أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

الحرمة الواقعية مشروطة بالعلم بالوجوب الواقعي ، أو كانت مشروطة بعدم العلم به ، أو كانت مطلقة (١).

والتحقيق هو أن يقال : إنّ هذه الحرمة التشريعية مناقضة لذلك الوجوب ، وموجبة للتخصيص وانحصار مورد الوجوب بما عدا مورد التشريع ، ويكون حرمة التشريع الطارئة على الفعل باعتبار الاتيان به بصفة الوجوب مع عدم العلم بالوجوب كسائر العناوين الثانوية ، الموجبة للتحريم والرافعة للحكم الأوّلي اللاحق للشيء في حدّ نفسه ، وحينئذ ينحصر وجوب تلك العبادة فيما إذا لم يؤت بها بعنوان الوجوب التشريعي ، ومع هذا التخصيص تكون العبادة فاسدة من دون حاجة إلى القبح الفاعلي ، ولا إلى المبغوضية الفعلية التي ذكرها المحشي (٢).

ثمّ إنّ لنا طريقة أخرى للحكم بفساد العبادة المذكورة ، وهي أنّ ذلك المكلّف لم يأت بها بداعي أمرها ، بل إنّما أتى بها بداعي ذلك الأمر الذي شرعه من قبل نفسه ، سواء كان التشريع قبيحا أو لم يكن ، كان في البين قبح فاعلي أو لم يكن ، كان في البين حرمة شرعية تشريعية أو لم تكن ، كان في البين تخصيص أو لم يكن ، حتّى أنّا نلتزم بأنّ من علم بأنّ هذه الصلاة واجبة شرعا ، ولكن أراد أن يخترع لنفسه شريعة خاصّة ، فأوجب على نفسه أو على غيره أشياء ، وحرّم على

__________________

(١) إذا كان اختلاف الرتبة مجديا في رفع التناقض لم يكن معنى محصل للقول بأنّ مثل « إذا علمت بوجوب الشيء فقد حرم » لا يصحّ ، لأنّ المخاطب يراه تناقضا ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّ التحريم في الرتبة المتأخرة عن الايجاب الأوّلي كاف في الحكم بالفساد في هذه الرتبة ، بل هي في هذه الرتبة خارجة عن الوجوب في رتبتها ، وإن كان وجوبها في الرتبة السابقة باقيا [ منه قدس‌سره ].

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٤٠.

٣٦١

نفسه أشياء خالف فيها الشارع المقدّس ، غير أنّه في هذه العبادة الخاصّة كصوم شهر رمضان وافق الشارع فيها ، بمعنى أنّه أيضا قال قد أوجبته ، ولكنّه أتى به بداعي ذلك الوجوب الذي جعله من قبل نفسه ، كان عمله المذكور فاسدا أيضا ، لأنّه لم يأت به بداعي الأمر الشرعي الذي يعلمه ، بل أتى به بداعي أمره الذي هو شرعه من قبل نفسه.

واعلم أنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في العبادة التي لها إعادة وقضاء لو وقعت فاسدة ، واتّفق أنّ شخصا كان معتقدا لعدم وجوبها أو كان شاكّا في ذلك فبنى تشريعا منه على وجوبها ، وأتى بها بذلك الداعي ، ثمّ انكشف أنّها واجبة في الواقع.

والأقرب لتحقّق هذه الثمرة التمثيل بجزء من أجزاء الصلاة الركنية كالركوع مثلا ، فاعتقد أنّه غير واجب أو شكّ في وجوبه فشرّع وجوبه ، وأتى به بذلك الداعي ثمّ انكشف أنّه واجب ، فبناء على عدم كون التشريع في العبادة مفسدا لها تكون صلاته المذكورة صحيحة ، بخلاف ما لو قيل بأنّه مفسد لها تكون صلاته المذكورة فاسدة ، إذ لا أقل من فقدانها الجزء المذكور.

قوله : والحسن والقبح فيهما لو انتهى إلى وجوب آخر لدار أو تسلسل ... الخ (١).

وربما أمكن الجواب عن هذا التسلسل بأنّه لا مانع منه في مثل ذلك ، فإنّه إذا توقّف شيء على آخر والآخر على آخر فأقصى ما فيه هو أنّ حصول الشيء الأوّل محال ، وإذا كان هذا الموجود صادرا عن آخر وآخر عن آخر وهكذا فهو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٦٢

محال أيضا ، من جهة انتهائه إلى قدم العالم.

أمّا مثل ما نحن فيه من التكاليف التي يكون وجودها بالاعتبار فلا مانع منه ، ولا يستلزم الجعل الدائم ولا التشريع المستمر ، بل يكفي فيه الجعل الواحد على نحو القضية الحقيقية ، بأن يقول أطع كلّ أمر لي ، وتكون القضية شاملة لنفسها ، على حذو ما ذكروه في مثل كلّ خبر لي فهو صادق. نعم ، مثل قوله : كلّ خبر لي فهو كاذب ، لو كانت القضية شاملة لنفسها لا يمكن الحكم بتصديقها ، لأنّه يلزم من التصديق عدمه.

ولا يخفى أنّ ذلك لا يتوقّف على كون القضية شاملة لنفسها ، بل يمكن أن يتأتّى ذلك بطريق حكم العقل بحسن الاطاعة مع ضميمة أنّ كلّ ما حكم به العقل يحكم به الشارع. فكلّ أمر له إطاعة ، وكلّ إطاعة حسنة عقلا ، وكلّ ما حسّنه العقل أوجبه الشارع ، فكلّ اطاعة أوجبها الشارع.

لكن قد يقال بانقطاع السلسلة على الاطاعة الأولى ، لأنّ إطاعة الأمر بالاطاعة لا يراها العقل شيئا قابلا للحسن أو القبح ، كي يحكم بحسنها ويستكشف الحكم الشرعي من حكم العقل بحسنها.

وإن شئت فقل : إنّ التسلسل الباطل هو التسلسل في العلل ، بأن يكون هذا الشيء معلولا لشيء آخر ، وذلك الآخر معلولا لثالث وهكذا ، فإنّه يلزم من وجود المعلول عدمه ، لتوقّف علّته على علّتها ، وهكذا إلى ما لا يتناهى. أمّا التسلسل في المعلولات بأن يكون هذا الشيء علّة لآخر ، وذلك الآخر ـ المفروض كونه معلولا ـ علّة لآخر وهكذا فلا مانع منه. فالأمر الأوّل الصادر من الشارع علّة لتحقّق عنوان الاطاعة في امتثاله ، وهذا العنوان علّة في تولّد الأمر بالاطاعة ، وهكذا.

والالتزام بكون هذه الأوامر ارشادية إلى ما يحكم به العقل من حسن

٣٦٣

الاطاعة أو لزومها ، لا حاجة إليه بعد إمكان كونها مولوية ، ويكون حكم الشارع بوجوب إطاعة أوامر نفسه كحكم العقل بوجوب إطاعة أوامر نفسه ، فكما أنّ حكم العقل بلزوم إطاعة أوامر نفسه لا تكون إرشادا إلى شيء خارج عن الحكم العقلي ، فكذلك حكم الشارع بوجوب إطاعة أوامر نفسه لا يكون إرشادا إلى حكم آخر خارج عن الحكم الشرعي.

نعم ربما يشكل على هذه الطريقة فيما نحن فيه بلزوم عقابات متعدّدة غير متناهية عند العصيان ، وثوابات كذلك عند الاطاعة. ويمكن الجواب عنه بأنّ هذه الأوامر وإن كانت مولوية ، إلاّ أنّها لا يترتّب الثواب على إطاعتها ولا العقاب على مخالفتها ، لكونها طريقية صرفة ، لا يكون المقصود بها إلاّ الواجب الأصلي الأوّلي ، وحينئذ يتوجّه إشكال اللغوية ، لتكفل حكم العقل بما يراد منها. فيكون الإشكال الوحيد على مولوية هذه الأوامر هو ما عرفت من اللغوية ـ دون لزوم التسلسل ـ التي يرجع إليها ما قيل من أنّ مقام الاطاعة غير قابل للتصرّف والجعل الشرعي ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ ما يدّعى من وجوب المقدّمات وجوبا شرعيا مولويا يشاركها في هذه اللغوية ، حيث إنّ العقل حاكم بلزوم الاتيان بها من باب الاطاعة أيضا ، ولا يترتّب على وجوبها عقاب ولا ثواب ، ولا تحتاج في سقوطها إلى قصد الامتثال.

نعم فرق بينهما أنّ أوامر الاطاعة لو قلنا بمولويتها والتزمنا بذهابها إلى ما لا نهاية له ، يستحيل فيها الاتيان بمتعلّقها بداعي أمره وإنّما أقصى ما في البين هو الاتيان بمتعلّق الأمر الأصلي ـ أعني الصلاة مثلا ـ بداعي قوله : « صلّ » ، وبذلك يتحقّق اطاعته ، وتكون هذه الاطاعة محقّقة لما تعلّق به قوله : « أطع أمر الصلاة ».

٣٦٤

أمّا قوله : « أطع أمر الاطاعة المتعلّقة بالصلاة » فليس له اطاعة ثانية مضافة إلى الأمر المتعلّق باطاعة الصلاة ، بل لا يكون ما يصدر من المكلّف في البين إلاّ إطاعة واحدة هي إطاعة الأمر بالصلاة ، وهذه الاطاعة مسقطة للأمر المتعلّق بها وهو أوّل أمر من تلك الأوامر ، وبسقوطه تسقط الأوامر الباقية.

وإن شئت فقل : إنّ جميع أوامر الاطاعة تسقط بفعل الصلاة الموجب لسقوط الأمر المتعلّق بها ، لبقائها حينئذ بلا موضوع. وهكذا الحال في عصيان الأمر المتعلّق بالصلاة ، الموجب لسقوطه بالعصيان ، فإنّه يوجب ارتفاع موضوعها أيضا. ولعلّه لأجل ذلك لم يكن في البين إلاّ عقاب واحد عند العصيان ، وثواب واحد عند الاطاعة للأمر المتعلّق بالصلاة نفسها.

ثمّ إنّ ما ذكر من لزوم التسلسل في الوجوبات إنّما يلزم لو قلنا إنّ كلّ أمر لا بدّ أن تكون إطاعته واجبة حتّى أوامر الاطاعة ، بنحو ما ذكرناه من كون القضية شاملة لنفسها. أمّا لو قلنا بعدم ذلك وأنّ وجوب الاطاعة للأوامر لا يشمل أوامر الاطاعة وأنّه مقصور على الأوامر المتعلّقة بأفعال المكلّفين العادية مثل الصوم والصلاة ، دون الاطاعة نفسها ، فلا يكون لنا في سائر الأوامر إلاّ أمران : أمر متعلّق بالفعل ، وأمر آخر متعلّق باطاعة ذلك الأمر ، من دون أن يكون في البين أمر باطاعة أمر الاطاعة.

قوله : إنّ وجوب امتثال كلّ تكليف وحرمة عصيانه ينتهي بالأخرة إلى ما بالذات ، وهو حسن الطاعة وقبح المعصية ، والحسن والقبح فيهما لو انتهى إلى وجوب آخر لدار أو تسلسل ... الخ (١).

إنّ من يدّعي أنّ أوامر الاطاعة مولوية لا يريد أن يقول إنّ حسنها يتوقّف

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٦٥

على تعلّق الأمر المولوي بها ، كي يقال له إنّ حسنها ذاتي لا يتوقّف على أمر آخر.

ثمّ إنّا لو سلّمنا أنّ حسن إطاعة الأمر يتوقّف على أمر ، فأقصى ما يكون في البين هو أنّ حسن اطاعة طبيعة الأمر ـ أيّ أمر كان ـ يتوقّف على أمر ، فلا ريب أنّ هذا الأمر الذي يتعلّق بنفس الاطاعة ليس هو نفس الأمر الذي كان هو المطاع كي يلزم الدور. نعم يلزم التسلسل ، لكنّك قد عرفت (١) الحال في محاليته.

والحاصل : أنّي لم أتوفّق لكيفية تأتّي الدور فيما نحن فيه (٢) ، نعم في قوله : « ولو انتهى هو أيضا إلى غيره لدار أو تسلسل » (٣) يتأتّى الدور ، لأنّا لو فرضنا أنّ حجّيته العلم متوقّفة على الدليل وقيام حجّة عليها ، فلا ريب أنّ تلك الحجّية متوقّفة على العلم بها ، ولا بدّ من إثبات حجّيته ، فيكون حجّية العلم متوقّفة على حجّيته. وعلى أيّ لا معنى هناك ـ أعني في حجّية العلم ـ للتسلسل ، فتأمّل.

إلاّ أن نغاير بين العلوم فيقال إنّ العلم بوجوب الصلاة مثلا حجّة لقيام الرواية الفلانية عليه ، وحجّية الرواية المذكورة إنّما هي بالعلم بها ، وحجّية هذا العلم بالبيّنة مثلا ، وحجّية البيّنة بالعلم ، وحجّية هذا العلم بالإجماع ، وحجّية الإجماع بالعلم ، وهكذا ، فإن عادت السلسلة إلى الأوّل جاء الدور ، وإن ذهبت إلى ما لا نهاية له جاء التسلسل ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ التسلسل الباطل هو عدم التناهي في سلسلة العلل ، بأن

__________________

(١) في الصفحة ٣٦٣.

(٢) اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نفس الاطاعة متوقّفة على وجود الأمر ، وإذا كان حسنها متوقّفا على تعلّق الأمر بها جاء الدور [ منه قدس‌سره ].

(٣) [ هذه العبارة وردت في النسخة القديمة غير المحشاة ، وأبدلت في الطبعة الحديثة بقوله : ولو انتهى العلم إلى غيره في حجّيته لدار أو تسلسل ].

٣٦٦

يكون هذا الشيء مثلا معلولا لشيء آخر ، وذلك الآخر معلولا لآخر وهكذا ، فإنّ ذلك محال ، لأنّ حصول المعلول الأخير يتوقّف على حصول العلّة الأولى ، ومع فرض عدم تناهي العلل لا يكون حصول العلّة الأولى ممكنا ، وحينئذ يلزم من فرض وجود ذلك المعلول عدمه. أمّا التسلسل في المعلولات بأن يكون هذا الشيء علّة لآخر ، وذلك الآخر ـ المفروض كونه معلولا ـ علّة لآخر وهكذا فلا مانع منه. وحينئذ نقول : إنّ الأمر الأوّل المتعلّق بالصلاة مثلا يكون علّة لانطباق عنوان الاطاعة على امتثاله ، وهذا العنوان علّة في تولّد الأمر بالاطاعة المذكورة ، وهكذا.

ويعبّر عن الأوّل بعدم التناهي في العلل ، بحيث تذهب العلل إلى ما لا نهاية له ، فإنّه محال. ومنه يظهر لك فساد ما يظهر من الشمسية (١) من أنّه لا مانع من حصول أمور نظرية غير متناهية للنفس على القول بقدمها ، فإنّ هذه المسألة مثلا لو كانت نظرية مكتسبة من ثانية أخرى ، والثانية من الثالثة ، والثالثة من الرابعة وهكذا ، كان العلم بالأولى معلولا للعلم بالثانية ، والعلم بالثانية معلولا للعلم بالثالثة ، والعلم بالثالثة معلولا للعلم بالرابعة وهكذا ، وحينئذ لا يحصل لنا العلم بالأولى ولو قلنا بقدم النفس وبقائها سرمديا.

ويعبّر عن الثاني بعدم التناهي في المعلولات ، والظاهر أنّه لا مانع منه ، فإنّ العلّة الأولى بعد أن أوجدها الواجب المقدّس تكون هي المعلول الأوّل ، وهي توجد المعلول الثاني ، وهو يوجد المعلول الثالث ، وهكذا يستمرّ التوالد والانتقال من المعلول إلى ما بعده. مثلا لو حصل لنا العلم بمسألة ضرورية فهذا العلم الضروري نحصّل به مسألة نظرية ، وهذه بعد حصولها لنا نحصّل بها

__________________

(١) شرح الشمسية : ٩.

٣٦٧

أخرى ، وهكذا تستمرّ سلسلة التحصيل ما دامت النفس موجودة. فلو قيل ببقائها إلى ما لا نهاية له كان تحصيلها للمعلومات غير متناه أيضا.

ولا يخفى أنّ النفس وإن لم تكن قديمة بل حادثة ، لكن لا برهان على عروض العدم عليها ، بل إنّ الأدلّة السمعية الدالّة على أنّ أهل النار فيها خالدون وأهل الجنّة فيها خالدون دالّة على بقاء البشر إلى غير النهاية.

بل يمكن القول بأنّ عدد النفوس غير متناه ، لا من جهة بقاء التوالد ، بل من جهة امكان وجود نفوس أخرى غير النفوس البشرية ، وتكون تلك النفوس التي أوجدها الواجب تعالى غير متناهية ، غايته أن نقول إنّها مجرّدة غير مادّية ، لدعوى استحالة عدم التناهي في المادّة ، لبرهانين ذكرهما الطوسي قدس‌سره في التجريد فقال :

الفصل الثالث : في بقية أحكام الأجسام. وتشترك الأجسام في وجوب التناهي (١) ، فراجع. ولو لا هذين البرهانين ونحوهما ممّا أقاموه على عدم معقولية عدم التناهي في المادّة لأمكننا القول بوجود عوالم مادّية غير متناهية ، وهي كعالمنا وكنظام شمسنا.

أمّا البراهين التي أقاموها على عدم معقولية عدم التناهي :

فمنها : برهان التطبيق ، وهو أنّه لو فرضنا خطّين غير متناهيين ، ونقصنا من أحدهما مقدارا ، وطبّقنا أحدهما على الآخر ، فإن تساويا لزم عدم تأثير ذلك التنقيص وهو محال ، وإن لم يتساويا لزم التناهي فيهما وهو المطلوب. وفيه : أنّه أوّلا منقوض بتسلسل المعلولات ، فإنّا لو نقصنا من إحدى السلسلتين مقدارا من العلل والمعلولات فإن كان الباقي مساويا لما لم ننقص منه لزم عدم تأثير ذلك التنقيص ، وإن لم يكن مساويا له لزم التناهي في السلسلتين. وثانيا : أنّ التنقيص

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ١٦٧.

٣٦٨

من أوّل الخطّ لا ينافي ذهاب الباقي إلى غير النهاية. وبالجملة : أنّ كون مبدأ الخطّ محدودا لا ينافي كون آخره غير متناه ، وإن كان الخطّان غير محدودين مبدءا ونهاية فلا معنى للتنقيص من أحدهما.

ومنها : برهان تناهي ما بين الحاصرين ، كما لو قام أحد الخطّين على الآخر ، فإنّ الزاوية تتّسع بامتداد الضلعين ، فإذا فرضنا ذهابهما إلى غير النهاية كان ما بينهما غير متناه ، وهو محال لكونه بين حاصرين وهما الضلعان ، ولا يعقل عدم التناهي فيما هو محدود بين الحاصرين.

وفيه : أوّلا أنّه منقوض بما يدّعونه من تركّب الجسم ممّا لا يتناهى من الأجزاء ، بناء على استحالة التركّب من الأجزاء غير القابلة للقسمة ، وأنّ كلّ جزء منه لا بدّ أن يكون منقسما إلى جزءين ، فإنّه يلزم عدم التناهي في الأجزاء مع كونها بين حاصرين ، أعني الخطين المحيطين بالجسم.

وثانيا : أنّ عدم التناهي فيما بين الخطّين الحاصرين إنّما يلزم إذا وصل الخطّان إلى غير النهاية ، وهو خلف ، لفرض عدم تناهيهما ، فأي نقطة نفرض انتهاء الخطّين إليها فهي متناهية ، ولا بدّ أن يكون ما بينهما متناهيا أيضا ، ولا يعقل انتهاء الخطّين إلى غير النهاية كي يلزم أن يكون ما بينهما غير متناه ، كي يشكل عليه بأنّه بين حاصرين وأنّه لا يعقل عدم التناهي فيه.

ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره (١) استطرد أمورا هي غير دخيلة فيما يتوخّاه من استنتاج كون النهي التشريعي موجبا للفساد ، لكن من باب أنّ الشيء بالشيء يذكر والحديث ذو شجون تعرّض لهذه الأمور التي أشرنا إليها ، وهي تنحصر في جهات ثلاث :

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٥ وما بعدها.

٣٦٩

الأولى : هي ما تعرّض له من الفرق بين الأحكام الشرعية والعقلية فيما يعود إلى الجهل والعلم.

الثانية : هي ما تعرّض له من الفرق بين هذا النحو من الأحكام العقلية ممّا هو قابل للتصرّف والحكم الشرعي على طبقه ولو بقاعدة الملازمة ، وبين ما هو غير قابل لذلك ، كحكمه بحسن الاطاعة وقبح المعصية ، وكحكمه بحجّية العلم.

الجهة الثالثة : هي ما تعرّض له من الفرق بين حرمة التشريع عقلا وشرعا وبين غير التشريع من موارد سائر الأحكام العقلية وما يتبعها من الأحكام الشرعية ، كقبح ارتكاب الضرر بالنفس وحرمته ، في كون الأوّل لا مورد فيه للتعبّد بالأصل في الجملة ، بخلاف الثاني.

أمّا الكلام في الجهة الأولى فحاصله : هو أنّ حكم العقل بحسن بعض الأفعال في قبال حكم الشرع بإيجابها ، وحكمه بقبح بعض الأفعال ويقابله حكم الشرع بحرمتها ، فإنّ الايجاب والتحريم لاحقان للفعل الذي تعلّقا به وإن كان الفاعل له جاهلا به أو بحكمه الواقعي ، بخلاف الحسن والقبح فإنّهما إنّما يلحقانه بشرط العلم به والإقدام عليه اختيارا من الفاعل ، ليكون موردا لحكم العقل بحسن فعله واستحقاقه المدح عليه ، أو بقبح فعله واستحقاقه الذمّ عليه. فمن أضرّ غيره جاهلا بذلك الضرر لم يحكم العقل بقبح فعله ، وإن كان ذلك الفعل منه محرّما في الواقع غايته أنّه معذور فيه. وهكذا في من فعل الإحسان إلى الغير جاهلا بأنّه إحسان واجب ، فإنّه قد فعل واجبا شرعيا ، لكنّه لا يحكم العقل على ذلك الفعل منه بالحسن ، ولا باستحقاق المدح عليه.

وهذا الفرق واضح في الجملة لا غبار عليه ، نعم في اتّصاف الفعل بكونه في الواقع واجبا شرعا مع الجهل بوجوبه حكما أو موضوعا إشكال ، من جهة

٣٧٠

خروج ذلك الفعل عن سلسلة الايجاب ، وتقيّد الفعل الذي وقع موردا للايجاب تقيّدا قهريا بكونه واقعا في سلسلة الايجاب وبداعيه ، فما لم يكن بداعيه ولو من جهة الجهل بوجوبه حكما أو موضوعا يكون خارجا عن تلك السلسلة ، ولأجل ذلك قلنا في محلّه (١) إنّ الأصل في الوجوب هو كونه تعبّديا ، فراجع ما علّقناه على هذه الجهة من مبحث التعبّدي والتوصّلي.

ثمّ إنّ هناك فرقا آخر بين الأحكام الشرعية والأحكام العقلية ـ ومحلّ الكلام في تنبيهات الاستصحاب (٢) ـ وهو قابلية الحكم الشرعي للشكّ فيه بنحو الشبهة الحكمية والموضوعية ، بخلاف الحكم العقلي فإنّه لمّا كان الحاكم فيه هو العقل ، فلا يتأتّى فيه الشكّ على نحو الشبهة الحكمية ، نعم يتأتّى فيه الشكّ على نحو الشبهة الموضوعية.

وأمّا الجهة الثانية : فقد أشرنا ـ فيما تقدّم (٣) ـ إليها ، وأنّه لم يتّضح كون الاطاعة والمعصية موردا لقاعدة « أنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات » فإنّ من يدّعي صحّة تعلّق الأمر المولوي بالاطاعة مثلا لا يدّعي أنّ حسنها بالغير الذي هو الأمر المولوي ، كي يتوجّه عليه أنّه لا بدّ أن تنتهي السلسلة إلى إطاعة حسنة بالذات ، وإن لم يحصل ذلك الانتهاء يلزم التسلسل ، بل أقصى ما يدّعيه القائل بالمولوية هو أنّ الإطاعة حسنة عقلا ، وأنّه لا مانع من أن تكون موردا للحكم

__________________

(١) [ عند التعرّض لكلام المحقّق الكلباسي قدس‌سره ، فراجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٦٦ وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس‌سره قد أبطل هذا القول فيما بعد ، فراجع الصفحة : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ من المجلّد الأوّل ].

(٢) في التنبيه الخامس في فوائد الأصول ٤ : ٤٤٩ وتأتي حواشي المصنّف قدس‌سره عليه في المجلّد التاسع.

(٣) في أوّل هذه الحاشية ، فراجع الصفحة : ٣٦٦.

٣٧١

الشرعي بالوجوب ، ولا يلزمه التسلسل ، إلاّ إذا قلنا بأنّ كلّ إطاعة هي حسنة بحكم العقل وأنّ كلّ إطاعة مأمور بها لقاعدة الملازمة (١). أو أنّ مثل قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ* )(٢) من قبيل شمول القضية لنفسها.

وقد عرفت المنع من ذلك. أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلما عرفت (٣) من أنّ العقل وإن حكم بحسن الاطاعة ، إلاّ أنّ حكمه بذلك مقصور على إطاعة الأوامر العادية المتعارفة مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ* )(٤). أمّا هذا الأمر المتعلّق باطاعة الأمر بالصلاة فلا يرى العقل إطاعته فعلا آخر في قبال اطاعة الأمر بالصلاة كي يحكم بحسنه ، ليكون حكمه بحسنه مستتبعا لحكم الشارع بوجوبه ، وهكذا ، ليلزم منه التسلسل ، هذا كلّه مضافا إلى ما عرفت (٥) الاشارة إليه من عدم المحالية في هذا النحو من التسلسل.

وعلى كلّ حال ، لا يلزم من كون إطاعة الأمر بالصلاة مأمورا بها شرعا أن يكون إطاعة الأمر المتعلّق بالاطاعة المذكورة موردا للثواب ، ولا عصيانه موردا

__________________

(١) والإنصاف أنّه لو تمّ هذا التسلسل وقلنا بمحاليته لكان من أقوى الأدلّة على بطلان الملازمة بين الأحكام العقلية والأحكام الشرعية. ولا يمكن الجواب عنه بخروج خصوص الاطاعة من قاعدة الملازمة ، فإنّ الملازمة لو كانت عقلية لم يعقل التخصيص فيها ، لأنّه تفكيك بين المتلازمين بلا جهة في البين ، سوى أنّه لو جرت الملازمة لكان اللازم هو التسلسل ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) آل عمران ٣ : ٣٢ ، ١٣٢.

(٣) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٦٢ ـ ٣٦٥.

(٤) البقرة ٢ : ٤٣ ، ٨٣.

(٥) المصدر المتقدّم في الهامش (٣) ، وراجع أيضا ما تقدّم ذكره في الصفحة : ٣٦٦ قوله : والحاصل ....

٣٧٢

للعقاب ، لما عرفت (١) فيما أشرنا إليه من أنّ هذا الأمر طريقي صرف ، لا يترتّب عليه أثر. وهذا ـ أعني عدم ترتّب الأثر على هذا الأمر المولوي ولزوم لغويته ـ هو الذي ينبغي أن يكون الإشكال الوحيد في المسألة ، لكنّهم التزموا بمثله في وجوب المقدّمة وجوبا شرعيا وإن كان غيريا ، وحينئذ فالذي ينبغي هو إسقاط الإشكال بالتسلسل. أمّا إشكال الدور فقد تقدّم (٢) أنّي لم أتوفّق لتطبيقه في المقام ، فتأمّل. إلاّ أن يراد منه أنّ الأمر المتعلّق بالاطاعة في الدرجة الثانية هو الأمر المتعلّق بالاطاعة في الدرجة الأولى.

أمّا مسألة حجّية العلم عقلا فهي مورد هذه القضية ، أعني قضية أنّ ما بالغير لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات ، لأنّا إذا قلنا إنّ حجّية العلم غير ذاتية وأنّها محتاجة إلى دليل ، فذلك الدليل لا يمكننا إثبات حجّيته إلاّ بالعلم ، وحينئذ يلزم الدور ، لأنّ حجّية العلم موقوفة على الدليل ، وحجّية ذلك الدليل موقوفة على العلم بحجّيته ، التي هي عبارة أخرى عن حجّية العلم.

أمّا تقريب التسلسل فيه فهو أن يقال : إنّ حجّية ذلك الدليل موقوفة على العلم بها ، وحجّية العلم بها موقوفة على الدليل وهكذا. لكن الظاهر أنّ العلم الواقع في هذه السلسلة هو نفس العلم الذي أردنا إثبات حجّيته لا شيئا آخر ، فلا يكون في البين إلاّ إشكال الدور ، فتأمّل.

وأمّا الجهة الثالثة : فقد عرفت تفصيل الكلام فيها فيما قدّمناه (٣) وأنّ ما

__________________

(١) في الصفحة ٣٦٤.

(٢) في الصفحة : ٣٦٦.

(٣) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٥٤.

٣٧٣

في الحاشية (١) غير متوجّه على ما أفاده شيخنا قدس‌سره بعد الالتزام بكون حكم العقل بقبح التشريع وحرمته الشرعية من قبيل ما هو متحقّق وجدانا بملاك واحد في مورد العلم بالعدم ومورد عدم العلم ، فلا يجري فيه استصحاب العدم أعني عدم الحجّية ، إذ لا يترتّب عليه إلاّ ما هو متحقّق وجدانا من القبح والحرمة الشرعية المنوطين بعدم العلم والعلم بالعدم بملاك واحد.

ومن الغريب ما في آخر هذه الحاشية من قياس ما نحن فيه بالبراءة العقلية والاباحة الشرعية الظاهرية ، وذلك لوضوح أنّ الاباحة الشرعية الظاهرية حكم من الأحكام الشرعية ، وأين ذلك من مجرّد قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ فكيف تكون الاباحة الشرعية الظاهرية من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجدانا ، أو من قبيل اللغوية كما هو ظاهر الحاشية ، فإنّ اللغوية إنّما تكون فيما لو كان الأثر الحاصل بأصالة الحل هو بعينه حاصلا بقاعدة قبح العقاب من دون بيان ، والمفروض أنّ أثرهما مختلف. واشتراكهما في مطلق تجويز الاقدام لا يوجب ذلك مع فرض كون أحدهما عقليا والآخر شرعيا ، فتأمّل.

نعم ، استصحاب الحجّية نافع في المقام ، لأنّه يخرجه عن موضوع عدم إحراز الحجّية أو إحراز عدمها إلى إحراز الحجّية ، الموجبة لخروجه عن موضوع المنع عن التشريع عقلا وشرعا. أمّا الأمارة القائمة على عدم الحجّية فقد تعرّض شيخنا قدس‌سره في أوائل مباحث حجّية الظنّ للفرق بينها وبين استصحاب عدم الحجّية ، فراجعه بما علّقناه عليه هناك (٢) وتأمّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٣٦.

(٢) راجع فوائد الأصول ٣ : ١٢٨ ، وله قدس‌سره حاشية على ذلك وحاشية أخرى مفصّلة على فوائد الأصول ٣ ( الهامش ) : ١٣٠. وستأتي الحاشيتان في المجلّد السادس من هذا الكتاب.

٣٧٤

[ مبحث المفاهيم ]

قوله : والمفهوم بهذا الاعتبار يختصّ بالمفاهيم الافرادية ، والمفهوم المقابل للمنطوق الذي هو محلّ الكلام يختصّ بالجمل التركيبية ، والدلالة مشتركة بين القسمين ... الخ (١).

عقّبه في الطبعة الجديدة بقوله : فلفظ المفهوم حينئذ يكون مشتركا لفظيا بين المعنيين ، بخلاف لفظ المدلول فإنّه مشترك معنوي بينهما الخ.

كون لفظ المفهوم مشتركا لفظيا بينهما محلّ تأمّل ، لعدم ثبوت اصطلاح جديد ، بل الظاهر أنّه باق على ما هو عليه من كونه اسم مفعول من الفهم ، غايته أنّه قد يطلق على ذلك المعنى البسيط المعبّر عنه بالصورة العقلية من الشيء ، باعتبار كونه مفهوما من اللفظ الدالّ عليها ، وأخرى يطلق على الجملة المستفادة من جملة أخرى بطريق الملازمة ، باعتبار أنّها يفهم محصّلها من تلك الجملة. والأمر في ذلك سهل.

ثمّ لا يخفى أنّ المرحوم الشيخ محمّد علي قال ما هذا لفظه : والمفهوم كما يكون في الألفاظ الأفرادية كذلك يكون في الجمل التركيبية الخ (٢). وفيه تأمّل ، فإنّ مرجعه إلى إنكار القضية العقلية ، التي هي على طبق القضية الخارجية المحكية بالقضية اللفظية.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٧٦.

٣٧٥

قوله : وتدخل الدلالة التضمّنية بهذا الاعتبار في الدلالة الالتزامية ، ولا تكون قسما آخر في قبالها ، إذ اللازم في الدلالة الالتزامية كون انفهام شيء لازما لانفهام الموضوع له ، كما في مثال العمى والبصر ، لاكون ما يفهم من اللفظ لازما للموضوع ... الخ (١).

لا يخفى أنّ ملاك الملازمة بين الدلالتين ـ أعني المطابقة والالتزام ـ هو كون المعنى في الثانية خارجا لازما للمعنى في الأوّل ، على وجه يكون تصوّر الأوّل موجبا لتصوّر الثاني. وهذا التفسير لا ينطبق على جزء المعنى ، لكونه داخلا فيه ، ولأجل كون الجزء داخلا في الكلّ يكون انفهامه في ضمن انفهام الكل ، كما أنّ إرادة المتكلّم له تكون في ضمن إرادته للكل ، فهي في ذلك نظير وجوب الجزء في ضمن وجوب الكلّ ، لا الوجوب المدّعى ترشّحه عليه من وجوب الكل ، أعني بذلك الوجوب الغيري.

ومن الواضح أنّ انفهام الجزء لو كان بطريق الالتزام لكان متأخرا رتبة عن انفهام الكل ، كتأخّر الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي الطارئ على الكلّ ، وقد عرفت أنّه يكون انفهامه في ضمن انفهام الكلّ فيكون في رتبته ، إذ ليس هو انفهاما آخر متأخّرا عن انفهام الكل ، ولأجل ذلك نقول : إنّا لو قلنا إنّ مفاد الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك يكون دلالة الأمر الوجوبي على النهي عن الترك بالدلالة التضمّنية ، فتأمّل.

نعم ، إنّ المرحوم الشيخ محمّد علي قد نقل عنه قدس‌سره (٢) البرهان على إنكار الدلالة التضمّنية بما حاصله : أنّ المفهوم الذي هو المدرك العقلاني بسيط لا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٣ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٧٦.

٣٧٦

تركيب فيه. قلت : لا يخفى أنّ هذا البرهان مبني على أنّ ما تحكيه الألفاظ هو تلك الصور العقلية ، ويمكن منعه ، بل إنّ المحكي باللفظ والمقصود به هو المعنى الواقعي لا بقيد وجوده الذهني ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ أهل المنطق وإن ذكروا أنّ اللزوم المعتبر في الدلالة الالتزامية هو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، كالبصر بالنسبة إلى العمى ، فإنّ لفظ العمى يحدث معناه في ذهن السامع ، وحيث إنّ تصوّر معنى العمى لا ينفكّ عن تصوّر البصر قالوا إنّ دلالته عليه التزامية ، فلا يكون ملاك الدلالة الالتزامية عندهم هو الملازمة الواقعية بين المعنيين ، بل ملاكه هو الملازمة بين التصوّرين. ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتأتّى في الدلالة التصوّرية التي هي عبارة عن حضور المعنى في ذهن السامع ، دون الدلالة التصديقية التي هي عبارة عن الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك المعنى اللازم. ولا دخل لذلك بالتلازم بين التصوّرين. ومن الواضح أنّ هذه الدلالة لا دخل لها بالدلالة الالتزامية التي اصطلح عليها أهل المنطق ، وجعلوا الملاك فيها هو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فإنّ تلك الملازمة لا دخل لها بعالم الارادة ، ( إذ الغالب فيها أنّ المتكلّم لا يكون مريدا للازم وإن كان ذلك اللازم يحضر في ذهن السامع لكن لا يحكم السامع بأنّ المتكلّم أراد ذلك اللازم ) وإلاّ لكان قوله تعالى : ( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى )(١) دالا على أن جاءه البصير.

وهناك فرق آخر بين الدلالة الالتزامية المصطلحة لأهل المنطق وبين ما نحن فيه من المفهوم ، فإنّ تلك في المفردات باعتبار تلازمها في مقام التصوّر ، وهذه في الأحكام الخبرية أو الانشائية باعتبار تلازمها في عالم التحقّق في وعاء اعتبارها ، ولا معنى لأن يقال إنّ مفهوم الجملة الثانية ملازم لمفهوم الجملة الأولى

__________________

(١) عبس ٨٠ : ٢.

٣٧٧

الموجود في عالم المنطوق لزوما ذهنيا بيّنا بالمعنى الأخصّ ، خصوصا في مثل مفهوم حرمة الضرب بالنسبة إلى حرمة قول أف ، بل إنّ هذا اللزوم لزوم خارجي بين الحكمين.

وهكذا الحال في مفهوم الحصر ، مثل ما لو حصر جواز الفعل المحرّم في حدّ نفسه بصورة الاضطرار بمثل قوله : إذا اضطررت جاز لك شربه ، أو إنّما يجوز عند الاضطرار ، فإنّ هذا الحكم وهو الحكم بالجواز بنحو الحصر يلزمه واقعا انتفاء الجواز في غير المورد المحصور فيه. وهكذا سائر المفاهيم. ولا دخل لذلك باللزوم الذهني البيّن بالمعنى الأخصّ الذي هو مجرّد التلازم بين التصوّرين.

وبناء على هذا الذي حرّرناه يكون النزاع في أنّ الجملة هل لها مفهوم أو لا ، راجعا إلى أنّها هل تدلّ على خصوصية يكون تحقّق تلك الخصوصية في وعائها ملزوما لتحقّق المفهوم في وعائه.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفيد في الطبعة الجديدة بقوله : إنّ النزاع في حجّية المفهوم وعدمها إنّما هو نزاع في وجود المفهوم وعدمه لأنّ النزاع في الحقيقة إنّما هو في دلالة اللفظ عليه بنحو الالتزام وعدمها (١). وذلك لأنّ النزاع ليس في دلالة اللفظ على المفهوم ابتداء ، بل إنّما هو في دلالته على ما هو ملزوم ذلك المفهوم ، إذ بعد دلالته على الملزوم يكون لازمه الذي هو المفهوم متحقّقا قهرا. مثلا دلالة الجملة الفلانية على أنّ الجهة الفلانية علّة للحكم على نحو الانحصار يلزمه انتفاء ذلك الحكم عند انتفائها.

وإنّما نسمّي هذه الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء لفظية باعتبار دلالته على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٥.

٣٧٨

ملزوم الانتفاء عند الانتفاء ، بخلاف دلالة مثل كفّر على سببية الوطء للكفّارة ، ودلالة الآيتين على أقل الحمل ، فإنّها إنّما تكون بعنايات أخر وجهات أجنبية عن الدلالة على الملزوم الموجبة لانتقال الذهن إلى لازمه ، وبناء على ذلك يكون دلالة الأمر بالشيء على إيجاب مقدّمته ونحو ذلك من قبيل الدلالة اللفظية بهذه العناية.

والذي تلخّص من هذا المبحث : هو أنّ دلالة اللفظ على ما هو لازم معناه بالمعنى الذي ذكروه للبين بالمعنى الأخصّ إنّما هي من محض حضور اللازم في ذهن السامع عند حضور ملزومه في الذهن بواسطة سماع اللفظ ، ليست من الدلالة التصديقية التي مرجعها إلى الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك اللازم. وحينئذ يقع الكلام في أنّه هل لنا دلالة تصديقية لفظية التزامية ، بحيث يكون منشأ الحكم بأنّ المتكلّم أراد ذلك اللازم هو الملازمة بين المعنيين؟

والظاهر أنّه لا وجود لمثل هذه الدلالة ، نعم بعد تحقّق الملازمة بين المعنيين لو دلّ الكلام اللفظي على تحقّق الملزوم ننتقل نحن إلى أنّ لازم ذلك المعنى قد تحقّق أيضا بعد ثبوت الملازمة بينهما. ومن الواضح أنّ هذا الانتقال ليس من الدلالة اللفظية التصديقية في شيء. أمّا تحقّق الملازمة بين المعنيين وبما ذا تثبت به تلك الملازمة بينهما فذلك أمر آخر ، وربما كان مجرّد تصوّر الملزوم كافيا في إثبات الملازمة بينهما ، كما يقال إنّ تصوّر معنى الاثنين كاف في الحكم بأنّها ضعف الواحد (١) وربما سمّي هذا النحو من اللزوم بأنّه البيّن بالمعنى الأخصّ ، وربما كان ذلك غير كاف في الحكم باللزوم بينهما ، بل يكون الحكم

__________________

(١) ولكن لقائل أن يقول : إنّ ذلك ليس من قبيل الملازمة ، بل إنّ أحدهما عين الآخر ، وما ذلك إلاّ من قبيل تغيير العبارة نحو أنت وابن أخت خالتك [ منه قدس‌سره ].

٣٧٩

باللزوم بينهما متوقّفا على تصوّر اللازم أيضا ، ككون الكل أعظم من الجزء ، فإنّ هذا اللازم للكل ـ وهو كونه أعظم من الجزء ـ لا يكفي في الحكم بلزومه للكل مجرّد تصوّر الكل ، بل لا بدّ في ذلك من تصوّر الجزء ، بأن تتصوّر الكل وتتصوّر الجزء وبعد تصوّرك الطرفين تحكم حينئذ بأنّ الكل أعظم من الجزء. ويسمّى هذا النحو باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، وتسمّى هذه القضية القائلة بأنّ الكل أعظم من الجزء بأنّها من القضايا التي قياساتها معها ، لكفاية تصوّر طرفيها في التصديق بها.

وربما كان الحكم باللزوم بينهما محتاجا إلى تصوّر النسبة بينهما مضافا إلى تصوّرهما ، فيكون الحكم باللزوم بينهما محتاجا إلى تصوّرات ثلاثة : تصوّر الملزوم وتصوّر اللازم وتصوّر النسبة بينهما ، مثل كون الاثنين ربع الثمانية ، فإنّ الحكم على الاثنين بأنّها ربع الثمانية يحتاج إلى تصوّر الاثنين وتصوّر الثمانية وتصوّر النسبة بينهما. والذي يظهر من التهذيب (١) أنّ هذا هو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ، لكن الذي ذكره في الشمسية (٢) أنّ اللزوم بالمعنى الأعمّ هو السابق ، أعني ما توقّف الحكم به على تصوّر الطرفين فقط.

ثمّ إنّه ربما كان الحكم بالملازمة متوقّفا على جهات أخر زائدة على تصوّر الطرفين وتصوّر النسبة بينهما ، وهذا هو غير البيّن بالمعنى الأعمّ.

وعلى كلّ حال ، فالذي ينبغي أن يسمّى بالبيّن بالمعنى الأخصّ هو الذي يكفي في الحكم باللزوم فيه مجرّد تصوّر الملزوم ، فإنّ ما يكفي في الحكم باللزوم فيه مجرّد التصوّر الواحد الذي هو تصوّر الملزوم أخصّ ممّا يحتاج إلى

__________________

(١) الحاشية على تهذيب المنطق : ٤٦.

(٢) شرح الشمسية : ٤٤.

٣٨٠