وأما ثانيا : فإن سلمنا أن لا دليل عليه بخصوصه فهو من قبيل المصالح المرسلة ، وقد مر أنها ثابتة في الشرع. وما قاله من أن عمر كان يأكل خبز الشعير ويفرض لعامله نصف شاة ، فليس فيه تفخيم صورة الإمام ولا عدمه ، بل فرض له ما يحتاج إليه خاصة ، وإلّا فنصف شاة لبعض العمال قد لا يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يحتاج إليه من لباس وركوب وغيرهما ؛ فذلك قريب من أكل الشعير في المعنى ، وأيضا فإن ما يرجع إلى المأكول والمشروب لا تجمل فيه بالنسبة إلى الظهور للناس.
وقوله : فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة ، وربما وجبت في بعض الأحوال ، مفتقر إلى التأمل ، ففيه ـ على الجملة ـ أنه مناقض لقوله في آخر الفصل : الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع مع ما ذكر قبله.
فهذا كلام يقتضي أن الابتداع شر كله ، فلا يمكن أن يجتمع مع فرض الوجوب. وهو قد ذكر أن البدعة قد تجب ، وإذا وجبت لزم العمل بها ، وهي لما فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها الأمر بها والأمر بتركها ، ولا يمكن فيهما الانفكاك ـ وإن كانا من جهتين ـ لأن الوقوع يستلزم الاجتماع ، وليسا كالصلاة في الدار المغصوبة ، لأن الانفكاك في الوقوع ممكن ، وهاهنا : إذا وجبت فإنما تجب على الخصوص ، وقد فرض أن الشر فيها على الخصوص فلزم التناقض ، وأما على التفصيل فإن تجديد الزخارف فيه من الخطأ ما لا يخفى.
وأما السياسات ، فإن كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع ، وإن خرجت عن ذلك فكيف يندب إليها؟ وهي مسألة النزاع.
وذكر في قسم المكروه أشياء هي من قبيل البدع في الجملة ولا كلام فيها ، أو من قبيل الاحتياط على العبادات المحضة أن لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، وذلك صحيح ، لأن الزيادة فيها والنقصان منها بدع منكرة ، فحالاتها وذرائعها يحتاط بها في جانب النهي.
وذكر في قسم المباح مسألة المناخل ، وليست ـ في الحقيقة ـ من البدع بل هي من باب التنعم ، ولا يقال فيمن تنعم بمباح : إنه قد ابتدع ، وإنما يرجع ذلك ـ إذا اعتبر ـ إلى جهة الإسراف في المأكول ، لأن الإسراف كما يكون في جهة الكمية يكون في جهة الكيفية ،