أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

فرض كون العبادة منهيا عنها الخ (١) فإنّ هذا وأمثاله كلّه عبارة عن اختيار كون النهي مقتضيا للفساد ، وكلام شيخنا قدس‌سره إنّما هو على تقدير الشكّ في ذلك وأنّه ليس لدينا إلاّ عبادة منهي عنها ، فهل يكون تحريم تلك العبادة موجبا لفسادها ، وأنّ الأصل في الشكّ في كون هذا النهي مقتضيا للفساد ما ذا ، وحينئذ يكون التحريم الطارئ على العبادة محتمل المانعية ، فهل يكون المرجع فيه حينئذ هو البراءة من مانعية التحريم أو لا ، ومن ذلك يظهر لك ما في الحاشية الثانية (٢).

ومن المجموع يظهر لك التأمّل في عبارة الكفاية في طبعة بغداد ، وهي المرسومة في طبعة حاشية المرحوم القوچاني (٣) على الهامش برسم نسخة بدل وهو قوله : وأمّا العبادة فكذلك ، لعدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى (٤) ، فإنّ هذا أيضا اختيار للقول بالفساد ، غايته أنّه ليس من طريق مبغوضية المنهي عنه ، بل من طريق كون النهي مخصّصا للأمر ، فيكون حينئذ خارجا عن فرض المسألة من الشكّ في اقتضاء النهي الفساد ، فإنّ التخصيص الذي هو عبارة عن كون النهي موجبا لارتفاع الأمر وانعدامه من جملة أدلّة كون النهي مقتضيا للفساد ، فإنّ صاحب الكفاية قدس‌سره بنفسه بعد أن استدلّ على ذلك بأنّ الحرمة موجبة للفساد ، فإنّها لا تجتمع مع كون الفعل موافقا للأمر ، وأنّه لا يصلح حينئذ للتقرّب ، قال بعد ذلك : هذا مع أنّه لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة لكان دالا على الفساد ، لدلالته على الحرمة التشريعية ، فإنّه لا أقل من دلالته على أنّها ليست بمأمور بها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢١٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢١٣.

(٣) كفاية الأصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه‌الله ) ١ : ١٥٢.

(٤) كفاية الأصول : ١٨٤.

٢٦١

وإن عمّها إطلاق دليل الأمر بها أو عمومه (١).

وأمّا ما في الأصل المذكور (٢) من قوله في « أمّا » الثانية : وأمّا لو كان الشكّ لأجل دوران الواجب بين الأقل والأكثر الخ ، فكأنّه مبني على احتمال مانعية التحريم ، بحيث يكون الواجب مقيدا بعدم كونه محرّما ، على ما مرّ في توجيه مانعية التحريم مانعية وضعية ، فتدخل المسألة في مسائل الأقل والأكثر.

وأمّا ما فيه أيضا من قوله في أمّا الأولى : وأمّا العبادة فكذلك لو كان الشكّ في أصل ثبوت الأمر ، أو في صحّة المأتي به وفساده لأجل الشكّ في انطباقه مع ما هو المأمور به حين إتيانه ، وإلاّ فأصالة الصحّة بعد فراغه متبعة ، انتهى. فلعلّه ناظر في الشقّ الأوّل إلى أنّ الشكّ في كون النهي يوجب الفساد يرجع إلى الشكّ في أنّ النهي يوجب تخصيص الأمر ، وخروج متعلّق النهي عن متعلّق الأمر ، بحيث إنّه لا يكون لدينا عموم أو اطلاق يثبت الصحّة ، وبقينا نحن والعبادة المنهي عنها التي يشكّ في كونها مأمورا بها ، وحينئذ تكون الشبهة حكمية. وقوله : أو في صحّته الخ ، تلويح إلى الشبهة الموضوعية بأن يكون الأمر محرزا وبعد طرو التحريم على هذا الفعل لو اتّفق حصول الشكّ في انطباقه على ما هو المأمور به ، مثلا بعد تحقّق النهي عن الصلاة في الحرير يحصل الشكّ في كون هذه الصلاة مع الحرير ، ففي مثل ذلك يحكم بالفساد ، نعم بعد الاقدام على الاتيان بالفعل المذكور ولو غفلة يكون المرجع هو قاعدة الصحّة أو قاعدة الفراغ.

ثمّ إنّ ما أفاده من الترديد المذكور ممّا لم أتوفّق لفهمه ، لأنّ عموم الأمر لو كان موجودا وشككنا في كون النهي مخصّصا له كانت أصالة العموم محكمة. نعم

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٧.

(٢) [ المقصود نسخة الكفاية المحشاة بحاشية الشيخ القوچاني رحمه‌الله ].

٢٦٢

يمكن القول بأنّ الشبهة مفهومية ، لاحتمال كون الصلاة المأمور بها غير شاملة لما هو المحرّم منها ، لاحتمال كونها مقيّدة بعدم التحريم ، فيكون التحريم مانعا ، وتكون مانعيته وضعية على حذو مانعية لباس غير المأكول ، وحينئذ تدخل مسألة الشكّ في مانعية التحريم في مسائل الأقل والأكثر ، وهو ما أشار إليه بقوله في أمّا الثانية : وأمّا لو كان الشكّ لأجل دوران الواجب الخ.

وبالجملة : أنّه أشار في أمّا الأخيرة إلى كون الشبهة مفهومية ، وفي الشقّ الأوّل من أمّا الأولى إلى الشبهة الحكمية ، وفي الشقّ الثاني منه إلى الشبهة الموضوعية. ولعلّ صاحب الكفاية قدس‌سره نظر في المسألة الفرعية إلى العبادة أو المعاملة تكون صحّتها مشكوكة فانتقل من ذلك إلى مطلب كلّي ، وهو أنّ حكم المعاملة التي يشكّ في صحّتها وإن لم يكن ذلك من ناحية كونها منهيا عنها ، بل كان الشكّ من نواح أخر من نواحيها ، هو أنّه لو كان في البين عموم أو إطلاق كان هو المرجع ، وإلاّ كان المرجع هو أصالة الفساد بمعنى عدم ترتّب الأثر ، سواء كانت الشبهة حكمية صرفة ، أو كانت مفهومية بأن حصل الشكّ بأنّ مفهوم البيع يشمل المعاطاة أو أنّه مقيّد بالبيع العقدي ، أو كانت موضوعية صرفة بأن حصل لنا الشكّ مثلا في بلوغ المشتري ، ونحو ذلك من موارد الشبهة الموضوعية ، فإنّ المرجع في الجميع لو لم يكن في البين إطلاق أو عموم هو أصالة الفساد ، إلاّ في الشبهة الموضوعية لو كان الشكّ بعد الفراغ ، فإنّ المرجع هو أصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ.

وأمّا العبادات فإن كانت الشبهة حكمية صرفة ، بأن شككنا في كون مثل صوم الصمت مأمورا به ، كان المرجع هو أصالة عدم المشروعية. وإن كانت الشبهة موضوعية صرفة ، كما لو شككنا في أنّ هذه الجهة مثلا هي القبلة ، فإنّ

٢٦٣

المرجع حينئذ قبل العمل هو أصالة الاشتغال ، لعدم إحراز الشرط أو الجزء ، وإن كان بعد الفراغ. كان المرجع هو قاعدة الفراغ وإن كانت الشبهة مفهومية بأن احتملنا أنّ الصلاة الواجبة يعتبر فيها الاستعاذة جزءا والتعمّم شرطا ، فالمرجع هو ما عليه البناء في مسألة الأقل والأكثر من البراءة أو الاشتغال. ولكن لا يخفى أنّ ذلك كلّه خارج عمّا نحن فيه من كون الشكّ ناشئا عن تعلّق النهي بالعبادة أو المعاملة ، وهل الأصل في المعاملة أو العبادة المنهي عنها هو الصحّة أو الفساد ، بعد العجز عن تحقيق الحال في أصل اقتضاء النهي الفساد كلّية ، فتأمّل.

وبذلك عرفت أنّه يتصوّر الشكّ في مانعية التحريم المذكور على نحو الشبهة الحكمية ، كما أنّه يمكن أن تكون على نحو الشبهة المفهومية ، بأن يكون حاصل الشكّ راجعا إلى أنّ الصلاة المأمور بها هل هي مختصّة بالصلاة مع عدم الحيض ، أو هي شاملة للصلاة مع الحيض ، وعلى كلّ حال يكون المرجع هو البراءة من المانعية المزبورة. كما أنّه ربما أمكن تصوّر الشبهة الموضوعية في ذلك ، بأن تكون حرمة الصلاة في الحرير مثلا معلومة لدينا ، وأنّ نفس تلك الحرمة مانعة من الصحّة على حذو مانعية ما لا يؤكل لحمه ، لكن شككنا في كون هذا اللباس حريرا ، فقد شككنا في حرمة الصلاة فيه ، وذلك عبارة أخرى عن الشكّ في تحقّق المانع الذي هو الحرمة مع كون الشبهة حينئذ موضوعية ، ويكون المرجع حينئذ هو أصالة البراءة من حرمة الصلاة في ذلك اللباس ، أو أصالة البراءة من مانعية حرمتها لو كانت. ولكن يشكل الأمر في الشبهة المفهومية أو الحكمية مثل صلاة الحائض فإنّ مقتضى البراءة فيها هو وجوبها عليها ، وهو خلاف الامتنان ، هذا.

ولكن الإنصاف أنّ تحرير المسألة الفرعية بهذا التحرير ـ أعني مانعية

٢٦٤

التحريم على نحو المانعية الوضعية ـ ليس كما ينبغي ، إذ ليس مانعية التحريم التي هي حكم وضعي متفرّعة على اقتضاء النهي الفساد وعدمه ، إذ لو قلنا بعدم دلالة النهي على الفساد لكان من الممكن أن يجعل الشارع حرمة العبادة مانعة من صحّتها ، نظير جعله مانعية غير المأكول ، وذلك كاشف عن أنّ مانعية التحريم التي هي حكم وضعي لا تترتّب على اقتضاء النهي للفساد ، فلا يكون الشكّ في المانعية المزبورة ناشئا عن الشكّ في اقتضاء النهي الفساد ، كي يتفرّع على الشكّ في ذلك الاقتضاء الشكّ في المانعية المزبورة بالمعنى المذكور ، أعني المانعية الوضعية على حذو مانعية ما لا يؤكل لحمه ، بل إنّ هذا الشكّ الثاني لو حصل لا يكون إلاّ شكّا مستقلا ، لا دخل له في الشكّ في كون النهي مقتضيا للفساد.

فالأولى أن يقال : إنّا إذا عجزنا عن إقامة الدليل على كون النهي مقتضيا للفساد ، ولا على عدم اقتضائه الفساد ، وتوقّفنا في كلّ من الطرفين ، ولم يبق لدينا إلاّ الشكّ في الاقتضاء ، كان ذلك الشكّ كافيا في كون هذه العبادة مشكوكة الصحّة ، فيحكم بفسادها لأصالة الفساد ، فلا دخل لذلك بمسألة كون التحريم مانعا وضعيا وإجراء حديث الرفع (١) في المانعية ، بل يكون المرجع هو أصالة الفساد ، ويكون الحال فيما نحن فيه كحال الشكّ في صحّة العبادة وفسادها فيما لو لم يكن ذلك ناشئا عن النهي. وبعبارة يكون المرجع في الشكّ من الجهة الثانية ـ أعني الفساد الآتي من ناحية النهي ـ هو المرجع في الفساد المشكوك من الجهة الأولى ، أعني به الشكّ في فساد العبادة فيما لا يكون ناشئا عن النهي.

وحاصل الأمر هو أنّ ملخّص الشكّ في كون النهي عن هذه العبادة موجبا لفسادها هو أنّا لم نتمكّن من الجزم بفسادها نظرا إلى كون النهي موجبا

__________________

(١) تقدّم ذكر مصدره في الصفحة ٢٦٠.

٢٦٥

للمبغوضية المانعة من إمكان التقرّب ، كما أنّا لم نجزم بصحّتها بدعوى كون التحريم والمبغوضية غير مانعة من إمكان التقرّب ، وأيضا أنّا لم نتمكّن من الجزم بفسادها نظرا إلى كون النهي مخصّصا للأمر ، كما أنّا لم نجزم بصحّتها نظرا إلى دعوى كون النهي غير مخصّص للأمر ، بل بقينا نحن والعبادة المنهي عنها المشكوك صحّتها ، فيكون الأصل فيها هو الفساد.

وهكذا الحال في المعاملة ، لكن الفرق بين الأصلين فيهما هو أنّه في العبادة يكون بمعنى أصالة عدم المشروعية ، وفي المعاملة بمعنى أصالة عدم ترتّب الأثر ، هذا لو كانت الشبهة حكمية ، أمّا لو كانت الشبهة موضوعية فالظاهر جريان أصالة البراءة من الحرمة ، وبذلك تخرج العبادة والمعاملة عن أصل المسألة ، وهي مسألة الشكّ في أنّ النهي يقتضي الفساد ، لارتفاع النهي حينئذ من أصله بأصالة البراءة.

وفي تعليق المرحوم الشيخ محمّد علي على ما نقله عن شيخنا قدس‌سره في هذا المقام من اندراج المسألة في مبحث الأقل والأكثر أنّ ذلك إنّما يكون راجعا إلى البحث المزبور لو كان النهي متعلّقا بجزء أو شرط. أمّا المتعلّق بنفس العبادة فلا يكون راجعا إلى ذلك ، إذ ليس هو من قبيل الشكّ في المانعية ، لاقتضاء النهي حرمة العبادة على كلّ حال وإن شكّ في اقتضاء الفساد ، ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، إذ ليس هنا شيء وراء العبادة تعلّق النهي به يشكّ في مانعيته حتّى ينفى بالأصل (١).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ دخول ما نحن فيه في مبحث الأقل والأكثر إنّما هو بناء على كون نفس الحرمة مانعا ، لا أنّ هناك شيئا محرّما يكون داخلا في العبادة

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٢ ( الهامش ، نقل صدره بالمضمون ).

٢٦٦

كي يكون ذلك الفعل الحرام مانعا ، ليختصّ بالنهي عن الجزء أو الشرط. وقوله : ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، خلاف الفرض ، لأنّ الفرض أنّا مع حرمتها شاكّون في اقتضاء التحريم الفساد ، وهذا القول وهو قوله : مع حرمتها لا يمكن تصحيحها ، إنّما يكون اختيارا للقول باقتضاء الفساد ، فيكون خارجا عن الفرض الذي هو فرض الشكّ.

وينبغي أن يعلم أنّ المنقول عن شيخنا قدس‌سره في التحارير عن درسه مختلف غاية الاختلاف ، فالذي يظهر من هذا التحرير أنّ حكم الشكّ في كون النهي موجبا للفساد في العبادة ، هو أنّ الشبهة إن كانت موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال هو الحكم بالفساد ، وأنّه إن كانت الشبهة حكمية كانت راجعة إلى مسألة الأقل والأكثر من الرجوع إلى الاشتغال أو البراءة. وفي الطبعة الجديدة زاد على ذلك أنّه بحسب القواعد الأوّلية مع قطع النظر عن قاعدة الفراغ أو التجاوز أو أصالة الصحّة (١) والظاهر أنّ ذلك استثناء من حكمه بالاشتغال في صورة كون الشبهة موضوعية.

والذي يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي أنّ الشكّ في اقتضاء النهي الفساد يوجب الشكّ في مانعية المنهي عنه عن العبادة ، ويندرج في مسألة الأقل والأكثر ، هذا إذا كان أمر بالعبادة مع قطع النظر عن النهي ، وأمّا لو لم يكن أمر بها فالشكّ في اقتضاء النهي الفساد يوجب الشكّ في مشروعية العبادة ، والأصل يقتضي عدم المشروعية (٢). وأشكل عليه في الحاشية بأنّ مانعية المنهي عنه إنّما تتصوّر فيما لو كان المنهي عنه جزءا أو شرطا ، دون ما إذا كان نفس العبادة بتمامها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٣ ( نقل بالمضمون ).

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٢.

٢٦٧

منهيا عنها ، وقد عرفت ما في هذا الإشكال.

والذي وجدته فيما عثرت عليه من تحريرات المرحوم الشيخ موسى الخونساري رحمه‌الله أنّه لو شكّ في دلالة النهي على الفساد فلا أصل لفظي يعول عليه ، والأصل العملي في المعاملات هو الفساد لو لم يكن هناك عموم يقتضي صحّة المنهي عنه. وفي العبادات لو كان الشكّ في أصل تعلّق الأمر بها فكذلك ، ولو كان من جهة الأجزاء أو الشرائط من جهة احتمال مانعية المنهي عنه فمبني على مسألة البراءة والاشتغال. وهذا التحرير موافق لتحرير المرحوم الشيخ محمّد علي.

والموجود فيما حرّرته عن شيخنا قدس‌سره يرجع إلى ذلك أيضا ، فإنّ هذا نصّه : وإن كان المنهي عنه هو العبادة ، فإن كانت الشبهة حكمية بأن شكّ في مشروعية العبادة المنهي عنها كان المرجع هو أصالة عدم المشروعية ، فيحكم على تلك العبادة بالفساد. وإن كانت الشبهة مفهومية كان المرجع هو البراءة أو الاشتغال ، على الكلام في مسألة الأقل والأكثر. وإن كانت الشبهة موضوعية كان المرجع هو الاشتغال ، انتهى.

وقد عرفت (١) الكلام في تصوير كون الشبهة موضوعية في المقام ، وذلك بأن يكون حرمة العبادة في حال الحيض محرزة ، وكذلك كونها مانعة من الصحّة يكون محرزا أيضا ، ويكون المشكوك هو تحقّق الموضوع وأنّ الحال هل هو حال حيض مثلا ، ولكن يجري حينئذ أصالة البراءة من أصل الحرمة وكذلك يجري أصل البراءة من مانعية هذا الحال. فالأولى إسقاط الشبهة الموضوعية في هذا المقام ، لأنّها أجنبية عمّا نحن فيه من حكم الشكّ في كون النهي مقتضيا للفساد ، فإنّ هذه الشبهة الموضوعية إنّما تتصوّر بعد الفراغ عن كونه مقتضيا

__________________

(١) في الصفحة : ٢٦٤.

٢٦٨

للفساد. كما أنّ الأولى أيضا إسقاط الشبهة الحكمية بالمعنى المذكور ، أعني بمعنى الشكّ في الأمر ، لما عرفت من أنّ تلك العبادة حينئذ تكون في حدّ نفسها محكوما عليها بالفساد ، لعدم ثبوت مشروعيتها ، وحينئذ لا محصّل للنزاع في أنّه بعد تعلّق النهي بها ولم يثبت عندنا كونه مقتضيا للفساد هل الأصل فيه هو الفساد أو لا.

ولعلّ إدخال الشبهة الحكمية وكذلك الموضوعية كان منّا معاشر المحرّرين تبعا لما في الكفاية في النسخ الطهرانية (١) من التعرّض للأقسام الثلاثة ، غفلة عن حقيقة ما أجمله شيخنا قدس‌سره في هذا المقام.

والذي يعجبني في هذا المقام ما وجدته في تحريرات نجل شيخنا قدس‌سره حضرة الأخ الفاضل الميرزا علي آقا سلّمه الله ، فإنّه حينما كان يكتب الدرس يعرضه بخدمة والده قدس‌سره ، ولعلّ الكثير منه كان باملائه قدس‌سره. وهاك نصّ ما تفضّل باطلاعي عليه :

قال سلّمه الله : وبالجملة فهذا الشكّ السببي ـ يعني هل النهي يقتضي الفساد أو لا ـ ليس موردا لأصل أصلا ، ولكن الشكوك المسبّبة المتولّدة منه يجري فيها الأصل ، وحيث إنّ مرجع البحث إلى استتباع النهي للمانعية ، ففي العبادات يرجع إلى تردّد المكلّف به بين الأقل والأكثر ، ويبنى الصحّة والفساد حينئذ على البراءة والاشتغال ، فعلى الأوّل يحكم بالصحّة وعدم المانعية ، وعلى الثاني بالمانعية والفساد. وفي المعاملات أيضا يرجع إلى الشكّ في ترتّب الأثر المعاملي على مورد النهي ، فيكون الأصل مقتضيا للفساد إلاّ إذا فرض أصل حاكم

__________________

(١) كفاية الأصول ( المطبوعة في طهران قديما ) : ١١٠ ، وقد وردت هذه العبارة في الطبعة المحشاة بحاشية المرحوم القوچاني قدس‌سره كما تقدّم في الصفحة : ٢١٩ من هذا المجلّد ، وذكرت أيضا في هامش الطبعة الحديثة المحشاة بحاشية المرحوم المشكيني قدس‌سره ٢ : ٢٣١.

٢٦٩

على أصالة الفساد ، والظاهر أن لا يكون هناك أصل حاكم على أصالة الفساد من الجهة التي نحن فيها ، انتهى ما أردت نقله من التحريرات المشار إليها.

وأنت ترى كيف حصر الشبهة فيما نحن فيه بما يرجع إلى الشكّ بين الأقل والأكثر ، نظرا إلى أنّ الشكّ حينئذ يكون في كون الحرمة المذكورة مانعة ، فتكون المسألة من قبيل الشكّ في المانعية على نحو الشبهة المفهومية بالنسبة إلى ما هو متعلّق الأمر ، وأنّه هل هو مطلق الصلاة مثلا ، أو أنّه هو خصوص ما لم يكن واقعا على جهة التحريم.

نعم ، يبقى في المقام إشكال آخر ، وهو أنّ الشكّ في المانعية المتفرّع على الشكّ في اقتضاء التحريم الفساد إن كان المراد بالمانعية العقلية التي هي عبارة عن مانعية المبغوضية عن امكان التقرّب ، فذلك لا يرجع إلى الشكّ في المانعية الوضعية التي هي بجعل الشارع ، كي يكون المرجع فيها هو البراءة أو الاشتغال. وإن كان المراد بالمانعية فيه هي المانعية الوضعية ، فمن الواضح أنّ هذه المانعية لا تتفرّع عن الفساد الآتي من ناحية النهي ، الذي هو عبارة عن عدم إمكان التقرّب بالمبغوض.

وحينئذ فالأولى هو أن يقال : إنّ الشكّ في الفساد إن كان المراد بالفساد فيه هو ما ذكرناه من مانعية المبغوضية من قصد التقرّب ، بمعنى أنّا نشكّ في إمكان التقرّب به ، فلو فرضنا حصول الشكّ في ذلك ، خلافا لما حقّقناه في محلّه (١) في مسألة استصحاب الأحكام العقلية من أنّ الأحكام العقلية لا يعقل فيها الشكّ من ناحية العقل الذي هو الحاكم فيها ، فالأصل فيه حينئذ هو الاشتغال ، بمعنى الشكّ في حصول التقرّب الذي يتوقّف عليه الامتثال. وإن كان الفساد المدّعى هو الآتي من ناحية تخصيص الأمر أو تقييد اطلاقه فمع الشكّ فيه يكون أصالة العموم أو

__________________

(١) راجع حواشيه قدس‌سره على فوائد الأصول ٤ : ٣٢٠ ـ ٣٢٢ في المجلّد التاسع.

٢٧٠

الاطلاق محكمة ، فيكون الأصل هو الصحّة حينئذ. اللهمّ إلاّ أن يقال إنّا نعترف بكون النهي موجبا للتخصيص ، ولكن مع ذلك نشك في تقيّد متعلّق الأمر بعدم متعلّق النهي. وفيه ما لا يخفى ، فإنّ تسليم التخصيص يوجب إحراز الفساد ، لعدم الأمر حينئذ خطابا وملاكا ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ النهي لو كان مقتضيا للفساد لكان ذلك بحكم العقل ، من جهة كونه موجبا للمبغوضية التي لا تجتمع مع محبوبية العبادة ، أو من جهة كونه موجبا لخروج متعلّقه عن عموم الأمر خطابا وملاكا ، فلا تكون مانعية النهي إلاّ مانعية عقلية ، فلو شككنا في اقتضائه الفساد لم يكن ذلك من الشكّ في المانعية الشرعية الناشئة عن تقييد الشارع العبادة بعدم النهي عنها ، كي يكون المرجع في ذلك إلى البراءة الشرعية من تلك المانعية.

نعم يمكن أن يقال : إنّ طريقة التخصيص توجب خروج متعلّق النهي عن عموم الأمر ، وتكون النتيجة هي تقييد المأمور به بعدم متعلّق النهي ، وهذا التقييد بالعدم هو عين المانعية الشرعية ، وهذه المانعية وليدة التخصيص ، فيكون الشكّ في التخصيص الموجب للبطلان راجعا إلى الشكّ في تقيّد الصلاة بعدم مورد النهي ، فيكون من قبيل الشكّ في المانعية الشرعية.

نعم ما ذكرناه من عدم إمكان البراءة في مثل صلاة الحائض مسلّم ، ولكنّه في العموم الشمولي أعني وجوب الصلاة في كلّ يوم وقد خرج منه أيّام الحيض ، فلا امتنان في رفع هذه المانعية ، ولكن مع ذلك يكون المرجع عند الشكّ في أنّ النهي يوجب التخصيص هو العموم. أمّا لو كان العموم بدليا ، كما لو نهي عن الصلاة في الحرير ، فإنّه يرجع إلى إخراج الصلاة في الحرير عن ذلك العموم ، فيتقيّد العام بعدم الصلاة في الحرير ، يعني أنّ الصلاة الواجبة مقيّدة بأن لا تكون

٢٧١

صلاة في الحرير ، وحينئذ نقول إنّا لو شككنا في ذلك الاخراج فقد شككنا في التقييد المذكور ، ومقتضى الأصل هو البراءة من القيد المذكور. لكنّه لا حاجة إلى البراءة ، بل التمسّك بالعموم البدلي كاف في المسألة.

والخلاصة : هي أنّ الشكّ الآتي من ناحية النهي حاله حال الشكّ المتعلّق بفساد المعاملة أو العبادة من ناحية أخرى قبل تعلّق النهي ، وعند ما تكون الشبهة فيه حكمية يكون المرجع فيه هو العمومات والاطلاقات لو كانت ، وإلاّ كان المحكّم هو أصالة الفساد في المعاملة وأصالة عدم المشروعية في العبادة ، وأنّ المسألة في العبادة لا ترجع إلى مسألة الأقل والأكثر ، وأنّ هذا التطويل الذي ذكرناه في توجيه ما في الكفاية وما في كلام شيخنا قدس‌سره من إرجاع المسألة إلى مسألة الأقل والأكثر تطويل بلا طائل ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الشبهة الموضوعية فيهما قبل الاقدام فهي كما أفيد في أصالة عدم ترتّب الأثر في المعاملة وأصالة الاحتياط في العبادة ، لكن بعد الاقدام ولو غفلة يكون المرجع أصالة الصحّة أو قاعدة الفراغ ونحوهما ، فتأمّل.

قوله : الثانية أنّ العبادة وإن فرضنا إمكان تعلّق النهي بها إلاّ أنّه لا يوجب فسادها ، إذ الفساد يكون مترتّبا على عدم مشروعيتها ولو لم تكن منهيا عنها ، فلا يكون مترتّبا على النهي. وفيه : أنّ الفساد عند عدم النهي إنّما يكون من جهة الأصل ، وهي أصالة عدم المشروعية ، وعند النهي إنّما يكون مستندا إلى الدليل على الفساد الرافع لموضوع الأصل ، فالفساد في ظرف النهي يكون مستندا إلى النهي ليس إلاّ (١).

لا يخفى أنّ الظاهر من تقرير هذه الشبهة هو أنّ المنظور إليه إنّما هو مقام

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٧٢

الثبوت ، وأنّ المراد من قولهم إنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد هو ذلك المقام أعني مقام الثبوت ، ونحن إذا نظرنا إلى مقام الثبوت لا نجد فساد العبادة مستندا إلى النهي ، وإنّما يكون المستند فيه هو عدم الأمر ، فيكون فسادها الواقعي الثبوتي ناشئا عن عدم تعلّق الأمر والتشريع بتلك العبادة ، بمعنى أنّ فسادها يكون مستندا إلى كونها في الواقع غير مشروعة ، فلا يكون تعلّق النهي بها واقعا هو الموجب لفسادها.

ومن الواضح أنّ تقرير هذه الشبهة بهذه الصورة لا يدفعه أنّ الفساد الآتي من ناحية أصالة عدم المشروعية لا ينافيه الحكم بالفساد من جهة النهي لكونه دليلا اجتهاديا عليه ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان المنظور إليه هو مقام الاثبات ، فإنّه حينئذ يكون الفساد الثابت بدليل النهي فسادا بحكم الدليل الاجتهادي ، والفساد الثابت قبل ملاحظة النهي هو الفساد من ناحية الأصل العملي. أمّا لو كان المنظور في الشبهة المذكورة هو مقام الثبوت ، فالذي ينبغي أن يقال في جوابه هو أنّ العبادة في مقام الثبوت وإن كان حكمها الواقعي هو الفساد من جهة عدم الأمر ، إلاّ أنّ طروّ النهي عليها يوجب عدم إمكان تعلّق الأمر بها واقعا ، فتكون فاسدة من جهة عدم الأمر خطابا وملاكا.

وحاصله : أنّ الفعل قد يكون في حدّ نفسه ذا مصلحة يقتضي تعلّق الأمر به ، ويكون حصول تلك المصلحة منه متوقّفا على الاتيان به على الوجه العبادي ، بمعنى أنّ ذلك الفعل في حدّ نفسه يكون من سنخ العبادات التي يتوقّف حصول الغرض منها على الاتيان بها بعنوان العبادية ، فذلك الفعل لو خلي ونفسه لتعلّق الأمر العبادي به وكان عبادة صحيحة ، إلاّ أنّ ذلك الملاك لما زوحم في مقام التشريع بملاك النهي وكان الثاني أقوى ، كان موجبا لتعلّق النهي به ، وكان تعلّق

٢٧٣

النهي به موجبا لعدم تأثير ملاكه في تعلّق الأمر به. فالفساد في هذه الصورة وإن كان في الحقيقة مستندا إلى عدم الأمر الناشئ عن مغلوبية ملاكه لملاك النهي ، إلاّ أنّه يمكن التوسّع في استناده إلى النهي ، لكون تعلّقه بذلك الفعل ملازما لمغلوبية ملاك الأمر فيه. أمّا ما لا يكون في حدّ نفسه واجدا لذلك الملاك فلا يكون فساده ناشئا إلاّ عن عدم الأمر ، سواء كان منهيا عنه أو لم يكن. وهكذا الحال فيما لو كان ذا ملاك لكن كان ملاك النهي فيه مساويا لملاك الأمر ، فإنّ فساده لا يكون ناشئا إلاّ عن عدم الأمر.

وإن شئت فقل : إنّ عدم صحّة كونه عبادة ناشئ عن عدم وجدانه للملاك المؤثّر في تعلّق الأمر به ، وفي الحقيقة أنّ ذلك الفعل في المرتبة السابقة على تشريع كلّ من الأمر والنهي لا يتّصف بصحّة ولا بفساد ، وإنّما يتّصف بذلك في المرتبة المتأخرة عن التشريع ، وحيث إنّ ملاك النهي فيه كان غالبا كان الحكم المشرّع فيه هو النهي ، وحينئذ يكون فساده مستندا إلى تشريع النهي فيه أو إلى عدم الأمر في مرتبة التشريع. أمّا عدم الأمر السابق في الرتبة على التشريع فلا يكون مؤثّرا في فساده قطعا ، لما عرفت من أنّه في الرتبة السابقة على التشريع لا يتّصف بصحّة ولا فساد.

وحينئذ فما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي (١) من استناد الفساد فيه إلى عدم الأمر ، لكونه سابقا على النهي ، لم يتّضح وجهه ، إذ لو كان المراد هو العدم السابق على التشريع فقد عرفت أنّه في تلك الرتبة لا يتّصف بأحدهما ، وإن كان المراد به العدم في رتبة التشريع فليس هو ـ أعني ذلك العدم ـ سابقا على النهي ولو رتبة [ لما تقدّم ] في محلّه من عدم كون عدم أحد الضدّين سابقا [ في

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٣.

٢٧٤

الرتبة على الضدّ الآخر ] هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الاثبات فإنّا إذا نظرنا إلى عبادة ، وشككنا في صحّتها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها ، نقول إنّها إن كان لها عموم أمر يشملها حكمنا بصحّتها ، وإن لم يكن حكمنا بفسادها استنادا إلى أصالة الفساد. ثمّ إذا ورد دليل يدلّ على النهي عن تلك العبادة حكمنا بفسادها ، لكشف ذلك النهي عن عدم ملاك الأمر فيها ، أو عن غلبة ملاك النهي فيها على ملاك الأمر ، وإلاّ لم يعقل تعلّق النهي بها ، وحينئذ يكون ذلك النهي بالنسبة إلى ذلك العموم مخصّصا ، وبالنسبة إلى الأصل حاكما على حذو حكومة الدليل الاجتهادي على الأصل العملي.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الاستغناء عن الاستدلال على اقتضاء النهي الفساد في العبادة بطريق المبغوضية المانعة من إمكان التقرّب ، فإنّ هذا الاستدلال وإن كان صحيحا إلاّ أنّ تلك الطريقة كافية عنه. مضافا إلى ما عرفت فيما تقدّم (١) من أنّ هذه الطريقة إنّما تجري بعد ثبوت كون الفعل منهيا عنه ، وما دام العموم باقيا بحاله لا يدع مجالا لاثبات كون الفعل منهيا عنه ، وحينئذ تكون هذه الطريقة متأخرة رتبة عن التخصيص ، فيكون الفساد مستندا إليه لا إليها.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة أعني طريقة التخصيص لا تتوقّف على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وإن كان الأمر كذلك عندنا ، إلاّ أنّ الطريقة المذكورة تتمّ حتّى عند القائلين بعدم التبعية ، إذ يكفي في التعارض والتخصيص مجرّد التنافي بين الأمر والنهي ، ومع التخصيص الواقعي تكون تلك العبادة غير مأمور بها واقعا ، فلا يمكن تصحيحها. وأمّا دعوى تصحيحها بالملاك فإنّما هو على تقدير القول بالملاكات والمصالح والمفاسد ، ولا تتأتّى على قول المنكرين

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢٠١ ( الجهة الثالثة ).

٢٧٥

لذلك ، وقد عرفت أنّه بناء على القول بالتبعية يكون النهي مخصّصا للأمر خطابا وملاكا. ومن ذلك كلّه أيضا يظهر لك أنّ الاقتضاء لا يتوقّف على التشبّث بالقبح الفاعلي.

ويمكن أن يقال : إنّه بعد عدم كون المنظور إليه هو المرتبة السابقة على التشريع ، بل كان المنظور هو مرتبة التشريع وما بعدها ، نقول إن توقّفنا في صحّة العبادة على الأمر كان عدم صدور الأمر بها كافيا في فسادها (١) ، سواء تعلّق النهي بها أو تعلّق بها الاباحة أو تركت بلا حكم ، وحينئذ يكون الفساد مستندا إلى إبقاء الشارع عدم الأمر. وإن قلنا بكفاية الملاك وعدم توقّف صحّة العبادة على الأمر ، لم يكن بقاء عدم الأمر كافيا في فسادها بعد فرض إحراز الملاك فيها ، بل لا بدّ من طرو جهة توجب عدم صحّتها ، وذلك هو حرمتها ، وحينئذ يكون الفساد مستندا إلى التحريم لا إلى عدم الأمر ، على وجه لو لم تطرأ عليها الحرمة لأمكن التقرّب بها ، وإن بقيت غير مأمور بها ، بأن لم يجعل الشارع لها حكما أصلا إن تصوّرنا ذلك ، أو جعلها مباحة مثلا ، كلّ ذلك بعد إحراز الملاك غير المغلوب.

أمّا الكلام في إحرازه وبأي طريق يكون ذلك فذلك أمر آخر ، لا دخل له بما نحن فيه من دعوى كون الفساد مستندا إلى النهي ، لا إلى مجرّد بقاء عدم الأمر ، فإنّ هذا النهي يكون موجبا لعدم تمامية الملاك لو قلنا بامكان التقرّب وتصحيح العبادة به من [ دون ] توقّف على وجود الأمر. هذا كلّه في مقام الثبوت ، ومنه يتّضح الحال في مقام الاثبات ، وأنّه على الأوّل أعني التوقّف على الأمر يكون النهي كاشفا عن عدم الأمر ، فتفسد لعدم الأمر. وعلى الثاني لا حاجة إلى استكشاف عدم الأمر ، بل لو كان عدمه مقطوعا به لأمكن الحكم بصحّتها ، بل لا بدّ

__________________

(١) [ في الأصل : صحّتها ، والصحيح ما أثبتناه ].

٢٧٦

حينئذ من جعل النهي كاشفا عن عدم ملاك الأمر ، أو عن مغلوبيته وعدم تماميته وهو الموجب للبطلان ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الثالثة أنّ النهي عن العبادة لأمر آخر كجزئه ـ إلى قوله : ـ وجوابه أنّ الخصوصيات التي بها يتخصّص العبادة منها ما لا يكون موجبا لتنوّع العبادة بنوعين أو بصنفين ، بل يكون أمرا آخر موجبا لتشخّص العبادة كالنظر إلى الأجنبية وأمثالهما ، ومنها ما يكون موجبا لذلك ، وحينئذ فإذا تعلّق النهي بما هو متشخّص بمثل هذا التشخّص ... الخ (١).

الذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام هو : ثمّ إنّهم مثّلوا للقسم الأوّل من هذه المسألة ـ أعني ما يكون منهيا عنه من العبادة لنفسه لا لجزئه ولا لوصفه ـ بصلاة الحائض وبصوم يوم العيد. وقد أشكل على ذلك بأنّه أيضا لا يكون نوع العبادة فيه منهيا عنه ، بل يكون النهي متعلّقا بها لأجل الخصوصية اللاحقة لها ، أعني كونها في أيّام الحيض أو كون الصوم في يوم العيد ، فيكون ذلك من قبيل ما نهي عنه لجهة زائدة على حقيقة العبادة ، نظير النهي عن الصلاة في لباس الحرير. ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ الخصوصية فيما ذكر من المثال لا تكون زائدة على النوع فهي في ذلك نظير خصوصية المكلّف في كونها غير موجبة لخصوصية زائدة في النوع ، بخلاف الخصوصية في مثل الصلاة في لباس الحرير.

قلت : والأولى أن يقال : إنّ الخصوصية اللاحقة للعبادة إذا كان الأمر بالنسبة إليها انحلاليا ، كما في صلاة كلّ يوم أو صوم كلّ يوم ، وورد النهي عن الصلاة أو الصوم في بعض الأيّام ، كان النهي متوجّها إلى نفس العبادة المأمور بها ، ويكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٤ ـ ٢١٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٧٧

فيه النهي نهيا عن العبادة بذاتها ، بخلاف التي يكون الأمر بالنسبة إليها بدليا ، كما في مثل الصلاة في لباس الحرير ، فإنّ تعلّق النهي بمثله يكون لأجل الخصوصية الزائدة على نفس العبادة المأمور بها.

والحاصل : أنّ عمدة الإشكال إنّما هو إنكار القسم الأوّل ، بدعوى أنّه لا يوجد لنا عبادة منهي عنها لذاتها ، وأنّ جميع الأمثلة من قبيل العبادة المنهي عنها لوصفها أو شيء زائد على أصل حقيقتها النوعية ، حتّى في مثل صلاة الحائض وصوم العيد ، لأنّ النهي فيهما لأجل الخصوصية الزمانية. والجواب عنه هو ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ هذه الخصوصية الزمانية ليس من الخصوصيات الزائدة على نوع الصلاة ، فلأجل ذلك قلنا إنّ هذا من قبيل ما نهي عنه لذاته النوعية لا لجهة زائدة. والأولى أن يجاب بما عرفت من أنّ العموم لو كان بدليا لكان من الممكن دعوى كونها زائدة على حقيقته النوعية ، بخلاف ما لو كان شموليا كما هو المفروض في صوم يوم العيد أو صلاة الحائض ، فإنّ نفس العبادة المأمور بها في ذلك الزمان تكون منهيا عنها.

وأمّا ما في هذا التحرير من جعل الخصوصية تارة غير مقسّمة للعبادة اللاحقة لها كالنظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، وأخرى مقسّمة مثل صوم الوصال وصوم الحائض ، فلعلّه لا يخلو من تأمّل في عدم انطباق الجواب فيه على دفع الإشكال ، لأنّ الإشكال إنّما كان في إمكان القسم الأوّل ، وهذا المذكور في هذا التقسيم لا يكون جوابا له ، وإلاّ فأي هذين القسمين يكون قد تعلّق النهي به لذاته وأيّهما تعلّق النهي به لجزئه أو وصفه ، وما دخل مثال النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة فيما نحن بصدده من دعوى امكان تعلّق النهي بذات العبادة في قبال تعلّقه بها باعتبار جزئها أو وصفها.

٢٧٨

ومن ذلك يتّضح لك أنّ ما تضمّنته الحاشية (١) من الإشكال على كون النظر إلى الأجنبية لا بدّ أن يكون هو مورد النهي وإن كان صحيحا في نفسه ، إلاّ أنّه غير وارد على ما أفاده شيخنا حسبما وجدته فيما حرّرته عنه ، وحسبما حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي ، فإنّه قدس‌سره (٢) لم يذكر عنه قدس‌سره أنّه تعرّض لمسألة النظر إلى الأجنبية. وبالجملة : أنّ النظر إلى الأجنبية وإن أمكن كونه علّة في توجّه نهي إلى الصلاة نفسها ، إلاّ أنّه لم يكن هو العمدة في المثال ، وإنّما جلّ الغرض هو تصوير مثال يكون النهي فيه عن العبادة لأجل نفسها لا لأجل علّة أخرى ، فجعل النظر إلى الأجنبية قسما وجعل الباقي مقابلا له لم يتّضح المراد منه.

قوله : فلأنّ الملاك الذي يمكن التقرّب به من المولى بحكم العقل إنّما هو الملاك الذي هو في حدّ العلّة التامّة للبعث ، وليس عدم التكليف به إلاّ من جهة عدم القدرة ، كما في موارد التزاحم في مقام الامتثال ... الخ (٣).

وتوضيح ذلك : أنّ متعلّق النهي في المقام بعد أن كان هو بنفسه متعلّقا للأمر من دون تعدّد جهة في البين ، كان التزاحم حينئذ تزاحما آمريا لا مأموريا ، فإن تساوى الملاكان في نظر الشارع المقدّس لم يجعل الحكم على طبق أحدهما ، بل لا بدّ أن يحكم في ذلك بالتخيير أو الاباحة ، وإن كان الغالب هو ملاك الأمر كان الفعل واجبا من دون أن يكون منهيا عنه ، وإن كان الغالب هو ملاك النهي كان الفعل منهيا عنه ولم يكن واجبا ، سواء كان غلبة ملاك النهي على نحو بحيث ينعدم بسببه ملاك الأمر ، كما في غلبة ذي الرائحة الردية على ما فيه من الرائحة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢١٥.

(٢) راجع فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢١٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٧٩

الطيبة ، أو كانت الغلبة لا على نحو الانعدام ، بل من مجرّد أنّ ملاك النهي أقوى من ملاك الأمر ، فإنّه على أي حال يكون ذلك الفعل خارجا عن حيّز الأمر خروجا واقعيا خطابا وملاكا ، من دون فرق في ذلك بين كون عموم الأمر بدليا أو كونه شموليا. وقد تقدّم (١) تفصيل الحال في كيفية الفساد الناشئ من هذه الغلبة ، فراجع.

قوله : هذا مضافا إلى أنّ تحريم الجزء مستلزم لأخذ العبادة بالقياس إليه بشرط لا ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ هذه الجهة أعني كون النهي عن الجزء يوجب تقيّد الكل بعدمه ، بحيث إنّه يعتبر الكل بالقياس إليه بشرط لا ، هي العمدة في إثبات كون النهي عن جزء العبادة موجبا لفسادها. ولكن المرحوم الشيخ موسى حسبما عثرت على تحريراته لم يتعرّض لها ، وتكلّم في مسألة النهي عن الجزء من الناحية الفقهية ، وهي ما يعود إلى تحقّق الزيادة فيه فيما لو أبدله بجزء غير منهي عنه ، أو تحقّق النقيصة فيما لو اقتصر على الجزء المنهي عنه ، إلى غير ذلك من مبحث لزوم القران بين السورتين فيما لو قرأ العزيمة وقرأ غيرها من السور.

أمّا المرحوم الشيخ محمّد علي فقد تعرّض لذلك (٣) وأفاد أنّ الجزء المنهي عنه يوجب فساد العبادة ، لكون النهي عن الجزء موجبا لتقيّد الصلاة بعدمه ، وجعل كلا من بطلان الصلاة به من ناحية كونه زيادة وبطلانها من ناحية كونه كلاما موجبا لبطلان الصلاة وإن لم يكن من كلام الآدميين ، إضافة إلى ذلك الحجر

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٧٢ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢١٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

٢٨٠