أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

وبنحو ذلك حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (١) من دون تعرّض لاستكشاف كونه مقدورا ، وحينئذ لا يتوجّه عليه ما في الحاشية من : أنّ كون الخروج واجبا بحكم العقل وإن كان لا بدّ فيه من كونه مقدورا تكوينا ، إلاّ أنّه مع ذلك غير قابل لتعلّق التكليف التحريمي به بعد تحقّق الدخول ، ضرورة أنّ تحريمه الفعلي مساوق للعجز عنه تشريعا ، ومن الواضح أنّه لا يجتمع مع كون التصرّف بغير الخروج حراما بالفعل كما هو المفروض ، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق وهو غير معقول الخ (٢).

وبيان عدم توجّه هذا الايراد هو أنّ شيخنا لا يريد بذلك الوجه الرابع إلاّ بيان أنّ الخروج لا يكون مبغوضا كي يكون داخلا في قاعدة الامتناع بالاختيار ، بل يريد أن يدّعي أنّ الخروج من أوّل الأمر غير منهي عنه ، وأنّ الكاشف عن كونه غير منهي عنه ولو بالنهي السابق هو كونه في حدّ نفسه معنونا بعنوان حسن ، وما يكون في حدّ نفسه معنونا بعنوان حسن يستحيل أن يتعلّق به النهي لا فعلا ولا سابقا. ولو سلّمنا أنّه قدس‌سره أراد ببيان ذلك الحسن العقلي استكشاف كونه مقدورا فذلك أيضا في محلّه ، لأنّ ما يحكم العقل بحسنه لا بدّ أن يكون مقدورا تكوينيا ، بل إنّ تحريم ما عداه شرعا كاشف أيضا عن كونه في حدّ نفسه مقدورا ، إذ لو كان في حدّ نفسه قهريا ومضطرا إليه لما صحّ تحريم ما عداه شرعا.

أمّا دعوى أنّ تحريم ما عداه مدخلة له في الممتنع تركه المضطرّ إليه بسوء الاختيار فقد عرفت فيما تقدّم (٣) أنّ الاضطرار إلى الشيء الناشئ عن تحريم ما

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٢.

(٣) في الصفحة : ١٣٠.

١٤١

عداه لا يدخله في قاعدة الامتناع بالاختيار.

نعم ، هنا مناقشة سيأتي (١) إن شاء الله تعالى التعرّض لها ، وهي المنع من كونه معنونا بعنوان حسن وهو التوصّل به إلى الواجب الذي هو ردّ المغصوب ، للمنع من كون ردّ المغصوب واجبا ، نعم إنّ العقل يحكم به لا من باب حسنه المذكور ، بل من باب ارتكاب أقلّ القبيحين وأهون العقابين ، ومنه يعلم أنّ المورد من موارد القاعدة ، نظرا إلى ما عرفته فيما تقدّم (٢) في شرح مراد الكفاية من كونه بعد الدخول يكون مضطرا إلى ارتكاب أحد المحرّمين إمّا الخروج وإمّا المكث ، وأنّ الأوّل يعيّنه العقل لكونه أخفّهما ، ولا ينافي ذلك استحقاقه العقاب على كلّ منهما لو ارتكبه ، لأنّ اضطراره إلى أحدهما كان بسوء اختياره ، وما يكون امتناعه بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار في أصل الارتكاب الذي هو المصحّح لذلك العقاب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّه لا وجه لما في هذه الحاشية من قوله : فلا وجه لما أفيد في المتن من دعوى الملازمة بين الالتزام بكون الخروج واجبا عقلا والالتزام بعدم سقوط حكمه الثابت له شرعا ، انتهى (٣) يعني التحريم السابق ، لما عرفت من أنّ شيخنا قدس‌سره لا يريد الانتقال من هذا الحسن العقلي إلى أنّ الخروج مقدور والانتقال من كونه مقدورا إلى بقاء حكمه السابق الذي هو التحريم ، بل إنّما يريد الانتقال من هذا الحسن العقلي الثابت للخروج في حدّ ذاته إلى أنّه لا يعقل أن يكون حكمه السابق هو التحريم ، لأنّ ما يكون في حدّ نفسه حسنا لكونه

__________________

(١) في الحاشية القادمة ، في الصفحة : ١٥٠ وما بعدها.

(٢) في الصفحة : ١٢٧ ـ ١٢٩.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٢.

١٤٢

ردّا للمغصوب لا يعقل أن يكون محرّما في وقت من الأوقات ، كي يكون داخلا بعد الدخول في الاضطرار إلى المحرّم بسوء الاختيار ، ليكون من موارد قاعدة الامتناع بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار فتأمّل.

تتميم أو توضيح لما تقدّمت الاشارة إليه من إمكان تطرّق التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره من عدم معقولية النهي عن الخروج فنقول بعونه تعالى :

إنّه قد تقدّم منه قدس‌سره في مبحث الواجب المعلّق (١) أنّه ليس من الواجب المعلّق ما يكون من الأفعال الواجبة متوقّفا على مقدّمة اختيارية تحتاج إلى مقدار من الزمان ، كما في التكليف بالكون في مسجد الكوفة بالنسبة إلى من يحتاج في ذلك إلى قطع مقدار من المسافة ولو قليلا ، وهكذا الأجزاء المتأخرة بالنسبة إلى ما يتقدّمها من الأجزاء ، فإنّ ذلك كلّه ليس من قبيل الواجب المعلّق ولا الواجب المشروط ، بمعنى أنّ التكليف بالأفعال المتأخرة الموقوفة على أفعال متقدّمة لا يكون مشروطا بالنسبة إلى تلك الأفعال المتقدّمة ولا واجبا معلّقا ، بل إنّ الوجوب المتعلّق فعلا بتلك الأفعال المسبوقة بأفعال أخر يكون مطلقا بالنسبة إلى الأفعال السابقة ، فإنّ اللاحقة وإن كانت مقيّدة بالسابقة وكان وجودها متوقّفا على وجودها ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب تقيّد تلك الأفعال اللاحقة بزمانها اللاحق كي تكون من قبيل الواجب المعلّق بما لو تقيّدت الأفعال بالزمان اللاحق.

ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ تقيّدها بالزمان مع فرض كون الوجوب حاليا غير مشروط بذلك الزمان يكون مستدعيا لجرّ الزمان وهو محال غير مقدور للمكلّف ، بخلاف ما لو كان القيد أو المقدّمة الوجودية هو الأفعال الاختيارية

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٠١ وما بعدها ، وقد تقدّم ما يرتبط بذلك في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٠.

١٤٣

السابقة ، فإنّ أقصى ما في الجمع بين كونها قيدا في الفعل اللاحق أو مقدّمة وجودية له وكون التكليف غير مشروط بها هو لزوم الاتيان بها فعلا ، وذلك ممكن مقدور وهو المطلوب للآمر.

هذا حال الأوامر المتعلّقة بفعل موقوف على فعل سابق على وجودها أو بفعل مركّب أو استمراري ، ومنه يعلم الحال في النواهي المتعلّقة بهذا النحو من الأفعال ، مثل ما لو توجّه النهي عن دخول مسجد الكوفة ، فإنّه لا يفرق في صحّة توجّهه بين كون المتوجّه إليه واقفا على الباب ، وبين كونه بعيدا عنه على وجه لو أراد الدخول لاحتاج إلى طي مقدار من المسافة ولو قليلا ، فإنّه يصحّ أن يتوجّه الخطاب إليه بالنهي عن الدخول مطلقا غير مشروط بطي تلك المسافة ولا معلّق عليها ، وإلاّ لاختصّ مثل قوله تعالى : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ )(١) بمن كان واقفا على الباب ولم يكن محتاجا في دخوله إلى اعمال فعل وقطع مسافة إلاّ رفع قدمه من خارج البيت إلى داخلها ، وذلك واضح البطلان.

وهكذا الحال في النهي عن فعل استمراري أو مركّب ، فإنّ النهي يتعلّق فعلا بمجموع ذلك الفعل ، ولا يكون تعلّقه بالجزء الأخير منه مشروطا أو معلّقا على الأجزاء الأول وإلاّ لكان كلّ محرّم كذلك ، إذ ما من فعل محرّم إلاّ وله مبدأ ووسط وآخر ، فلو لم يصحّ النهي عن الآخر قبل فعل الأوّل ولا بعد فعل الجزء الأوّل امتنع النهي عن كلّ فعل.

وحينئذ ينسدّ باب التكاليف التحريمية بالمرّة ، إذ ليس لنا فعل بسيط غير مشتمل على جزء أوّل ووسط وآخر مهما قلّ زمانه وضاق استمراره ، مثلا لو كان قراءة البيت الفلاني من الشعر محرّما لكان النهي متعلّقا بكلّ كلمة من كلماته ،

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

١٤٤

فتكون الأخيرة التي في ضمنه أعني الواقعة بعد الكلمات السابقة المقيّدة بسبق تلك الكلمات عليها محرّمة قبل الشروع في الكلمات السابقة. وهكذا الحال في الحرف الأخير من الكلمة الواحدة لو كانت محرّمة فيتوجّه فيها الإشكال المزبور ، وهو أنّ ترك الأخير بقيد كونه أخيرا يكون قهريا عليه فلا يعقل تحريمه قبل الشروع في الأوّل.

إذا عرفت ذلك يتّضح لك صحّة توجّه النهي عن الخروج من الدار المغصوبة على نحو الاطلاق ، لا مشروطا بالدخول ولا معلّقا عليه.

أمّا أوّلا : فلأنّ النهي المتوجّه إنّما هو النهي عن التصرّف ، وهذه الحركات أعني الحركات الدخولية والحركات المكثية والحركات الخروجية كلّها متساوية الاقدام في الدخول تحت هذه الطبيعة بنسبة واحدة ، من دون طولية في البين تستدعي كون النهي عن الدخول قبل النهي عن الخروج ، بحيث يكون النهي عن الخروج بعد الدخول ، إذ ليس المنظور إليه في هذا النهي إلى هذه العناوين للحركات المذكورة.

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو سلّمنا أنّ الذي ينهى عن ذلك يكون ناظرا إلى تلك الحركات ، فهو إنّما ينظر إلى الحركة الواحدة المستمرّة من أوّل الدخول إلى آخر الخروج فينهى عنها بنهي واحد ، وقد عرفت أنّ النهي عن الفعل المستمرّ المتعاقب الأجزاء لا يكون النهي عن الجزء الأخير منه [ مشروطا ] أو معلّقا على الجزء الأوّل ، كما عرفت في الواجبات.

ولو سلّمنا أنّه لا بدّ في الواجب المتعاقب الأجزاء من كون الجزء الأخير بالنسبة إلى الجزء الأوّل من قبيل الواجب المعلّق ، بمعنى أنّ وجوبه يكون متحقّقا قبل وجود الجزء الأوّل ، وإن كان هو أعني الجزء الأخير لا يكون إلاّ بعد الجزء

١٤٥

الأوّل ، لقلنا إنّ الحال فيما نحن فيه كذلك ، بمعنى أنّ النهي عن الخروج يكون متوجّها قبل الدخول ، وإن كان المنهي عنه الذي هو الخروج لا يكون إلاّ بعد الدخول ، ولا ضير في ذلك.

وما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) هنا في الردّ على صاحب الفصول (٢) بعدم إمكان جعل النهي عن الخروج كذلك لأنّه بعد الدخول يمتنع ترك الخروج ويسقط النهي عنه ، يمكن الجواب عنه بأنّه ليس باللازم الباطل ، إذ لا مانع من الالتزام بتوجّه النهي عن الخروج قبل الدخول وإن كان بعد الدخول يسقط النهي ، وأثر ذلك النهي السابق هو استحقاق العقاب لو أقدم على المخالفة ودخل ، كما أنّه يمكنه الاطاعة بأن لا يدخل ، ويكون حاله حال من كان وقوعه في الزنا مثلا متوقّفا على خروجه من مجمع الناس ودخوله الدار التي يقع فيها الزنا ، على وجه لو دخل الدار يقع في الزنا لا محالة ولو بالاجبار عليه ، فإنّ مثل هذا الشخص يصحّ أن يتوجّه إليه النهي عن الزنا في حال كونه موجودا في المجمع قبل دخوله تلك الدار ، من دون أن يكون ذلك النهي مشروطا ، ولو صحّت دعوى أنّ النهي في مثل ذلك يكون معلّقا وأغضينا النظر عن أصل الإشكال في المعلّق لقلنا إنّ ما نحن فيه أيضا كذلك.

نعم ، هنا شيء لعلّه هو كان المنشأ في دعوى عدم صحّة توجّه النهي عن الخروج قبل الدخول ، وهو وضوح سماجة قولك للشخص الموجود أمامك غير داخل في الدار لا تخرج من الدار ، بل يكون هذا النهي مستهجنا عند العقلاء. ولعلّ هذه السماجة الذوقية وتلك الهجنة العقلائية ناشئة عن أنّ الظاهر لدى

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٢) الفصول الغروية : ١٣٨ ، ١٣٩.

١٤٦

العقلاء من مثل لا تخرج من الدار هو التحريض على استمرار البقاء فيها ، فلا يستحسن توجّهه إلى من هو غير داخل فعلا ولم يتلبّس بعد بالبقاء فيها كي يقال له استمرّ على بقائك فيها ولا تخرج منها ، أو أنّ الظاهر من النهي المذكور هو النهي عن تخليتها الذي هو عنوان ثانوي للخروج ، هذا.

ولكن من الواضح أنّ الخروج المدّعى كون النهي متعلّقا به قبل الدخول إنّما يراد به الحركات الأخيرة من الحركات المستمرّة من حين دخوله فيها ، وأنّ النهي عنها إنّما هو باعتبار كونها حركات في الدار وتصرّفات فيها لا باعتبار كونها خروجا وتخلية ، ولا أنّ النهي راجع إلى الحثّ على استمرار البقاء.

وبالجملة : أنّ النهي عن الخروج إنّما يستهجن توجّهه قبل الدخول إذا كان بمعنى الحثّ على استمرار البقاء فيها ، أو كان بمعنى الحثّ على عدم التخلية ، أمّا إذا كان بمعنى الحثّ على ترك ذات الحركة الخروجية غير منظور بها عنوانها الخروجي فالظاهر أنّه لا مانع عنه ، بل لا بدّ منه بعد فرض أنّ جميع الحركات في الدار المغصوبة تعد محرّم وظلم ممنوع عنه شرعا وعقلا.

نعم هناك شيء آخر ، وهو دعوى أنّ تلك الحركات وإن كانت في حدّ نفسها تصرّفات في ملك الغير بغير إذنه ، ومقتضى ذلك أن تكون محرّمة وممنوعة ، لكن لمّا كانت معنونة بعنوان التخلية وردّ المغصوب ونحو ذلك من العناوين الموجبة لحسنها عقلا ووجوبها شرعا لا تكون منهيا عنها ، لا من جهة كون النهي عنها قبل الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع وبعده تكون مضطرّا إليها ، بل من جهة أنّها في حدّ نفسها بواسطة انطباق ذلك العنوان عليها لا يعقل أن تكون مبغوضة ، بل تكون حسنة ومحبوبة.

وهذا هو الأمر الثاني من الأمرين اللذين هما أساس ما أفاده شيخنا قدس‌سره في

١٤٧

هذا المقام ، لكن سيأتي (١) إن شاء الله تعالى أنّ هذه العناوين ليست إلاّ منتزعة من ترك الظلم والغصب ، لا أنّها أمور أخر غير ترك الظلم كي يحكم العقل بحسنه ، وأي حسن في رفع اليد عن القبيح الذي هو الظلم والغصب والتعدّي.

وبالجملة : ما مثل ذلك إلاّ مثل من هو مقبل على ضرب اليتيم مثلا فأقلع عنه ، فإنّ بقاء ضربه واستمراره عليه وإن كان ظلما قبيحا إلاّ أنّ رفع يده عنه لا يعدّ حسنا ، بل أقصى ما فيه أنّه ترك للقبيح ، وأمّا نفس الحركة الخروجية التي يتولّد منها ذلك الاقلاع عن الظلم فهي ليست إلاّ مصداقا من تلك المصاديق الظلمية ، وإن ترتّب عليها رفع الظلم فتأمّل. وسيأتي (٢) إن شاء الله تعالى بيان أنّه لا دليل على لزوم ذلك ووجوبه شرعا ، وأنّه ليس في البين إلاّ حرمة التصرّف والاستمرار عليه.

فإن قلت : سلّمنا أنّ المنهي عنه هو ذات الحركة الخروجية لا عنوان الخروج الذي يكون النهي عنه مستهجنا قبل الدخول ، لكنّا مع ذلك نقول إنّ تلك الحركة قبل الدخول تكون منعدمة قهرا على المكلّف ، فيكون النهي عنها والتكليف بتركها قبل الدخول تحصيلا للحاصل أو بغير المقدور ، لأنّه كما يشترط في متعلّق النهي أن يكون تركه اختياريا للمكلّف فكذلك يشترط أيضا كون فعله اختياريا ، وإلاّ كان من قبيل النهي عن الممتنع ، وحينئذ يتمّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ تلك الحركة غير منهي عنها قبل الدخول كما أنّه بعد الدخول يكون مضطرّا إليها.

والحاصل : أنّ فعلية النهي عنها قبل الدخول من قبيل النهي عن الممتنع أو من قبيل تحصيل الحاصل ، فلا يعقل توجّه النهي عن تلك الحركة ، ويكون ذلك

__________________

( ١ ، ٢ ) سيأتي ذلك في الحاشية اللاحقة.

١٤٨

من قبيل توجّه الخطاب بشيء يكون الخطاب به في ظرف إمكانه وتحقّق الابتلاء به ساقطا ، لكون الابتلاء به بامكان إيجاده إنّما يكون بعد الدخول ، وهو في ذلك الظرف مضطرّ إليه لا يعقل توجّه الخطاب به.

قلت : أمّا كون تلك الحركة قبل الدخول ممتنعة فقد عرفت الجواب بأنّها في ذلك الظرف غير ممتنعة ، لامكان إيجادها بتوسّط إمكان ما تتوقّف عليه الذي هو الدخول ، وأمّا كونها من قبيل تحصيل الحاصل فلما هو واضح من أنّ المطلوب في باب النهي ليس هو العدم الصرف ، وإنّما هو إدامة ذلك العدم وإبقاؤه ، ومن الواضح أنّ إدامة عدم الخروج في إمكان المكلّف وفي قدرته.

وبالجملة : ليس المطلوب بالنهي نقض الوجود ليختصّ توجّهه بما إذا كان متعلّقه الذي هو الفعل موجودا مشغولا به المكلّف ، ليكون معنى النهي عنه هو نقض ذلك الوجود وتبديله بالعدم ، كي يكون توجّه النهي إلى الشيء في حال كونه معدوما تحصيلا للحاصل.

وحينئذ نقول : إنّ النهي عن تلك الحركة قد توجّه إليه قبل الدخول وصار ذلك النهي فعليا في حقّه ، وهو في ذلك الحال يمكنه إطاعته بادامة ذلك العدم الحاصل بادامة عدم الدخول ، كما أنّه يمكنه عصيانه بنقض ذلك العدم وهدمه ، وذلك بايجاد الدخول المستتبع لتلك الحركة الخروجية ، ولا ريب أنّ الإقدام على مقدّمة ملجئة إلى ارتكاب المنهي عنه محقّق لعصيانه ، ومن الواضح أنّ ظرف العصيان ظرف السقوط.

والحاصل : أنّ لذلك النهي المتعلّق بتلك الحركة دور إطاعة ودور عصيان ، ودور الاطاعة هو ما دام قبل الدخول ، ثمّ بعد ارتكاب الدخول يكون الدور دور العصيان وخروج الاطاعة من تحت [ قدرة ] المكلّف ، وفي هذا الدور يكون

١٤٩

الخطاب ساقطا ، كما هو الشأن في جميع النواهي المتعلّقة بما لا يمكن التخلّص بعد الاقدام على المقدّمة الملجئة إلى ارتكابه ، فإنّه لم يلتزم أحد بأنّ مثل تلك المتعلّقات لا تكون منهيا [ عنها ] كما في مثل الالتجاء إلى ارتكاب الزنا عند الدخول إلى الدار ، فإنّ من علم ذلك لا يخرج الزنا المذكور في حقّه عن كونه منهيا عنه ومخاطبا بتركه قبل الدخول ، نعم بعد الدخول والوقوع فيما يلجئه إلى ارتكاب الزنا يسقط حينئذ الخطاب بتركه ، مع أنّه مثل الخروج في أنّه قبل الدخول يكون منتركا ، وبعده يكون الوقوع في اختياره قهريا عليه ، فتأمّل.

قوله : بل هو داخل في قاعدة أخرى وهي وجوب ردّ مال الغير إلى صاحبه ... الخ (١).

أساس ذلك هو ما نقله في الكفاية عن تقريرات درس الشيخ قدس‌سره (٢) وذلك قوله : وأمّا التصرّف بالخروج الذي يترتّب عليه رفع الظلم ، ويتوقّف عليه التخلّص عن التصرّف الحرام ، فهو ليس بحرام ، إلى قوله : وبالجملة لا يكون الخروج بملاحظة كونه مصداقا للتخلّص عن الحرام أو سببا له إلاّ مطلوبا ، ويستحيل أن يتّصف بغير المحبوبية الخ (٣).

وغاية ما يمكن أن يشكل به على ذلك هو أنّ وجوب التخلّص عن الحرام ليس تكليفا استقلاليا ، وإنّما هو عبارة عن لزوم ترك الحرام الذي هو منتزع من النهي عنه ، فليس لنا في البين تكليف إلاّ حرمة التصرّف ، وقد تقرّر في محلّه (٤) أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٧٠٩ ، ٧١٦.

(٣) كفاية الأصول : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٤) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المتقدّمة في الصفحة : ٩٧ وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

١٥٠

ترك الحرام ليس بواجب كما أنّ ترك الواجب ليس بحرام ، وإلاّ لنقصت الأحكام عن الخمسة أو لترامت ولزم التسلسل ، وهكذا في الأحكام العقلية فإنّ ترك القبيح لا يكون حسنا كما أنّ ترك الحسن لا يكون قبيحا.

نعم ، إنّ العقل بعد أن حكم بلزوم الاطاعة في النواهي كالأوامر كان حاكما في المقام بلزوم ترك هذا التصرّف من باب الاطاعة ، فليس في البين واجب شرعي يتوقّف حصوله على تلك الحركة الخروجية أو أنّه يكون عين تلك الحركة الخروجية ، وليس وجوب الخروج في ذلك إلاّ كوجوب نزع لباس الحرير أو الذهب في أنّه مجرّد تغيير عبارة عن حرمة بقاء اللبس ، وهذه الحركة الخروجية ليست إلاّ عبارة عن بقاء ذلك التصرّف المحرّم ، غايته أنّ الخطاب بترك تلك الحركة الخروجية يكون ساقطا مع بقائها على ما هي عليه من المبغوضية واستحقاق العقاب عليها.

ثمّ إنّ هذه الحركة الخروجية لو كانت واجبة لانطباق عنوان التخلّص عليها أو عنوان الردّ أو كونها مقدّمة له ولم تكن مبغوضة بالذات لكونها عصيانا للنهي ، لكان اللازم هو عدم الاحتياج فيها إلى الاستئذان من المالك لو كان ذلك ممكنا ، ولا أظنّ أنّ أحدا يقول إنّه لا يجب عليه الاستئذان لو كان قد أمكنه ذلك فتأمّل ، لامكان القول بأنّ الاستئذان لو أمكن فهو تسليم فعلي مقدّم على الخروج.

وأمّا لزوم ردّ المال إلى صاحبه فهو لا يجري في كثير من الداخلين ، كمن دخل لزيارة صديقه الغاصب الموجود في الدار مع فرض أنّ دخوله لا يكون محرّما إلاّ من باب التصرّف في المغصوب ، لا من باب أنّه يكون ذا يد على الدار على وجه يجب عليه ردّ تلك الدار إلى مالكها بواسطة خروجه منها.

١٥١

وأمّا الداخل الذي هو صاحب اليد العادية الموجبة لضمانه فهو وإن لزمه الردّ عقلا باعتبار كونه تركا للغصب كما ذكرناه في المتصرّف ، إلاّ أنّه لا دليل على وجوب ردّ المغصوب وجوبا شرعيا مولويا في عرض حرمة الغصب ، على وجه يعاقب عقابين أحدهما على عصيان حرمة الغصب والآخر على ترك الردّ ، وليس في البين إلاّ حرمة بقائه في يده ، وذلك وإن كان لا يقتضي أزيد من رفع يده ، إلاّ أنّه لأجل دفع الضمان عن نفسه المتوقّف على التسليم لا يخرج من عهدة ذلك الضمان إلاّ بردّه إلى صاحبه كما هو مفاد « حتّى تؤدّي » (١) مضافا إلى أنّ مجرّد رفع يده مع عدم تسليمه إلى مالكه يكون تضييعا واتلافا وهو محرّم آخر يقع فيه. وعلى كلّ حال ، أنّ ما نحن فيه لا يحتاج إلى ذلك.

أمّا ما في الشرائع والجواهر من قولهما ما هذا لفظه : النظر الثاني في الحكم : لا خلاف بيننا في أنّه يجب ردّ المغصوب ما دام باقيا ، بل الإجماع بقسميه عليه إن لم يكن ضرورة من المذهب ، مضافا إلى قوله عليه‌السلام في النصوص السابقة : « كلّ مغصوب مردود » (٢) انتهى (٣).

وبنحو ذلك صرّح المحقّق الرشتي فقال : التقاط : يجب على الغاصب ردّ المغصوب إلى الحالة التي غصب عليها بالأدلّة الأربعة ، ومن السنّة قوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » ، إلى أن قال : والدليل على ذلك هو الدليل على

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٨٨ / أبواب كتاب الغصب ب ١ ح ٤ ، عوالي اللآلي ٢ : ٣٤٥ / ١٠ ، وفي المصدر الأوّل : « ... حتّى تؤدّيه ».

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٤ / أبواب الأنفال ب ١ ح ٤ ( وفيه : لأنّ الغصب كلّه مردود. نعم في التهذيب ٤ : ١٣٠ / ٢ : لأنّ المغصوب ... ).

(٣) شرائع الإسلام ٣ : ٢١٨ ، جواهر الكلام ٣٧ : ٧٥.

١٥٢

وجوب أصل الردّ ، أعني رفع الظلم المدلول عليه بالأدلّة الأربعة ، انتهى (١).

ولكن الظاهر أنّ جميع هذه الأدلّة كلّها لا تتعدّى حرمة الغصب حدوثا وبقاء ، حتّى قوله عليه‌السلام : « كلّ مغصوب مردود ». ولعلّ قوله : والدليل على ذلك هو الدليل على وجوب أصل الردّ أعني رفع الظلم الخ إيماء إلى ذلك ، فإنّه فسّر الردّ بأنّه رفع الظلم الذي هو ذلك الاستيلاء الاستمراري ، فإنّ بقاءه أيضا ظلم كأصل حدوثه.

ويشهد بذلك أيضا أنّ هذه الأدلّة الأربعة نقلها في الجواهر (٢) في آخر أوّل صفحة من كتاب الغصب عن الدروس أدلّة على تحريم الغصب ، وهذا نصّ عبارة الدروس : كتاب الغصب ، وتحريمه عقلي واجماعي وكتابي وسنّي ، قال الله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (٣) ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) (٤) ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ) (٥) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام » (٦) « لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه » (٧) « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفس » (٨) « لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادّا ولا لاعبا » (٩)

__________________

(١) كتاب الغصب : ٥٣.

(٢) جواهر الكلام ٣٧ : ١٢.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٨.

(٤) المطفّفين ٨٣ : ١.

(٥) النساء ٤ : ١٠.

(٦) وسائل الشيعة ٢٩ : ١٠ / أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣.

(٧) وسائل الشيعة ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلّي ب ٣ ح ١.

(٨) وسائل الشيعة ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلّي ب ٣ ح ٣ ، مستدرك الوسائل ٣ : ٣٣١ / أبواب مكان المصلّي ب ٣ ح ١.

(٩) عوالي اللآلي ٣ : ٤٧٣ / ٥.

١٥٣

انتهى.

وقال بعد ذلك : درس : يجب ردّ المغصوب إلى مالكه إجماعا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (١).

ومنه يظهر أنّ تلك الأدلّة الأربعة إنّما هي في حرمة الغصب لا في وجوب ردّه ، وإنّما نطبّقها عليه باعتبار حرمة الغصب بقاء ، إذ لو كانت منطبقة عليه حقيقة لكان الأولى الاستدلال بها لوجوبه ، دون الاقتصار على الإجماع وحديث « على اليد » فتأمّل.

وبالجملة : لم يقم دليل قطعي على وجوب الردّ وجوبا شرعيا مولويا في عرض حرمة الغصب وحرمة التصرّف في المغصوب وبقائه تحت يده ، على وجه يكون استمراره على الغصب وعلى إبقائه تحت يده وتحت تصرّفه عصيانا لتكليفين ، أحدهما حرمة الغصب والتصرّف في المغصوب والآخر وجوب ردّه ، على وجه يكون معاقبا بعقابين ، لا أظنّ أنّهم يلتزمون بذلك ، فيكون عدم التزامهم به كاشفا عن أنّه ليس في البين إلاّ تكليف واحد وهو حرمة الغصب والتصرّف في المغصوب حدوثا وبقاء ، هذا.

مضافا إلى أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في المغصوب الذي يكون تحت اليد ، دون مثل ما نحن فيه ممّا لا يكون فيه أخذ ولا يد وليس في البين إلاّ مجرّد التصرّف في العين بالجلوس فيها مثلا ، التي لا يتوقّف رفع الغصب على ردّ المغصوب بل يكفي فيه مجرّد التخلية ، هذا.

مضافا إلى أنّا لو التزمنا بكون الخروج معنونا بعنوان مأمور به وهو ردّ المغصوب فالظاهر أنّ هذا العنوان ليس من العناوين القصدية ، بحيث إنّ تحقّقها

__________________

(١) الدروس الشرعية ٣ : ١٠٥ ، ١٠٩.

١٥٤

واقعا متوقّف على قصد الردّ ، بل الظاهر أنّ الخروج والتخلية بنفسه ردّ ، وحينئذ يكون اللازم عدم التفرقة بين التائب وغيره ، وأنّ الصلاة في حاله تكون صحيحة على كلّ حال ، نعم ربما يقال إنّ غير التائب يكون قاصدا للحرام لتخيّله أنّه حرام فيكون من قبيل التجرّي ، ولأجل ذلك لا تكون صلاته صحيحة ، فتأمّل.

فهذه ثلاثة لوازم لكون الخروج واجبا لا أظنّ أن يلتزموا بها :

أوّلها : أنّ الخارج لا يحتاج إلى الإذن من المالك فيما لو أمكنه ذلك ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ الاستئذان تسليم فعلي عاجل ، فيكون في حال التمكّن منه مقدّما على الخروج.

ثانيها : لزوم تعدّد العقاب لو تعمّد البقاء.

ثالثها : كون الخروج غير محرّم واقعا على غير التائب ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك ، بل الظاهر ممّا عن الشيخ قدس‌سره في التقريرات (١) هو اختصاص هذا الوجوب بما إذا كان بعنوان التخلّص فراجع. وهو الظاهر من الجواهر أيضا فإنّه ذكر عبارة المتن وقال : إذا ضاق الوقت وكان هو ـ أي الغاصب ـ آخذا في الخروج متشاغلا به صلّى على هذا الحال وصحّت صلاته ، وإن كان قد أثم بابتداء الكون واستدامته إلى الخروج ، أمّا هو فلا ريب في اطاعته وعدم النهي له عنه ، وإلاّ كان تكليفا بما لا يطاق. وربما ظهر من المحكي (٢) عن المنتهى الإجماع عليه كما ستسمع ، فالجمع حينئذ بين هذين الواجبين الفوريين ليس إلاّ بذلك ، لكن عن أبي هاشم (٣) أنّ الخروج تصرّف في المغصوب فيكون معصية ، فلا تصحّ الصلاة

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٧٠٩.

(٢) حكاه عنه العاملي قدس‌سره في مفتاح الكرامة ٣ : ٣٤٥ ، ٣٤٦.

(٣) بيان المختصر ١ : ٣٩١ ، شرح مختصر الأصول : ٩٤ ، التقريب والارشاد ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

١٥٥

حينئذ وهو خارج ، سواء تضيّق الوقت أم لا. وعن المنتهى أنّ : هذا القول عندنا باطل (١) بل في التحرير : أطبق العقلاء كافّة على تخطئة أبي هاشم في هذا المقام (٢).

قلت : لا ريب في صحّة كلامه إذا كان الخروج لا عن ندم على الغصب ولا إعراض ، ضرورة كونه على هذا الفرض كالدخول تصرّفا فيه ، أمّا مع التوبة والندم وإرادة التخلّص من الغصب فقد يقال : إنّ محلّ التوبة بعد التخلّص ، والتخلّص بلا إثم هنا غير ممكن بعد قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا قبح حينئذ في تكليفه بالخروج مع تحريمه عليه كما حقّق في الأصول ، فيتّجه حينئذ قول أبي هاشم بحرمة الصلاة (٣).

وظاهره أنّ صورة عدم [ التوبة ] خارجة عن محل الكلام في صحّة الصلاة ووجوب الخروج ، وأنّ الخروج إنّما يقع على صفة الوجوب مع كونه في حدّ نفسه محرّما في خصوص صورة التوبة ، ومع ذلك يكون المختار عنده هو البطلان لكون الفعل في حدّ نفسه مبغوضا ، فراجع تمام كلامه ، وراجع ما أفاده المرحوم الحاج آقا رضا في هذا المقام من صلاته (٤).

ثمّ لا يخفى أنّه بناء على هذا الذي حرّرناه تندفع محاذير إيجاب ما هو مبغوض ، إذ لا إيجاب في البين. وبما حرّرناه من معقولية كون الخروج مشمولا للنهي عن الغصب المتوجّه إليه قبل الدخول يتّضح لك أنّه لا بدّ من الالتزام بأنّ

__________________

(١) منتهى المطلب ٤ : ٣٠٠ / الفرع السادس.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ٢٠٩.

(٣) جواهر الكلام ٨ : ٢٩٤.

(٤) مصباح الفقيه ١١ ( كتاب الصلاة ) : ٣٧ وما بعدها.

١٥٦

تلك الحركة الواقعة في حال الخروج هي منهي عنها بالنهي السابق ، الساقط بالاقدام على عصيانه ، مع فرض علمه بعدم تمكّنه من التخلّص بعد ذلك الاقدام على العصيان ، فليس في البين واجب وهو الردّ أو التخلية ومقدّمة واجب وهو الحركة الخروجية كي نحتاج إلى القول بسقوط الخطاب بذلك الواجب ، كسقوط الخطاب بالنهي عن مقدّمته التي يتوقّف عليها.

نعم ، في مثل شرب الخمر لأجل حفظ النفس بعد تعمّده ما ألقاه في ذلك الاضطرار يقع موقعا لهذا الإشكال ، ولا بدّ حينئذ من الالتزام ببقاء مبغوضية الشرب مع انطباق محبوبية حفظ النفس ، من دون أن يكون خطاب شرعي بترك ذاك ولا بفعل هذا ، مع الالتزام بأنّه لو شرب عوقب على الشرب ولو ترك عوقب على تضييع نفسه ، كلّ ذلك من جهة سوء اختياره.

ومن الغريب ما في الحاشية (١) من الالتزام بوجوب حفظ النفس هنا شرعا مع الالتزام بمبغوضية مقدّمته التي هي الشرب ، وكيف يعقل أن يكلّف الحكيم بشيء ويوجّه الخطاب به مع علمه بأنّه متوقّف على شيء هو مبغوض له فعلا ، وحينئذ فلا محيص لنا إلاّ الالتزام فيه بما ذكرناه في مسألة الخروج بعد الدخول بأن نقول : إنّ هذا المكلّف بعد تلك العملية قد اضطرّ إلى أحد العصيانين ، أعني عصيان الأمر بحفظ النفس أو عصيان النهي عن شرب الخمر ، والعقل يلزمه بأخفّهما قبحا وهو الشرب ، ومع ذلك يكون معاقبا عليه من دون أن يكون خطاب في هذا ولا في ذاك.

وينبغي مراجعة الكفاية (٢) فإنّه أوّلا أجاب عن إن قلت الأخيرة بما ذكره

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٥.

(٢) كفاية الأصول : ١٧٢.

١٥٧

المحشي هنا ، لكنّه قدس‌سره أصلحه بأنّ الخروج لمّا حكم العقل بلزومه دفعا لأشدّ المحذورين فلا مانع من تعلّق الإيجاب الشرعي بما يتوقّف عليه ، لكن المحشّي أخذه بدون إصلاح ، ثمّ أجاب ثانيا بما ذكرناه من أنّه لا خطاب بذلك الواجب مع الالتزام بملاكه واستحقاق العقاب على مخالفته.

وأغرب من ذلك ما ذكره في الحاشية من الايراد على ما أفاده شيخنا قدس‌سره ممّا تقدّم انكارنا له ، أعني كون الخروج واجبا من باب وجوب ردّ المال إلى مالكه ، فإنّه في الحاشية المذكورة سلّم وجوب التخلية فقال : إنّ وجوب التخلية بين المال ومالكه لا يستلزم وجوب الحركات الخروجية المتوقّف عليها الكون في خارج الدار ، لأنّها ليست معنونة بعنوان التخلية (١).

فنراه أعرض عن وجوب الردّ وبدّله بوجوب التخلية ، وأنكر كون الحركات الخروجية مصداقا لها ، مع ما هو واضح من أنّ تلك الحركات بالنسبة إلى التخلية من قبيل العنوان الأوّلي والثانوي الذي يلزمه الاتّحاد الخارجي ، فلو التزمنا بوجوبها كانت نفس الحركة الخروجية واجبة ، غايته أنّ تلك الحركات تكون واجبة بعنوانها الثانوي أعني التخلية دون العنوان الأوّلي.

وأغرب من ذلك أنّه جعل سند هذا الانكار هو كون الحركات المذكورة غصبا ، ومع كونها غصبا لا يعقل كونها مصداقا للتخلية الواجبة ، وما التفت إلى كون التخلية عنوانا ثانويا لها وهو موجب بالضرورة لصدقها عليها ، ومع كونها مصداقا للتخلية تخرج عن كونها مبغوضة وظلما ، وإن كانت تصرّفا في المكان بدون رضا مالكه ، إذ ليس كلّ تصرّف بغير الرضا يكون ظلما ومبغوضا.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٣.

١٥٨

ومن ذلك تعرف الجواب عمّا ذكره في الحاشية (١) من دعوى التفرقة بين الخروج في الاضطرار لا بسوء الاختيار ، وبينه في الاضطرار بسوء الاختيار في هذا الحكم العقلي ، أعني حسن الردّ والتخلية وعدمه.

ثمّ إنّه ذكر دعوى وجوب الحركات المذكورة مقدّمة للتخلية المنطبقة على الكون في خارج الدار ، وردّ هذه الدعوى بتسليم كون الحركات المذكورة مقدّمة للكون خارج الدار ، لكن منع وجوب ذلك الكون والتزم بأنّه غير التخلية ، وأنّ عنوان التخلية لا ينطبق على الكون في خارج الدار ، لأنّه عبارة عن إيجاد خلاء الدار من التصرّف فيها ، فهو ملازم للكون خارج الدار لا أنّه منطبق عليه (٢).

فيا ليت شعري بعد فرض الاعتراف بكون التخلية عنوانا من العناوين الواجبة ، وبعد فرض إنكار انطباقه على نفس الحركة الخروجية ، وانكار انطباقه على الكون خارج الدار ، إذن ما ذا يكون مصداقه ، وأي فعل يفعله ذلك المكلّف المسكين امتثالا وإطاعة لذلك الأمر المتعلّق بالتخلية ، هل يمكن أن نقول إنّ الشارع الحكيم قد أمره بعنوان بلا معنون!. ومن ذلك يعرف الإشكال في الحاشية الأولى والثانية على ص ٣٨٠ وكذلك الحاشية على ص ٣٨١ (٣).

وحينئذ ينحصر التخلّص من دعوى وجوب الخروج بما ذكرناه من أنّه ليس في البين إلاّ حرمة الغصب ، وأنّ كلّ ما يعبّر به في المقام من وجوب الردّ أو وجوب التخلية إنّما هو عبارة عن حرمة الغصب والظلم ، فليس في البين تكليف

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٣ ـ ١٩٤ ( نقل بالمضمون ).

(٣) حسب الطبعة القديمة ، راجع أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٥ ، ١٩٦.

١٥٩

آخر زائد على حرمة الغصب.

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره قد علّق في الهامش على قوله : كما إذا لم يكن هناك توقّف عليه إلخ ، توضيحا لذلك التوقّف فقال في الهامش ما هذا نصّه :

لا يخفى أنّه لا توقّف هاهنا حقيقة ، بداهة أنّ الخروج إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار ، لا مقدّمة لترك الكون فيها الواجب لكونه ترك الحرام ، نعم بينهما ملازمة لأجل التضادّ بين الكونين ( يعني الكون خارج الدار والكون في الدار الذي ادّعى كون تركه واجبا ) ووضوح الملازمة بين وجود الشيء ( الذي هو الكون خارج الدار ) وعدم ضدّه ( الذي هو الكون داخل الدار ) فيجب الكون في خارج الدار عرضا لوجوب ملازمه ( الذي هو ترك الكون داخلها ) حقيقة ( فيكون الواجب الحقيقي هو ترك الكون داخل الدار والواجب بالعرض هو الكون خارجها ) فتجب مقدّمته ( أي مقدّمة الكون خارج الدار ، وتلك المقدّمة هي الخروج منها ) كذلك ( أي وجوبا غيريا بالعارض ، كوجوب ذيها الذي هو الكون خارج الدار ، فإنّ وجوبه بالعارض ناش عن وجوب ملازمه الذي هو ترك الكون فيها ) وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أنّ مثل الخروج يكون مقدّمة لما هو الواجب (١).

يعني أنّا إنّما قلنا بأنّ الخروج مقدّمة للواجب من باب محض المماشاة ، وإلاّ فليس في البين واجب يكون الخروج مقدّمة له ، لأنّه إنّما يكون مقدّمة للكون خارج الدار ، والكون في خارجها ليس بواجب وإنّما هو ملازم لما يدّعى أنّه واجب وهو ترك الكون فيها لكونه تركا للحرام ، ومن الواضح أنّ ترك الحرام ليس

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٨.

١٦٠