والوزن هو القدر الممكن ، أمّا التّحقيق فغير واجب.
قال القرطبي (١) ـ رحمهالله تعالى ـ : في موطأ مالك عن يحيى بن سعيد ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنه بلغه عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أنه قال : «ما ظهر الغلول في قوم قطّ إلا ألقى الله في قلوبهم الرّعب ، ولا فشا الزّنا في قوم إلّا كثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرّزق ، ولا حكم قوم بغير الحقّ إلا فشا فيهم الدّم ، ولا قوم بالعهد إلا سلّط عليهم (٢) العدوّ».
وقال ابن عبّاس : إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم ، الكيل والميزان.
فصل
قال القاضي (٣) : «إذا كان الله ـ تعالى ـ قد خف على المكلّف هذا التخفيف ، مع أن ما هو التّضييق مقدور له ، فكيف يتوهّم متوهّم أنه ـ تبارك وتعالى ـ يكلف الكافر الإيمان مع أنّه لا قدرة له عليه؟ بل قالوا : إن الله ـ تعالى ـ يخلق الكفر فيه ، ويريده منه ويحكم به عليه ، ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر والدّاعية الموجبة له ، ثم ينهاه عنه ، فهو ـ تعالى ـ لمّا لم يجوّز ذلك القدر من التّشديد والتّضييق على العبد ، وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التّحقيق ، فكيف يجوز أن يضيّق على العبد مثل هذا التّضييق والتّشديد؟».
وجوابه : المعارضة بمسألة العلم والدّاعي.
قوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).
حمله المفسّرون (٤) على أداء الشّهادة والأمر والنّهي.
قال القاضي (٥) : وليس الأمر كذلك ، بل يدخل فيه كلّ ما يتصل بالقول من الدّعوة إلى الدّين ، وتقرير الدّلائل عليه ، ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واقعا على الوجه بالعدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش ، ونقصان عن القدر الواجب ، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرّجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها ، ومن جملتها تبليغ الرّسالات النّاس وحكم الحاكم ، ثم إنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن أنه يجب أن يسوّى فيه بين القريب والبعيد ، فقال : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ؛ لأن المقصود منه طلب رضوان الله ـ تعالى ـ ، وذلك لا يختلف بالقرب والبعد ، ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قربة.
قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ) يجوز أن يكون من باب إضافة المصدر لفاعله ، أي : بما
__________________
(١) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٩.
(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٤٦٠) كتاب الجهاد باب ما جاء في الغلول حديث (٢٦).
(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٩٢.
(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٩٣.
(٥) ينظر : المصدر السابق.