في تلك المرتبة التي كان فيها عند انتقال الخلق إليها ، فانظر في هذا السرّ ما أدقه وما أعظمه في التنزيه الذي لا يصح للخلق مع الحق فيه مشاركة ، فالخلق أبدا يطلب أن يلحق بالحق ولا يقدر على ذلك ، فالخلق خلق لنفسه والحق حق لنفسه ، وفي هذه الآية لما لم يقل الحق تعالى : ولا أربعة إلا هو خامسهم ؛ عرفنا من أدنى من ذلك وأكثر أنه يريد الأفراد يشفعها بما ليس منها ، فتحققنا أن الغيرة حكمت هنا ، فلم تثبت لأحد فردية إلا شفعتها هوية الحق حتى لا تكون الأحدية إلا له ، فلا يشفع فرديته مخلوق ويشفع هو فردية المخلوقين ، فلم يقل : ولا أربعة إلا هو خامسهم ، ولا اثنين إلا هو ثالثهما ؛ لأن الغيرة لا تتعلق بالشفعية في الأكوان ، لأن الشفعية لها حقيقة ، وإنما تتعلق بالوترية إذا نسبت إلى الأكوان (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ـ الوجه الأول ـ لما علم سبحانه أن بعض عباده يقولون في مثل قوله تعالى : (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أنه معهم بعلمه ، أعلم في هذه الآية أنه بكل شيء عليم ليغلب على ظن السامع أنه ليس على ما تأولوه ، فإنا لا نشك أنه يحيط بنا علما أينما كنا ، وكيف لا يعلم ذلك وهو خلقنا وخلق الأينية التي نحن فيها؟ وكذلك لو قال في تمامها : على كل شيء شهيد ؛ فعلمه تعالى محيط بما لا يتناهى ـ الوجه الثاني ـ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعمل بما علم أنه يكون يكوّنه ، وما علم أنه لا يكون لم يكونه.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) فإن الله يسمع ذلك كله ، لأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، يسمع ما يتناجون به ولذلك