فصل في معنى الدم المسفوح
قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد بالدّم المسفوح : ما خرج من الحيوان وهي أحياء ، وما يخرج من الأوداج عند الذّبح ، ولا يدخل فيه الكبد والطّحال ؛ لأنهما جامدات وقد جاء الشّرع بإباحتهما ، وما اختلط باللّحم من الدّم ؛ لأنه غير سائل (١).
قال عمران بن حدير : «سألت أبا مجلز عمّا يختلط باللّحم من الدّم ، وعن القدر يرى فيها حمرة الدّم ، فقال : لا بأس به ، إنما نهي عن الدّم المسفوح» (٢).
قال إبراهيم : «لا بأس بالدّم في عرق أو مخّ ، إلّا المسفوح الذي يتعمد ذلك» (٣).
قال عكرمة : «لو لا هذه الآية لاتّبع المسلمون من العروق ما تتبع اليهود» (٤).
وقوله : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي : حرام ، والهاء» في «فإنّه» الظاهر عودها على «لحم» المضاف ل «خنزير».
وقال ابن حزم : إنها تعود على خنزير ؛ لأنه أقرب مذكور.
ورجّح الأوّل : بأنّ اللّحم هو المحدّث عنه ، والخنزير جاء بعرضيّة الإضافة إليه ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «رأيت غلام زيد فأكرمته» أنّ الهاء تعود على الغلام ؛ لأنه المحدّث عنه المقصود بالإخبار عنه ، لا على زيد ؛ لأنه غير مقصود.
ورجّح الثاني : بأن التّحريم المضاف إلى الخنزير ليس مختصا بلحمه ، بل شحمه وشعره وعظمه وظلفه كذلك ، فإذا أعدنا الضّمير على خنزير ، كان وافيا بهذا المقصود ، وإذا أعدناه على لحم ، لم يكن في الآية الكريمة تعرّض لتحريم ما عدا اللّحم ممّا ذكر.
وأجيب : بأنّه إنما ذكر اللّحم دون غيره ، ـ وإن كان غيره مقصودا بالتحريم ـ ؛ لأنّه أهمّ ما فيه ، وأكثر ما يقصد منه اللّحم كغيره من الحيوانات ، وعلى هذا فلا مفهوم لتخصيص اللّحم بالذّكر ، ولو سلّمه ، فإنه يكون من باب مفهوم اللّقب ؛ وهو ضعيف جدا.
وقوله : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) إمّا على المبالغة بأن جعل نفس الرّجس ، أو على حذف مضاف ، وله نظائر.
قوله : (أَوْ فِسْقاً) فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطف على خبر «يكون» أيضا ، أي : إلا أن يكون فسقا. و «أهلّ» في
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٩٧) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(٢) ينظر : القرطبي ٧ / ٨١.
(٣) ينظر : المصدر السابق.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٧٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٩٧) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عكرمة.