استبعد ذلك وتعجب منه وأنكره بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) [آل عمران : ٤٠]؟
قلنا : لم يقل ذلك على طريق الإنكار والاستبعاد ، بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الوالد وهو قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧] فيزداد الموقنون إيقانا ويرتدع المبطلون ، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج واحد في أن الله تعالى غني عن الأسباب.
والثاني : أنه قال ذلك تعجب فرح وسرور ، لا تعجب إنكار واستبعاد.
الثالث : قيل إنه قال ذلك استفهاما عن الحالة التي يهبه الله تعالى فيها الولد ، هل يهبه في حال الشيخوخة أم يرده إلى حالة الشباب ثم يهبه ولكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا عليهالسلام بعد استفهامه.
[٦٤٧] فإن قيل : كيف قال : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) [مريم : ١٠] والآية العلامة ، فطلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشره الله تعالى به ، أكان عنده شك بعد بشارة الله تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟
قلنا : إنما طلب العلامة على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر ويتعجل السرور ، فإن الحمل لا يظهر في أول العلوق بل بعد مدة ، فأراد معرفته أول ما يوجد ، فجعل الله آية وجود الحمل عجزه عن الكلام وهو سوي الجوارح ما به خرس ولا بكم.
[٦٤٨] فإن قيل : كيف قالت مريم : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨] ؛ وإنّما يتعوذ من الفاسق لا من التقي.
قلنا : معناه إن كنت ممن يتّقي الله ويخشاه فانته عنّي بتعوّذي به منك. فمعنى أعوذ أحصل على ثمرة التعوّذ.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي ، ولم يكن تقيّا بل كان فاجرا ، فظنته إياه فتعوذت منه. والقول الأول هو الذي عليه المحققون.
وقيل : هو على المبالغة معناه : إني أعوذ منك إن كنت تقيّا فكيف يكون حالي في القرب منك إلى الله تعالى إذا لم تكن تقيّا؟ قالوا : ونظير هذا ما جاء في الخبر : «نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه». معناه : أنه إذا كان بحال لو لم يخف الله تعالى لا يوجد منه عصيان ، فكيف يكون حاله إذا خاف الله تعالى. وفي قراءة أبي رجاء وابن مسعود إلا أن تكون تقيا.
[٦٤٩] فإن قيل : اتفق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة ولم يرسل جبريل
__________________
[٦٤٨] أبو رجاء : هو محمد بن أحمد بن الربيع بن سليمان بن أبي مريم ، أبو رجاء الأسواني ، فقيه ، وينظم الشعر. توفي سنة ٣٣٥ ه.