البطيحاء وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة ، فإذا كان كذلك ، فمن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدل المنهي عنه؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم ، أعني : في أكثر الأمر دون الفلتات ، لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشئ عن الهوى في الشيء المتكلم فيه ، وأقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت ، الكلام فيما لم يؤذن فيه ، وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم.
وأيضا ، لم يكثر الكلام جدّا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام ، وإلى غرضه تصوبت سهام النقد والذم ، فهو إذا هو. وقد روي عن عميرة بن أبي ناجية المصري أنه رأى قوما يتعارّون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال : هؤلاء قوم قد ملوا العبادة ، وأقبلوا على الكلام ، اللهم أمت عميرة ، فمات من عامه ذلك في الحج ، فرأى رجل في النوم قائلا يقول : مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة ، فجاء موت عميرة هذا.
والثاني : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عدّ كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولا به لا نفي ولا يكف عنه فجرى مجرى البدع المحدثات.
أما تقديم الأحداث على غيرهم ، فمن قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم ، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره ، لأن الحدث أبدا أو في غالب الأمر غرّ لم يتحنك ، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ الشيوخ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة ، ولذلك قالوا في المثل :
وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن |
|
لم يستطع صولة البزل القناعيس |
هذا إن حملنا الحديث على حداثة السن ، وهو نص في حدث ابن مسعود رضي الله عنه ، فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة ، ويحتمله قوله : «وكان زعيم القوم