أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

الأوّل : أنّ النزاع في اقتضاء النهي عن المعاملة الفساد شامل لمثل هذه الأفعال التي يترتّب عليها الأثر الشرعي ، وإن لم تكن من قبيل العقود والايقاعات.

الثاني : أنّا لو لم نقل بأنّ النهي عن المعاملة يقتضي الفساد ، أو قلنا بذلك لكن لم نقل به في مثل هذه الأفعال ، من جهة أنّا إنّما نقول به في المعاملة التي يعتبر فيها السلطنة ليكون النهي عنها سالبا للسلطنة ، دون مثل هذه الأفعال التي لا مدخل للسلطنة في ترتّب الأثر عليها ، ومع ذلك كلّه يمكننا الحكم بفساده من ناحية كون النهي مخصّصا لما دلّ عليه دليل كونها مطهّرة ، من كونها مأذونا فيها ، ويكون الحاصل أنّ دليل المطهّرية يدلّ على المأذونية الشرعية في ذلك الفعل المطهّر ، والنهي عن بعض أفراد ذلك الفعل أو بعض أنواعه يخرجه عن المأذونية المذكورة ، وحينئذ يبقى دليل كون ذلك الفعل مطهّرا غير شامل لما هو مورد النهي ، فيكون حصول أثره وهو المطهّرية مشكوكا.

وهكذا الحال فيما لو كان المقابل لذلك النهي هو الأمر ، كما في الأمر بغسل الثوب للصلاة ، واتّفق أن صار بعض أفراد الغسل موردا للنهي ، فإنّه أيضا يخصّص ذلك الأمر ، ويبقى ترتّب الأثر على ذلك المنهي عنه مشكوكا.

وليس الغرض من ذلك كلّه هو الاختيار أو تقوية هذه الاستدلالات ، بل الغرض هو بيان أنّ مثل هذه الأفعال داخلة في محلّ النزاع في اقتضاء النهي الفساد ، سواء كان من طريق دعوى سلب السلطنة ، أو كان من طريق دعوى تخصيص ما دلّ على ترتّب الأثر من تلك الأوامر أو تلك الاذن والاباحة ، فتأمّل جيّدا.

قال في القوانين : المراد بالعبادات هنا ما احتاج صحّتها إلى النيّة ، وبعبارة أخرى ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء. ثمّ قال : والمراد بالمعاملات

٢٢١

هنا ما قابل ذلك أي ما لا يحتاج صحّتها إلى النيّة ، سواء كان من الواجبات كغسل الثياب والأواني ، أو من العقود أو الايقاعات ، فإنّ المصالح فيها واضحة لا يتوقّف حصولها على قصد الامتثال ، وإن لم يحصل الثواب في الواجبات ، وحصل العقاب في إتيانها واتيان المعاملات على الطريق المحرّم ، ولذلك لا يكلّف من غسل ثوبه بماء مغصوب أو باجبار غيره عليه ، أو بحصوله من مسلم دون اطّلاعه باعادة الغسل ، وكذلك ترتّب الآثار على الأفعال في المعاملات المحرّمة كترتّب المهر والارث والولد لمن دخل بزوجته في حال الحيض وغير ذلك ، انتهى (١).

فصرّح بأنّ مثل غسل الثياب داخل في العنوان ، مع أنّه قد صرّح بأنّه لو كان قد وقع على جهة التحريم لم يكن ذلك موجبا لعدم ترتّب أثره عليه ، وما ذلك إلاّ من جهة أنّ كونه بحسب نظره لا يقتضي الفساد لا ينافي كون العنوان شاملا له.

وقال المرحوم الشيخ محمّد تقي في حاشية المعالم : ثانيها أنّ ما يتعلّق به النواهي قد تكون قابلة للصحّة والفساد كالعبادات والعقود والايقاعات ، وغيرها من الأفعال الموضوعة لترتّب آثار معيّنة كغسل الثياب والتذكية ، وقد لا تكون قابلة لذلك كالنهي عن الزنا والسرقة ونحوهما ممّا أشرنا إليه.

والثاني ممّا لا كلام فيه ، ولا كلام أيضا في عدم خروجه عن حقيقة النهي. ومحلّ الخلاف هو الأوّل ، سواء قام هناك دليل عام على الصحّة أو لا. ومن المقرّر أنّ الأصل الأصيل في الجميع هو الفساد ، لوضوح توقّف العبادة على تعلّق الأمر بها ، وهو خلاف الأصل. كما أنّ ترتّب الآثار على المعاملات على خلافه ، لأصالة بقاء الشيء على ما هو عليه. وحينئذ فالحكم بصحّتها يتبع الدليل الدالّ عليها من عموم أو خصوص ، وحينئذ فإن قام دليل على صحّة العبادة أو المعاملة وتعلّق

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

٢٢٢

النهي به كان ذلك دليلا على فسادها ، وخصّ به الدليل الدالّ على الصحّة ، بناء على القول بافادته الفساد ، وإن لم يقم دليل على الصحّة كان عدم الدليل كافيا في الحكم بالفساد من جهة الأصل ، والنهي أيضا دليل لفظي دالّ على فساده. والفرق بين الدليلين ظاهر ، ولا أقل من كونه مؤكّدا ، فتخصيص النزاع بالصورة الأولى كما نصّ عليه بعض الأفاضل ممّا لا وجه له (١).

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله فيما نقله : بداهة أنّ غير العقود والايقاعات لم يتوهّم فيها دلالة النهي على الفساد الخ (٢).

فإنّك قد عرفت أنّ ذلك قد قال به أساطين الفن وأساتذة الأصول ، نعم الفساد المدّعى في ذلك ليس هو الفساد في المرتبة الأولى ، أعني به ما هو آت من ناحية نفس النهي ولو لم يكن في مقابله عموم أمر أو عموم إباحة وإذن ، بل إنّ الفساد المدّعى هو الفساد في المرتبة الثانية ، أعني به ما هو آت من ناحية التخصيص ، أو لا أقل من الفساد في المرتبة الثالثة الآتي من ناحية الأصل.

نعم إنّ هذا النهي لا أثر له في ناحية الحكم بفساد تلك المعاملة ، لأنّها حسب الفرض مورد لأصالة عدم ترتّب الأثر ، سواء كان في البين ذلك النهي أو لم يكن.

والخلاصة هي : أنّه لو لم يكن في البين إلاّ الأمر بفعل من الأفعال ثمّ ورد النهي عن بعض أنواعه ، كان ذلك النهي موجبا لخروج مورده عن حيّز الأمر ، ولو كان له مورد آخر لوجبت الاعادة ، مثل ما لو أمره بالتكلّم مع زيد ونهاه عن شتمه

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ١٢٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٢٣

فكلّمه شاتما له.

ولو كان لذلك الفعل المأمور به أثر وضعي مترتّب عليه كما في غسل الثوب ، فإن لم ينحصر الدليل على ذلك الأثر بذلك الأمر ووقع الفعل منهيا عنه بأن غسل الثوب بالماء المغصوب ، لم يحصل امتثال الأمر وذهب موضوعه ، ولكن يترتّب الأثر استنادا إلى عموم « خلق الله الماء طهورا » (١).

ولو انحصر الدليل على ترتّب الأثر بذلك الأمر كما في الأمر بالاستنجاء المخيّر بين الماء والأجسام القالعة ، واستجمر بالعظم والروث أو بالجسم المحترم أو بالحجر المغصوب ، فنظرا إلى خروج الجميع عن حيّز الأمر ينبغي أن يقال بعدم حصول الطهارة ، إذ لا دليل عليها إلاّ ذلك الأمر التخييري المفروض كون المورد قد خرج منه تخصيصا ، إلاّ أن يدّعى أنّ الأمر متعلّق بازالة النجاسة أعني المسبّب ، والنهي في الأوّل متعلّق بالمسبّب فيفسد ، بخلاف الأخيرين فإنّ النهي فيهما يتعلّق بالسبب فلا يوجب الفساد ، أو يقال بأنّ الأمر متعلّق بالمسبّب والنهي في الجميع متعلّق بالسبب ، إلاّ الأوّل فإنّه يستفاد منه الارشاد إلى عدم الأثر ، وذلك من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد النهي إنّه لا يطهّر (٢).

ومن ذلك كلّه يظهر لك الكلام في الأفعال المباحة ذات الأثر الشرعي ، مثل التذكية والحيازة والاحياء ، فإنّ النهي في ذلك إن تعلّق بالسبب لم يوجب الفساد ، بخلاف ما لو تعلّق بالمسبّب فإنّه يوجب الفساد ، كما هو الشأن في المعاملات الانشائية ، فلاحظ وتدبّر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٣٣ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩.

(٢) تقدّم مصدره في الصفحة ٢١٧.

٢٢٤

قوله : وأمّا من جهة آثار نفسها مع قطع النظر عن عباديتها كحصول التطهير فلا يدلّ النهي على الفساد من هذه الجهة ... الخ (١).

الظاهر أنّ هذا القسم من العبادات ـ أعني الذي لم يكن مقيّدا بقصد التقرّب ـ يتصوّر فيه كون النهي ناشئا عن مانعية المنهي عنه أو عن شرطية عدمه ، كما أنّ النهي النفسي فيه المتعلّق بنفس العمل يكون موجبا لفساده ، لا لخصوص عدم إمكان قصد التقرّب به مع بقائه مسقطا للأمر ، بل يكون موجبا لفساده بمعنى عدم كونه مسقطا للأمر ، لكونه بواسطة النهي خارجا عن عموم الأمر ، بحيث إنّه لو أمر باكرام عالم ونهي عن إكرام العالم الفاسق أو عن إكرام العالم بالاطعام مثلا كان ذلك النهي موجبا لخروج ذلك الاكرام عن عموم الأمر أو عن إطلاقه ، وكان يلزمه الاتيان باكرام آخر غير منهي عنه ، كما أفاده قدس‌سره (٢) في باب التعبّدي والتوصّلي من اقتضاء الأمر عدم الاكتفاء بالفعل الواقع على جهة التحريم ، وأنّ النهي يوجب تخصيص متعلّق الأمر بما عداه ، ولا يمكن الاكتفاء بما وقع على جهة التحريم إلاّ بدليل خاصّ ، أو كان الفعل المحرّم معدما للموضوع ، أو كان محصّلا للغاية المطلوبة من الأمر كما في غسل الثوب بماء مغصوب ونحو ذلك ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الفساد من الجهة الأولى من المراتب التي قدّمنا ذكرها (٣) وإن لم يكن متأتّيا في مثل ذلك ، لكنّه بالنسبة إلى المرتبة الثانية الراجعة إلى

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٥٤ ـ ١٥٥ ، وقد تقدّمت حاشية للمصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٨٤ وما بعدها.

(٣) في الصفحة : ٢٠٠.

٢٢٥

تخصيص العموم بذات النهي يتأتّى فيه ، ولازمه عدم الاكتفاء بما وقع منهيا عنه ، لكونه خارجا عن عموم ذلك الأمر ، فلا يكتفى به في سقوط الأمر إلاّ إذا قام الدليل على السقوط بأحد الوجوه المذكورة ، وحينئذ يمكن الحكم بفسادها من ناحية التخصيص ودلالة النهي على انحصار ذي الأثر فيما عداه ، ولا أقل من أصالة عدم ترتّب الأثر ، لكنّه مع ذلك خارج عن العبادات وداخل في المعاملات بالمعنى الأعمّ حسبما عرفت فيما تقدّم (١).

قوله : المقدّمة الرابعة : أنّ التقابل بين الصحّة والفساد ليس تقابل الايجاب والسلب يقينا ، بداهة أنّه لا يكون إلاّ في العدم والوجود المحموليين اللذين لا يخلو منهما ماهية من الماهيات ، ومن الواضح أنّ الصحّة والفساد ليسا كذلك ، بل يحتاج صدقهما إلى فرض محلّ قابل لهما ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ تقابل الصحّة والفساد من قبيل تقابل العدم والملكة ، لا من قبيل تقابل النقيضين أعني الايجاب والسلب ، ولا من قبيل تقابل الضدّين الوجوديين.

أمّا الثاني ـ أعني أنّ تقابلهما ليس من قبيل تقابل الضدّين الوجوديين ـ فلأنّ الصحّة وإن كانت أمرا وجوديا إلاّ أنّ الفساد ليس بأمر وجودي ، لعدم توقّفه على إفاضة وجود ، بل يكفي فيه عدم تحقّق موجب الصحّة ، فيكون أمرا عدميا.

وأمّا الأوّل ـ أعني أنّه ليس تقابلهما من قبيل تقابل النقيضين أعني الايجاب

__________________

(١) في الحاشية السابقة.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٢٦

والسلب ـ فلأنّ ضابط تقابل النقيضين هو التقابل الراجع إلى تقابل الوجود والعدم المحموليين اللاحقين لكلّ ماهية ، ممكنة كانت أو ممتنعة ، فإنّ أي ماهية من الماهيات إمّا أن تكون موجودة فيحمل عليها الوجود وإمّا أن تكون معدومة فيحمل عليها العدم.

وأمّا تقابل العدم والملكة فهو التقابل الراجع إلى تقابل الوجود والعدم النعتيين اللاحقين لما من شأنه الاتّصاف بالصفة الكذائية ، فإمّا أن يكون متّصفا بها وإمّا أن يكون غير متّصف بها ، ويكون مورد الاتّصاف بالصفة الكذائية وعدم الاتّصاف بها هو الشيء بعد وجوده.

ومن الواضح أنّ كون الشيء صحيحا أو فاسدا ليس من النحو الأوّل ، فإنّ الفساد وإن كان أمرا عدميا والصحّة أمرا وجوديا إلاّ أنّهما ليسا محموليين ، بل هما نعتيان لاحقان للشيء بعد وجوده ، فإنّ الشيء بعد وجوده إمّا أن يكون واجدا لوصف الصحّة ، وإمّا أن يكون وصف الصحّة معدوما فيه مع كونه من شأنه أن يكون صحيحا ، فيكون تقابلهما فيه تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّه ربما قيل إنّ الصحّة أمر عدمي ، بمعنى عدم طرو المفسد ، وذلك كما في صحّة الأشياء الطبيعية مثل مزاج الإنسان أو الحيوان ، لكن ذلك خارج عمّا نحن فيه ، فإنّ الصحّة المبحوث عنها هي الجامعية ، ويقابلها الفساد بمعنى انفقاد بعض الأجزاء أو الشرائط ، فتكون الصحّة وجودية والفساد عدميا.

ثمّ بعد هذا نقول : إنّ مراده قدس‌سره أنّ الصحّة والفساد الذي هو عبارة عن عدم الصحّة لا ريب في كونهما من قبيل الوجود والعدم ، إلاّ أنّ ما يطرؤه الوجود

٢٢٧

والعدم إن كان من الجواهر فلا ريب في أنّ نسبة كلّ منهما إليه إنّما تكون باعتباره في نفسه ، وحينئذ يكون الوجود والعدم بالقياس إليه من قبيل الوجود والعدم المحموليين ، ويكون تقابلهما فيه من قبيل تقابل الايجاب والسلب ، وهو تقابل النقيضين ، ويعبّر حينئذ عن ذلك الوجود بمفاد كان التامّة ، وعن ذلك العدم بمفاد ليس التامّة.

وإن كان ما يطرؤه الوجود والعدم من الأعراض مثل القيام والقعود ونحو ذلك ، فتارة يكون نسبة الوجود والعدم إليه باعتباره في نفسه ، ويكون حاله من هذه الجهة حال الجوهر في أنّ وجوده وعدمه من قبيل الوجود والعدم المحموليين ، ويكون تقابلهما فيه من تقابل الايجاب والسلب وتقابل النقيضين ، ويكون مفاد الوجود فيه مفاد كان التامّة ، ومفاد العدم فيه مفاد ليس التامّة ، وتارة يكون نسبة الوجود والعدم إليه لا باعتباره في حدّ نفسه ، بل باعتباره وجوده لمعروضه المعبّر عنه بالموضوع والمحل الذي يقوم فيه ، بحيث يلاحظ القيام بالنسبة إلى الذات التي يتقوّم بها فيقال إنّه موجود لتلك الذات أو إنّه معدوم منها ، ويعبّر عن ذلك بقيام زيد مثلا وبعدم قيامه ، ولا ريب أنّ وجود القيام لزيد وعدمه له إنّما يكون بعد فرض وجود زيد ، فيقال كان زيد قائما أو ليس قائما.

وحينئذ يكون وجود القيام وعدمه نعتيين لكونهما مأخوذين نعتا لزيد ، ويعبّر عن الأوّل بمفاد كان الناقصة ، وعن الثاني بمفاد ليس الناقصة ، فيكون زيد بعد فرض وجوده منعوتا بوجود القيام له أو منعوتا بعدم وجود القيام له ، وحينئذ يكون تقابلهما فيه من قبيل تقابل العدم والملكة ، لا من قبيل تقابل النقيضين والايجاب والسلب الصرفين ، بل إنّ ذلك السلب ملحوظ فيه جهة إيجاب في الجملة وهي لحاظ كونه ـ أي كون ذلك السلب أعني سلب القيام ـ ثابتا ولا حقا

٢٢٨

لزيد بعد تحقّق وجود نفسه وذاته.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الفساد وإن كان هو عبارة عن عدم الصحّة ، إلاّ أنّهما لم يكونا ملحوظين في حدّ أنفسهما ، بمعنى أنّ الصحّة عارض من عوارض الماهية القابلة للاتّصاف بها ، إلاّ أنّها لم تلاحظ في حدّ نفسها فيقال إنّ الصحّة موجودة وإنّها معدومة ، ليكون نسبة الوجود والعدم إلى نفس الصحّة من قبيل الوجود والعدم المحمولي ، ويكون التقابل حينئذ تقابل النقيضين ، بل إنّما لوحظت الصحّة في ذلك منسوبة إلى الماهية القابلة للاتّصاف بها ، فيقال إنّ وصف الصحّة وجد لتلك الماهية وأنّه انعدم منها ، وحينئذ يكون الوجود والعدم في ذلك نعتيا ، ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، ويكون نفس تلك الماهية هي مركز ذلك التقابل ، ويكون حال تلك الماهية بينهما كحال زيد بين قيامه وعدم قيامه في كون تقابلهما فيه تقابل العدم والملكة ، وأنّهما بالنسبة إليه من قبيل الوجود والعدم النعتيين.

وإن شئت مزيد الايضاح في ذلك فقل : إنّ نفس الصحّة بما أنّها عرض من الأعراض قابلة لأن يلاحظ وجودها وجودا محموليا ، فيكون عدمها أيضا عدما محموليا ، إلاّ أنّ عنوان الفساد ليس هو عبارة عن مجرّد ذلك العدم المحمولي ، ليكون حاله حال عدم القيام في امكان أخذه عدما صرفا محمولا على القيام فيقال إنّ القيام معدوم ، بل هو مشتمل على جهة زائدة على أصل ذلك العدم الصرف ، إذ ليس مجرّد عدم الصحّة فسادا ، بل الفساد إنّما هو عدم كون الشيء صحيحا ، فلا بدّ فيه من لحاظ نسبة ذلك العدم إلى شيء هو قابل لأن يعرضه وصف الصحّة فيقال إنّ ذلك الشيء انعدمت صحّته ، وحينئذ يكون العدم المأخوذ مصداقا للفساد هو العدم النعتي ، ويكون مقابله الذي هو وجود وصف الصحّة وجودا

٢٢٩

نعتيا.

وهكذا الحال في كلّ أمر عدمي عبّر عنه صورة بعنوان وجودي مثل العمى ، فإنّه وإن كان عدم البصر إلاّ أنّه ليس هو عدم البصر بما أنّه عدم صرف ، بل بما أنّه عدم البصر عن شيء قابل لأن يتّصف بالبصر ، فلا يكون إلاّ عدما نعتيا ، ولا يكون مقابله الذي هو وجود البصر إلاّ وجودا نعتيا.

وحينئذ فوصف وجود الصحّة إن قوبل بعدم الصحّة كان حاله حال القيام المقابل بعدم القيام في امكان أخذهما محموليين فيكون تقابلهما تقابل النقيضين ، وإمكان أخذهما نعتيين فيكون تقابلهما تقابل العدم والملكة. وإن قوبل بالفساد لم يمكن أخذهما محموليين ، بل يتعيّن أخذهما نعتيين ، وكان تقابلهما تقابل العدم والملكة.

وهكذا الحال في البصر ، فإنّه إن قوبل بعدم البصر كان من الممكن أخذهما محموليين فيكون تقابلهما تقابل النقيضين ، وأخذهما نعتيين فيكون تقابلهما تقابل العدم والملكة. وإن قوبل بالعمى تعيّن كونهما نعتيين وكان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وامتنع كونهما من تقابل النقيضين. ويكون مركز التقابل هو الشيء القابل للاتّصاف بذلك الوصف الوجودي وعدمه ، بخلاف ما لو أخذا محموليين فإنّ ذلك الشيء المعروض لهما لا يكون مركزا للمقابلة بينهما ، بل يكونان متقابلين في حدّ أنفسهما من دون لحاظ ما يعرضان عليه ، بمعنى أنّ نفس ذلك العارض يتقابل فيه الوجود والعدم ، لا أنّ وجود ذلك العارض يتقابل مع عدمه بالنسبة إلى المعروض ، كي يكون كلّ منهما نعتا لذلك المعروض.

ويترتّب على هذا الضابط أثر مهمّ في باب استصحاب العدم بما هو مفاد ليس التامّة ، أو بما هو مفاد ليس الناقصة.

٢٣٠

والذي يؤيّد ما ذكرناه ـ من أنّ الصحّة لو قوبلت بالعدم كانت المقابلة بينهما من قبيل مقابلة النقيضين ، بمعنى امكان لحاظ نفس وجود الصحّة وجودا محموليا ـ هو ما صرّح به المرحوم الشيخ موسى فيما حرّره عن شيخنا قدس‌سره في هذا المقام ، فإنّه قال : وأمّا عدم كون التقابل بينهما تقابل الايجاب والسلب لأنّ التقابل كذلك إنّما هو في المهيات ، فإنّها هي المتّصفة بالوجود والعدم المحمولي ، لا في أوصاف الشيء وأعراضه فإنّه يتّصف بالوجود والعدم النعتي. ولا شبهة أنّ الصحّة ليست وجودا محموليا ، فإنّ العرض لو لوحظ بما أنّه شيء يكون موجودا أو معدوما ، وأمّا لو لوحظ بما أنّه عارض فيكون إمّا وصفا للشيء أو لا. فالعدم والملكة عبارة عن الايجاب والسلب إلاّ أنّهما أضيق من الايجاب والسلب ، فإنّ المعروض القابل لأن يعرضه وصف إذا عرضه الوصف فهو الملكة ، وإذا لم يعرضه فهو العدم ، كالعمى والبصر للإنسان. وبالجملة : لا بدّ أن يكون المحل قابلا للانقسام ، انتهى.

قوله : ثمّ إنّ مقابل الصحّة قد يكون هو الفساد فيراد منه عدم ترتّب الأثر على الشيء بالمرّة ، وقد يكون هو المعيب فيراد منه عدم ترتّب الأثر بتلك المرتبة المرغوبة منها. لا كلام لنا على الثاني ، وأمّا الأوّل فتارة يكون في الأمور الخارجية وأخرى في الأمور الشرعية. لا كلام لنا على الأوّل ، وأمّا الثاني فمورده ليس الأمور البسيطة ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الصحّة في مقابل المعيب بمعنى الناقص عن مجراه العادي أو الطبيعي يمكن إن يتأتّى في العبادات والمعاملات بأن تكون فاقدة لشرط أو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٣١

جزء ، وذلك موجب لسراية الفساد إلى باقي الأجزاء والشرائط الموجودة. إلاّ أنّه خارج عمّا نحن فيه من الفساد الآتي من ناحية النهي فإنّه يكون موجبا لفساد المجموع ابتداء ، من دون توسّط فقدان الجزء أو الشرط.

نعم إنّ العيب ربما لم يكن ساريا إلى الباقي ، كما في عيوب الحيوان ونحوه من الجواهر ، وهذا لا تتّصف به المعاملات والعبادات إلاّ على القول بوضعها للأعمّ من الصحيح والفاسد ، فإنّهم إنّما يريدون بالفاسد في ذلك النزاع هو الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط ، وذلك الفقدان يوجب انفقاد الماهية بما أنّها مأمور بها ، بل يوجب انفقاد نفس الماهية بناء على الوضع لخصوص الصحيح. وأمّا على القول بالأعمّ فلا يكون موجبا لانفقاد أصل الماهية الموضوع لها اللفظ ، وإن لم يترتّب عليها الأثر المهم الذي هو اسقاط الأمر. وفي هذه المرحلة يكون العيب فيها كعيوب الحيوان فتأمّل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الفساد المدّعى في باب النهي عن العبادة أو المعاملة ليس إلاّ عبارة عن فقدان أهمّ شروطهما ، وهو إمكان التقرّب في العبادة والسلطنة في المعاملة ، فإنّ النهي عن العبادة يوجب مبغوضيتها وعدم إمكان التقرّب بها الذي هو أهمّ شروطها ، والنهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة في عالم التشريع عليها ، وهي أيضا أهمّ شروطها ، ولأجل ذلك نقول : إنّه لا بدّ أن يكون ذلك المنهي عنه مركّبا كي يكون النهي عنه موجبا لفقدانه لهذين الشرطين ، حيث إنّ كلامنا إنّما هو في الفساد الآتي ابتداء من ناحية النهي ، أمّا الفساد في العبادة الآتي من ناحية كون النهي مخصّصا للأمر بها خطابا وملاكا فهو لا يتوقّف على كونها مركّبة ، إذ لو فرضنا ـ ولو محالا ـ أنّ لنا عبادة بسيطة اتّفق تعلّق النهي ببعض

٢٣٢

أفرادها أو بعض أنواعها ، لكان ذلك النهي موجبا لخروج متعلّقه عن عموم ذلك الأمر ، وهو كاف في الحكم بفسادها ، إلاّ أنّه من ناحية الأمر وكون العبادة بدونه تشريعا محرّما ، وهو خارج عن محلّ كلامنا من كون النهي موجبا للفساد مع قطع النظر عن كونها خارجة عن عموم الأمر وعن كونها تشريعا محرّما.

وهكذا الحال في المعاملات فيما لو قلنا بأنّها أسماء للمسبّبات البسيطة ، فإنّ النهي عن بعض أنواعها لو فرضنا كونه مخصّصا للعموم الوارد في مشروعية تلك المعاملة من دليل الحلّية والنفوذ ، إلاّ أنّه خارج عمّا نحن فيه من كون النهي بنفسه موجبا لفسادها.

هذا ما حرّرناه سابقا ، وفيه تأمّل ، لأنّ المبغوضية إنّما توجب الفساد لأنّ العبادة يعتبر فيها عدم المبغوضية فكانت مركّبة ، وكان النهي موجبا لفقدان ذلك القيد وهو عدم المبغوضية. وإذا تمّ ذلك في ناحية المبغوضية فهو جار في ناحية التخصيص فنقول : إنّ العبادة لا بدّ في صحّتها من وجود الأمر والملاك ، وهذا النهي يوجب فقدان هذا القيد أعني الأمر والملاك ، فتفسد لفقد بعض الشرائط.

وهكذا الحال في المعاملة بعد فرض كونها مقيّدة بالسلطنة ، ويكون النهي عنها موجبا لفقدان ذلك القيد ، فلو قلنا إنّها اسم للمسبّب المفروض كونه بسيطا لا يكون ذلك موجبا لخروجها عمّا نحن بصدده. نعم إنّ في كونها كذلك إشكالات أخر ، نحتاج إلى دفعها بما حرّر في محلّه (١) من عدم كونها من قبيل الأسباب والمسبّبات ، بل هي من قبيل الآلة وذي الآلة.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ١ : ٧٣ ـ ٧٥ ، وراجع أيضا حواشي المصنّف قدس‌سره في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٩٩ وما بعدها.

٢٣٣

قوله في الحاشية : قد تقدّم في بحث الصحيح والأعمّ أنّه ليس انشاء الملكية مثلا عبارة عن إيجادها خارجا لما مرّ من أنّ الملكية الشرعية غير قابلة لتعلّق الايجاد بها من غير الشارع ، مع أنّ المتبايعين ربما لا يلتفتان إليها أصلا ... الخ (١).

لم يدّع شيخنا قدس‌سره أنّ المجعول للمتبايعين هو الملكية الشرعية ، وإنّما جلّ كلامه هو أنّ المجعول لهما إنّما هو الملكية الانشائية التي تكون هي محلّ الامضاء الشرعي أو عدم الامضاء ، فإنّ الملكية من الاضافات القابلة للجعل بالانشاء ، وبجعلها انشاء تنجعل في وعائها من عالم الاعتبار العقلائي الذي جرى عليه العقلاء ، وليست هي إلاّ من قبيل التكليف الذي ينجعل بالجعل ممّن له الجعل ، غايته أنّ الجاعل في باب التكاليف الشرعية لما كان هو المشرّع لم يحتج إلى امضاء ممض ، بخلاف الملكية المجعولة انشاء من قبل العاقد ، فإنّها وإن تحقّقت في عالم الانشاء إلاّ أنّ ذلك لا يكفي ما لم يمضها الشارع. ولا ريب أنّ مجرّد اعتبار المالك لا يكفي في تحقّقها في وعاء الانشاء ما لم يكن في البين انشاء وجعل ، بل لا بدّ في ذلك من إنشاء وجعل ولو كان ذلك بقوله جعلت الملكية ، أو كان بفعل من الأفعال التي تكون موجدة لها ، ويكون جميع ما تنشأ به تلك الملكية من قبيل آلة إيجادها ، ويكون نسبة الانشاء الذي هو إيجاد تلك الملكية إلى نفس الملكية التي وجدت في عالم الانشاء من قبيل الايجاد والوجود. ولم يدّع شيخنا قدس‌سره أنّ نفس اللفظ يكون إيجادا لها كي يتوجّه عليه قول المحشي : فكيف يعقل أن يكون وجود اللفظ إيجادا للملكية الخ.

ومن ذلك يظهر لك ما في قول المحشي : وأمّا الملكية الاعتبارية القائمة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٠٥.

٢٣٤

بهما بالمباشرة فاعتبارها منهما لا يحتاج إلى سبب أو آلة. فإنّه قد ظهر لك أنّ الملكية المجعولة للمتعاقدين لا بدّ في جعلها من آلة تجعل بها في عالم الانشاء ، وليس مجرّد البناء على جعلها كافيا في انجعالها ، بل لا بدّ في ذلك من آلة تكون آلة في انشائها وجعلها ، ويكون ذلك كافيا في تحقّقها لدى العقلاء وفي ترتيب الأثر عليها عندهم ، فإن أمضاه الشارع على ما هو عليه عندهم فهو وحينئذ تكون الملكية صحيحة عنده ، وإلاّ كانت تلك الملكية التي اعتبروها غير كافية عنده في عالم التشريع وكانت فاسدة من أصلها. وإن اعتبر في كيفية انشائها أو في آلة انشائها أو في المتعاقدين أنفسهما أو في أحد العوضين أو كليهما أمورا أخر غير ما هو عند العقلاء ، كان جميع ما هو فاقد لذلك فاسدا عنده ، وحينئذ يكون مركز الصحّة والفساد هو نفس ذلك الانشاء والجعل ولو باعتبار الخلل في آلته ونحوها ممّا عرفت.

والحاصل : أنّ المسبّب إذا كان هو الملكية الشرعية فهي لا تتّصف بالصحّة والفساد ، وإنّما تتّصف بالوجود والعدم. وإن كان هو نفس الملكية الانشائية التي أوجدها المتعاقدان في عالم الانشاء فهي تتّصف بذلك لا باعتبارها بنفسها ، بل باعتبار إيجادها بآلتها وما يرجع إلى آلتها من المتعاقدين أو العوضين ، باعتبار جامعية هذه الأمور لما اعتبره الشارع في ترتيب الأثر عنده في عالم التشريع ، واسم المعاملة كلفظ البيع إنّما هو موضوع لنفس ذلك النقل الانشائي الذي يوجده المتعاقدان ، أعني مبادلة المال بالمال ، فتارة يؤخذ بمعناه الاسم المصدري وأخرى يؤخذ بمعناه المصدري ، أعني أنّه يلاحظ فيه جهة صدوره من المتعاقدين التي هي عين انشائه ، وهو في هذه المرحلة ومن هذه الناحية يتّصف بالصحّة والفساد. والألفاظ المذكورة وإن قلنا إنّها موضوعة للصحيح إلاّ أنّها لو

٢٣٥

وردت مطلقة وكان إطلاقها في مقام البيان ، نستكشف أنّ الشارع لم يعتبر فيها شيئا زائدا على ما يعتبره العقلاء فيها ، فلاحظ وتأمّل ، وراجع ما حرّرناه في هذه المسألة في مبحث الصحيح والأعمّ (١) وتأمّل.

قوله قدس‌سره في الكفاية : تنبيه وهو أنّه لا شبهة في أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم وصفان اعتباريان ... الخ (٢).

ظاهر ما أفاده قدس‌سره في هذا التنبيه مخالف لما تقدّم (٣) من كون الصحّة والفساد لا يختلف حالهما باختلاف الآثار. وعلى كلّ حال ، فإنّ نظره قدس‌سره في هذا التنبيه إلى نفس الأثر المترتّب على الصحّة والفساد ، فالأثر الذي هو مهمّة المتكلّم ـ أعني به موافقة الشريعة أو الأمر ـ لا يكون إلاّ انتزاعيا صرفا ناشئا عن مطابقة الفعل لما هو المأمور به وعدم مطابقته له ، والأثر المهمّ للفقيه الذي هو عبارة عن إسقاط الاعادة والقضاء لا يكون أمرا انتزاعيا ، ولا حكما شرعيا مجعولا ابتداء أو تبعا لجعل شرعي ، ليكون نظير الجزئية المجعولة في نظره تبعا لجعل الأمر بالكل المشتمل على ذلك الجزء ، بل لا يكون هذا الأثر إلاّ حكما عقليا صرفا.

نعم هذا في نسبة كلّ فعل إلى أمره المتعلّق به ، أمّا بالنسبة إلى غيره كالفعل الاضطراري بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي والمأتي به مطابقا للأمر الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي مع فرض قيام الدليل على الإجزاء ، فلا يكون ذلك الأثر الذي هو إسقاط الاعادة والقضاء بالنسبة إلى ذلك الأمر الواقعي الأوّلي إلاّ حكما

__________________

(١) راجع الحاشيتين المذكورتين في الصفحة : ١٩٩ و٢١١ من المجلّد الأوّل من هذا الكتاب.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٣.

(٣) كفاية الأصول : ١٨٢.

٢٣٦

شرعيا ، هذا حال العبادات.

وأمّا المعاملات فحيث إنّ أثرها هو المسبّب وهو لا يكون إلاّ حكما شرعيا ، فلا جرم تكون الصحّة بالقياس إليه شرعية.

قلت : لو لوحظت الآثار المترتّبة على الصحّة فالظاهر كما أفاده قدس‌سره ، إلاّ في خصوص كون اسقاط الأمر الواقعي الأوّلي مجعولا ، فإنّه ليس الاسقاط بمجعول مع فرض بقاء الشرطية والجزئية بحالهما ، بل إن التصرّف الشرعي إنّما هو في اسقاط الجزئية والشرطية ، وحينئذ يكون الأثر المترتّب على الفاقد ـ أعني كونه مسقطا للاعادة والقضاء ـ عقليا صرفا ، لكون أمره الواقعي قد تبدّل إلى ذلك الفاقد. أمّا الصحّة نفسها فلا تكون إلاّ عبارة عن التمامية وواجدية جميع ما هو منشأ الأثر المترتّب عليها ، ولا تكون إلاّ انتزاعية صرفة.

قوله قدس‌سره في الكفاية : نعم الصحّة والفساد في الموارد الخاصّة لا يكاد يكونان مجعولين ، بل إنّما هي تتّصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به ... الخ (١).

لا يخفى أنّا ولو فسّرنا الصحّة بمعنى إسقاط الاعادة والقضاء فليست هي وصفا للكلّي المأمور به ، فإنّ ذلك الكلّي الطبيعي لا يتّصف بصحّة ولا فساد ، وإنّما المتّصف بذلك هو مصداقه الخارجي ، وحينئذ فالذي نحكم عليه شرعا بأنّه مسقط للأمر الواقعي ليس هو كلّي ما تعلّق به الأمر الظاهري ، فإنّ ذلك الكلّي في حدّ نفسه لا يسقط الأمر الواقعي ، وإنّما الذي يسقطه هو هذا الفعل الخارجي الذي وقع على طبق الأمر الظاهري ، ويكون ما هو موضوع إسقاط الأمر الواقعي هو متعلّق الأمر الظاهري ، ويكون ذلك المتعلّق مأخوذا في الحكم بالاسقاط على

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٤.

٢٣٧

نحو القضية الحقيقية ، بأن يقول إنّ ما تأتي به امتثالا للأمر الواقعي يكون محكوما عليه عندي بأنّه مسقط للأمر الواقعي ، فلا يكون الاسقاط المذكور لا حقا لما هو متعلّق الأمر الظاهري إلاّ بعد فرض وجوده خارجا ، كما هو الشأن في القضايا والأحكام التي لا تكون إلاّ حقيقية. وحينئذ لو قلنا إنّ الصحّة بمعنى الاسقاط ، وأنّ الاسقاط في ذلك يكون مجعولا شرعا ، يكون المتّصف بهذه الصحّة هو الفعل الخارجي ، وتكون صحّته شرعية لا انتزاعية.

ومن ذلك يتّضح لك التأمّل فيما أفاده قدس‌سره بعد هذا في المعاملات بقوله : نعم صحّة كلّ معاملة شخصية وفسادها ليس إلاّ لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه الخ (١). فإنّ الصحّة لو أخذت بمعنى ترتّب الملكية فالشارع لم يجعل على طبيعة العقد ، بل إنّما جعل الملكية على تقدير تحقّق العقد ، فيكون المتّصف بالصحّة المذكورة هو العقد بعد وجوده لا قبل وجوده.

وما أفاده قدس‌سره من قياس المقام بمقام متعلّق التكليف بقوله : كما هو الحال في التكليفية من الأحكام ، ضرورة أنّ اتّصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما ليس إلاّ لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام ، انتهى. لا يخلو من تأمّل ، فإنّه على الظاهر قياس مع الفارق ، حيث إنّ التكليف كالوجوب ـ مثلا ـ إنّما يعرض المتعلّق كالصلاة قبل وجودها ، فهي قبل الوجود متّصفة بالوجوب ، ولا بدّ حينئذ من أن نقول إنّما تتّصف هذه الصلاة الخارجية بالوجوب لأجل انطباقها مع ذلك الذي طرأ عليه الوجوب وهو طبيعة الصلاة ، وهذا هو الشأن في متعلّقات التكاليف. لكن أين ذلك ممّا نحن فيه ممّا يكون من قبيل الموضوعات للحكم الشرعي ، التي لا تكون مأخوذة إلاّ على نحو القضية الحقيقية ، على وجه أنّ ذلك

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٤.

٢٣٨

الحكم لا يكون فعليا ولا يتحقّق خارجا إلاّ بعد وجود ذلك الموضوع خارجا ، ولا يتّصف ذلك الكلّي المأخوذ موضوعا بذلك الحكم اتّصافا فعليا إلاّ بعد وجوده خارجا.

نعم قبل وجوده ليس إلاّ الحكم التعليقي الذي نعبّر عنه بالشرطية اللزومية القائلة إنّه لو وجد هذا الموضوع لكان محكوما عليه بكذا ، فتأمّل.

قوله : بل بضميمة ما ذكرنا في باب الإجزاء ـ إلى قوله : ـ يظهر لك أنّ الصحّة في موارد الأوامر الواقعية الثانوية غير قابلة للجعل حتّى بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلي أيضا ، وأمّا الصحّة والفساد في موارد الأوامر الظاهرية بالنسبة إلى الأوامر الواقعية فالحقّ أنّهما مجعولان بنفسهما قبل انكشاف الخلاف وبعده ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في أثناء البحث على كون الصحّة والفساد مجعولين أو غير مجعولين عند تعرّضه لصورة الاضطرار ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : إن قلنا : إنّ الأمر الواقعي في حال الاضطرار يتبدّل وينقلب إلى الأمر الاضطراري ، لسقوط كلّ جزء أو شرط اضطرّ إلى تركه ، لم تكن الصحّة والفساد قابلين للجعل ، إذ ليست الصحّة حينئذ والفساد إلاّ عبارة عن مطابقة المأتي به لذلك الكلّي المأمور به الثانوي ، أمّا الواقعي الأوّلي فقد سقط ، ولا أثر لمطابقة المأتي به له وعدم مطابقته.

وإن قلنا : إنّ ذلك الواقعي الأوّلي لم يسقط ، بمعنى أنّه لم يتبدّل إلى الواقعي الثانوي ، وأنّ غاية ما في الباب هو اكتفاء الشارع بذلك المأتي به عن الواقعي الأوّلي ، كان الحكم بالاكتفاء بذلك المأتي به عن ذلك الواقعي الأوّلي عبارة عن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٣٩

تنزيله منزلة المنطبق عليه ، وحينئذ تكون الصحّة مجعولة شرعا.

وأمّا الظاهري فيقع الكلام فيه تارة قبل انكشاف الخلاف وأخرى بعده ، أمّا قبل الانكشاف فبناء على ما حقّقناه في محلّه من أنّ الحكم الظاهري عبارة عن التنزيل الشرعي وجعل الهوهوية يكون مرجعه إلى جعل المأتي به بالأمر الظاهري منطبقا على الكلّي الواقعي ، فتكون الصحّة وكذلك الفساد في هذه المرحلة مجعولة أيضا. وأمّا بعد انكشاف الخلاف فقد حقّقنا في محلّه أنّ مجرّد الحكم الظاهري لا يقتضي الاجزاء بعد انكشاف الخلاف ، فلا يتصوّر حينئذ الصحّة في هذه المرحلة. نعم ، لو دلّ الدليل على الاجزاء في هذه المرحلة كان مرجعه إلى التصرّف في مقام الامتثال والحكم الشرعي بانطباق ذلك المأتي به على ذلك الكلّي الواقعي ، فتكون الصحّة في هذه المرحلة مجعولة شرعا. هذا بعض ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا البحث ، وهو مفصّل فإن شئت فراجعه (١).

قلت : والذي يظهر من هذا التحرير ومن هذه الكلمات التي حرّرتها عنه قدس‌سره أنّ شيخنا قدس‌سره أخذ الصحّة من حيث مطابقة الفعل لما هو المأمور به أو لما هو المشرّع ، وهذه المطابقة تكون انتزاعية صرفة إلاّ في الفعل المأمور به بالأمر الظاهري بالنسبة إلى ما هو المأمور به واقعا ، فإنّ هذه المطابقة لا تكون إلاّ بحكم الشارع بتنزيل المأتي به منزلة الواجد.

وهذا المطلب بعد محتاج إلى التأمّل ، أمّا بالنسبة إلى الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف فلأنّ مرجع الأمر الظاهري إلى تنقيح ما هو المأمور به واقعا ، وبعد تنقيحه بالأمر الظاهري يكون انطباق المأتي به على ذلك المأمور به الواقعي الثابت بدليل الأمر الظاهري انطباقا قهريا. ولا دخل له بالجعل الشرعي. وأمّا

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

٢٤٠