فإن قيل : كيف أقرّوا في هذه الآية الكريمة بالكفر ، وجحدوا في قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].
فالجواب : يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة ، فتارة يقرّون وأخرى يجحدون ، وذلك يدلّ على شدّة الخوف واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه ، كثر الاضطراب في كلامه ، قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : أنهم إنّما وقعوا في الكفر بسبب أنّ الحياة الدّنيا غرّتهم ، حتى لم يؤمنوا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين ، وحمل مقاتل قوله (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بأنه تشهد عليهم الجوارح بالشّرك والكفر ومقصوده دفع التكرار عن الآية الكريمة ، وهذه الآية تدلّ على أنّه لا تكليف قبل ورود الشّرع ، وإلّا لم يكن لهذا التّعليل فائدة.
قوله تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ)(١٣١)
قوله : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : ذلك الأمر.
الثاني : عكس ذلك الأمر.
الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل ، أي : فعلنا ذلك ، وإنما يظهر المعنى إذا عرف المشار إليه ، وهو يحتمل أن يكون إتيات الرّسل قاصّين الآيات ، ومنذرين بالحشر والجزاء ، وأن يكون ذلك الّذي قصصنا من أمر الرّسل وأمر من كذّب ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى السّؤال المفهوم من قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) وقوله : (أَنْ لَمْ يَكُنْ) يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه على حذف لام العلّة أي : ذلك الأمر الّذي قصصنا ، أو ذلك الإتيان ، أو ذلك السّؤال لأجل (أَنْ لَمْ يَكُنْ) فلما حذفت اللّام احتمل موضعها الجرّ والنّصب كما عرف مرارا.
والثاني : أن يكون بدلا من ذلك.
قال الزّمخشري (١) : ولك أن تجعله بدلا من ذلك ؛ كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦] انتهى.
فيجوز أن يكون في محلّ رفع أو نصب على ما تقدّم في ذلك ، إلّا أنّ الزّمخشري القائل بالبدليّة لم يذكر لأجل ذلك إلّا الرّفع على خبر مبتدأ مضمر ، و «أن» يجوز أن تكون النّاصبة للمضارع ، وأن تكون مخفّفة ، واسمها ضمير الشّأن ، و «لم يكن» في محلّ رفع خبرها ، وهو نظير قوله : (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) [طه : ٨٩].
وقوله : [البسيط]
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٧.