والشك تساوي الطرفين ، والظن رجحان أحدهما ؛ فكيف يكونون شاكين ظانين ؛ وكيف استثنى الظن من العلم ، وليس الظن فردا من أفراد العلم ؛ بل هو قسيمه؟
قلنا : استعمل الظن بمعنى الشك مجازا لما بينهما من المشابهة في انتفاء الجزم ؛ وأما استثناء الظن من العلم فهو استثناء من غير الجنس ، كما في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢].
وقيل : لأنّ المراد بالشك هنا ما يشمل الظن ، واستثناء الظن من العلم في الآية منقطع ؛ فإلّا فيها بمعنى لكن ، كما في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ، ٢٦] ، وما أشبهه.
[٢٠٣] فإن قيل : كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرّسل ، وهم محجوجون بما نصبه لهم من الأدلة العقلية الموصلة إلى معرفته ، حتى قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥]؟
قلنا : الرسل والكتب منبهة من الغفلة ، وباعثة على النظر في أدلة العقل ومفصّلة لمجمل الدنيا وأحوال التكليف التي لا يستقل العقل بمعرفتها ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة ، لئلا يقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.
[٢٠٤] فإن قيل : كيف قال : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦] ولم يقل أنزله بقدرته أو بعلمه وقدرته ؛ مع أن الله تعالى لا يفعل إلّا عن علم وقدرة؟
قلنا : معناه أنزله متلبسا بعلمه : أي عالما به ، أو وفيه علمه ، أي معلومه أو معلمه من الشرائع والأحكام. وقيل معناه : أنزله عليك بعلم منه أنّك أولى بإنزاله عليك من سائر خلقه.
[٢٠٥] فإن قيل : كلام الله صفة قديمة قائمة بذاته ، وعيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق وحادث فكيف صح إطلاق الكلمة عليه في قوله تعالى : (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) [النساء : ١٧١].
قلنا : معناه أن وجوده في بطن أمه كان بكلمة الله تعالى ، وهو قوله : (كُنْ) من غير واسطة أب ، بخلاف غيره من البشر سوى آدم. وقيل : المراد بالكلمة الحجة.
[٢٠٦] فإن قيل : على الوجه الأول ، لو كان صحة إطلاق الكلمة على عيسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، لهذا المعنى لصح إطلاقها على آدم عليه الصلاة والسلام لأن هذا المعنى فيه أتم وأكمل لأنه وجد بهذه الكلمة من غير واسطة أب ولا أم أيضا.
قلنا : لا نسلم أنه لا يصح إطلاقها عليه لهذا المعنى ، بل يصح.