٤ ـ باب : في مأخذ أهل البدع بالاستدلال
كل خارج عن السنّة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بدّ له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصات مسائلهم ، وإلا كذب اطراحها دعواهم ، بل كل مبتدع من هذه الأمة إما أن يدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فلا يمكنه الرجوع إلى التعلق بشبهها ، وإذا رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها ، كما كان السلف الأول يأخذونها ؛ إلا أن هؤلاء ـ كما يتبين بعد ـ لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق ، إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها ، وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية ، وإما لعدم الأمرين جميعا ، فبالحري أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين.
وإذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ لكي تحذر وتتقى فنقول : قال الله سبحانه وتعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١) ، وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو على طريق الخطأ.
أحدهما : الراسخون في العلم وهم الثابتو الأقدام في علم الشريعة. ولما كان ذلك متعذرا إلا على من حصل الأمرين المتقدمين لم يكن بد من المعرفة بهما معا على حسب ما تعطيه المنّة الإنسانية ، وإذ ذاك يطلق عليه (أنّه راسخ في العلم) ومقتضى الآية مدحه ، فهو إذا أهل للهداية والاستنباط.
وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه ، فإذا لا يتبعون إلا المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه.
__________________
(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.