم السّحر» قال في المنتهى : عقد ورمى وكلام يتكلّم به أو يكتبه أو يعلم شيئا يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له.

فكأنّ تحريم السّحر وتعليمه وتعلّمه وأخذ الأجرة عليه ـ قيل : منه عقد الرّجل عن امرأته بحيث لا يقدر على وطيها وإيقاع البغضاء والفتنة بينهما ـ إجماع (إجماعي خ ل) بين المسلمين.

ويدلّ عليه الأخبار من العامّة والخاصّة : «أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله : قال حدّ السّاحر ضربة بالسّيف» (١) وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : «السّاحر كافر» (٢) ولعلّ المراد من يستحلّ ذلك.

والظّاهر أنّ له حقيقة ، بمعنى أنّه يؤثّر في الحقيقة ، لا أنّه إنّما يتأثّر بالوهم فقط ، ولهذا يقلّ تأثيره في شخص لم (لا خ) يعرف ، ومع ذلك يشعر بوقوعه فيه (٣).

__________________

(١) سنن الترمذي ج ٤ كتاب الحدود (٢٧) باب ما جاء في حد الساحر ، الحديث (١٤٦٠).

(٢) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة ، الباب (٢٤) من أبواب ما يكتسب به ، قطعة من حديث (٨) وفيه (والساحر كالكافر).

(٣) في نسختين من النسخ الخطية (ولا يشعر بوقوعه فيه).

٧٨

والكهانة

______________________________________________________

نعم يمكن أن لا حقيقة له بمعنى أن لا يوجد حيوان يفعله ، بل يتخيّل ، كقوله تعالى «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» (١) مع أنّه لا ثمرة في ذلك ، إذ لا شك في عقابه ، ولزوم الدّية ، وعوض ما يفوت بفعل السّاحر عليه.

ويمكن أن يكون تعلّم السّحر للحلّ جائزا ، بل قد يجب كفاية لمعرفة المتنبي ودفعه ، ودفع الضرر عن نفسه وعن المسلمين ، وقد أشار إليه في شرح الشّرائع عن الدّروس ومنعه في المنتهى.

ويدلّ على الجواز ما في رواية إبراهيم بن هاشم قال : «حدّثني شيخ من أصحابنا الكوفيّين ، قال : دخل عيسى بن السقفي (سيفي خ) على أبي عبد الله عليه السلام ـ وكان ساحرا يأتيه النّاس ويأخذ على ذلك الأجر ـ فقال له : جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السّحر ، وكنت آخذ عليه الأجر ، وكان معاشي ، وقد حججت منه ، ومنّ الله علىّ بلقائك ، وقد تبت إلى الله عزّ وجل ، فهو لي في شي‌ء منه مخرج؟ قال : فقال له أبو عبد الله عليه السلام : حلّ ولا تعقد» (٢).

قيل : الكهانة ـ بالكسر ـ قريب من السّحر ، قال فيه أيضا : الكاهن ـ هو الّذي له رئي من الجنّ يأتيه بالأخبار ـ يقتل أيضا ، إلّا ان يتوب ويحرم عليه أخذ الأجرة ، لما رواه السّكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «السّحت ثمن الميتة وثمن الكلب وثمن الخمر ومهر البغيّ ، والرّشا في الحكم ، واجرة الكاهن» (٣).

لعله يريد قتل المستحلّ ، والّذي لم يتب. وإنّه لا خلاف فيه أيضا فلا يضرّ أيضا عدم صحة السّند.

__________________

(١) سورة طه ـ ٦٦.

(٢) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة ، الباب (٢٥) من أبواب ما يكتسب به ، الحديث (١).

(٣) الوسائل ج ١٢ كتاب التجارة ، الباب (٥) من أبواب ما يكتسب به ، الحديث (٥).

٧٩

والقيافة

______________________________________________________

قيل : القيافة هي الاستناد إلى علامات يترتّب عليها إلحاق بعض النّاس ببعض ونحوهم ، وإنّما تحرم إذا جزم ، أو رتّب عليه محرّما.

والظّاهر أنّ ترتّب الأحوال ـ من الحفظ ، والذّكاء ، والبلاهة وغيرها على علامات : مثل علوّ الجهة ، وعلوّ القفا ، ومؤخّر الرّأس داخل فيها.

ولعل دليل التّحريم الإجماع المذكور في المنتهى ، ولزوم لحوق شخص بآخر ، الموجب لترتّب أحكام كثيرة بمجرّد ظنّه الّذي لا دليل عليه شرعا ، بل عليه دليل نقيضه ، فقد يلزم الحكم ببنوّته لغير أبيه ، وغير ذلك.

وكذا لزوم الحكم بترتّب أمر على أمر مع عدم علم ولا ظنّ معتبر ، فقد يحكم بأحمقيّة شخص بمجرّد ذلك ، وكذا غيره مع النّهي عنه ، وقد يكون كذبا ، بل قد يشعر بأنّه مثل أحكام أهل النجوم الذي يحكم بانّ اعتقاد ذلك حرام بل كفر.

قال في المنتهى : التّنجيم حرام ، وكذا تعلّم النّجوم مع اعتقاد أنّها مؤثّرة ، أو أنّ لها مدخلا في التّأثير بالنّفع والضّرر ، وبالجملة كلّ من يعتقد ـ ربط الحركات النّفسانيّة والطّبيعيّة بالحركات الفلكيّة والاتّصالات الكوكبيّة ـ كافر ، وأخذ الأجر على ذلك حرام ، أمّا من يتعلّم النّجوم ليعرف قدر سير الكواكب وبعدها وأحوالها من التّربيع والتّسديس وغيرهما فلا بأس به (١).

ويؤيّده أنّه ورد كراهة العقد والسّفر ، والقمر في العقرب مثلا ، وذلك إنّما يعلم بالنّجوم.

ويعلم منه أنّ ظنّ ترتّب ضرر ما يجري ما عادة الله تعالى بفعله ذلك الضّرر في هذا الوقت ليس بمنهيّ ، فإنّ ذلك أقلّ المراتب ، فإنّه قد يعتقد شخص الاستقلال

__________________

(١) الى هنا كلام المنتهى ، وفيه من الربيع والخريف بدل (التربيع والتسديس).

٨٠