نقرأ «الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم» (١).
وروي : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التّراب ، ويتوب الله على من تاب» (٢).
وأما نسخ الحكم والتلاوة معا ، فكما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات» (٣) ، فالعشر
__________________
ـ النوع في شيء ؛ بدليل أن هذه القراءة كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ، لكن لمّا لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن ، تركت ، فالأولى التمثيل لهذا النوع بما روي عن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ :
«كان فيما أنزل : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم» ، وهذا ثابت بطرق كثيرة ، فلا يبعد أن يدعى فيه التواتر ، فاندفع قول القائل : «لا يتصور نسخ التلاوة مع بقاء الحكم» ؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر.
وهذا النوع كسابق من اتفاق الجمهور على جوازه ووقوعه ، ولم يخالف في ذلك سوى شرذمة من المعتزلة ؛ متمسكين بأن التلاوة مع الحكم بمنزلة العلم مع العالمية ، والمفهوم مع المنطوق. وكما لا ينفك العلم عن العالمية ، والمفهوم عن المنطوق ، فكذلك التلاوة والحكم لا ينفكان ، وأيضا يلزم من نسخ التلاوة دون الحكم إيقاع المكلف في الجهل ؛ لأن ارتفاع التلاوة مظنة ارتفاع الحكم. «الجواب». «أما عن الأول» فلا تلازم بين جواز التلاوة وحكم المدلول ؛ فإن جواز التلاوة حكم ، وحكم المدلول حكم آخر ، وليس هذا كالعلم مع العالمية ؛ إذ لا مغايرة بين قيام العلم بالذات وبين العالمية ؛ فإن العالمية هي قيام العلم بالذات ، وإذ لا تغاير ، فلا تلازم ، ولو سلّم عدم الانفكاك بين العلم والعالمية ، فلا نسلم التساوي في الشبه إذ العلم علة العالمية ، بخلاف التلاوة ، فإنها أمارة الحكم فلا يلزم من انتفاء الأمارة انتفاء ما دلت عليه ، ولا من انتفاء مدلولها انتفاؤها.
وتظهر حكمة هذا النوع في كل آية بما يناسبها ، فنرى في آية «الرجم» مثلا حكمة الله تتجلى بأكمل معانيها ، في تنزيه الأسماع عن تكرار سماع هذه الفعلة الفاحشة جد الفحش ، والألسنة عن تكرار التلفظ بهذه الجريمة التي يمجها الذوق السليم ، ويأبى الضمير الحي إلّا أن يطاردها ، فهي ممّا يستحى من تكراره ؛ يدلنا على ذلك : أن الإنسان يستبيح لنفسه أن يتحدث لبنيه وبناته بأخبار سرقات ، وقتل ونهب ، ولا يستبيح لنفسه أن يتحدث لهم عن هتك الأعراض ، وتعرض الرجال للنّساء ، والنساء للرجال ؛ فإن ذلك مدعاة إلى حب الاستطلاع ، ولا يكون إلا بالسقوط في تلك الهوّة.
(١) أخرجه أحمد (٥ / ١٨٢) وابن ماجه (٢ / ٨٥٣) رقم (٢٥٥٣) وأبو داود «كتاب الحدود» باب (١٦).
(٢) أخرجه البخاري (٨٩ / ١١٥) كتاب الرقاق باب ما يتقى من فتنة المال رقم (٦٤٤٠) وأحمد (٥ / ١١٧) وابن حبان (٢٤٨٣ ـ موارد).
وأخرجه مسلم في الزكاة (١٠٤٩) بلفظ : «لو أن لابن آدم ملء واد مالا ، لأحبّ أن له إليه مثله».
وأخرجه الطبراني في الكبير (١ / ٢٠١) رقم (٤٢) مختصرا ، والترمذي (٣٨٩٤) والحاكم (٢ / ٢٢٤) وصححه ووافقه الذهبي.
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
(٣) أخرجه مسلم «كتاب الرضاع» باب ٢٥ وأبو داود (١ / ٦٢٩) رقم (٢٠٦٢) والترمذي (٤ / ٤٥٦) رقم (١١٥٠) والدارمي (٢ / ١٥٧).