والسنن التي هي أولى مما دخل فيه ، ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة.
وإن دخل في غير ذلك القصد ، فلا يخلو أن يجري المندوب على مجراه أو لا ، فإن أجراه كذلك بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ولم يعارضه ما هو أولى مما دخل فيه ، فهو محض السنّة التي لا مقال فيها ، لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل ، إذ قد أمر فهو غير تارك ، ونهى عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز ، فلا إشكال في صحته ، وهو كان شأن السلف الأول ومن بعدهم ، وإن لم يجره على مجراه ولكنه أدخل فيه رأي الالتزام ، والدوام ، فذلك الرأي مكروه ابتداء.
لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو إن شاء الله ـ كفارة النّهي ، فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة ، لأن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وإن لم يحصل الوفاء تمحض وجه النهي ، وربما أثم في الالتزام غير النذري ، ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة ، لا لأجل أنه عمل لا دليل عليه ، بل الدليل عليه قائم.
ولذلك إذا التزم الإنسان بعض المندوبات التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لا يوقع في حرج أصلا ـ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المنبه عليها ـ لم يقع في نهي ، بل في محض المندوبات ، كالنوافل الرواتب مع الصلوات ، والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها ، والذكر اللساني الملتزم بالعشي والإبكار ، وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى ، ولا يدخل حرجا بنفس العمل به ولا بالدوام عليه.
وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحا ، ومنه كان جمع عمر رضي الله عنه الناس في رمضان في المسجد ، ومضى عليه الناس ، لأنه كان أولا سنة ثابتة من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه ، وفي شهر واحد من السنة لا دائما ، وموكولا إلى اختيارهم ، لأنه قال : والتي ينامون عنها أفضل.
وقد فهم السلف الصالح أن القيام في البيوت أفضل ، فكان كثير منهم ينصرفون فيقومون في منازلهم ، ومع ذلك فقد قال : نعمت البدعة هذه ، فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظرا ـ والله أعلم ـ إلى اعتبار الدوام ، وإن كان شهرا في السنة ، وأنه لم يقع فيمن قبله عملا دائما ، أو أنه أظهره في المسجد الجامع مخالفا لسائر النوافل ، وإن كان ذلك واقعا في