خير حتّى يصحّ تفضيل أحدهما على الآخر ؛ لأنّ خيرا ، في الأصل ، أفعل تفضيل ؛ فكيف قال : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) [النساء : ٤٦] بعد ما سبق من قولهم في أول الآية؟
قلنا : المراد بالخير هاهنا الخير الّذي هو ضد الشرّ ، لا الّذي هو أفعل التفضيل ، كما تقول : في فلان خير.
[١٦٠] فإن قيل : كيف قال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧] ، والمفعول مخلوق ، وأمر الله وقوله غير مخلوق؟
قلنا : ليس المراد بهذا الأمر ما هو ضدّ للنهي ؛ بل المراد به ما يحدث من الحوادث ، فإن الحادثة تسمّى أيضا أمرا ؛ ومنه قوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] ، وقوله : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٢٤].
[١٦١] فإن قيل : كيف قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨] ؛ مع أنّ شرك الساهي والمكره والتّائب مغفور؟
قلنا : المراد به شرك غير هؤلاء المخصوص من عموم الآية بأدلة من خارج ؛ أو نقول قيد المشيئة متعلّق بالفعلين المنفي والمثبت ، كأنه قال : إن الله لا يغفر الشّرك لمن يشاء ، ويغفر ما دونه لمن يشاء.
[١٦٢] فإن قيل : هذه الآية تدلّ على أنّ غير الشّرك من الذّنوب لا يقطع بانتفاء مغفرته ؛ بل ترجى مغفرته ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [النساء ، ١٦٨ ، ١٦٩] ، يدلّ على القطع بانتفاء المغفرة في الكفر والظلم وهما غير الشرك ، فكيف الجمع بينهما؟
قلنا : المراد بالظّلم هنا الشرك ، قال مقاتل : والشّرك يسمّى ظلما ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، فكأنه قال : إن الذين أشركوا.
الثاني : أو قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، ليس قطعا بالمغفرة لغير المشرك ، وهو تعليق للمغفرة له بالمشيئة ؛ ثمّ بيّن بالآية الأخرى أنّ الكافر ليس داخلا فيمن يشاء المغفرة له ؛ فيتعين دخوله فيمن لا يغفر له ؛ لأنّه لا واسطة بينهما.
الثالث : أنّه عام خصّ بالآية الثانية ، كما خصّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] بالآية الأولى. ويؤيّد هذا إجماع الأمّة على أنّ الكافر والمشرك
__________________
[١٦٢] مقاتل : هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي ولاء ، البلخي. أحد مشاهير المفسرين. توفي بالبصرة سنة ١٥٠ ه. كان من القائلين بإثبات الصفات للباري ، على عكس أوائل المعتزلة ، حتى انتهى إلى التشبيه. وكان متروك الحديث. من مؤلفاته : التفسير الكبير ، الردّ على القدرية ، متشابه القرآن ، الخ.