والمقدار ، ولما كان الأمر في العلم بالله في العالم في أصل خلقه وعلى هذا المزاج الطبيعي ، أنزل الله الشرائع على هذه المراتب ، حتى يعمّ الفضل الإلهي جميع الخلق كله ، فأنزل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وهو لأهل العلم بالله مطلقا من غير تقييد ، وأنزل قوله تعالى : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) و (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذا كله في حق من قيده بصفات الكمال ، وأنزل تعالى من الشرائع (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) و (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) وهذا في حق من قيده بصفات الحدوث ، فعمت الشرائع ما تطلبه أمزجة العالم ، ولا يخلو المعتقد من أحد هذه الأقسام ، والكامل المزاج هو الذي يعم جميع هذه الاعتقادات ، ويعلم مصادرها ومواردها ولا يغيب عنه منها شيء ، فإن ذات الحق وإنّيته مجهولة عند الكون ، ولا سيما وقد أخبر جل جلاله عن نفسه بالنقيضين في الكتاب والسنة ، فشبّه في موضع ونزه في موضع ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وشبه بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فتفرقت خواطر التشبيه وتشتت خواطر التنزيه ، فإن المنزه على الحقيقة قد قيده وحصره في تنزيهه وأخلى عنه التشبيه ، والمشبّه أيضا قيده وحصره في التشبيه وأخلى عنه التنزيه ، والحق في الجمع بالقول بحكم الطائفتين ، فلا ينزه تنزيها يخرج عن التشبيه ، ولا يشبّه تشبيها يخرج عن التنزيه ، فلا تطلق ولا تقيد ، لتميّزه عن التقييد ، ولو تميّز تقيّد في إطلاقه ، ولو تقيّد في إطلاقه لم يكن هو ، فهو المقيّد بما قيّد به نفسه من صفات الجلال ، وهو المطلق بما سمى به نفسه من أسماء الكمال ، وهو الواحد الحق الجلي الخفي ، لا إله إلا هو العلي العظيم ، وتميزه تعالى إنما هو بأنه لا يتصف بصفات المحدثات على الوجه الذي يتصف به المحدث الممكن ، لأنه ليس كمثله شيء ، فلا يعرف العبد ربه إلا بالسلوب ، فإن الله تعالى لا يتصف بالحصر ولا بالحد ، ولا يتميز بذلك عندنا ، فقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثناء بالتنزيه للذات ، فهو كمال ذاتي ، فإن للذات الغنى المطلق عن العالمين ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ثناء بالكمال الإلهي لطلب المسموع والمبصر ، فإن الكمال الإلهي بالفعل هو في نفوذ الاقتدار في المقدورات ، ونفوذ الإرادة في المرادات ، وظهور أحكام الأسماء الإلهية ، والكمال الذاتي للذات الغنى المطلق عن هذا كله ، يقول