(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (١١)
جاء بكلمة ثم بعد خلق تؤذن غالبا أن الثاني بعد الأول بمهلة ، وهو زمان خلق الأرض وتقدير أقواتها في أربعة أيام من أيام الشأن ، يومان لشأنها في عينها وذاتها ، يوم لظهورها وشهادتها ، ويوم لبطونها وغيبتها ، ويومان لما أودع فيها من الأقوات الغيبية والشهادية ، ثم كان الاستواء الأقدس الذي هو القصد والتوجه إلى فتق السموات وفطرها ، فقال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) فالاستواء هنا بمعنى القصد ، فإن القصد هو الإرادة وهي من صفات الكمال (وَهِيَ دُخانٌ) أي أن أصلها الدخان ، وهي اليوم سموات ، كما أن آدم خلقه الله من تراب أي أصله ، وهو لحم ودم وعروق وأعصاب (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) ـ الوجه الأول ـ لأمر حدّ لهما ، أي أجيبا إذا دعيتما لما يراد منكما مما أمنتما عليه أن تبرزاه ، فإن الله تعالى ما خلق شيئا في الكون إلا حيا ناطقا ، جمادا كان أو نباتا أو حيوانا ، في العالم الأعلى والأسفل ، مصداق ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ولما كان الأمر هكذا ، جاز بل وقع وصح أن يخاطب الحق جميع الموجودات ويوحي إليها ، من سماء وأرض وجبال وشجر وغير ذلك من الموجودات ، ووصفها بالطاعة لما أمرها به ، وبالإباية لقبول عرضه ، وأسجد له كل شيء ، لأنه تجلى لكل شيء ، وأوحى إلى كل شيء بما خاطب ذلك الشيء به ، فقال للسماء والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) لأنها علمت أنها إن لم تجب مختارة جبرت على الإتيان ، فجيء بها كما جيء بجهنم ، فالسماء والأرض آتيتان أبدا ، فلا يزالان متحركتين ، غير أن حركة الأرض خفيّة عندنا ، وحركتها حول الوسط لأنها أكر ، والسماء أتت طائعة عند أمر الله لها بالإتيان ، وأمر الأرض فأتت طائعة لما علمت نفسها مقهورة ، وأنه لا بد أن يؤتى بها بقوله (أَوْ كَرْهاً) فكانت المرادة بقوله تعالى : (أَوْ كَرْهاً) ـ الوجه الثاني ـ (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي تهيأ القبول ما يلقى فيكما (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فإنه كان أمرا لا عرضا ، فتعين عليهم الإجابة طوعا ، أو كرها ، أي على مشقة ، لمعرفتهم بعظيم ما أوجب الله عليهم ، فأتوا طائعين ، فلما أتيا طائعين وتهيآا لقبول ما شاء الحق أن يجعل فيهما ،