بل كل موجود متميز عن غيره بحقيقة هو عليها في ذاته ، فإذا أطلق المثل لا يطلق إلا عرفا ، فإذا كان كل محدث لا يقبل المثلية كما قررنا ، فالحق أولى بهذه الصفة ـ ومن وجوه التنزيه أن غنى الحق مطلق بالنظر إلى ذاته ، والخلق مفتقر على الإطلاق بالنظر أيضا إلى ذاته ، فتميز الحق من الخلق ، وهذا التمييز لا يرتفع أبدا ، لأنه تميز ذاتي في الموصوف به من حق وخلق ، فما ثمّ إلا شيئيتان ، شيئية حق وشيئية خلق ، فليس كمثل الخلق في افتقاره شيء ، لأنه ما ثمّ إلا الحق ، والحق لا يتصف بالافتقار ، فما هو مثل الخلق ، فليس مثل الخلق شيء ، وليس كمثل الحق في غناه شيء ، لأنه ما ثمّ إلا الخلق ، والخلق لا يتصف بالغنى لذاته ، فما هو مثل الحق ، فليس مثل الحق شيء ، لأنه كما قلنا ما ثمّ شيء إلا الخلق والحق ، فمن لم يعلم قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على ما قررناه فلا علم له بهذه الآية ، فإنه جاء بالكاف ، ثم نفى المثلية عن نفسه بزيادة الكاف للتأكيد في النفي ، ثم نفى المثلية عن العالم بجعل الكاف صفة ، فعلق النفي بالمماثل في النفي ، أي انتفت عن الخلق المثلية ، لأنه ما ثمّ إلا حق لا يماثل وانتفت المثلية عن الحق لأنه ما ثم إلا خلق لا يماثل ، فأعظم الثناء عندنا في حق الحق قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) سواء كانت كاف الصفة أو كانت زائدة ، وكونها للصفة أبلغ في الثناء على العالم ، باللسان الذي نزل به القرآن ، يقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في دعائه وثنائه على ربه عزوجل [لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك] يريد قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال الصديق الأكبر رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ؛ والحق سبحانه ما أثنى على نفسه بأعظم من نفي المثل ، فلا مثل له سبحانه ، ولهذا قال في حق العالم من حيث ما هو ناطق (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) والتسبيح تنزيه ، وأما قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فكون الإله سميعا بصيرا تعلق تفصيلي ، فهما حكمان للعلم ، ووقعت التثنية من أجل المتعلق الذي هو المسموع والمبصر. واعلم أن ضوء البدر كان في السرار من الشمس في الوجه الذي ينظر إلى الشمس في حين المسامتة ، والظاهر لا نور فيه ، وفي ليلة الإبدار ينعكس الأمر ، فيكون الظهور بالاسم الظاهر ، وكذلك فعل الحق مع عامة عباده ، احتجب عنهم غاية الحجاب كالسرار في القمر فلم يدركوه فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رحمة بهم ، فلم يجدوا في أذهانهم ولا في طبقات أحوالهم ما يذهلهم ، فجاء سرا في رحمة حجاب هذه الآية ، وهذا غاية نزول الحق إلى عباده في