وهي عالم المجرّدات ، لما بينهما من التناسب ، عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فتتصوّر بما فيها ممّا يليق بها من المعاني الحاصلة هناك. ثمّ إنّ المتخيّلة تحاكيه بصورة تناسبه ، فترسلها إلى الحسّ المشترك ، فتصير مشاهدة. ثمّ إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى ، بحيث لا يكون التفاوت إلّا بالكلّية والجزئيّة ، استغنت الرؤيا عن التعبير ، أي : وقع ما رآه بعينه ، وإلّا احتاجت إليه» (١).
وإنّما عدّي «كاد» باللّام ، وهو متعدّ بنفسه ، لتضمّنه معنى فعل يتعدّى به ، وهو : يحتالوا ، ليفيد معنى الفعلين تأكيدا ، ولذلك أكّد بالمصدر ، وعلّل بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة ، لما فعل بآدم وحوّاء ، فلا يألوا جهدا في تسويلهم ، وإثارة الحسد فيهم ، حتّى يحملهم على الكيد.
روى أبو حمزة الثمالي عن زين العابدين عليهالسلام : «أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به ، ويأكل هو وعياله منه ، وأنّ سائلا مؤمنا صوّاما اعترّ (٢) ببابه عشيّة جمعة عند أوان إفطاره ، وكان مجتازا غريبا ، فهتف على بابه واستطعمهم وهم يسمعون ، فلم يصدّقوا قوله. فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر ، وشكا جوعه إلى الله تعالى ، وبات طاويا ، وأصبح صائما حامدا لله. وبات يعقوب وآل يعقوب بطانا ، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم ، فابتلاه الله سبحانه بيوسف عليهالسلام ، وأوحى إليه أن استعدّ لبلائي ، وارض بقضائي ، واصبر للمصائب.
فرأى يوسف هذه الرؤيا في تلك الليلة».
(وَكَذلِكَ) أي : وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالّة على شرف وعزّ ، وكمال نفس وكبرياء شأن (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) للنبوّة والملك ، أو لأمور عظام. والاجتباء من : جبيت الشّيء إذا حصّلته لنفسك.
__________________
(١) أنوار التنزيل ٣ : ١٢٧.
(٢) اعترّ به : أتاه للمعروف من غير أن يسأل. والمعترّ : الفقير.