وقيل : المراد : أنكم لمّا شاهدتم أنّه ـ تبارك وتعالى ـ يخرج الحيّ من الميّت ، ثم شاهدتم أنّه أخرج البدن الحيّ من النّطفة الميّتة ، فكيف تستبعدون أن يخرج البدن الحيّ من التّراب الرّميم مرّة أخرى ، والمقصود : الإنكار على تكذيبهم بالحشر والنّشر ، وأيضا الضّدّان متساويان في النّسبة ، فكما لا يمتنع الانقلاب من أحد الضدين إلى الآخر ، وجب ألّا يمتنع الانقلاب من الثاني إلى الأوّل ، فكما لا يمتنع حصول الموت بعد الحياة ، وجب أيضا حصول الحياة بعد الموت ، وعلى كلا التّقديرين ، فيخرج منه جواز البعث والنّشر.
فصل في إثبات خلق الأفعال لله
تمسّكوا بقوله : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) على أن فعل العبد ليس مخلوقا لله ـ تعالى ـ لأنه لو خلق الإفك فيه ، فكيف يليق به أن يقول مع ذلك : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) والجواب : أن القدرة بالنسبة إلى الضّدّين متساوية ، فترجّح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجّح ، فحينئذ لا يكون هذا الرّجحان من الضّدّ ، بل يكون محض الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وأن توقّف ذلك المرجح على حصول مرجّح ، وهو الداعية الجازمة إلى الفعل ، فحصول تلك الدّاعية يكون من الله ـ تعالى ـ وعند حصولها يجب الفعل ، ويلزمكم كما ألزمتمونا (١).
قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٩٦)
هذا نوع آخر من دلائل وجود الصّانع وعلمه وقدرته وحكمته ، فالنوع الأوّل من دلالة النبات والحيوان ، والنوع الثاني من أنواع الفلك.
وقوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ) نعت لاسم الله ـ تعالى ـ ، وهو كقوله (فالِقُ الْحَبِّ) فيما تقدّم. والجمهور (٢) على كسر همزة «الإصباح» وهو المصدر : أصبح يصبح إصباحا.
وقال الليث والزجاج : إن الصبح والصباح والإصباح واحد ، وهما أول النهار وكذا الفراء (٣).
وقيل : الإصباح : ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (٤).
وقيل : هو إضاءة الفجر نقل ذلك عن مجاهد ، والظّاهر أن «الإصباح» في الأصل
__________________
(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٧٧.
(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٣٢ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٩ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٣.
(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٤٦.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٧٧) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦١) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.