أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

بواجب شرعي ، إذ ليس هناك تكليف آخر غير نفس الحرمة المذكورة. هذا هو مراد صاحب الكفاية قدس‌سره وقد أوضحه بحاشية أخرى (١) له في هذا المقام على قوله في المتن : وليس التخلّص إلاّ منتزعا عن ترك الحرام المسبّب عن الخروج لا عنوانا له (٢).

فهو قدس‌سره ينكر أنّ في البين واجبا آخر غير ترك الحرام الذي عرفت أنّه لا تكليف في ناحيته إلاّ حرمة ذلك المتروك ، لكن المحشّي التزم بأنّ في البين واجبا وهو التخلية ، ومع ذلك جرى على ما في حاشية الكفاية من انكار انطباقه على الخروج ، وانكار كون الخروج مقدّمة له ، وأنّه إنّما يكون مقدّمة للكون خارج الدار الذي هو ملازم لذلك الواجب. ويا ليته حينما جرى على هذا المقدار قد أخذ الباقي ونفى وجوب شيء في البين ، فإنّه لو صنع ذلك لم يرد عليه شيء ممّا أوردناه.

وقال في الحاشية الثانية ما هذا نصّه : قد عرفت ممّا علّقت على الهامش أنّ ترك الحرام غير مسبّب عن الخروج حقيقة ( لنقول إنّ الخروج مقدّمة لترك الحرام لعدم كون ترك الحرام مسبّبا عنه حقيقة ) وإنّما المسبّب عنه ( حقيقة ) إنّما هو الملازم له ( أي لترك الحرام ) وهو ( أعني ذلك الملازم لترك الحرام ) الكون في خارج الدار ( وحينئذ يكون الخروج مقدّمة للكون خارج الدار ، والكون خارج

__________________

(١) وينبغي بل يلزم مراجعة هذه الحاشية المشار إليها ، فإنّها فيما ذكرناه من معنى الحاشية التي نقلناها أوضح ، فإنّه صرّح فيها بأنّه لا دليل في البين إلاّ على حرمة الغصب ، وأنّه لا دليل على وجوب الخروج ليجب اعماله كاعمال النهي عن الغصب ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، فراجع الحاشية وتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) كفاية الأصول : ١٧٣.

١٦١

الدار ملازم لترك الحرام الذي هو الكون في داخلها ، فليس ترك الحرام مسبّبا حقيقة عن الخروج ) نعم يكون ( ترك الحرام ) مسبّبا عنه ( أي عن الخروج ) مسامحة وعرضا ( لكونه ملازما لمسبّبه الحقيقي الذي هو الكون خارج الدار ) وقد انقدح بذلك أنّه لا دليل في البين إلاّ على حرمة الغصب ( ولكن لا يخفى أنّه لم ينقدح من ذلك إلاّ عدم كون الخروج مقدّمة لترك الحرام ، وإنّما هو مقدّمة لملازمه الذي هو الكون خارج الدار. فالذي ينبغي حينئذ هو ابدال هذه العبارة بقوله : وقد حقّق في محلّه أنّ ترك الحرام ليس بواجب ، فلا يكون ترك الغصب واجبا ، إذ لا دليل إلاّ على حرمة الغصب وأنّ كلا من البقاء والخروج غصب ، وحينئذ يكون حرمة كلّ منهما مع الانحصار بسوء الاختيار فيهما ) المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب أنّه أقلّ المحذورين وأنّه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر ( ككونه بنفسه تركا للحرام أو كونه مقدّمة لترك الحرام ) فحينئذ يجب اعماله أيضا ( أي لو دلّ الدليل على وجوب الخروج لقلنا بأنّه يجب اعمال الوجوب والحكم بأنّه واجب ) بناء على القول بجواز الاجتماع كاعمال النهي عن الغصب ليكون الخروج ( حينئذ ) مأمورا به ومنهيا عنه (١).

لا يقال : إنّه لو كان في مكان وعلم أنّه لو بقي في ذلك المكان لابتلي بالمحرّم كسماع الغيبة مثلا ، فإنّه يجب عليه الخروج من ذلك المكان لئلاّ يقع في ذلك المحرّم ، وحينئذ نقول إنّه لو توقّف امتثال النهي عن شيء على فعل وجودي كان ذلك الفعل الوجودي واجبا ، وليس ذلك مبنيا على أنّ ترك الحرام واجب ، بل على أنّ امتثال التكليف سواء كان هو الوجوب أو كان هو النهي والحرمة لو توقّف

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٧٣ ( الهامش ).

١٦٢

على فعل وجودي مقدور كان ذلك الفعل واجبا غيريا من باب المقدّمة لامتثال ذلك التكليف ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ امتثال النهي المتوجّه إلى الكون البقائي متوقّف على الخروج فيكون الخروج واجبا.

لأنّا نقول : لا دليل على وجوب الخروج عن المكان الذي يبتلي فيه باستماع الغيبة ، ولا معنى للوجوب الترشّحي من ناحية الحرمة ، فإنّ الحرمة إنّما يترشّح منها التحريم ، كما أنّ الوجوب النفسي لا يترشّح منه الحرمة وإنّما يترشّح منه الوجوب ، وحينئذ فأقصى ما يكون في البين هو أن يكون بقاؤه في ذلك المكان محرّما ، لكون بقائه فيه موقعا له في الحرام ، وإنّما يلزمه الخروج لا من باب أنّه واجب ولو غيريا ، بل من باب أنّ تركه واستمرار البقاء موجب لوقوعه في المحرّم.

وحينئذ ففيما نحن فيه نقول : إنّ تركه الخروج من الدار المغصوبة يكون حراما لكونه مؤدّيا إلى البقاء ، بل هو بعينه البقاء الذي هو الحرام ، فلا يرد أنّه كيف يكون ترك الخروج من الدار المغصوبة حراما مع فرض كون الخروج المذكور بنفسه حراما ، لنحتاج إلى الجواب عن ذلك بأنّ المصحّح له هو سوء الاختيار غايته أنّه يسقط الخطاب بكلّ من الحرمتين ، إذ لا حاجة إلى ذلك بعد فرض كون ترك الخروج هو بعينه البقاء الذي هو المحرّم ، لا شيء آخر مؤدّ إلى المحرّم ، نعم يتّجه الإشكال فيه من ناحية أخرى ، وهي أنّه كيف يكون الخروج حراما مع كون البقاء حراما ، وحينئذ يجاب عنه بأنّ ذلك من جهة سوء الاختيار الذي لا يوجب إلاّ سقوط الخطاب.

نعم ، لو قلنا فيما تقدّم من المثال إنّه يجب الخروج عن المكان الذي يبتلي

١٦٣

فيه باستماع الغيبة فيه وجوبا شرعيا غيريا توصّلا إلى امتثال النهي عن الغيبة لا أنّ البقاء محرّم ، وقلنا فيما نحن فيه بمثل ذلك بأن نقول إنّ الحرام الزائد في البقاء يتوقّف امتثاله على الخروج ، فيكون الخروج واجبا مقدّمة لامتثال النهي المتعلّق بذلك الزائد.

وبعبارة أخرى : أنّ حرمة ذلك الزائد والنهي عنه تكون موجبة لتوجّه الأمر الغيري إلى الفعل الوجودي الذي هو الخروج ، المتوقّف عليه امتثال ذلك النهي عن التصرّف الزائد للبقاء على التصرّف الخروجي ، لكن لو كان لذلك الشخص فعلان أحدهما محرّم والآخر مباح كان الأمر الغيري متوجّها إلى ذلك المباح دون المحرّم ، ولو انحصر بالمحرّم كان من التزاحم بين حرمة ذلك الزائد وحرمة ذلك الفعل المحرّم ، نظير ما لو انحصرت مقدّمة الواجب بفعل الحرام ، ومع فرض كون ذي المقدّمة الذي هو حرمة الزائد أهمّ لكون المخالفة فيها أكثر يسقط التحريم عن مقدّمتها ، لكن ذلك إذا لم يكن الانحصار بسوء الاختيار ، أمّا لو كان بسوء الاختيار كما فيما نحن فيه ، لأنّه بسوء اختياره جعل امتثال ذلك النهي المهمّ متوقّفا على ارتكاب الحرام ، فلا أثر لذلك الانحصار إلاّ سقوط كلا الخطابين مع بقاء كلّ منهما على ما هو عليه من المبغوضية واستحقاق العقاب ، نظير ما ذكرناه في من أقدم بسوء اختياره على جعل حفظ نفسه متوقّفا على ارتكاب الحرام أعني شرب الخمر ، فإنّ ذلك لا يوجب إلاّ سقوط الخطاب بكلّ منهما ، أمّا الشرب فلحكم العقل بارتكابه لكونه أقلّ القبيحين ، وأمّا حفظ النفس فلأنّه مع مبغوضية ما يتوقّف عليه لا يمكن توجّه الخطاب به ، وحينئذ يكون الخطاب بكلّ منهما ساقطا ، ويكون كلّ منهما مبغوضا فعلا مستحقّا عليه العقاب فتأمّل.

١٦٤

قوله : ثمّ إنّه إذا بنينا على أنّ الشارع لا يريد وقوع التصرّف في مال الغير بدون إذنه حتّى إذا كان بعنوان الخروج كما هو ليس ببعيد ـ إلى قوله : ـ فإنّ الشارع حيث إنّه لا يرضى بوجود شرب الخمر من أي شخص كان ، وليس حاله حال ترك الصلاة من الحائض حتّى لا يكون فيه ملاك المبغوضية ، ولذا لو توسّلت المرأة إلى الحيض لم يكن في ذلك بأس أصلا ، فلا محالة يحرم المقدّمة التي بها يضطرّ المكلّف إلى شرب الخمر ، ولكن بعد عصيان هذا التكليف التحريمي لا يقع الشرب إلاّ محبوبا عقلا وشرعا ، فيكون حال الخروج أيضا كذلك ... الخ (١).

هذه الجمل أعني قوله : إنّ الشارع لا يريد وقوع التصرّف في مال الغير بدون إذنه حتّى إذا كان بعنوان الخروج كما هو ليس ببعيد. وقوله : حتّى لا يكون فيه ملاك المبغوضية ، لا تخلو من تأمّل.

وبمثل هذه الجمل عبّر المرحوم الشيخ موسى ، فإنّه قال : نعم يمكن أن يدّعى أنّ بعض الأمور ممّا لا يرضى الشارع بإيجاده في الخارج بأي عنوان ، فإذا ارتكب الفاعل المختار ما يوجب الوقوع فيه فالموجب له يصير حراما ، وفي المقام يصير الدخول محرّما من جهتين ، من جهة أنّه بنفسه تصرّف ومن جهة استلزامه لتصرّف زائد ، ولكن هذا أيضا لا يفيد ، لمبغوضية الخروج كما هو المدّعى ، انتهى.

وأهون العبارات إشكالا ما حرّرته أنا عنه قدس‌سره في هذا المقام وهذا نصّه :

وحيث قد ظهر لك أنّ الخروج أجنبي بالمرّة عن قاعدة الامتناع بالاختيار

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٤ ـ ١٩٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٦٥

فنقول : إنّ الدخول وإن ترتّب عليه الاضطرار إلى ذلك المقدار من التصرّف الغصبي أعني التصرّف الخروجي ، إلاّ أنّه ليس مطلق التصرّف في المغصوب محرّما ، بل إنّه إذا كان بعنوان التخلّص وردّ المغصوب لم يكن محرّما ، بل يكون واجبا بحكم العقل ، وإن كان الضمان باقيا ، إذ لا ملازمة بين بقاء الضمان وبقاء التحريم ، حيث إنّ الموجب لانقطاع الضمان إنّما هو التأدية المأخوذة غاية للضمان في ضمان اليد ، فما لم تحصل التأدية لا ينقطع الضمان وإن انقطع التحريم بواسطة الانقلاب إلى ما يحكم العقل بحسنه ولزومه.

ثمّ إنّ هذا الانقلاب ليس من قبيل الانقلاب الموضوعي كالحاضر والمسافر والحائض والطاهر ، بحيث إنّه يسوغ للشخص أن يجعل نفسه مسافرا بعد أن كان حاضرا ، أو أنّ المرأة تشرب ما يوجب حيضها بعد أن كانت طاهرا ، فإنّ ذلك مباح لا ريب فيه ، بل في المقام شيء آخر غير مجرّد تبديل الموضوع ، وهو أنّه بعد أن علمنا أنّ الشارع المقدّس يمنع من شرب الخمر مثلا كان كلّ ما أوقع فيه ممنوعا منه عنده. وهكذا الحال في التصرّف الغصبي ، فإنّه لمّا منع عنه الشارع كان كلّ ما يوجب الوقوع فيه ممنوعا منه عنده (١).

__________________

(١) وهذه الجمل موجودة في عبارة المرحوم الشيخ محمّد علي [ فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٢ ]. ولا بدّ أن يكون المراد هو أنّ كلّ ما يوقع في شرب الخمر يكون حراما ولو كان ذلك الشرب الذي وقع فيه واجبا. وهكذا الحال في حرمة كلّ ما يوقع في الغصب فإنّها شاملة لما إذا كان الغصب الذي وقع فيه واجبا ، لكونه مصداق التخلّص. والمراد من علمنا بأنّ الشارع يمنع من شرب الخمر هو العلم بذلك على نحو الاجمال ، فلا يلزمه كون شربه للتداوي حراما.

ولأجل امكان إصلاح هذه العبارة بهذه الجهة قلنا إنّها أخف العبارات إشكالا ، ولكن

١٦٦

ثمّ إنّ نسبة المعلول إلى العلّة أنواع :

الأوّل : ما هو من قبيل العناوين التوليدية.

الثاني : ما يكون ترتّب الفعل عليه قهريا بلا اختيار من الفاعل ، كما في مثال الصبّ وجريان الماء إلى المكان المغصوب.

الثالث : ما يكون اختيار الفعل مترتّبا عليه ، كما في مثل شرب الدواء الموجب للمرض المهلك المتوقّف علاجه والشفاء منه على شرب الخمر ، فإنّ شرب ذلك الدواء يكون علّة لاختيار المكلّف شرب الخمر لحفظ نفسه ، والدخول بالقياس إلى ذلك المقدار من التصرّف المضطرّ إليه الممتنع تركه بعد الدخول يكون من النحو الثاني ، وبالنسبة إلى ذلك الخروج يكون من قبيل النحو الثالث.

وحينئذ يكون الدخول محرّما من جهتين ، الأولى : من جهة أنّه بنفسه تصرّف في المغصوب فيكون محرّما بنفسه ، الثانية : من جهة كونه علّة لذلك المقدار من التصرّف الغصبي الذي اضطرّ إليه واحتاج إلى صرفه في الخروج كان محرّما نفسيا بالغير ، إلاّ أنّ حرمته من هذه الجهة لا توجب حرمة الخروج أو كونه مبغوضا أو معاقبا عليه ، كما أنّ حرمة شرب الدواء الموجب للمرض المنحصر علاجه بشرب الخمر لا يكون موجبا لحرمة شرب الخمر للتداوي ، بل هو باق على ما هو عليه من كون شربه تداويا وحفظا للنفس المحترمة ليس بحرام بل واجب عقلا ، فكذلك الخروج الذي هو التخلّص من الغصب وردّ المغصوب إلى

__________________

مع هذا الإصلاح فإنّ عبارة المرحوم الشيخ محمّد علي أحسن ، لكون آخرها صريحا في هذا الاصلاح ، وعلى أي حال أنّ هذه الجمل الموجودة في هذا الكتاب ونحوها لا تخلو من تأمّل [ منه قدس‌سره ].

١٦٧

أهله ، يكون باقيا على ما هو عليه من الحسن العقلي وعدم التحريم الشرعي ، وإن كان الموجب للوقوع فيه أعني الدخول محرّما من جهة كونه موقعا فيه ، انتهى.

فإنّها بظاهرها مناقضة لما يدّعيه شيخنا من كون الخروج وشرب الخمر لحفظ النفس محبوبا شرعا وحسنا عقلا ، والالتزام بهذه الجمل محتاج إلى دعوى الانقلاب ، بأن يدّعى أنّ الخروج قبل الدخول يكون مبغوضا لكنّه بعد الدخول ينقلب إلى المحبوبية.

والذي هو مراد شيخنا قدس‌سره في هذا المقام هو دفع ما ربما يستبعد هنا من أنّ لازم كون الشرب محبوبا هو أن لا يكون المقدم على ما يوجب اضطراره إلى شرب الخمر معاقبا أصلا ، وهكذا الحال في المقدم على الدخول الموجب لمحبوبية الخروج أن لا يكون معاقبا من ناحية ذلك الخروج أصلا ، ويكون حالهما حال إقدام المرأة على ما يوجب وقوعها في الحيض الذي يوجب ترك الصلاة ، فأراد قدس‌سره الجواب عن هذا الاستبعاد بالالتزام بحرمة المقدّمة الموقعة في ذلك ، وفرق بين أمثال هذه المقامات ومقام الحيض بأنّ الثاني من قبيل تبدّل الموضوع بخلاف الأوّل. وحاصل الفرق هو ما أشار إليه المرحوم الشيخ محمّد علي في تحريراته ، فإنّه قال : فالعقاب لو كان إنّما يكون في شرب ذلك الدواء لو كان شرب الخمر من الأمور التي لم يرد الشارع وقوعها في الخارج لما فيه من المفسدة ، فإنّه حينئذ يحرم على الشخص إدخال نفسه في موضوع يوجب شرب الخمر ، وليس ذلك كشرب المرأة الدواء الموجب للحيض المستلزم لعدم أمرها بالصلاة ، حيث إنّه يمكن القول بجواز شربها للدواء ، إذ لم يعلم من مذاق الشارع مبغوضية إيقاع الشخص نفسه في موضوع يوجب عدم تكليفه بالصلاة ، وهذا بخلاف شرب الخمر ، فإنّ إدخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه

١٦٨

بشرب الخمر مبغوض للشارع ، كما أنّ إدخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه بالتصرّف في مال الغير مبغوض للشارع (١).

ويمكن أن يقال إنّ موقع قوله : كما هو ليس ببعيد (٢) ، هو هذه الجهة أعني دعوى حرمة المقدّمة التي توقعه فيما يوجب تكليفه بشرب الخمر حفظا لنفسه ، مع كون الشرب في ذلك الحال حسنا عقلا ومحبوبا شرعا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ عدم الحيض شرط ملاكي ، ولأجل ذلك جاز للمرأة أن تعمل ما يوجب إيقاعها فيه ، بخلاف مثل مطلق الطهور فإنّه شرط خطابي ، ولأجل ذلك كانت المرأة غير معاقبة على ذلك العمل ولا على ترك الصلاة ، وهذا بخلاف ما لو تعمّد ما يوجب عدم تمكّنه من مطلق الطهور ، فإنّه معاقب على ترك الصلاة من حين إقدامه عليه وإن سقط به الخطاب بها مع بقاء ترك الصلاة مبغوضا بحاله.

وحينئذ نقول : إنّ التصرّف الخروجي وشرب الخمر للعلاج وحفظ النفس ، وكذا ترك الصوم لمن أوقع نفسه في مرض يضرّه فيه الصوم ، إن كانت هذه الأمور من قبيل صلاة الحائض لم يكن المقدم على مقدّماتها مستحقّا للعقاب ، لا على المقدّمة ولا على المخالفة في هذه الأمور ، وإن كانت من قبيل صلاة فاقد الطهورين كان مستحقّا للعقاب على المخالفة فيها لا على المقدّمة ، فإنّ هذا الباب حينئذ من باب المقدّمات المفوّتة والتكليف فيها طريقي ، والعقاب فيها إنّما يكون على مخالفة التكاليف التي تؤدّي تلك المقدّمات (٣) إلى الاضطرار إلى

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) والذي تقدّم نقله عن أجود التقريرات في ص ١٦٥.

(٣) ينبغي هنا مراجعة ما أفاده شيخنا قدس‌سره في بحث المقدّمات المفوّتة وما علّقناه عليه [ منه قدس‌سره ].

١٦٩

مخالفتها ، ودخلت في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وهذا هو عين ما يدّعيه صاحب الكفاية.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المقدّمة الموجبة للوقوع في الاضطرار إلى شرب الخمر لحفظ النفس ليست حرمتها من ناحية الاضطرار إلى شرب الخمر ، الموجب لحفظ النفس الذي هو حسن على كلّ حال ، بل إنّ حرمتها من ناحية أنّها مؤدّية إلى هلاك النفس ، غايته أنّه بعد الوقوع في الإشراف على الهلاك يكون شرب الخمر حسنا ، لأنّه رافع لذلك الهلاك (١).

وهكذا الحال في الدخول ، فإنّه مع حرمته نفسا يكون حراما باعتبار ما يترتّب عليه من دوام الغصب ، غايته أنّ علاج ذلك المحذور يكون بالخروج والتخلية لو أراد التخلّص بعد الوقوع في تلك الورطة ، فيكون الخروج حينئذ حسنا عقلا وواجبا شرعا. وهكذا المقدم على ما يوجب مرضه الذي لا يتمكّن معه من الصوم ، فإنّ إقدامه على ما يوجب مرضه يكون حراما لكونه موقعا له في المرض ، غايته أنّ حكم ذلك المرض هو عدم وجوب الصوم.

نعم ، لو لم تكن تلك المقدّمة موجبة لوقوعه في المرض ، بل كانت موجبة لكون الصوم مضرّا له مع فرض كونه غير مريض ، لكان حرمتها طريقية من ناحية

__________________

(١) لا يقال : بعد فرض أنّ الداخل بسوء اختياره قد اضطرّ إلى مقدار التصرّف الخروجي ، فلم لا يصحّ كونه مأمورا به بنحو الترتّب ، بأن يقال إن ارتكبت الدخول واضطررت إلى ذلك المقدار فاجعله خروجا ، فيكون الاتيان بالخروج عصيانا للنهي السابق واطاعة للأمر اللاحق.

لأنّا نقول : إنّ هذا العصيان بنفسه هو مورد إطاعة اللاحق ، فيكون الأمر به على تقدير العصيان المذكور تحصيلا للحاصل [ منه قدس‌سره ].

١٧٠

استلزامها عدم القدرة على الصوم ، فيكون ترك الصوم في ذلك نظير ترك الصلاة لمن أقدم على اعدام الطهورين في كون ذلك الترك مبغوضا ، وإن كان الخطاب به ساقطا. ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره من الالتزام بحرمة المقدّمة مع الالتزام بحسن ما تؤدّي إليه من شرب الخمر العلاجي أو الخروج التخلّصي ، لكن العبائر المنقولة ـ حتّى ما حرّرته أنا عنه قدس‌سره فإنّه قريب ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي ـ لا يظهر منها ذلك ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرناه في مسألة الصوم لا يخلو من إشكال ، إذ ليس حكم المريض بما أنّه مريض هو ترك الصوم ، وإن كان ذلك هو الظاهر البدوي من الآية الشريفة (١) حيث جعلته في مقابل المسافر ، بل إنّه إنّما يكون حكمه ترك الصوم باعتبار كونه مضرّا له ، وحينئذ فلا فرق فيه بين الصورتين ، ويكون الالتزام بحرمة ذلك الشرب وحسن ترك الصوم ووجوب الافطار موردا للسؤال السابق ، وهو أنّ عدم الضرر إن كان شرطا ملاكيا كان حاله حال شرب المرأة الدواء للحيض ، وإن كان أجنبيا عن الملاك كان حاله حال تعمّد فقدان مطلق الطهور فتأمّل جيّدا ، فإنّ المتّبع هو الدليل على حرمة ذلك التفويت ، ولا يمكن اتمام المسألة بحسب القواعد ، فراجع ما حرّرناه في مبحث المقدّمات المفوّتة.

قوله : وأمّا القبح الفاعلي المانع عن التقرّب فلا يكون فيما نحن فيه ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه قدس‌سره علّل الصحّة أوّلا على القول بالجواز ، وعلى القول بأنّ الخروج معاقب عليه وأنّه غير مأمور به ، بعد الحكم ببطلانها على القول بالامتناع ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٤ ، ١٨٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٩٧ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

١٧١

بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه قدس‌سره : بأنّ الصلاة لكونها إيمائية تكون أجنبية عن جهة الغصب.

قلت : لا يخفى أنّ الصلاة الإيمائية في حال الخروج إن كانت تعدّ تصرّفا في المكان ولو من جهة الإيماء إلى الركوع والسجود ، لم يكن فرق بين القول بالامتناع والقول بالجواز في الحكم ببطلانها ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّها لمّا كانت تصرّفا في المغصوب وقع التزاحم بين جهة الغصب وجهة الصلاة ، فيكون التكليف بها مع العقاب عليها تكليفا بغير المقدور ، ولا يبعد أن يقال بسقوط الأمر بالصلاة في هذه الصورة. وإن لم تكن الصلاة المذكورة تصرّفا في المغصوب كانت صحيحة على القول بالامتناع كالقول بالجواز.

وبالجملة : إن كانت هذه الصلاة داخلة في مسألة الاجتماع كان اللازم الحكم ببطلانها على كلا القولين ، وكان اللازم سقوط الأمر بالصلاة ترجيحا لجانب حرمة الغصب ، ولو مع عدم المندوحة كما هو المفروض ، وإن كانت خارجة عن مسألة الاجتماع كانت صحيحة على كلا القولين.

ثمّ إنّه قدس‌سره أفاد بعد ذلك أنّه لا ريب في كون الصلاة في حال الخروج تصرّفا في المكان المغصوب ، ولو من جهة كون القيام جزءا منها ، وهو قيام في المغصوب ، وحينئذ فإن قلنا بأنّ الخروج مأمور به وليس بمنهي عنه ولا معصية حكمية لم يكن إشكال في صحّة الصلاة المذكورة ، وإن قلنا بأنّه منهي عنه أو أنّه معصية حكمية كانت الصلاة في حاله داخلة في النزاع في مسألة الاجتماع ، فإن قلنا بالامتناع لم يمكن أن تكون تلك الصلاة مأمورا بها وكانت باطلة ، وإن قلنا بالجواز من حيث الجهة الأولى كانت الصلاة المذكورة صحيحة ، فإنّ صحّة الصلاة في مورد عدم المندوحة وإن كانت محلّ تأمّل وإشكال ، لوقوع التزاحم

١٧٢

بين الأمر والنهي فيها ، إلاّ أنّ ما نحن فيه أجنبي عن مورد عدم المندوحة ، لأنّ ذلك المورد إنّما يكون فيما إذا لم يكن واقعا في الغصب على كلّ حال ، فيدور الأمر بين ترك الصلاة وبين ارتكاب الغصب ، فيقع التأمّل والإشكال في أنّ أيّا منهما هو المقدّم ، أمّا ما نحن فيه فهو واقع في الغصب على كلّ حال ، فلا يكون من قبيل الدوران بين ترك الصلاة والغصب ، انتهى.

وبنحو هذا صرّح المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عنه قدس‌سرهما فإنّه قال : أمّا على الجواز فلأنّ المبغوضية غير مانعة عن قصد التقرّب ، لأنّ المبغوض يصدر عن المكلّف على أي حال صلّى فيه أم لم يصلّ ، فإيجاد فعل الصلاة ليس موجبا لايجاد المبغوض ، ولا يؤثّر اجتماع عنوان المبغوض معه.

قلت : لا يخفى أنّ القبح الفاعلي الذي كان هو المانع عنده قدس‌سره من الجواز من حيث الجهة الثانية متحقّق في هذه الصورة على الظاهر ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القبح الفاعلي إنّما يتحقّق بعد تقديم جانب النهي ، وحينئذ نقول في مورد عدم المندوحة لا ريب في وقوع التزاحم بين الأمر والنهي ، فإن قدّمنا جانب النهي تحقّق القبح الفاعلي وكان مقتضاه بطلان الصلاة وسقوط الأمر بها ، وإن قدّمنا جانب الأمر كانت الصلاة صحيحة وسقط النهي ، وإن تردّدنا في ذلك لأنّ كلا منهما ليس له البدل توقّفنا في الحكم بالصحّة إذا كان عدم المندوحة بمعنى أنّه لا يتمكّن من الصلاة إلاّ في المكان المغصوب ، ولم يكن في نفسه مضطرّا إلى ذلك المكان ، على إشكال في ذلك تقدّم ذكره (١) وبيان أنّ النهي في مثل ذلك يكون مقدّما على الصلاة إذ لا إشكال في أنّه لا يشرع له الغصب لأن يصلّي.

وأمّا إذا كان عدم المندوحة لأجل اضطراره إلى المكان المغصوب صلّى أو

__________________

(١) راجع الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : ٨٠ و١١١.

١٧٣

لم يصلّ ، فإن كان الاضطرار لا بسوء الاختيار كان موجبا لسقوط النهي ، فلا يكون في البين قبح فاعلي ولا نهي فعلي ولا نهي حكمي كي يكون مانعا من صحّة الصلاة ، فلا مانع فيه من صحّة الصلاة لا خطابا ولا ملاكا.

وإن كان الاضطرار بسوء الاختيار وقلنا إنّ الاضطرار المذكور لا يخرج الخروج عن كونه معصية حكمية ، وإن سقط به الخطاب الفعلي بالنهي ، وقعت المزاحمة بين كونه معصية حكمية وبين الأمر بالصلاة ، فإن قدّمنا جانب الأمر صحّت الصلاة المذكورة لعدم القبح الفاعلي ، وإن لم نقدّم جانب الأمر كما هو الظاهر كان القبح الفاعلي مانعا من صحّة الصلاة.

وكأنّه قدس‌سره يقدّم جانب الأمر استنادا في ذلك إلى أنّ الأمر إنّما تزاحمه المعصية الحكمية إذا لم يكن واقعا فيها على كلّ حال ، أمّا إذا كان واقعا فيها على كلّ حال فلا تكون مزاحمة للأمر ، لعدم الدوران بينها وبين امتثال الأمر.

وفيه تأمّل ، لأنّ مجرّد كونه واقعا في المعصية الحكمية على كلّ حال لو كان مخرجا للفعل عن كونه معصية كما في الاضطرار لا بسوء الاختيار ، لكانت غير مزاحمة للأمر ، لكونها ساقطة بواسطة الوقوع فيها على كلّ حال ، يعني أنّها ساقطة بالاضطرار [ لا ] بسوء الاختيار. أمّا إذا لم يكن وقوعه فيها على كلّ حال مخرجا للفعل عن كونه معصية حكمية ، كما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار ، فلا تخرج به المعصية الحكمية عن كونها مزاحمة للأمر ، ومانعة عن إمكان التقرّب بذلك الفعل ، لتحقّق القبح الفاعلي فيه المانع من صحّة الامتثال والتقرّب به.

فالذي ينبغي أن يقال في هذه الصورة هو بطلان الصلاة ، وسقوط الأمر بها في الوقت ولزوم قضائها في خارج الوقت سقوطا خطابيا ، فيكون مستحقّا

١٧٤

للعقاب أيضا على ترك الصلاة في وقتها ، كما أنّه مستحقّ للعقاب على ذلك المقدار من الغصب.

هذا هو عين ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره وعلّقته عليه في وقته ، نقلته على علاّته وإن كان مشتملا على ما لا دخل له في خصوص هذه المسألة التي نحن فيها ، ولم أغيّر شيئا منه سوى تبديل دام ظلّه بلفظ قدس‌سره.

وأمّا ما في هذا التحرير وغيره من التمسّك لصحّة الصلاة المذكورة بحديث إنّ الصلاة لا تسقط بحال (١) مع الاعتراف بالقبح الفاعلي ، ففيه تأمّل وإشكال ، بل هو ممنوع على الظاهر ، فإنّ هذا الحديث إنّما هو في مقام تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط دون مسألة القبح الفاعلي ، ولأجل ذلك منع قدس‌سره من التمسّك به في مسألة الاضطرار إلى الصلاة في الحرام مع كونه في حدّ نفسه لم يكن مضطرّا إلى الحرام ، كما لو أجبره شخص على أنّه إذا أردت الصلاة فلا أدعك تصلّي إلاّ مع المغصوب ، فإنّه قدس‌سره منع من التمسّك لصحّة الصلاة في ذلك بحديث لا تسقط بحال ، كما نقله عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ، فإنّه قال هناك : ولا يجري فيه قوله عليه‌السلام الصلاة لا تسقط بحال ، لأنّه إنّما يكون بالنسبة إلى القيود الغير المحرّمة ذاتا ، انتهى (٢). وقد تقدّم (٣) نقله في مسألة الاضطرار إلى مخالفة القيود العدمية فراجع.

وحاصل البحث : أنّ منشأ الإشكال إنّما هو عدم إمكان التقرّب بما هو

__________________

(١) لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال » راجع وسائل الشيعة ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٦.

(٣) في الصفحة : ٨٦ ـ ٨٧ وكذا الصفحة ١١٤.

١٧٥

مبغوض فعلا ، أو بما اقترن بالمبغوض ، بناء على ما قدّمناه (١) في وجه القول المختار ، أعني الامتناع من الجهة الثانية. ومجرّد أنّ المكلّف واقع في هذا المبغوض على كلّ حال صلّى أو لم يصلّ ، كما نقلناه عنه قدس‌سره وحرّره عنه المرحوم الشيخ موسى رحمه‌الله إنّما يؤثّر لو كان المنشأ في الإشكال المزبور هو كون المسألة من وادي التزاحم وتقديم جانب النهي ، فيقال إنّ التزاحم مورده الدوران بين الغصب والصلاة ، لا ما إذا كان واقعا في الغصب على كلّ حال.

لكنّك قد عرفت أنّ منشأ الإشكال هو عدم تحقّق التقرّب بما هو مبغوض أو مقارن للمبغوض وملازم له ولو في الوجود على ما شرحناه فيما تقدّم في توجيه الامتناع من الجهة الثانية ، وحينئذ لا يكون الوقوع بسوء الاختيار في المبغوض على كلّ حال رافعا لهذه الجهة من الإشكال (٢).

كما أنّه لا يمكن التمسّك لرفعها بحديث إنّ الصلاة لا تسقط بحال ، لما عرفت فيما تقدّم نقله من أنّه إنّما سيق لتعذّر بعض الأجزاء والشرائط ، لا ما إذا كان في البين نهي أو مبغوضية تمنع من امكان التقرّب ، هذا مضافا إلى أنّ حديث لا تسقط الصلاة لا يمكن أن يرفع الحكم العقلي القائل إنّه لا يمكن تحقّق التقرّب بما قارنه المبغوض إلاّ برفع الحكم الذي نشأت عنه المبغوضية ، التي كان منع

__________________

(١) راجع حاشيته المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : ٨٩ وما بعدها.

(٢) والأنسب أن يجعل وقوعه في الغصب على كلّ حال توجيها لصحّة الترتّب ، بأن يخاطب بأنك بعد وقوعك في الغصب على كلّ حال فاشتغل في ذلك الحال بفعل الصلاة. لكنّك قد عرفت أنّ الترتّب لا يتأتّى في مثل ذلك إمّا لما أفاده شيخنا قدس‌سره من لزوم تحصيل الحاصل [ أجود التقريرات ٢ : ١٠٥ ، ١١٤ ] وإمّا لما عرفت من أنّ المبغوضية الفعلية مانعة عن التقرّب ، فلا يمكن أن يتوجّه إليه الأمر العبادي في ذلك الحال [ منه قدس‌سره ].

١٧٦

العقل من امكان التقرّب مستندا إليها ، ولأجل ذلك حاول إصلاح هذا التمسّك في الطبعة الجديدة بأنّ هذا الحديث يستفاد منه بالدلالة الالتزامية ارتفاع القبح الفاعلي عند مزاحمته لترك الصلاة رأسا (١).

ولكن يمكن المنع من هذه الدلالة ، ولعلّها من قبيل ما منعه شيخنا في باب العموم من أنّه لو توقّف عموم العام وشموله للمورد الفلاني على اعمال عناية في ذلك المورد ، ولو بمثل رفع حرمته الرافعة للمبغوضية المانعة من امكان التقرّب ، لم يمكن الحكم بشموله لذلك المورد استنادا إلى أصالة العموم.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الاستدلال بهذا الحديث فيما نحن فيه لم يذكره المرحوم الشيخ موسى ، ولم أجده في تحريراتي ، نعم ذكره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله وذكر في المسألة وجوها وتفاصيل كلّها لا تخلو عن إشكال ، ولقد توسّع في عموم هذا الحديث حتّى أنّه حاول التمسّك به على القول بالامتناع ، لكنّه رحمه‌الله اعترف بعدم خلو ذلك عن الإشكال ، وبأنّ شيخنا قدس‌سره لم يستوف الكلام في الحكم الوضعي على ما ينبغي ، انتهى (٢) فراجع وتأمّل.

والذي أظنّ أنّ التمسّك في هذا المقام بحديث الصلاة لا تسقط بحال ، وكذلك ما حرّرته عنه قدس‌سره أوّلا من أنّ هذه الصلاة لكونها إيمائية تكون أجنبية عن جهة الغصب ، كلّ ذلك مأخوذ ممّا أفاده في الجواهر ، فإنّه قدس‌سره بعد أن اختار البطلان فيما نقلناه عنه فيما تقدّم (٣) قال : نعم قد يقال إنّ الكون حال تشاغله بالخروج ليس صلاتيا كي يقتضي حرمته فسادها ، بل الصلاة ليس إلاّ النيّة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٧ ـ ١٩٨.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٥٣.

(٣) في الصفحة : ١٥٦.

١٧٧

والأقوال بناء على أنّها ليست من التصرّف ، وحينئذ فلا بأس بتكليفه بالصلاة في هذا الحال ، لعدم سقوط الصلاة بحال ، والميسور بالمعسور (١). فراجع تمام كلامه قدس‌سره وتأمّل ، وراجع ما أفاده المرحوم الحاج آقا رضا قدس‌سره في المقام من صلاته (٢) وتأمّل.

ولا يخفى أنّه بناء على هذا الذي أفاده في الجواهر من أنّ الصلاة في ذلك الحال لا تكون إلاّ النية والأقوال ، ولا يعتبر فيها شيء من الأفعال حتّى الايماء بالرأس أو بالطرف ونحو ذلك ، يكون البحث عن صحّة تلك الصلاة في ذلك الحال ساقطا ، إذ لا يكون في هذه الصلاة شائبة التصرّف في المغصوب كي يندرج في قاعدة الامتناع أو لا يندرج.

نعم ، قد لاحظ شيخنا قدس‌سره هذه الجهة من الإشكال فأدخل القيام ، فإنّه وإن كان في حال الركض للخروج إلاّ أنّه لا يخرج عن كونه جزءا من الصلاة. لكنّه لا يخلو عن إشكال ، لامكان فرض الخروج بغير القيام ، كما إذا أمكن خروجه محمولا في السيارة لكونها أسرع من خروجه راكضا ، هذا مضافا إلى أنّ القيام ليس بجزء دائما ، وإنّما هو في غير الركوع وما بعده ، ويمكن القول بأنّ فعله لا يكون في هذا الحال جزءا أو شرطا ، لأنّه لازم الخروج لا أنّه قد فعله بعنوان الجزء من الصلاة ، فتأمّل.

قوله في الطبعة الجديدة : وأمّا إذا وقعت في ضيق الوقت أو ممّن هو غير مكلّف إلاّ بمثل ما يأتي به حال الخروج ... الخ (٣).

هذه الجملة الأخيرة المتعرّضة لفرد نادر زيادة على الطبعة الأولى لم أجدها

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٢) مصباح الفقيه ١١ ( كتاب الصلاة ) : ٣٧ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٩٧.

١٧٨

في غيره من التحارير ، فإنّ كلامه قدس‌سره في هذه الفروض منحصر في خصوص ضيق الوقت ، وحينئذ لا حاجة إلى ما علّقه في الحاشية (١) من التنبيه على خروج هذه الصورة ممّا نقله عن شيخنا قدس‌سره من حكم المسألة على القول بالجواز.

وأمّا ما ذكره في هذه الحاشية من قوله : لكنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّه لا أساس لدعوى القبح الفاعلي في أمثال المقام ، فلا مانع من التقرّب بما يأتي به حال الخروج الخ ، فكأنّه غفل عمّا ذكره هناك ، فإنّ مقتضاه هو صحّة الصلاة في الدار المغصوبة بقول مطلق كما صرّح به هو هناك ، فراجع ص ٣٧٠ (٢).

وأمّا ما ذكره في الحاشية الثانية (٣) من أنّه يستفاد من هذا الحديث سقوط المبغوضية ، ففيه أن لازم ذلك هو صحّة الصلاة المذكورة على القول بالامتناع ، مع أنّه في الكتاب حكم ببطلانها ، وقد عرفت فيما تقدّم (٤) وجه هذه الاستفادة والإشكال فيها ، وأنّ المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله قد حرّر عن شيخنا قدس‌سره محاولة التصحيح بذلك فيما نحن فيه حتّى على القول بالامتناع.

وبالجملة : أنّ من يلتزم بدلالة حديث لا تسقط على سقوط المبغوضية يلزمه أن يقول بأنّ الصلاة صحيحة حينئذ حتّى على القول بالامتناع ، هذا.

ولكن الذي ينبغي هو التأمّل فيما أفاده قدس‌سره في وجه عدم تأتّي القبح الفاعلي حسبما حرّرته وحرّره عنه المرحوم الشيخ موسى من قوله قدس‌سره : أمّا ما نحن فيه فهو واقع في الغصب على كلّ حال ، فلا يكون من الدوران بين ترك الصلاة والغصب ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٨٠.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٨.

(٤) في الصفحة ١٧٧.

١٧٩

انتهى. وقول المرحوم الشيخ موسى : فلأنّ المبغوضية غير مانعة من قصد التقرّب ، لأنّ المبغوض يصدر من المكلّف على أي حال صلّى فيه أم لم يصلّ ، فإيجاد فعل الصلاة ليس موجبا لإيجاد المبغوض ، فالصلاة صحيحة ولا يؤثّر اجتماع عنوان المبغوض معه ، انتهى.

وهذه الجمل ناظرة إلى ما مرّ منه قدس‌سره (١) في توجيه الفساد على القول بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية بالقبح الفاعلي ، الذي عرفت شرحه فيما تقدّم من وحدة الارادة وتعدّد المراد أو وحدة الايجاد وتعدّد الوجود ، وبعبارة أصرح وحدة المعنى المصدري وتعدّد المعنى الاسم المصدري ، وهذه الوحدة في هذه الجهات هي المانعة من قصد التقرّب ، وهي متأتّية فيما لو كان خارج المغصوب ولكن هناك قاهر يمنعه من الصلاة إلاّ في المغصوب ، فإنّه هناك يقع التزاحم بين حرمة الغصب ووجوب الصلاة ، ومع تقديم حرمة الغصب لا يمكن التقرّب ، لأنّ إيجاد الصلاة في ذلك يكون إيجادا للغصب ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأنّه واقع في الغصب على كلّ حال ، فلا يكون إيجاده الصلاة إيجادا للغصب ، فلا يتحقّق فيها القبح الفاعلي الذي هو كون إيجادها إيجادا للغصب ، فلا يتوجّه على شيخنا قدس‌سره شيء ممّا تقدّم ذكره.

وأمّا التمسّك في المقام بحديث الصلاة لا تترك بحال ، فعلى تقدير صدوره منه قدس‌سره فلعلّه كان في مقام الاستدلال على سقوط ما تفقده صلاة الخارج من الاستقرار والركوع والسجود التامّين ونحو ذلك ، فيكون الحاصل أنّه قد استدلّ على سقوط ذلك بحديث الصلاة لا تسقط بحال ، وعلى عدم تحقّق القبح الفاعلي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨١ ، وللمصنّف قدس‌سره تحقيق مفصّل في ذلك تقدّم في الصفحة : ٨٩ وما بعدها من هذا المجلّد.

١٨٠