وعند ما أرخ لمكة أهلوها لم تكن نظرتهم اجتماعية بقدر ما كانت دينية لهذا ظفرت الآثار والمشاعر واسماء الجبال المفضلة بما لم تظفر به ناحية أخرى من نواحي التاريخ.
وقد أرخ بعضهم للسياسة فسجل لنا حوادثها العامة واضطراباتها وأسماء من تولى الامارة فيها فكان له فضل في ربط العصور بأجزائها ولكنهم لم يكتبوا ذلك إلا متأخرين بدليل هذا الفراغ الهائل الذي نجده في حوادث أواخر العهد الأموي وأكثر العهد العباسي الأول والثاني فقد ضاعت على التاريخ حتى أسماء الولاة واشتد الخلاف حتى في ترتيب ولاياتهم وتواريخها.
وحتى هذا الصنف لم يعن فيما كتب عن السياسة بالدقائق التي تعني بها فلسفة التاريخ ، فقد كان يكفيه في أكثر الأحيان أن يذكر وقوع فتنة في مكة أو عرفات ويذكر اسم صاحبها وما انتهى أمره فيها دون أن يضطر إلى بحث الملابسات التي أدت الى نشوبها أو النتائج الدبلوماسية التي ترتبت عليها ، وليسوا ملومين في هذا فقد عاشوا في عصر كان وعيه العام يعني بأخبار الفتن ونتائجها في غلاء الأسعار وشؤون الاستقرار أكثر مما يعني بالدبلوماسيات أو علاقة البلد الواحد بمعاصريه من الحكومات والدول.
فنحن نقرأ في أكثر ما كتب مؤرخونا القدامى عن حوادث لها أهميتها في عهد الفاطميين أو العباسيين أو المماليك ، فلا نستطيع أن نستنتج علاقة هذه الحوادث بالدول إلا في النادر القليل بل يتعذر علينا أن نعرف علاقاتنا الصحيحة بهذه الدول! أكنا مستقلين عنها تمام الاستقلال؟ أو بعضه؟ أم كنا تابعين لها تبعية مباشرة؟