قلنا : صرح أولا بنهيهم عن النقص الذي كانوا يفعلونه لزيادة المبالغة في تقبيحه وتغييرهم إياه ، ثم صرح بالأمر بالإيفاء بالعدل الذي هو حسن عقلا لزيادة الترغيب فيه والحث عليه.
[٤٦٠] فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود : ٨٥] والعثو الفساد ، فيصير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟
قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. وجواب آخر معناه : ولا تعثوا في الأرض بالكفر ، وأنتم مفسدون بنقص المكيال والميزان.
[٤٦١] فإن قيل : كيف قال : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [هود : ٨٦] فشرط الإيمان في كون البقية خيرا لهم ، وهي خير لهم مطلقا ؛ لأن المراد ببقية الله ما يبقى لهم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن وذلك خير لهم وإن كانوا كفارا ؛ لأنهم يسلمون معه من عقاب البخس والتطفيف؟
قلنا : إنما شرط الإيمان في خيرية البقية ؛ لأن خيريتها وفائدتها مع الإيمان أظهر ، وهو حصول الثواب مع النجاة من العقاب ، ومع فقد الإيمان أخفى لانغماس صاحبها في عذاب الكفر الذي هو أشد العذاب.
الثاني : أن المراد إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح.
[٤٦٢] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩] ولم يقل ببعيدين والقوم اسم لجماعة الرجال ، وما جاء فى القرآن الضمير العائد إليه إلا ضمير جماعة ، قال الله تعالى : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) [نوح : ١] وقال تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) [الحجرات : ١١].
قلنا : فيه إضمار تقديره : وما هلاك قوم لوط أو مكان قوم لوط ، ومكان قوم لوط كان قريبا منهم ، وإهلاكهم أيضا كان قريبا من زمانهم.
الثاني : أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، قال الجوهري : يقال ما أنتم منا ببعيد ، وقال الله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] ، وقال : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧].
[٤٦٣] فإن قيل : قولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١] كلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله : (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) [هود : ٩٢]؟
قلنا : تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله ، فحين عز رهطه عليهم دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)