أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

المانع من صحّة التقرّب بما عرفت من عدم كون إيجاد الصلاة مشتملا على إيجاد الغصب ، لأنّه قد وقع في الغصب على كلّ حال ، فليس له إرادة جديدة تتعلّق بالغصب حال الصلاة ، نعم ربما قيل بأنّ الحال كذلك في الصلاة في الدار المغصوبة اختيارا ، لأنّ الغصب واقع قبل الصلاة.

نعم بناء على ما شرحناه من أنّ المانع من التقرّب بهذه الصلاة هو تخصّصها بخصوصية مبغوضة فعلا ، وإن لم تكن منهيا عنها فعلا ، بمعنى عدم الخطاب فعلا بتركها ، فالذي ينبغي هو الحكم بالبطلان لاشتمالها على الخصوصية المبغوضة فعلا ، فلاحظ وتأمّل.

١٨١

[ دلالة النهي على الفساد ]

قوله : نعم لو كان المأمور به بخصوصه منهيا عنه ، كما إذا كان اطلاق الأمر شموليا ، فلا محالة يقع التعارض بينهما ـ إلى قوله : ـ لكن هذا خارج عن محلّ الكلام قطعا ، فإنّ محلّ الكلام فيما إذا كان التعارض وتقييد متعلّق الأمر من ناحية دلالة النهي على الفساد ، والتعارض في المورد لا يتوقّف عليها بالضرورة (١).

لا يخفى أنّ هذه الجملة الأخيرة ـ أعني قوله : لكن الخ ـ تفيد أنّ نتيجة النزاع في هذا المبحث هي الفساد ، وبعد الحكم بفساد العبادة نرتكب طريقة التخصيص ، الذي هو راجع إلى باب التعارض ، بخلاف ما لو كان الأمر شموليا وكان النهي التنزيهي متعلّقا ببعض أفراده ، بحيث كان النهي متعلّقا بذات العبادة الخاصّة ، فإنّه راجع إلى التخصيص والتعارض ابتداء ، من دون توسط الحكم بفساده ، وإن كنّا نحكم بفساده بعد إعمال قاعدة التعارض من التخصيص.

وهذه الجهة لم يتعرّض لها المرحوم الشيخ محمّد علي ، بل اقتصر على إنكار تعلّق النهي التنزيهي في العبادات بذات العبادة فقال : إلاّ أنّ النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلّقة بالعبادات لم تتعلّق بذات العبادة على وجه يتّحد متعلّق الأمر والنهي على ما تقدّم تفصيله ، فالقول بأنّ النهي التنزيهي كالنهي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٨٢

التحريمي داخل في حريم اقتضاء النهي للفساد ضعيف جدّا (١).

وبناء عليه يكون محصّل الجواب هو المناقشة في الصغرى ، ومن الواضح أنّه لا يدفع الإشكال ، لأنّه متوجّه على تقدير تحقّق الصغرى بأن نفرض أنّه كانت لنا عبادة تعلّق النهي التنزيهي بذاتها ، فهل يكون ذلك النهي موجبا لفسادها أو لا. وقد مرّ تصوير ذلك في النوافل المبتدأة في الأوقات الخاصّة ، وأنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من التفكيك فيه بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي بجعل الأوّل متعلّقا بذات العمل والثاني بالتعبّد به ، محلّ تأمّل وإشكال ، فراجع (٢).

ولا يخفى أنّ الذي وجدته في تحريراتي عنه قدس‌سره في المقام هو أوسع ممّا في هذا الكتاب ، لأنّ فيه توسعة الإشكال إلى النهي التحريمي في قبال الأمر الشمولي ، والحكم بأنّ هذا أيضا خارج عن محل النزاع كالنهي التنزيهي في قبال الأمر الشمولي ، وأنّ محلّ النزاع مقصور على النهي التحريمي في قبال الأمر البدلي ، للجهة المشار إليها ، وهي أنّ ما يكون في قبال الأمر الشمولي يكون راجعا ابتداء إلى باب التعارض بلا توسط الحكم بالفساد ، وإن كنّا نحكم بفساده بعد ارتكاب طريقة التخصيص ، أمّا ما يكون من النهي التحريمي في قبال الأمر البدلي فإنّا نحكم بفساده أوّلا ، ثمّ بعد الحكم بفساده يكون داخلا في باب التعارض ، هذا هو الذي يتحصّل ممّا حرّرته عنه قدس‌سره.

أمّا النهي التنزيهي في قبال عموم الأمر البدلي فقد أحاله قدس‌سره إلى مبحث العبادات المكروهة ، فإنّ متعلّق النهي فيما له البدل الذي هو محصّل كون عموم الأمر بدليا يكون غير العبادة ، فلا يكون داخلا فيما نحن فيه من النهي عن العبادة.

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٥٦.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٦٢ وما بعدها.

١٨٣

ولا يخفى أنّ باب التعارض والتخصيص وباب اقتضاء النهي للفساد وإن كان كلّ منهما أجنبيا عن الآخر ، فإنّ النهي عن الشيء معارض للأمر به لعدم اجتماعهما ، وإن لم نقل بأنّ النهي يقتضي الفساد أو لم يكن الفعل المنهي عنه ممّا يفسده النهي ، كما في الأمر بغسل الثوب والنهي عن غسله في حالة خاصّة ، وكما في الأمر ببيع العبد بقول مطلق والنهي عن بيعه في وقت خاص. كما أنّ كون النهي موجبا للفساد لا دخل له بباب التعارض ، وليس مبنيا على تخصيص الأمر به ، بل إنّ النهي يكون موجبا لفساد العبادة وإن لم يكن في البين أمر متعلّق بها ، كما لو نهي عن العبادة بالتكتّف قائما وكما في النهي عن المعاملة لو قيل بأنّه مقتض للفساد.

وحينئذ نقول : لعلّ مراد شيخنا قدس‌سره ـ كما ربما يتّضح ممّا أفاده في توجيه اقتضاء النهي للفساد على ما حرّرته عنه هناك ـ أنّ الأمر لو كان بدليا ، وتعلّق النهي التحريمي ببعض أفراده ، نقول إنّ أوّل ما يؤثّره ذلك النهي هو سلب قدرة المكلّف عن امتثال ذلك الأمر البدلي في ذلك الفرد المنهي عنه ، والحكم العقلي بلزوم امتثاله في الأفراد الأخر ، فتكون المسألة حينئذ من صغريات التزاحم. لكن هذا المقدار من أثر النهي لا يوجب فساد المأمور به لو أتى به في ضمن ذلك الفرد المنهي عنه ، بل يمكن أن يحكم بصحّته اكتفاء بملاكه ، أو بالترتّب ، أو كما يقوله المحقّق الثاني (١) من أنّ الانطباق قهري والامتثال وجداني ، كما أنّ هذا المقدار لا يوجب تحقّق المعارضة بين الأمر والنهي على وجه يكون النهي مخصّصا للأمر تخصيصا شرعيا ، وإنّما أقصى ما في هذا المقدار هو التخصيص العقلي.

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤ ، وقد تقدّم نقل عبارته قدس‌سره في المجلّد الثالث من هذا الكتاب فراجع الحاشية المذكورة هناك في الصفحة : ١٣٦ وما بعدها.

١٨٤

نعم إنّما يتحقّق ذلك كلّه بعد طي المرحلة الثانية ، وهي أن نقول : إنّ ذلك النهي كما يوجب سلب الخطاب لكونه سالبا للقدرة ، يكون موجبا لسلب الملاك بالتقريب الذي بيّنه قدس‌سره في محلّه ممّا سيأتي (١) إن شاء الله تعالى ، وبعد ارتفاع الأمر خطابا وملاكا يتعيّن الحكم بفساد ذلك الفرد ، وبعد ذلك كلّه نقول : إنّه خارج عن العموم البدلي لذلك الأمر خطابا وملاكا ، وهو معنى التخصيص ، فكان التخصيص متولّدا من الحكم بالفساد. ومن ذلك يظهر لك أنّ الحكم بالفساد له مساس بوقوع المعارضة ، فلا يتمّ ما أورده في الحاشية المذكورة (٢).

وهذا بخلاف ما لو كان العموم في ناحية الأمر شموليا ، فإنّه لا يتطرّق إليه احتمال إمكان امتثال ذلك الأمر المتعلّق بالطبيعة في هذا الفرد المنهي عنه ، كي نمنع ذلك بأنّ هذا الفرد لا يمكن امتثال الأمر فيه لعدم الملاك ، لأنّ الفرض أنّ ذلك الفرد بنفسه مأمور به ، وبعد فرض تعلّق النهي به لا يكون لنا أمر متعلّق بطبيعة كلّية كي نمتثله في ذلك الفرد الذي يكون انطباق الطبيعة عليه انطباقا قهريا.

وحينئذ ففي هذه الصورة يكون المرجع الأوّل هو التخصيص ، من دون توقّف على الحكم بالفساد ، نعم بعد عملية التخصيص يكون ذلك الفرد فاسدا ، ولأجل ذلك نقول : إنّ مثل هذا النهي الذي هو في قبال الأمر الشمولي لا يدخل في محلّ النزاع في أنّ نفس النهي يوجب الفساد.

__________________

(١) سيأتي في الصفحة : ١٨٩ ( الصورة الثانية ) ما يرتبط بالمطلب ، وراجع أيضا أجود التقريرات ٢ : ٢١٦ ، وللمصنّف قدس‌سره حاشية توضيحية على ذلك في الصفحة : ٢٧٩ من هذا المجلّد.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٠١.

١٨٥

والحاصل : أنّ اقتضاء النهي الفساد تارة يأتي من طريقة التخصيص وتلك خارجة عن المبحث ، وأخرى يأتي من طريقة أنّ النهي بنفسه يوجب فساد المنهي عنه عبادة كان أو غيرها ، سواء كان في قبال ذلك النهي أمر أو لم يكن ، وهذه هي محلّ البحث فيما نحن فيه. ومسألة الأمر الشمولي يكون الفساد فيها من ناحية الطريقة الأولى أعني طريقة التخصيص ، من دون فرق في صورة الأمر الشمولي بين كون النهي تحريميا وكونه تنزيهيا. وحينئذ فلا يتوجّه عليه شيء ممّا في الحاشية من أنّه لا فرق بين النهي التنزيهي والنهي التحريمي (١).

نعم ، يتوجّه عليه أنّ النهي كما يخصّص العموم الشمولي فيحكم بالفساد لأجل التخصيص ، فكذلك يقيّد الاطلاق فيحكم بالفساد لأجل التقييد. لكن جوابه واضح ممّا تقدّم ، فإنّه لو لا دلالة النهي على سلب الملاك الموجب للفساد لا يكون في البين تقييد تعارضي ، وإنّما أقصى ما في البين أن يكون تقييد عقلي ناشئ من عدم القدرة ، وحينئذ فالتقييد الشرعي متوقّف على كون النهي سالبا للملاك الذي هو عبارة أخرى عن الفساد.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه لا يتوجّه عليه ما في الحاشية من قوله : وأمّا كون التعارض بين دليلي الأمر والنهي متوقّفا على دلالة النهي على الفساد فلا مورد له أصلا (٢).

نعم يتوجّه على ذلك أنّ مثل قوله صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة متعارضان ، فإنّ الأمر ولو كان بدليا يكون في ذلك الفرد معارضا ومنافيا للنهي عنه ، لا من جهة اقتضاء النهي للفساد ، بل لو لم نقل بالفساد أو لم يكن الفعل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٠١.

(٢) المصدر المتقدّم.

١٨٦

المذكور عباديا كما في قولك امش ولا تمش في الدار المغصوبة ، فإنّه يعد النهي منافيا لذلك الأمر البدلي ، ولو باعتبار تضمّنه الترخيص في ذلك الفعل ، وعلى هذا تدخل المسألة في باب التعارض ويسقط النزاع في اقتضاء النهي التحريمي للفساد ، سواء كان في قبال العموم البدلي أو كان في قبال العموم الشمولي ، وسواء كان الأمر وجوبيا أو كان استحبابيا ، لكون ذلك كلّه داخلا في باب التعارض.

وهكذا الحال في النهي التنزيهي باعتبار دلالته على مرجوحية متعلّقه ، فإنّه مناف للأمر الشمولي أو البدلي لذلك ، فإنّ ذلك الأمر الشمولي أو البدلي دالّ على رجحانه فيقع التعارض بينهما ويحكم بالتخصيص أو التقييد ، وليس هذا التعارض ناشئا عن الحكم بفساد ذلك المنهي عنه ، فإنّه آت حتّى لو قلنا إنّ النهي التنزيهي المتعلّق بذات العبادة لا يوجب فسادها وإن أوجب مرجوحيتها ، والشاهد على ذلك أنّ نفس هذا التعارض جار فيما لو كان المنهي عنه تنزيها غير عبادي ، كما في النهي التنزيهي عن كسر العود حول القبر مع فرض توجّه الأمر بالكسر إمّا شموليا أو بدليا.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما تضمّنه المتن من قوله : إنّ النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من اطلاق الأمر ، فلا يكون بينهما معارضة حتّى يقيّد به إطلاقه الخ (١) ، لما عرفت من أنّ المنافاة إنّما هي بين اطلاق دليل الأمر الذي [ يدلّ ] على رجحان متعلّقه على نحو يكون مقتضاه رجحان هذا الفرد أيضا مع ما يدلّ عليه النهي من المرجوحية ، وهذه المنافاة لا يفرق فيها بين كون النهي تحريميا وكونه تنزيهيا.

نعم لو كان مدرك المنافاة هو اقتضاء النهي عدم الرخصة في فعل متعلّقه مع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

١٨٧

ما يقتضيه الأمر من عدم الرخصة في تركه ، لكانت مختصّة بباب النهي التحريمي والأمر الوجوبي ، لكنّك قد عرفت أنّ التنافي إنّما هو في الدلالة على المرجوحية والرجحان وهما متنافيان ، من دون فرق بين كون الأمر والنهي الزاميين أو كونهما غير الزاميين ، وقد مرّ (١) شطر من الكلام في ذلك في مبحث العبادات المكروهة عند التعرّض لقولهم بعدم جريان أحكام الاطلاق والتقييد في المستحبّات ، فراجع.

نعم ، لو صرفنا النهي إلى جهة أخرى غير نفس ما تعلّق به الأمر ارتفع التنافي بينهما من الجهة الأولى ، ويبقى الكلام في الجهة الثانية وهي القدرة على الامتثال ، وحينئذ ينفتح باب القدرة على الامتثال بهذه الجملة ، أعني عدم الالزام في هذا الفرد من الأمر ، لكون العموم فيه بدليا مشتملا ضمنا على الترخيص في ترك ذلك الفرد ، كما أنّ النهي ليس الزاميا ، بل هو لكونه تنزيهيا مقرون بالترخيص بالفعل ، فلا يكون أحدهما سالبا للقدرة على الآخر ، فلا يكون بينهما تزاحم في مقام الامتثال كما تقدّم (٢) تفصيله في توجيه العبادات المكروهة ، فراجع.

وخلاصة البحث أو توضيحه : هو أنّ فساد العبادة الآتي من ناحية كون النهي عنها مخصّصا للأمر خارج عمّا هو محلّ كلامنا من اقتضاء النهي بنفسه لفساد العبادة المنهي عنها ، لأنّ التخصيص جار حتّى فيما لو لم يكن المنهي عنه ممّا يتّصف بصحّة ولا فساد. نعم فيما يتّصف بذلك من العبادة يحكم بفساده بعد تحقّق التخصيص ، لا لأجل أنّ النهي اقتضى فساده ، بل لأجل أنّه بعد أن خرج

__________________

(١) لاحظ ما في ص ٥٣ وما بعدها ، ولاحظ أيضا ما سيأتي في المجلّد الخامس ص ٤٦٠ و٤٦٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

١٨٨

عن حيّز الأمر خروجا واقعيا خطابا وملاكا يكون فاسدا بلا إشكال ، ولو كان المخرج له دليل آخر غير دليل النهي ، بأن يقول صلّ ثمّ يقول إنّ الصلاة في الدار المغصوبة غير مأمور بها أو هي خارجة عن ذلك العموم ، أو نحو ذلك من العبارات الدالّة على نفي ذلك الوجوب عن الصلاة في الدار المغصوبة.

كما أنّ كون النهي موجبا لفساد العبادة المنهي عنها جار حتّى لو لم يكن في قباله أمر. ويتّضح ذلك في النهي عن المعاملة بمعناها الاسم المصدري ، فإنّه بنفسه موجب لفسادها ، لكونه سالبا لسلطنة المكلّف عليها في عالم التشريع ، نعم إنّ سلب هذه السلطنة عن هذه المعاملة يكون موجبا لخروجها عن عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » (١) لكن ذلك لا دخل له فيما نحن بصدده من عموم أمر في البين ، بل إنّ هذا يوجب فساد هذه المعاملة بنفس كونه سالبا للقدرة عليها في مرحلة التشريع ، وإن لم يكن بأيدينا عموم « الناس مسلّطون على أموالهم ».

وحينئذ نقول : إنّ عموم الأمر إمّا أن يكون بدليا أو شموليا ، والنهي إمّا أن يكون تنزيهيا أو تحريميا ، فهناك صور أربع :

الأولى : ما لو كان عموم الأمر بدليا والنهي تنزيهيا. وهذه الصورة أخرجها شيخنا قدس‌سره من مسألتنا ، أعني مسألة النهي عن العبادة موجب لفسادها ، وأحالها على ما تقدّم في العبادات المكروهة التي لها بدل ، وهي عبارة عن كون عموم الأمر بدليا ، لأنّ النهي لم يكن في ذلك القسم متعلّقا بذات العبادة ، بل تعلّق بشيء آخر ، فتخرج عمّا نحن فيه من النهي عن ذات العبادة.

الصورة الثانية : هي ما لو كان عموم الأمر بدليا والنهي تحريميا مثل صلّ ولا تصلّ في المغصوب. وشيخنا قدس‌سره جعل هذه هي محلّ النزاع فيما نحن فيه ، وأنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

١٨٩

الحكم فيها بالفساد مقدّم رتبة على ارتكاب التخصيص ، بتقريب : أنّ أوّل ما يصنعه النهي في ذلك هو جعل الصلاة في ذلك المكان غير مقدورة شرعا ، وبذلك ينصرف الأمر عن ذلك الفرد ، وينحصر امتثاله بحكم العقل فيما عدا ذلك الفرد من الأفراد ، ويكون هذا المقدار من قبيل التخصيص العقلي غير الموجب لفساد ذلك الفرد ، لامكان تصحيحه بالملاك أو بالترتّب أو بما أفاده المحقّق الثاني (١) من كون الانطباق قهريا والامتثال وجدانيا ، ثمّ بعد ذلك ننظر في حال ذلك النهي ، وأنّه مولوي نفسي ناشئ عن مفسدة إمّا غالبة على صلاح أصل الطبيعة أو موجبة لارتفاع أصل المصلحة ، وأيّا ما كان يكون ذلك موجبا لسقوط الأمر ملاكا ، كما كانت العملية الأولى موجبة لسقوطه خطابا ، وذلك عبارة أخرى عن الفساد ، وبذلك يكون قوله لا تصلّ في الدار المغصوبة مخصّصا لقوله صلّ ، أو مقيّدا له.

فقد ظهر أنّ هذه الصورة تكون عملية التعارض والتخصيص متأخرة عن عملية الحكم بفساد العبادة الآتي من ناحية نفس النهي ، فتكون هذه الصورة داخلة فيما نحن فيه.

أمّا الصورة الثالثة والرابعة وهما ما لو كان الأمر شموليا والنهي تحريميا أو كان تنزيهيا ، فحيث إنّ الأمر فيهما متوجّه إلى خصوص ذلك الفرد الذي هو مورد النهي ، فأوّل عملية تحصل من النهي هي رفعه الأمر في مورده ، لا من جهة عدم القدرة فقط ، بل من جهة عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

وهذا بخلاف الصورة السابقة ، لما عرفت من إمكان بقاء الأمر متعلّقا بالطبيعة ، غايته أنّه لعدم المقدورية يحكم العقل بانحيازه إلى ما عدا ذلك الفرد

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ١٨٤.

١٩٠

من الأفراد ، فلا يكون إلاّ من قبيل التخصيص العقلي. وهذا المعنى لا يتأتّى في الصورتين المذكورتين ، لأنّ الأمر لمّا كان شموليا كان كلّ فرد مأمورا به على حدة ، فذلك الفرد الخاصّ يكون الأمر فيه منافيا للنهي ، وبعد تقديم النهي يخرج ذلك الفرد عن ذلك العموم الشمولي للأمر ، وبعد خروجه عنه تخصيصا شرعيا نحكم بفساده.

هذا ملخّص ما أفاده شيخنا قدس‌سره حسبما فهمته ، ولكن عمدة التأمّل في ذلك من جهتين :

الأولى : إمكان فرض كون النهي التنزيهي في قبال العموم البدلي متعلّقا بنفس العبادة لا بشيء خارج عنها ، وحينئذ يدخل في النهي عن العبادة ، ولكن حيث إنّه لا يسلب القدرة لا تتأتّى فيه العملية التي ذكرناها في النهي التحريمي ، فيكون أيضا داخلا في باب التعارض ، ولأجل تخصيص ذلك العموم بذلك النهي نحكم بفساد ذلك الفرد ، فيتمّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من خروج النهي التنزيهي بجميع أقسامه عن مسألتنا هذه.

الجهة الثانية من التأمّل : هي راجعة إلى امكان المناقشة فيما أفاده في وجه الحكم بفساد الصلاة في مثل النهي التحريمي عن الصلاة في الدار المغصوبة في قبال الأمر البدلي بقوله صلّ ، بأن يقال : لا داعي في ذلك إلى هذا التطويل ، بل إنّ نفس قوله لا تصلّ في الدار المغصوبة معارض لقوله صلّ ، وإن لم نحكم بفساد تلك الصلاة ، كما تراه في مثل قوله اقرأ ولا تقرأ ملحونا ، وقم ولا تقم ضاحكا ، فإنّ الثاني معارض للأوّل مقيّد له ، من دون توسّط الحكم بفساد ذلك المنهي عنه ، فكذلك الحال في قوله صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة.

وبناء على ذلك يكون الحكم بالفساد في جميع هذه الصور الأربع متولّدا

١٩١

من التعارض والتخصيص أو التقييد ، ولم يكن عندنا صورة يكون منشأ فساد العبادة فيها هو مجرّد النهي عنها من دون أن يكون في البين أمر حتّى مثل ما تقدّم من مثال القيام متكتّفا ، فإنّه يكفي في عدم صحّته عدم الأمر وكونه تشريعا ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ قوله لا تصلّ ، عند ملاحظته مع قوله صلّ ، يكون بالنظر العرفي معارضا له ، وبالنظر إلى الجمع العرفي الارتكازي يكون مخصّصا له ، قبل النظر إلى أنّ هذا النهي سالب للقدرة وأنّ ملاكه مذهب لملاك الأمر أو غالب عليه ، فإنّ هذه الجهات متأخرة عمّا ذكرناه من التعارض العرفي والجمع الارتكازي فتأمّل ، فإنّ هذا التعارض والجمع حاصل حتّى لو قلنا بعدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

قوله : فإنّ الفساد كما عرفت سابقا إنّما يدور مدار عدم الأمر والملاك معا ، وما يكون مضادّا للنهي الغيري ويكون هو كاشفا عن عدمه هو الأمر بالصلاة لا كونها واجدة للملاك ، فيصحّ التقرّب بها من جهة الملاك وإن لم يكن مأمورا بها فعلا ... الخ (١).

حاصله : أنّ النهي الغيري في هذا المقام لا يرفع إلاّ ضدّه الذي هو الأمر ، فلا يكون دليلا إلاّ على عدم الأمر ، ولا دلالة فيه على عدم الملاك. ويمكن التأمّل في ذلك ، إذ ليس لنا دليلان أحدهما دلّ على الأمر والآخر على الملاك ، كي يكون سقوط ما دلّ على الأمر (٢) بمعارضة النهي غير موجب لسقوط ما دلّ على الملاك ، وليس أيضا من قبيل الدلالتين لدليل واحد ، بحيث يكون لنا دليل واحد يدلّ على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) [ في الأصل : عدم الأمر ، والظاهر أنّه من سهو القلم ].

١٩٢

الأمر ويدلّ أيضا بدلالة أخرى على الملاك ، كي يقال إنّ سقوط الدلالة الأولى بالمعارضة لا يوجب سقوط الثانية ، بل إنّه ليس لنا في المقام إلاّ ثبوت الأمر بدليله ، ونحن بعد ثبوت الأمر بدليله نستكشف منه وجود الملاك في المورد الذي ثبت الأمر فيه.

ومن الواضح أنّه بعد فرض سقوط الدليل على الأمر في مورد من جهة معارضته لدليل النهي ، لا يبقى لنا في ذلك المورد ما يدلّ على الأمر كي نستكشف منه وجود الملاك في ذلك المورد ، إذ ليس هذا التخصيص إلاّ كسائر التخصيصات الشرعية الثابتة بالأدلّة الاجتهادية ، الموجبة لخروج المورد عن تحت عموم الأمر أو اطلاقه خطابا وملاكا ، وليس هو من قبيل التخصيص العقلي الناشئ عن عدم القدرة على المهمّ بعد تقديم الأهمّ ، لأنّ المسألة حينئذ من باب اجتماع الأمر والنهي في الصلاة التي صار تركها مقدّمة للازالة ، وليس التركيب انضماميا بل هو اتّحادي ، بل لا تركيب أصلا ، لأنّ المأمور به هو الصلاة بعنوانها والمنهي عنه هو الصلاة أيضا بعنوانها ، غاية الأمر أنّ علّة النهي هو كون تركها مقدّمة للازالة ، وقد حقّق في محلّه (١) أنّ عنوان المقدّمية من الجهات التعليلية لا التقييدية ، فتكون المسألة خارجة عن مسألة الاجتماع ، بل هي من تعارض العموم من وجه ، فإنّ الأمر بترك أضداد الازالة مع الأمر بالصلاة بينهما عموم من وجه ، لأنّ مفاد الأوّل اترك الأضداد سواء كانت صلاة أو غيرها ، ومفاد الثاني صلّ سواء كانت الصلاة ضدّا للازالة أو غيرها ، وحينئذ عند اجتماعهما في المورد لا بدّ من إعمال قواعد المعارضة ، وبعد تقديم دليل النهي تكون الصلاة المذكورة

__________________

(١) راجع الحاشيتين المذكورتين في الصفحة : ٨٦ ، ٨٨ من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

١٩٣

خارجة عن حيّز الأمر خطابا وملاكا فتكون فاسدة ، فتأمّل.

والأولى أن يقال في توجيه خروج النهي الغيري المتعلّق بالعبادة عن محلّ النزاع من كون النهي مقتضيا للفساد : هو أنّ محلّ الكلام في اقتضاء نفس النهي للفساد إنّما هو مع قطع النظر عن كونه موجبا لخروج العبادة عن عموم الأمر ، وذلك من جهة كون النهي موجبا للمبغوضية المانعة عن إمكان التقرّب بذلك المنهي عنه ، ومن الواضح اختصاص ذلك بالنهي النفسي ، أمّا النهي الغيري فهو لأجل أنّه لا يستتبع عقابا ولا ثوابا لا يكون موجبا للمبغوضية ، فلا يكون بنفسه موجبا لفساد العبادة. أمّا كون العبادة فاسدة من ناحية أنّ ذلك النهي ولو كان غيريا يكون موجبا لتخصيص الأمر وخروجها عن عمومه خطابا وملاكا ، فذلك أمر آخر لا ربط له بما نحن فيه من كون النهي بذاته موجبا للفساد.

وهذا المقدار من الفساد الآتي من ناحية التخصيص كاف في تصحيح قولهم إنّ ثمرة النزاع في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه فساده إذا كان عبادة ، فلا يكون هذا القول مؤيّدا لدخول النهي الغيري أو التبعي فيما نحن فيه من اقتضاء النهي الفساد كما في الكفاية (١) ، لما عرفت من أنّ فساد الضدّ على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه لا يتوقّف على كون نفس النهي مفسدا له ، بل يمكن أن يحكم بفساده من ناحية التخصيص. وهكذا الحال في النهي التبعي ، فإنّ المراد هو النهي الناشئ عن ملازمة ترك الضدّ للواجب المأمور به ، وإن لم يكن ذلك الترك مقدّمة ، وحينئذ يكون حاله في عدم الدخول في محلّ النزاع حال النهي الغيري في أنّه لا يكون بنفسه موجبا للفساد ، لعدم اشتمال كلّ منهما على المبغوضية الموجبة لعدم إمكان التقرّب ، وإن كان ذلك النهي مخصّصا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨١.

١٩٤

للأمر ، وكان ذلك التخصيص موجبا لفساد متعلّقه لخروجه عن حيّز الأمر خطابا وملاكا. اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ كلا من النهي الغيري والتبعي مؤثّر في المبغوضية ، فيكون بنفسه موجبا للفساد ، كما ربما يدّعى ظهور ذلك من الكفاية كما تضمّنته حاشية القوچاني رحمه‌الله (١) لكن عهدة هذه الدعوى على مدّعيها ، بل الظاهر أنّها ممنوعة أشدّ المنع.

وبذلك يتّضح لك الحال في النهي التنزيهي ، فإنّه بنفسه لا يوجب فساد العبادة ، لعدم اقتضائه المبغوضية المانعة من امكان التقرّب ، فلا يكون داخلا في محلّ النزاع من اقتضاء النهي بذاته للفساد.

نعم ، إنّ النهي التنزيهي يدلّ أو يقتضي مرجوحية متعلّقه ، وهو لا يجتمع مع دليل الأمر العبادي الذي يدلّ أو يقتضي رجحان متعلّقه ، فيكون ذلك النهي مخصّصا لذلك الأمر ، وموجبا لخروج متعلّق ذلك النهي عن عموم ذلك الأمر خطابا وملاكا ، فتكون العبادة بدونه تشريعا محرّما فتكون فاسدة ، إلاّ أنّ ذلك كلّه إنّما هو من جهة اجراء قاعدة التعارض ، وهو خارج عمّا نحن بصدده من اقتضاء النهي بذاته للفساد بواسطة اقتضائه مبغوضية متعلّقه الموجبة لعدم امكان التقرّب به.

وحينئذ يصحّ لنا أن نقول : إنّ الكلام في اقتضاء النهي للفساد في الرتبة السابقة على رتبة إعمال قواعد التعارض ، فيكون الفساد المبحوث عنه فيما نحن فيه هو الفساد الحاصل في هذه الرتبة ، دون الفساد الحاصل من قواعد التعارض ، الذي هو مفروض في الرتبة الثانية من تعلّق النهي به وكون النهي منافيا للأمر به وكونه مخصّصا لذلك الأمر ، فإنّ هذا الفساد الآتي من نتيجة إعمال قواعد

__________________

(١) كفاية الأصول ( مع تعليقة للشيخ علي القوچاني قدس‌سره ) : ١٤٧.

١٩٥

التعارض خارج عن محلّ هذا البحث ، فإنّه متحقّق حتّى لو قلنا إنّ النهي بذاته لا يقتضي الفساد ، كما أنّ الفساد المبحوث عنه ـ أعني اقتضاء النهي للمبغوضية المانعة من إمكان التقرّب ـ حاصل حتّى لو فرضنا عدم الأمر أو عدم كون النهي مخصّصا للأمر ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره فيما تقدّم (١) فيما أفاده في توجيه خروج النهي التنزيهي عن محلّ البحث.

ويمكن أن يقال : إنّ المرجوحية التي كشف عنها النهي التنزيهي كافية في فساد العبادة المفروض اعتبار الرجحان فيها ، بل هو داخل في قوامها ، وحينئذ يكون حال النهي التنزيهي حال النهي التحريمي في اقتضائه الفساد في المرتبة السابقة على تخصيص الأمر به ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الفساد المبحوث عنه في هذه المسألة ـ أعني مسألة اقتضاء النهي عن العبادة الفساد ـ ليس هو الفساد الناشئ عن عدم الأمر ، فإنّ ذلك لا يحتاج إلى توسّط النهي ، بل يكفي فيه أصالة عدم المشروعية في العبادة وأصالة عدم ترتّب الأثر في المعاملة. كما أنّه ليس المراد به الفساد الناشئ عن كون النهي مخصّصا لدليل الأمر ، فيكون دليل النهي بعد كونه مخصّصا لدليل الأمر أو لعموم ما دلّ على نفوذ المعاملة مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) ونحوه من عمومات المعاملات كدليل اجتهادي يدلّ على عدم مشروعية العبادة أو عدم نفوذ المعاملة ، ومن الواضح أنّه لا خصوصية للنهي في ذلك ، بل إنّ كلّ ما يوجب تخصيص تلك العمومات ولو بمثل ما يدلّ على إباحة الفعل وعدم وجوبه أو عدم استحبابه يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، وقد مرّ تعليق المصنّف قدس‌سره عليه في الحاشية السابقة المذكورة في الصفحة : ١٨٢ وما بعدها.

(٢) المائدة ٥ : ١.

١٩٦

منتجا لهذه النتيجة ، كما أنّ كلّ ما يدلّ على خروج المعاملة الكذائية عن عموم نفوذ المعاملة ولو بمثل قوله إنّ المعاملة الكذائية غير نافذة يكون مخصّصا لعموم الصحّة والنفوذ ، ولا خصوصية للنهي في ذلك ، سواء كان نهيا تنزيهيا أو كان نهيا غيريا أو كان نهيا تبعيا ، ويكون الضابط هو أنّ كلّ ما يكون مخصّصا للعموم يكون موجبا للفساد ، سواء كان نهيا أو غيره من المخصّصات ، وسواء كان النهي تحريميا أو كان تنزيهيا أو كان غيريا أو كان تبعيا.

نعم ، إنّ النهي التنزيهي أو التبعي لا يكون مخصّصا لعموم المعاملة ، بل ربما يقال إنّ النهي التحريمي لا يكون مخصّصا لعموم المعاملة إلاّ باعتبار سلب السلطنة.

والخلاصة : هي أنّ التخصيص لا يوجب الحرمة الذاتية في الخارج ، وأقصى ما فيه هو أنّه يوجب حرمته التشريعية ، وذلك لا ينافي الاتيان به من باب الاحتياط لاحتمال الخطأ في التخصيص ، وهذا بخلاف النهي عن العبادة فإنّه يوجب الحرمة الذاتية ويمنع من الاحتياط ، فالنهي التنزيهي خارج عنه ، فلا يكون داخلا في البحث عن أنّ النهي يوجب الفساد ، نعم إنّه يوجب التخصيص فيكون موجبا للفساد ، من دون أن يكون في البين حرمة ذاتية ، فإنّ الفساد الذي هو محلّ الكلام في النهي عن العبادة هو الفساد الآتي من ناحية كونه موجبا للمبغوضية المانعة عن التقرّب ، فيختصّ بالنهي التحريمي ، وربما نقول بشموله للنهي التنزيهي باعتبار كونه مقتضيا للمرجوحية المانعة من صحّته عبادة ، لاعتبار الرجحان فيها ، هذا في العبادات.

وأمّا المعاملات فالمراد به هو التحريمي ، لكونه موجبا لسلب السلطنة ، فيكون مخصّصا لعموم السلطنة ، وذلك مختصّ بالتحريمي دون التنزيهي

١٩٧

والغيري والتبعي ، بل يمكن أن يقال إنّ النهي الغيري وكذا التبعي يشارك التحريمي في سلب السلطنة ، فتأمّل.

وحينئذ يمكن أن يقال : إنّ هذا البحث في العبادات ساقط من أصله ، لأنّ اقتضاء النهي الفساد إنّما يكون بعد تمامية حجّيته ، وما دام العام باقيا بحاله لا يمكن الأخذ بما يخالفه من الدليل الخاص الذي هو النهي ، فلا بدّ أوّلا من إسقاط العموم بتخصيصه ، وبعد تخصيصه تكون العبادة فاسدة وإن أغضينا النظر عن عدم إمكان التقرّب بها لكونها مبغوضة فعلا ، فأي أثر لهذا البحث ، إذ ما من عبادة إلاّ ولها عموم يدلّ على مشروعيتها.

نعم ، لو فرضنا ولو محالا عدم عموم يدلّ على مشروعية هذه العبادة التي وقعت موردا للنهي يظهر لهذا البحث أثر ، وهو أنّا لو لم نقل باقتضاء ذلك النهي الفساد من جهة اقتضائه المبغوضية ، يكون الحكم بفسادها من باب أصالة عدم المشروعية ، بخلاف ما لو قلنا بالاقتضاء فإنّ النهي حينئذ يكون كدليل اجتهادي على فسادها.

نعم ، يظهر ذلك في المعاملات المبتكرة إذا لم يكن في البين عموم يشملها ، وشككنا في نفوذها وصحّتها وترتّب الأثر عليها ، ولم نرجع في ذلك إلى عموم السلطنة ، لعدم ورودها في مقام تشريع السبب وإنّما هي واردة في مقام نفوذه وعدم الحجر بعد فرض كونه سببا في حدّ نفسه ، يكون المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر لو لم يكن في البين ذلك النهي عن نفس المعاملة بمعنى المسبّب [ وإلاّ ] يكون ذلك النهي لتحجير شرعي سالبا لسلطان المالك على تلك المعاملة ، فتكون فاسدة بذلك الدليل ، لا بمجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر.

وخلاصة البحث : هو أنّا لا مندوحة لنا عن ملاحظة النهي عن العبادة أو

١٩٨

المعاملة بالقياس إلى ما بيدنا من العموم ، وتحكيم ذلك النهي على ذلك العموم وجعله مخصّصا له ، فإن كان المنهي عنه عبادة كان ذلك التخصيص موجبا لفسادها ، لا من باب أصالة عدم الأمر وعدم المشروعية ، بل من باب كون ذلك النهي مخصّصا لعمومات المشروعية ، أيّة كانت تلك العمومات ولو مثل عموم أوامر العبادة ، وأيّا كان ذلك النهي ، سواء كان نهيا تحريميا ـ نفسيا كان أو غيريا أو تبعيا ـ أو كان نهيا تنزيهيا ، وحينئذ يكون هذا البحث بالنسبة إلى العبادات من توابع باب التعارض والتخصيص ، فلا وجه لعقده بحثا مستقلا ، بل هو حينئذ من الثمرات الفقهية المترتّبة على التخصيص.

أمّا المعاملة فلا يكون النهي فيها مخصّصا لعمومات أصل مشروعيتها ونفوذها ، بل يكون مخصّصا لحديث السلطنة (١) ، فتفسد المعاملة بذلك ، وذلك مختصّ بالنهي التحريمي دون التنزيهي. أمّا الغيري والتبعي فيمكن القول بالحاقه بالنهي التحريمي النفسي في كونه سالبا للسلطنة ، ويكون موجبا لفساد المعاملة ، على تأمّل في ذلك.

وعلى أي يكون محصّل البحث في النهي عن المعاملة هو : أنّ النهي عنها هل يكون موجبا لسلب السلطنة عليها أو لا ، ولا يكون من ثمرات تخصيص العموم الوارد في باب المعاملة ، بل يكون نزاعا صغرويا في كونه سالبا للسلطنة ليكون واردا أو حاكما على حديث الناس مسلّطون ، فتأمّل.

ولمزيد التوضيح نقول : إنّ فساد العبادة يكون له مراحل ثلاثة مترتّبة :

الأولى : الفساد في مقام الثبوت والواقع بواسطة تعلّق النهي أو التحريم بها ، وفي هذه المرحلة لا عموم ولا تخصيص ، حيث إنّها مرحلة واقعية ثبوتية في

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

١٩٩

عالم أصل التشريع واللوح المحفوظ. وهذه المرحلة هي محلّ العنوان في هذه المسألة ، أعني مسألة النهي عن العبادة يقتضي فسادها ، لكونه في ذلك المقام موجبا لمبغوضيتها فتفسد ولا يمكن التقرّب بها.

المرحلة الثانية : مرحلة الاثبات ومقام إعمال الدليل الاجتهادي ، بأن يكون لنا أمر عام يشمل هذه العبادة ، ومع ذلك يوجد لنا دليل خاص يتضمّن النهي عن هذه العبادة. وهذه المرحلة هي مرحلة إعمال الأدلّة الاجتهادية بدفع التعارض بتخصيص ذلك العام وإخراج مورد النهي عنه ، فيكون ذلك موجبا لفساده بحكم الدليل الاجتهادي ، أعني الدليل الخاص المفروض تقدّمه على ذلك العام. وهذا الفساد يكفي فيه مجرّد كون النهي منافيا للأمر ، مع قطع النظر عن كونه موجبا لمبغوضية متعلّقه ، وهذا المقدار لا يكون مختصّا بالنهي ، بل يجري في كلّ خاص مخالف للعام في الحكم ، حتّى لو كان بلسان أنّ الفعل الفلاني ليس بواجب أو ليس بمستحبّ أو هو مباح متساوي الطرفين أو أنّه مكروه ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الفساد الحاصل من هذه المرحلة خارج عن محلّ النزاع في اقتضاء النهي عن العبادة فسادها.

المرحلة الثالثة : هي مرحلة الوظيفة العملية عند الشكّ في مشروعية العبادة ، وهي أصالة الفساد. وهذه المرحلة أجنبية عمّا هو محلّ النزاع بمراحل ، فلا معنى لأن يقال إنّ النهي عن العبادة يخرجها عن عموم الأمر ، وبعد هذا يشكّ في مشروعيتها فنحكم بفسادها عملا بأصالة عدم المشروعية ، هذا.

ولكن يمكن التأمّل في ذلك من جهات :

الأولى : أنّ الفساد في مقام الثبوت لا يختصّ بالنهي التحريمي ، بل إنّ كلّ حكم واقعي يكون على خلاف ما يقتضي عبادية ذلك الفعل ، كالإباحة والكراهة

٢٠٠