أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

مثال الثالث : لا تلبس الحرير في الصلاة ، أو لا تلبس الحرير بقول مطلق ، ومسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

وهناك صورة رابعة : وهي ما لو قلنا إنّ الصلاة مقيّدة بعدم لبس الحرير مثلا وأنّ لبسه حرام ، وكلّ من هذين الحكمين في عرض الآخر ، وهما ناشئان عن مفسدة أوجبت جعل كلّ واحد منهما في عرض الآخر ، لا أنّ الأوّل وهو المانعية معلول للثاني وهو الحرمة التكليفية.

وهذه الصورة هي محلّ ما أفاده قدس‌سره في الصورة الثانية ، وأمّا الصورة الثانية فهي عارية عن الحكم الشرعي الوضعي أعني تقيّد الصلاة بعدم لبس الحرير كي يتكلّم في أنّه في عرض الحرمة أو هو معلول لها. نعم لو دلّ الدليل على تقييد الصلاة بعدم الحرير كما دلّ على حرمة لبسه مطلقا أو في حال الصلاة كانت داخلة في الصورة المذكورة أعني الرابعة.

ولعلّ مراده بالثانية هو هذه الصورة ، إلاّ أنّ قوله : أو موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع من الجهة الأولى انتهى ، يمنع من ذلك إذ لا ريب في عدم تحقّق المانعية الوضعية أعني التقييد بالعدم في مسألة الاجتماع.

والحاصل : أنّ الصورة الثانية ممحّضة لكون الصلاة في الحرير منهيا عنها ، وكذلك الصلاة في المكان المغصوب بناء على الامتناع من الجهة الأولى ، ومقتضى ذلك هو خروجها بالتخصيص عن عموم الأمر بالصلاة ، نظير خروج العالم الفاسق عن عموم الأمر باكرام عالم من العلماء. ولا يمكن تصحيحه بالجهل أو بالاضطرار ، لكن لو ثبت الحكم بالصحّة في مورد الجهل أو في مورد الاضطرار التزمنا بصرف قوله ( لا تصلّ في الذهب ) إلى النهي عن لبس الذهب في حال الصلاة ، وكذلك الحال في مسألة الاجتماع فإنّه لو ثبتت الصحّة في موارد الجهل

٨١

أو الاضطرار لا بدّ لنا من الالتزام بالجواز من الجهة الأولى ، وحصر الامتناع بالجهة الثانية.

نعم يمكن الالتزام بالصحّة عند الاضطرار إلى الغصب ولو مع القول بالامتناع من الجهة الأولى ، من جهة أنّ الاضطرار يقلب الغصب من الحرمة إلى الإباحة فلا تكون المسألة من موارد اجتماع الأمر والنهي ، وهذا بخلاف مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق حيث إنّ الاضطرار إلى إكرام الفاسق من العالم لا يكون موجبا لدخوله تحت الأمر.

وحاصل الفرق بين مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق وبين مثل صلّ ولا تغصب على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، أنّ المسألة الثانية وإن رجعت إلى التخصيص الواقعي حتّى بطريقة أخذ الغصب جهة تعليلية ، إلاّ أنّ ذلك التخصيص الواقعي ناشئ عن التزاحم.

وهذا التزاحم وإن كان واقعا في مقام الجعل والتشريع فيكون تزاحما آمريا لا مأموريا ، ويكون محصّل ذلك هو أنّ الشارع المقدّس نظر إلى الصلاة في المكان المغصوب فرأى فيها ملاكا يقتضي أن يجعل لها حكم الحرمة ، كما أنّه رأى فيها ملاكا يقتضي أن يجعل لها الوجوب ، فلمّا رأى أنّ ملاك الحرمة أقوى جعل الحكم على طبقه ، وجعل الأمر الوارد على الصلاة مختصّا بما عدا هذا الصنف. لكن كلّ ذلك بعد فرض أنّ الغصب [ فيه ] ملاك يقتضي جعل الحرمة ، وهو إنّما يكون مقتضيا لجعل الحرمة إذا لم يكن مضطرا إليه ، فحيث يكون مضطرا إليه لا يقتضي جعل الحرمة ، أو أنّ الاضطرار يكون مانعا من جعل الحرمة ، وحيث قد انسدّ باب جعل الحرمة لم يبق لدى الشارع ما يوجب اختصاص جعله الوجوب بما عدا مورد ذلك الغصب المضطرّ إليه ، فلا تكون

٨٢

الصلاة في مورده فاسدة.

وهذا بخلاف مسألة أكرم عالما ولا تكرم الفاسق ، فإنّ الثاني إنّما يوجب إخراج مورده من الأوّل لا من جهة أنّ الحرمة لا تجتمع مع الوجوب ، بل من جهة أنّه لا ملاك للوجوب فيه ، أو أنّ الفسق مانع من تأثير ملاك الايجاب ، فيكون تقديمه على وجوب الاكرام من جهة تضمّنه عدم الوجوب ، لا من جهة خصوصية التحريم وأنّه لا يجتمع مع الوجوب ، ومن الواضح أنّ هذه الجهة لا يرفعها الاضطرار.

وهكذا الحال في قوله صلّ وقوله لا تصلّ في الحرير ، فإنّ ظاهره أنّه مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق في كون التقديم لدلالته على عدم الوجوب الموجود في ضمن التحريم ، لا من جهة نفس التحريم.

وبالجملة : مقتضى الظهور هو كون النهي عن الصلاة في الحرير من جهة عدم المقتضي للوجوب أو من جهة المانع وهو الحريرية من تأثير مقتضي الوجوب في إيجاب تلك الصلاة.

نعم ، لو ثبت بالإجماع ونحوه صحّة الصلاة عند الاضطرار إلى لبس الحرير نزّلناه على ما ذكرناه في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، من كون ذلك التقديم من باب كون ملاك النهي أقوى من ملاك الوجوب.

ومن ذلك تعرف أنّه لا حاجة إلى ما ذكرناه من صرف النهي عن الصلاة في الحرير إلى النهي عن لبس الحرير مطلقا أو في الصلاة ، لكن ذلك كلّه إنّما يتمّ في مثل الاضطرار ممّا يكون مانعا من تأثير ملاك الحرمة في التحريم ، دون مثل الجهل والنسيان ممّا يكون غير مانع من تأثير المقتضي في الحكم وتكون مانعيته منحصرة في التنجّز واستحقاق العقاب ، فلا تكون الصلاة في مورد مثل هذه

٨٣

الموانع إلاّ فاسدة ، فلاحظ وتدبّر.

فتلخّص لك : أنّ مثل نسبة لبس الحرير إلى الصلاة يتصوّر بصور أربع :

الأولى : أن يكون من قبيل المانع الصرف مثل مانعية محرّم الأكل من الصلاة ، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الوضعي وهو تقييد الصلاة بعدمه. وفي عدّ ما لا يؤكل من هذا القسم تأمّل ، لأنّ المانعية مقرونة بالحكم التكليفي وهو حرمة الأكل فتدخل من هذه الجهة في القسم الثاني ويتأتّى فيه النزاع في كونهما طوليين أو عرضيين. والأولى التمثيل للصورة الأولى بالنجاسة المانعة من صحّة الصلاة بناء على أنّ النجاسة مانعة لا أنّ الطهارة شرط.

الصورة الثانية : أن يضاف إلى ذلك كونه حرام اللبس أيضا ، مع فرض كون الأوّل معلولا للثاني أو كونهما معا معلولين لعلّة ثالثة وهي المفسدة الواقعية.

الصورة الثالثة أن لا يكون في البين إلاّ كون الصلاة فيه منهيا عنها ، ويلحق بها مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

الصورة الرابعة : أن لا يكون المنهي عنه إلاّ نفس اللبس ، ويلحق به مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

وأنت إذا جعلت الصورة الثانية صورتين كما حرّرناه تكون الصور خمسا ، بل إذا جعلنا الثانية ثلاثا بادخال ما لا يؤكل لحمه فيها ولو من جهة أنّ الاضطرار إلى الأكل لا يكون اضطرارا إلى الصلاة فيه بخلاف الاضطرار إلى اللبس تكون الصور ستّا.

وهذه الصور كلّها يكون الاضطرار مسوّغا للصلاة مع الحرير ويوجب الحكم بصحّتها ، إلاّ في الصورة الثالثة وما يلحق بها من مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

٨٤

ثمّ إنّ الاضطرار له صور ثلاث (١) :

الأولى : أن يضطرّ إلى لبس الحرير في الصلاة وغيرها من جهة البرد مثلا.

الثانية : أن يضطرّ إلى الصلاة فيه بمعنى أن يكون قاهر يمنعه من الصلاة في غيره ، ولا يسوغ له إلاّ الصلاة فيه.

الثالثة : أن يجبره ذلك القاهر على الصلاة فيه.

الرابعة : أن لا يكون له ساتر غيره ، من دون أن يكون محتاجا إلى لبسه على وجه يمكنه الصلاة عاريا.

١ ـ لا تصلّ فيما لا يؤكل عبارة عن مجرّد كون الصلاة مقيّدة بعدمه.

والأولى التمثيل بالميتة ولو كانت طاهرة.

٢ ـ لا تصلّ في الحرير لمجرّد النهي التكليفي المتعلّق بالعبادة ، ويلحق به الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

٣ ـ لا تلبس الحرير ، ليكون من النهي عن لبس الحرير إمّا مطلقا أو في خصوص حال الصلاة ، ويلحق به الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الثانية.

٤ ـ اجتماع تقييد الصلاة بعدم الحرير مع كون لبسه محرّما مع كونهما عرضيين.

٥ ـ كذلك مع كون التقييد في طول الحرمة التكليفية.

٦ ـ تقييد الصلاة مع ما لا يؤكل مع حرمة الأكل وفرض كونهما عرضيين.

٧ ـ كذلك وفرض كون التقييد في طول حرمة الأكل.

صور الاضطرار :

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ].

٨٥

١ ـ يضطرّ إلى لبس الحرير مثلا لبرد ونحوه.

٢ ـ يضطرّ إلى الصلاة فيه لقاهر يمنعه عن الصلاة إلاّ فيه.

٣ ـ يضطرّ إلى ذلك لقاهر يقهره ويلزمه بالصلاة فيه.

٤ ـ يضطرّ إلى ذلك لأنّه لا ساتر له دونه ، بحيث إنّه يمكنه الصلاة عاريا.

وبملاحظة هذه مع تلك تكون الصور ٢٨ ، فتأمّلها فترى أنّك لو أجريت الصورة الثانية من الاضطرار مع الصورة الثالثة من صور النهي تكون المسألة من قبيل استلزام الصلاة لفعل المحرّم ، فلو جوّزناه في لبس الحرير بدعوى أنّ وجوب الصلاة أهمّ فلا يمكننا تجويزه في اللباس أو المكان المغصوب. وهكذا الحال في الصور المتأخرة حتّى صورتي ما لا يؤكل إن كان القهر على أكل اللحم لو أراد الصلاة لا على الصلاة مع جلده فتأمّل.

ولو أجريت الصورة الثالثة من الاضطرار مع الصورة الثالثة من صور النهي وما بعدها حتّى السابعة ترى أنّه لا مانع من صحّة الصلاة.

وأمّا الصورة الرابعة من صور الاضطرار فإنّك لو جمعتها مع كلّ واحدة من الصور السبع ترى أنّ المتعيّن هو الصلاة عاريا ، ما عدا الصورة الثانية من صور النهي ، لما عرفت من سقوط الأمر بالصلاة في موردها ، لخروجه عن عموم الأمر بالتخصيص فلا أثر فيه للاضطرار.

ومنه يظهر الحال في جمع كلّ واحدة من صور الاضطرار مع الصورة الأولى من صور النهي وهي المانعية المجرّدة ، فإنّه يوجب سقوط المانعية ما عدا الصورة الرابعة من الاضطرار فإنّه يوجب الصلاة عاريا.

قال المرحوم الشيخ محمّد علي : ثمّ لا يخفى عليك أنّ المراد من عدم المندوحة هو عدم المندوحة في الغصب بحيث كان غير متمكّن من ترك الغصب

٨٦

كالمحبوس ، وأمّا لو كان متمكّنا من ترك الغصب ولكن كان غير متمكّن من الصلاة إلاّ في المغصوب ، بحيث دار الأمر بين ترك الصلاة وبين ترك الغصب فهذا خارج عمّا نحن فيه ، وفي مثل هذا لا بدّ من ملاحظة الأهمية والمهمّية ، ولا يجري فيه قوله عليه‌السلام الصلاة لا تسقط بحال (١) لأنّه إنّما يكون بالنسبة إلى القيود غير المحرّمة ذاتا فتأمّل جيّدا (٢).

عن الذكرى : ولو صلّى في المغصوب اضطرارا كالمحبوس ومن يخاف على نفسه التلف بخروجه منه صحّت صلاته ، انتهى (٣). ونحوه في جامع المقاصد (٤).

وفي نجاة العباد : كلّ مكان تجوز الصلاة فيه إلاّ المغصوب للعالم بغصبيته المختار ، غاصبا كان أو غيره ، فريضة كانت الصلاة أو نافلة على الأصحّ دون الجاهل والمضطر كالمحبوس بباطل ونحوه الخ (٥). وفي طبعة بمبائي : دون الجاهل والمضطرّ والمحبوس بباطل ونحوه. ولو صحّت هذه النسخة أمكن حمل المضطر فيها على من يخاف على نفسه التلف لو خرج.

لكن صاحب العروة قدس‌سره بعد أن ذكر حكم المحبوس قال : وأمّا المضطرّ إلى الصلاة في المكان المغصوب فلا إشكال في صحّة صلاته (٦). فجعل الاضطرار

__________________

(١) لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال » راجع وسائل الشيعة ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٦.

(٣) ذكرى الشيعة ٣ : ٧٧ ـ ٧٨.

(٤) جامع المقاصد ٢ : ١١٦.

(٥) نجاة العباد : ٩٦.

(٦) العروة الوثقى ٢ ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام ) : ٣٦٩ / المسألة ٨.

٨٧

متعلّقا بالصلاة ، فلا بدّ أن يكون ذلك بقهر قاهر يجبره ويلزمه بالصلاة في المكان المغصوب وهو الصورة الثالثة ، لا أنّه يمنعه من الصلاة إلاّ في المغصوب أعني الصورة الثانية من صور الاضطرار ، لأنّ ذلك لا يسوّغ له الإقدام على الصلاة التي يكون فعلها مستلزما لارتكاب الغصب ، وهذه الصورة هي التي أشار إليها المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : وأمّا لو كان متمكّنا من ترك الغصب ولكن كان غير متمكّن من الصلاة إلاّ في المغصوب الخ (١) فلاحظ.

وهل يصلّي في هذه الصورة صلاة المضطرّ نظير صلاته في حال الخروج ، أو أنّه يصلّي صلاة المختار؟ الظاهر الأوّل ، وحينئذ لا يبقى فرق بيّن بينه وبين المحبوس ، بل يكون هذا أسوأ حالا من المحبوس ، لأنّ المحبوس إنّما يمنع من التصرّف الزائد وهذا قد منع من صلاة المختار.

نعم ، لو كان القاهر قد قهره على صلاة المختار صلّى صلاة المختار ، فإنّه حينئذ يباح له الغصب بمقدار صلاة المختار ، فتصحّ صلاته حينئذ بناء على الجواز من الجهة الأولى دون ما لو قيل بالامتناع ، إلاّ أن يقال إنّ الغصب يخرج بالاضطرار عن الحرمة فتخرج المسألة عن مسألة الاجتماع ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : قد عرفت فيما تقدّم أنّ حقيقة الوجوب ليست إلاّ عبارة عن اعتبار كون فعل ما على ذمّة المكلّف ، وهذا المعنى في نفسه لا يقتضي اعتبار القدرة على ذلك الفعل ، وإنّما تكون القدرة معتبرة بحكم العقل في مقام الامتثال دون مرحلة التكليف ... الخ (٢).

إنّ كون الفعل في ذمّة المكلّف إنّما يكون من آثار التكليف ، والتكليف

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٧٨.

٨٨

ليس إلاّ الارادة ، وإرادة ما لا يكون قبيح عقلا ممتنع صدورها من العاقل فضلا عن الحكيم.

وبالجملة : أنّ التكليف إنّما يقتضي القاء الفعل على عاتق المكلّف وإشغال ذمّته به بواسطة الارادة ، ومن الواضح أنّ إرادة ما لا يكون قبيح من العاقل فضلا عن الشارع الحكيم إلاّ إذا لم تكن إرادة حقيقية ، وهو خلاف المفروض من التكليف الحقيقي الذي هو عين الارادة الحقيقية أو لازمها ، فتأمّل.

قوله في الحاشية المزبورة : بل التحقيق جواز ذلك حتّى على القول باقتضاء طلب شيء اعتبار القدرة عليه ، لأنّ حرمة ما يكون مقارنا لفرد المأمور به لا تجعل ذلك الفرد غير مقدور عليه ... الخ (١).

إنّ هذا المقارن ليس كسائر المقارنات كالنظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، بل هو متّحد مع الصلاة إيجادا وإن باينها وجودا كما شرحه شيخنا قدس‌سره ، وحينئذ يكون ذلك الفرد غير مقدور باعتبار وحدتهما الفاعلية وإن كان بينهما كمال المباينة في الوجود. وانتظر توضيحا لذلك في التعليق على الحاشية الآتية.

قوله في الحاشية : التحقيق صحّة ذلك أمّا أوّلا ... الخ (٢).

هذا الأوّل قد عرفت الجواب عنه فيما تقدّم (٣) من عدم معقولية تعلّق الارادة من العاقل بما لا يكون. وأمّا الثاني فقد عرفت الجواب عنه في آخر ما علّقناه على مسألة الترتّب (٤) فراجع.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٧٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٨٠.

(٣) تقدّم ذلك في الحاشية قبل الأخيرة.

(٤) في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٥٢ وما بعدها.

٨٩

والعمدة في جميع هذه الايرادات هو الثالث ، من أنّ التعدّد بحسب الوجود يستلزم التعدّد في الايجاد ، لعدم الاختلاف بين الايجاد والوجود إلاّ بالاعتبار. وليس مراد شيخنا قدس‌سره هو الاتّحاد في الايجاد حقيقة كي يتّجه عليه هذه الايرادات ، بل مراده هو وحدته العرفية ، حيث إنّ الصلاة في الدار المغصوبة وإن انحلّت إلى فعلين ووجودين بل إيجادين ، إلاّ أنّهما لمّا كانا صادرين بارادة واحدة كانت جهة الفاعلية فيهما واحدة عرفا بل حقيقة ، لما عرفت من وحدة الارادة الفاعلية ، وحيث اتّحدا في الجهة الفاعلية كانت جهة القبح الفاعلي بالاضافة إلى إيجاد الغصب سارية إلى الجهة الفاعلية في جهة إيجاد الصلاة ، بل لا معنى للتعبير بالسراية لكون الجهة الفاعلية فيهما واحدة ، وحينئذ فمع تقديم جهة الغصب تكون جهة فاعلية تلك الصلاة قبيحة فلا يمكن الامتثال فيها ، ولا يشملها الأمر عقلا وإن شملها شرعا ، فلاحظ وتأمّل.

وهذا المعنى الذي شرحناه ـ أعني الاتّحاد بينهما في الجهة الفاعلية التي ربما عبّر عنه شيخنا قدس‌سره بجهة الايجاد ـ هو الحجر الأساسي في كون الطبيعة في ذلك الفرد غير مقدورة ، وفي عدم جريان الترتّب فيه ، وفي عدم امكان التقرّب.

ولكن بقي في المقام إشكال آخر يتولّد من دعوى اتّحاد جهة الفاعلية التي هي جهة الايجاد ، وذلك الإشكال هو أنّ الجهة الفاعلية في قبال الجهة الفعلية ، والجهة الأولى هي التي نعبّر عنها بالجهة المصدرية والثانية هي المعبّر عنها باسم المصدر ، ولا ريب في أنّ التكاليف إنّما تتعلّق بالجهة المصدرية ، فإنّ ذلك هو مركز الايجاب والتحريم وبه يتعلّق البعث والزجر ، وحينئذ يعود المحذور في أصل الاجتماع من الجهة الأولى لكون التركّب فيما هو متعلّق التكليفين فيما نحن فيه تركّبا اتّحاديا ، لما ذكرناه من وحدة جهة الاصدار التي هي مركز التكليفين.

٩٠

وحينئذ لا بدّ من التشبّث بوحدة الارادة مع الاعتراف بتعدّد الجهة الفاعلية التي هي جهة الاصدار المعبّر عنها بالمعنى المصدري ، إذ لا ريب في وحدة الارادة وإن كان المراد متعدّدا ذاتا وصدورا وفاعلية ، وهذه الوحدة في مقام الارادة هي المانعة من إمكان التقرّب ، إذ لا يمكن أن تكون تلك الارادة الواحدة المتعلّقة بالفعلين صادرة بداعي القرب فلا يكون الامتثال مقدورا ، ولا يمكن تأتّي الترتّب كما لا يمكن أن يتأتّى فيها التقرّب.

ولو قلنا إنّ هذه الارادة الواحدة منحلّة إلى إرادتين لكونها منبسطة على الفعلين لم يكن ذلك نافعا في إمكان التقرّب ، لعدم إمكان التقرّب بتلك الارادة وإن كانت منحلّة بدقّة النظر إلى إرادتين ، بل لو لم يكن إلاّ إرادة تلك الصلاة الخاصّة لم يمكن التقرّب بها لأجل ما اشتملت عليه من الخصوصية ، حتّى أنّه لو أمر بمقابلة زيد مثلا واتّفق أنّ مقابلته كانت مستلزمة لاستدبار المصحف وقلنا إنّه حرام مثلا ، وحينئذ يكون مثاله الأوضح أنّه لو صلّى وكان خلفه مصحف لم تصحّ صلاته لأنّه لا يمكنه التقرّب بتلك الصلاة التي اتّفق أنّها موجبة لاستدبار المصحف ، ويكفي في الحرمة والبطلان علمه بذلك وإن لم يكن مريدا قصدا لاستدبار المصحف.

ومن ذلك ما ذكره في العروة في مسألة ٥ من أنّ المحمول إذا تحرّك بحركات الصلاة يوجب البطلان وإن كان شيئا يسيرا (١) ، فإنّ الحركات خارجة عن أفعال الصلاة وليست مركّبة منها لا اتّحاديا ولا انضماميا ، وإنّما تكون الصلاة فاسدة لما ذكرناه من أنّ الخصوصية مانعة من قصد التقرّب فتأمّل جيّدا.

وأنت إذا عرفت ذلك وأنّه ليس في البين إلاّ وحدة الارادة تعرف أنّ المقام

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٢٣١.

٩١

خارج عن باب التعارض وعن باب التزاحم ، ويكون ما نحن فيه من قبيل النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، ولا فرق بينهما إلاّ من جهة الارادة ، حيث إنّ ما نحن فيه تكون الارادة فيه واحدة وذلك هو المانع من قصد التقرّب بها ، بخلاف مسألة النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة فإنّه يكون بارادتين ، فلا مانع من قصد التقرّب بالارادة المتعلّقة بنفس الصلاة وإن كان عاصيا بارادة النظر إلى الأجنبية فيها ، على وجه لو كان فيما نحن فيه ممّا يمكن فيه تعدّد الارادة لأمكن التقرّب بإحداهما وإن كان عاصيا بالأخرى ، لكنّه لا يمكن تعدّد الارادة فيه ، فإنّه لو لم يقصد إلاّ طبيعة الصلاة ولم يكن مريدا إلاّ هذه الصلاة الخاصّة الواقعة في الدار المغصوبة مع علمه بوقوعها في المكان المغصوب وعلمه بالغصب وحرمته لم يمكن التقرّب بتلك الارادة المتعلّقة بالصلاة الخاصّة الواقعة في الدار المغصوبة ، لعلمه بكون تلك الصلاة الخاصّة منهيا عن الجهة المقارنة لها ، كما أنّه لو أراد الصلاة الخاصّة التي تكون مشتملة على النظر إلى الأجنبية لكانت تلك الصلاة الخاصّة فاسدة ، لعدم إمكان التقرّب بتلك الصلاة الخاصّة المشتملة على النظر إلى الأجنبية في حالها لو كان قاصدا تلك الخصوصية. بل لو كان يعلم أنّه في حال قيامه تنظر إليه الأجنبية قهرا عليه نظر ريبة تكون موجبا لحرمة قيامه لكونه تمكينا لها من ذلك الحرام ، لا يمكنه التقرّب بتلك الصلاة الخاصّة الناشئة خصوصيتها عن اشتمالها على خصوصية نظر الأجنبية إليه الموجب لتحريم تمكينه لها من ذلك.

وبهذا البيان يكون الحكم بصحّة الصلاة عند الجهل بالغصب أو نسيانه أسهل منه على تقدير جعله من باب التزاحم ، لأنّ جعله من باب التزاحم يحتاج إلى دعوى سقوط النهي عن المزاحمة ، بخلاف هذا البيان فإنّه لا يحتاج إلى ذلك فتأمّل.

٩٢

وبهذا البيان يندفع الإشكال في بطلان الصلاة في اللباس المغصوب مع العلم ، حيث إنّه على الظاهر ليس من قبيل التركّب الانضمامي والاتّحاد في الجهة الفاعلية.

وبعبارة : ليس هو من قبيل الصلاة في المكان المغصوب كي يدّعى أنّه من قبيل تعدّد الوجود واتّحاد الايجاد كي يكون الحكم فيه بالبطلان من هذه الجهة ، ولا هو من قبيل التركّب الاتّحادي ، فإنّه يمكن الحكم ببطلان هذه الصلاة من جهة أنّ هذه الارادة لا يمكن أن تكون مقرّبة ، لكون متعلّقها وهو الصلاة الخاصّة ممّا لا يمكن التقرّب فيه لأجل ما هو فيه من الخصوصية (١).

وهكذا الحال في كلّ خصوصية محرّمة لاحقة للصلاة ، سواء كانت حرمتها مطلقة حتّى في غير الصلاة كما في اللباس المغصوب والحرير ، أو كانت حرمتها

__________________

(١) وهكذا الحال في لباس الحرير بناء على أنّ مرجع النهي عن الصلاة فيه إلى بيان المانعية العقلية ، وأنّه لا يمكن التقرّب بالصلاة المشتملة على لبس الحرير. وكذلك الحال في الصلاة مع لبس الذهب ، بل وكذلك الحال في الصلاة مع التزيّن بالذهب ، بناء على أنّ نفس الصلاة مع لبس الذهب أو مع التزيّن به وإن لم يكن لبسا ليست بمحرّمة نفسيا ، وأنّه لو كان في البين نهي لا يكون إلاّ إرشادا إلى مانعية ذلك عقلا من حصول التقرّب بتلك الصلاة ، فراجع ما حرّره المرحوم الحاج آقا رضا [ في مصباح الفقيه ١٠ ( كتاب الصلاة ) : ٣٠٣ وما بعدها ، ٣٤٤ وما بعدها ] والحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس‌سرهما [ في كتاب الصلاة : ٦١ ـ ٦٣ ] في مسألة لبس الحرير في الصلاة ولبس الذهب ، بل والتزيّن به وإن لم يكن يصدق عليه اللبس ، وأنّ جميع ذلك مبطل للصلاة وإن لم تكن الصلاة في ذلك محرّمة شرعا ، بل ولا كان النهي عنها في ذلك من قبيل الارشاد إلى المانعية الشرعية نظير النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه [ منه قدس‌سره ].

٩٣

مختصّة بحال الصلاة كما لو قلنا بحرمة التكفير في حال الصلاة حرمة تكليفية صرفة لكنّها مختصّة بحال وقصد المصلّي أن يصلّي متكفّرا ، ونحو ذلك من الخصوصيات اللاحقة للصلاة ـ غير المتّحدة بها على وجه يكون تركّبها معها تركّبا اتّحاديا بحيث يكون النهي عنها نهيا عن الصلاة ، ولا تكون منفصلة عنها على وجه تكون أجنبية عن الصلاة بحيث تكون مرادة بارادة مستقلّة غير إرادة الصلاة ولا تكون لاحقة للصلاة ـ ولو باعتبار مقارنتها لها على وجه تكون مقارنتها للصلاة مكسبة للصلاة لونا خاصّا ، فإنّ النهي عن ذلك اللون وإن لم يكن منحلا إلى النهي عن الصلاة الملوّنة بذلك اللون إلاّ أنّه يوجب عدم امكان التقرّب بتلك الصلاة ، لعدم إمكان كون الارادة المتعلّقة بتلك الصلاة قربية بمعنى عدم إمكان كون تلك الارادة بداعي التقرّب.

لا يقال : لا يعتبر في العبادة كون إرادتها قربية ، وإنّما يعتبر فيها كونها صادرة بداع قربي. لأنّا نقول : معنى كون الصلاة صادرة بداع قربي هو أن تكون الارادة المتعلّقة بها ناشئة عن داع قربي ، ومع فرض كون متعلّق الارادة هو الصلاة الخاصّة الملوّنة بلون محرّم لا يعقل أن تكون تلك [ الصلاة ] الخاصّة بداع قربي ، وما ذلك إلاّ من قبيل ما لو فرض أنّ الملك يسرّه رؤيتك وحضورك عنده فأنت تتقرّب إليه بذلك ، فلو فرض أنّه يبغض السواد على وجه لو نظر إلى السواد يموت ولده مثلا وأنت حضرت عنده باللباس الأسود ، فذلك الحضور لا يمكنك التقرّب به إليه بحيث تكون ارادتك لذلك الحضور إرادة قربية له.

وبذلك ينحلّ الإشكال في المانعية الناشئة عن الحرمة التكليفية مثل مانعية الحرير إن قلنا إنّ مثل لا تصلّ في الحرير ارشاد إلى حرمة لبس الحرير إمّا مطلقا أو في خصوص حال الصلاة ، فإنّ هذا النهي التحريمي المتعلّق بلبس الحرير مطلقا

٩٤

أو في خصوص حال الصلاة يوجب عدم امكان التقرّب بتلك [ الصلاة ] فتفسد لو كان عالما بتلك الحرمة. أمّا لو كان جاهلا بها حكما أو موضوعا فإنّه لا يؤثّر. لكن لازم ذلك هو أنّه لو لم يكن أصل إرادته الصلاة مقرونة بذلك بل هو أراد الصلاة المطلقة لكن في الأثناء أراد أن يلبس الحرير أو المغصوب لم تكن صلاته فاسدة. اللهمّ إلاّ أن يقال إنّها تفسد بالنظر إلى الأجزاء التي وقعت مقرونة بذلك وحينئذ يشكل الفرق بين ما لو نظر إلى الأجنبية في الأثناء وبين ما لو لبس المغصوب في أثنائها ، اللهمّ إلاّ أن يفرق بينهما بأنّ النظر إلى الأجنبية في حال الأجزاء لا يكسب تلك الأجزاء لونا ، بخلاف لبس المغصوب أو الحرير في أثنائها فإنّه يكسب تلك الأجزاء لونا خاصّا ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّا إنّما نلتزم بصحّة الصلاة في حال النظر إلى الأجنبية فيما إذا اتّفق النظر في الأثناء ولم يكن عالما به من أوّل شروعه وكان واقعا في أثناء السكونات ، أمّا ما لو لم يكن عالما به من أوّل دخوله في الصلاة لكنّه اتّفق وقوعه في أثناء أحد الأجزاء ، فإن لم يكن في حال فعله لذلك الجزء ملتفتا إليه ، ولم يكن صدوره عنه إلاّ بدافع تلك الارادة الأولى التي وقعت في أوّل الصلاة ، لم يكن وقوع النظر إلى الأجنبية في حال ذلك الجزء موجبا لبطلانه ولا لبطلان أصل الصلاة. نعم لو التفت إلى ذلك وقصد به الامتثال مع علمه بأنّه يشتمل على مقارنة النظر إلى الأجنبية كان تقرّبه بذلك الجزء غير صحيح ، فيكون فاسدا مفسدا للصلاة. ولعلّ إطلاق القول بأنّ النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة غير مبطل غير شامل لهذه الصورة فتأمّل.

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت ذلك كلّه راجعت ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره في مبحث اللباس والمكان من كتاب الصلاة فوجدته قدس‌سره قد بنى على أنّ المانع من الامتثال

٩٥

هو هذا الذي حرّرته هنا من وحدة الارادة فيا قاتل الله النسيان ، وهاك ما حرّرته هناك :

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في درس الفقه من كتاب الصلاة عند التعرّض لاعتبار إباحة المكان ما هذا لفظه :

فإن قلت : إذا جاز عندكم الاجتماع من الجهة الأولى لما ذكرتموه من أنّ تعدّد الجهة كاف في تعدّد الحكم ، فيجوز أن يكون الفعل الواحد مأمورا به ومنهيا عنه باعتبار جهتين ، كان ذلك مستلزما لصحّة الصلاة في المغصوب ، حيث إنّ المجمع لمّا كان ذا جهتين جهة الأمر وجهة النهي فله أن يتقرّب بجهة الأمر وإن حصل العصيان بجهة النهي وكان عالما به حكما وموضوعا ، حيث إنّ امتثال الأمر على نحو تعلّقه ، فإذا جاز ذلك في مرحلة تعلّق التكليف وجعله فلم لم يجز في مرحلة الامتثال.

قلت : فرق بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ، فإنّ إرادة الآمر يمكن أن تتعلّق بعنوان الصلاة مجرّدة عن لحاظ الخصوصية الغصبية وسائر الخصوصيات الخارجة عن حقيقة الصلاة ، بخلاف إرادة المأمور الامتثال فإنّه إنّما يمتثل الأمر بهذا الفرد.

وبعبارة أخرى : أنّه يمتثل الأمر بما يأتي به من الفعل الخارجي الذي هو مركب مع الجهة المبغوضة وهي الغصبية ولو كان التركيب انضماميا ، فيتحقّق القبح الفاعلي فيما يأتي به فيمتنع تحقّق الامتثال به.

ودعوى أنّ الخصوصيات اللاحقة للطبيعة خارجة عن الارادة المتعلّقة بفعلها ، لا يخفى فسادها فإنّ الخصوصيات الفردية التي تكون خارجة عن الارادة إنّما هي الخصوصيات اللاحقة للطبيعة في مرتبة وجودها ، دون الخصوصيات

٩٦

اللاحقة لها في المرتبة السابقة على وجودها ، وذلك فإنّ الخصوصيات اللاحقة للطبائع على نحوين :

الأوّل منها : ما يكون عارضا لنفس الطبيعة وتكون باعتبارها منقسمة إلى قسمين. وهذه لا بدّ أن تكون داخلة في متعلّق الارادة.

النحو الثاني منها : ما يكون من لوازم وجودها ككونها في المكان أو في الزمان. وهذا النحو يكون خارجا عن متعلّق الارادة. لكن كونها موجودة في هذا المكان المخصوص أو في هذا الزمان المخصوص من النحو الأوّل ، لأنّ ترجيح هذا المكان على غيره وهذا الزمان على غيره لا بدّ أن يكون بالارادة ، وهذا هو سرّ مسألة الاجتماع وتمام جهة التكلّم فيها ، وهو الموجب لما نختاره من جواز الاجتماع من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

ثمّ قال : ومن جملة ما يستثنى من الحكم ببطلان الصلاة في المغصوب الجاهل بالحكم إذا كان قاصرا دون من كان مقصّرا ، لا لما قيل من تأتّي نيّة القربة في الأوّل دون الثاني ، فإنّه لمّا كان الفعل منه مبغوضا لم يكد تأتّي التقرّب منه بما هو مبغوض ، فإنّ إمكان قصد التقرّب وعدمه لا يكون ميزانا وضابطا ، بل لأنّ البطلان إنّما جاء من قبل مزاحمة النهي للأمر وشاغلية النهي للمكلّف عن الاتيان بمتعلّق الأمر ، فيكون ذلك الفرد الذي وقع التزاحم عليه أعني مورد الاجتماع غير مقدور له ، فيخرج عن حيّز الأمر فلا يمكن الاتيان به بداعي الأمر ، ولا ريب أنّ النهي إنّما يكون شاغلا وموجبا لصرف القدرة في متعلّقه إذا كان منجّزا ، أمّا إذا لم يكن النهي منجّزا كما في مورد الجهل القصوري فلا يكون هناك ما يوجب خروج ذلك الفرد الذي هو المجمع عن كونه مقدورا ، فالمدار في الصحّة وعدمها على تنجّز النهي ، والمفروض أنّ الجاهل المقصّر يكون النهي في حقّه منجّزا فيكون

٩٧

من هذه الجهة كالعالم.

وأمّا ناسي الحكم فهو في جميع موارده ملحق بالجاهل به بل هو هو ، وأمّا الجاهل بالحكم الوضعي الذي هو الفساد فلا أثر لجهله ، لعدم كون الفساد في هذه المسألة حكما شرعيا ، وإنّما هو حكم عقلي ناشئ من امتناع الاجتماع من الجهة الثانية ، وهو مترتّب حتّى في صورة الجهل به.

قلت : الأولى أن يعلّل الحكم بفساد صلاة الجاهل بحرمة الغصب إذا كان مقصّرا بقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وحينئذ يقع ذلك الغصب المنضمّ إلى الصلاة مبغوضا ، وما كان مبغوضا يمنع من تحقّق التقرّب بما اقترن معه من الصلاة وإن تحقّق قصد التقرّب من المكلّف ، لأنّه قد تقرّب بما هو مبغوض فعلا.

ويشهد بهذا الذي ذكرناه من أنّ المانع هو عدم تحقّق التقرّب لا مجرّد عدم امكان قصد التقرّب هو ما صرّح به قدس‌سره فيما سيأتي ، وذلك أنّه قدس‌سره تعرّض لبيان أنّه لا يتأتّى الترتّب ولا قصد الملاك بالمجمع ، وأفاد ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : وهو أنّه بعد تقديم جانب النهي فيه على جانب الأمر لا يمكن تصحيحه بملاك الأمر ولا بالترتّب.

أمّا الأوّل : فلعدم كونه مقرّبا لكونه يصدر عنه مبغوضا عليه بواسطة الجهة الغصبية ، وما يقع مبغوضا لا يكون مقرّبا بل يكون مبعّدا ، فليس المانع فيه هو عدم تأتّي قصد التقرّب لأنّ قصد التقرّب أمر بيد الفاعل القاصد ، بل إنّ المانع هو ما ذكرناه من عدم وقوعه مقرّبا سواء قصد به التقرّب أم لم يقصد ، لحكم العقل بأنّ ما هو مبغوض ولو للجهة الخارجة عن حيّز الأمر لا يقع مقرّبا.

وتوهّم أنّه بجهته التي هي مورد الأمر يقع مقرّبا وإن كان مبعّدا بجهته التي

٩٨

هي مورد النهي ، ولا مانع من اجتماع المقرّبية والمبعّدية ومن حصول الاطاعة والعصيان في شيء واحد إذا كان ذلك من جهتين كما ذكرتم أنّه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي إذا كان من جهتين ، فإنّ الامتثال والاطاعة إنّما هي متابعة الأمر حسبما تعلّق به ، والمفروض أنّه متعلّق بالجهة الصلاتية ولا ربط له بالجهة الغصبية فتكون الاطاعة حاصلة بالجهة الصلاتية ، ولا يضرّ بها اشتماله على الجهة الغصبية لكونها خارجة عمّا أريد تحصيل الاطاعة به الذي هو الجهة الصلاتية.

قد عرفت فساده بما حاصله الفرق بين مقام الأمر والنهي وبين مقام الاطاعة والعصيان ، فإنّ الأمر والنهي إنّما صحّحنا اجتماعهما في المجمع لكون إرادة الآمر كانت متعلّقة بالطبائع المجرّدة عن لحاظ الضمائم ، فتكون إرادته للفعل متعلّقة بنفس الصلاة وإرادته للترك متعلّقة بنفس الغصب ، ولا ربط لأحد المتعلّقين بالآخر كما تقدّم تفصيله. أمّا إرادة المكلّف التي هي إرادة الاطاعة فلا تتعلّق بنفس الطبيعة ، بل إنّما تتعلّق بما يأتي به من الأفعال على ما هي عليه من الجهات الطارئة ، فهو يقصد نفس هذا الفرد من الصلاة ويأتي به امتثالا للأمر الصلاتي ، فلا يكون متعلّق إرادته في مقام الاطاعة إلاّ نفس الفعل على ما هو عليه من الضمائم المبغوضة ، فلا يقع مقرّبا.

ثمّ إنّه بيّن الوجه في عدم إمكان التصحيح بالترتّب بما لا حاجة لنا إلى نقله هنا ، فإنّه موجود في الكتاب (١).

قلت : لا يخفى أنّ الاطاعة إنّما هي الاتيان بنفس ما تعلّق به الأمر ، والضمائم لا بدّ أن تكون خارجة عن قصد المطيع ، بل لو قصد الاطاعة بالفعل بما هو عليه من الضمائم ولو كانت مباحة لكان مفسدا لكونه حينئذ مشرّعا ، فالأولى

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، ١١٤ ـ ١١٥.

٩٩

في الجواب عن هذا التوهّم هو ما أفاده قدس‌سره فيما تقدّم نقله عنه.

وتوضيحه : أنّه وإن أمكن أن يقصد الاطاعة بالفعل بجهته الصلاتية وتكون جهته الغصبية خارجة عن قصده الاطاعة به ، إلاّ أنّ العقل لا يرى مثل هذه الاطاعة اطاعة ، ولا يرى الاتيان بالمأمور به مقرونا بجهة مبغوضة مقرّبا ، بل يراه مبعّدا وإن كانت الجهة المبغوضة غير داخلة تحت متعلّق الأمر ومتعلّق الاطاعة المقصودة.

ويشهد بذلك ما أفاده قدس‌سره فيما يأتي في هذه المباحث الفقهية التي تعرّض فيها للتزاحم وصوره ، وأنّ منها ما يكون التزاحم ناشئا عن اتّفاق التلازم بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي كما يمثّل له في استدبار الجدي واستقبال القبلة لعامّة المكلّفين ، لا لخصوص من كان بالعراق فإنّه يكون دائميا ويدخل في باب التعارض ، فإنّه قدس‌سره قال بعد بيان أنّ من التلازم الاتّفاقي من قبيل التزاحم ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه في تلك المباحث : وبعد تقديم جانب النهي لكونه أقوى فهل يمكن تصحيح الواجب بالملاك أو بالترتّب ، أو لا يمكن ذلك؟ لا يبعد الثاني ، فإنّ الواجب وإن لم يكن متّحدا مع المحرّم كما في مسألة الاجتماع ، إلاّ أنّه لا يبعد أن يقال إنّ العقل لا يحكم بحسن مثل هذه الاطاعة التي يلازمها الاتيان بما هو المبغوض ، انتهى.

هذه النصوص التي حرّرتها عنه قدس‌سره في تلك المباحث نقلتها إلى هنا من محلّها على علاّتها ، لم أغيّر فيها شيئا حتّى ما كنت حرّرته عليه بلفظ قلت ، سوى تبديل ( دام ظلّه ) بلفظ قدس‌سره. ثمّ بعد هذا كلّه راجعت ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي عنه قدس‌سره في مباحث الصلاة فوجدته مشتملا على جميع هذا الذي تقدّم نقله ممّا هو منقول عن تحريراتي ، وقد كان فراغه قدس‌سره من مباحث القراءة حسبما ضبطه المرحوم الشيخ محمّد علي في سنة ١٣٤٥ ، فيكون سابقا على ما أفاده قدس‌سره في

١٠٠