والشاهد في البيت الثاني في قوله : " جونتا مصطلاهما" فجونتا مثنى ، وهو بمنزلة" حسنتا" وقد أضيفتا إلى" مصطلاهما" ، ومصطلاهما بمنزلة" وجوههما" فكأنه قال : حسنتا وجوههما ، والضمير الذي في مصطلاهما يعود إلى" جارتا صفا".
ومعنى" جارتا صفا" الأثافي و" الصفا" هو الجبل ، وإنما يبنى في أصل الجبل في موضعين ما يوضع عليه القدر ، ويكون الجبل هو الثالث ، فالبناء في الموضعين هما جارتا صفا ، وقوله : " كميتا الأعالي" ، يعني أن الأعالي من موضع الأثافي لم تسود ؛ لأن الدخان لم يصل إليها فهي على لون الجبل ، وجعل ما علا من الجبل أعالي الجارتين ، و" جونتا مصطلاهما" يعني مسودّتا المصطلى ، يعني الجارتين ، مسودّتا" المصطلى" ؛ وهو موضع الوقود.
وقد أنكر ذلك على سيبويه ، وخرّج للبيت ما يخرّج به عن" حسن وجهه" ، و" حسنة وجهها" وذلك أنه لا خلاف بين النحويين أن قولنا : " زيد حسن وجه الأخ جيد بالغ ، وأنه يجوز أن تكني عن الأخ فتقول : " زيد" حسن وجه الأخ وجميل وجهه فالهاء تعود إلى الأخ ، لا إلى زيد ، فكأنا قلنا : زيد حسن وجه الأخ وجميل وجه الأخ ، فعلى هذا قوله :
" كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما"
كأنه قال : كميتا الأعالي ، جونتا مصطلى الأعالي ، فالضمير في" المصطلى" يعود إلى" الأعالي" ، لا إلى الجارتين ، فيصير بمنزلة قولك : " الهندان حسنتا الوجوه ، مليحتا خدودهما" فإن أردت بالضمير الذي في خدودهما" الوجوه" كان الكلام مستقيما كأنك قلت : حسنتا الوجوه ، مليحتا خدود الوجوه ، وإن أردت بالضمير فإن أردت بالضمير" الهندين" فالمسألة فاسدة ، فكذلك" جونتا مصطلاهما" إن أردت بالضمير الأعالي ؛ فهو صحيح وإن أردت بالضمير الجارتين فهو رديء ، لأنه مثل قولك : " هند حسنة وجهها".
فإن قال قائل : فإذا كان الضمير الذي في" مصطلاهما" يعود إلى الأعالي فلم ثنّي والأعالي جمع؟ قيل له : الأعالي في معنى الأعليين فرد الضمير إلى الأصل ، ومثله :
متى ما تلقني فردين ترجف |
|
روانف أليتيك وتستطارا (١) |
__________________
(١) البيت لعنترة الخزانة ٣ / ٣٥٩ ، الدرر ٢ / ٨٠.