فكيف يصح الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧]؟
قلنا : قال الفراء «إلا» هنا بمعنى غير وسوى ، فمعناه : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] سوى ما شاء الله تعالى من الخلود والزيادة ؛ فكأنه قال : خالدين فيها قدر مدة الدنيا غير ما شاء الله من الزيادة عليها إلى غير نهاية ، وهذا الوجه إنما يصح إذا كان المراد سماوات الدنيا وأرضها. قال ابن قتيبة : ومثله في الكلام قولك : لأسكننك في هذه الدّار حولا إلا ما شئت ، يريد سوى ما شئت أن أزيدك على الحول.
الثاني : أنه استثناء لا يفعله كما تقول : لأهجرنك إلا أن أرى غير ذلك ، وعزمك على هجرانه أبدا وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، إلا ما شاء ربك وقد شاء أن يخلدوا فيها.
قال الزجاج : وفائدة هذا الاستثناء إعلامنا أنه لو شاء أن لا يخلدهم لما خلدهم ، ولكنه ما شاء إلا خلودهم.
الثالث : أنه استثناء لزمان البعث والحشر والوقوف للعرض والحساب ، فإن الأشقياء والسعداء في ذلك الزمان كله ليسوا في النار ؛ ولا في الجنة.
الرابع : أن «ما» بمعنى من ، والمستثنى من يدخل النار من الموحدين فيعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من الأشقياء فقط.
الخامس : أن المستثنى زمان كون أهل الأعراف على الأعراف قبل دخولهم الجنة ، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من السعداء ، لأنهم لم يدخلوا النار ؛ لأن مصيرهم إلى الخلود في الجنة.
السادس : أنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة ، الأشقياء لا يخلدون في عذاب النار بل يعذبون بالزمهرير وغيره من أنواع العذاب سوى النار وهو سخط الله عليهم فإنه أشد ، وكذلك السعداء لهم سوى نعيم الجنة ما هو أجل منها ، وهو الزيادة التي وعدهم الله تعالى إياها بقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ورضوان الله كما قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] فهو المراد بالاستثناء ، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى ، بعد ذكر الاستثناء : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] وقوله تعالى بعد ذكر السعداء : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٧] ، يعني أنه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب ، ويعطي أهل الجنة أنواع العطاء الذي لا انقطاع له ، فاختلاف المقطعين يؤكد صرف الاستثناء إلى ما ذكرنا ، فتأمل كيف يفسر القرآن بعضه بعضا.
[٤٧٠] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود : ١٠٩] بعد قوله :