ولا يراه رؤية بصر ، فيلهمه الله به ما شاء أن يلهمه ، أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط ، وهو أجلّ الإلقاء وأشرفه ، فالإلهام إعلام إلهي ، ما هو مثل وحي الكلام ، ولا وحي الإشارة والعبارة ، وهو الخاطر الخاطر ، فلا يعول إلا على الخاطر الأول ، فإنه الحق المبين ، والصادق الذي لا يمين ، ولهذا يصيب ولا يخطىء ، ويمضي ما يقول ولا يبطىء ، فدخل الملك بالتقوى في هذه الآية إذ لا نصيب له في الفجور ، وكذلك سائر نفوس ما عدا الإنس والجان ، فالإنس والجن ألهموا الفجور والتقوى ، وما ذكر سبحانه من الملهم لها بالفجور والتقوى ، فأضمر الفاعل ، فالظاهر أن الضمير المضمر يعود على المضمر في (سَوَّاها) وهو الله تعالى ، فإن سبيل الوحي قد انقطع بموت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد كان الوحي قبله ، ولم يجىء خبر إلهي أن بعده وحيا ، وإن لم يلزم هذا ، وقد جاء الخبر النبوي الصادق في عيسى عليهالسلام ـ وقد كان ممن أوحي إليه قبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ أنه لا يؤمنا إلا منا ، أي بسنتنا ، فله الكشف إذا نزل والإلهام ، كما لهذه الأمة ، فالإلهام الإلهي أكثره لا واسطة فيه ، فمن عرفه عرف كيف يأخذه ، ومحله النفس ، قال تعالى (فَأَلْهَمَها) فالفاعل هويته ، فهو الملهم لا غيره (فُجُورَها) ليعلمه لا ليعمل به (وَتَقْواها) ليعلمه ويعمل به ، فهو إلهام إعلام لا كما يظنه من لا علم له ، فبين لها الفجور من التقوى إلهاما من الله لها ، لتتجنب الفجور وتعمل بالتقوى ، فألهمها فعلمت أن الفجور فجور فاجتنبته ، وعلمت أن التقوى تقوى فلزمته ، فتسلك طريق التقوى وتجانب طريق الفجور ، وكذلك ليفصل بين الفجور والتقوى ، إذ النفس محل لظهور الأمرين فيها ، فربما التبس عليها الأمر وتخيلت فيه أنه كله تقوى ، فعلمها الله فيما ألهمها ما يتميز به عندها الفجور من التقوى ، ولذا جاء بالإلهام ولم يجىء بالأمر ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء ، والفجور فحشاء ، فله الإلهام فينا ، ولنا العمل بما ألهم ، ولذلك قال (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) والدس إلحاق خفي بازدحام ، فألحق العمل بالفجور بالعمل بالتقوى وما فرق في موضع التفريق ، فجمع بينهما في العلم والعمل ، والأمر ليس كذلك ، وسبب جهله بذلك أنه رمى ميزان الشرع من يده ، فلو لم يضع الميزان من يده لرأى أنه مأمور بالتقوى منهي عن الفجور ، مبيّن له الأمران معا ، ولما أضاف الله الفجور لها والتقوى ، علمنا أنه لابد من وقوعهما في الوجود من هذه النفس الملهمة ، وكما أن الله سبحانه لم يأمر بالفحشاء لم يلهم العبد العمل بالفحشاء كما يراه بعضهم ،