أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

تصوّرين أو ثلاثة تصوّرات ، لأنّه كلّما كفى التصوّر الواحد كفى التصوّران أو الثلاثة ، ولا عكس. أمّا ذلك البيّن الذي اصطلحوا عليه بأنّه البيّن بالمعنى الأخص ، أعني ما يكون فيه حضور الملزوم في الذهن موجبا لحضور اللازم فيه وإن كان بينهما كمال المباينة ، كما في مثل البصر بالنسبة إلى العمى ، أو الأبوّة بالنسبة إلى البنوّة ، فينبغي أن يكون أجنبيا عن هذا اللزوم الذي سمّوه بيّنا بالمعنى الأعمّ ، بل بينهما كمال المباينة ، لأنّ ذلك في ناحية ، وهذا في ناحية ، فلا معنى للقول بأنّه أخصّ منه ، لأنّ هذا في ناحية ما يكفي في الحكم باللزوم بينهما ، وذاك راجع إلى أنّ حضور الملزوم في الذهن موجب لحضور اللازم فيه ، وأين هذه الناحية من ناحية الحكم باللزوم بينهما ، هذا.

مضافا إلى أنّ هذا اللازم ليس من عوارض الملزوم ، فكيف صحّ أن يعدّ من أقسام الخاصّة والعرض العام بقوله : وكلّ منهما إن امتنع انفكاكه عن الشيء فلازم بالنظر إلى الماهية أو الوجود ، بيّن يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم (١).

نعم ربما كانت العبارة في بعض النسخ مبدّلة بقوله : بيّن يلزم من تصوّر الملزوم أو من تصوّرهما والنسبة بينهما الجزم باللزوم (٢). وحينئذ يكون اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ منطبقا على ما ذكرناه من مثل لزوم ضعف الواحد للاثنين ، فيكون من عوارض الملزوم ، ويكون تصوّر الملزوم فيه كافيا في الحكم باللزوم. لكنّه على الظاهر من الغلط في العبارة من قبل النسّاخ ، فإنّه لم يذكر هذا المعنى للبين بالمعنى الأخصّ غيره من المنطقيين ، فراجع وتأمّل.

وعلى كلّ حال أنّ هذه الناحية ـ أعني الحكم بأنّ هذا العارض لازم لذلك

__________________

(١) الحاشية على تهذيب المنطق : ٤٦.

(٢) راجع المصدر المتقدّم.

٣٨١

المعروض ، وأنّه لا ينفكّ عنه ـ بعد ثبوتها بأحد الطرق السابقة تكون موجبة للحكم بأنّه متى وجد الملزوم فقد وجد لازمه ، فيكون اللفظ الدالّ على وجود الملزوم دالا على وجود اللازم ، بمعنى أنّا بعد أن ثبت عندنا وجود الملزوم بذلك الدليل اللفظي أو بغيره من الأدلّة نحكم بأنّ اللازم موجود أيضا ، وهذا على حذو ما يقال من أنّ الأمارات حجّة في إثبات اللوازم.

وقد عرفت أنّ ذلك ليس من قبيل الدلالة اللفظية ، بل هو من قبيل الدلالة العقلية ، فإنّ اللفظ لا يدلّ إلاّ على وجود الملزوم ، ونحن نحكم بوجود اللازم بعد أن تحقّق عندنا وجود الملزوم ، ولا ريب أنّ الانتقال من وجود الملزوم إلى الحكم بوجود اللازم لا يكون إلاّ بحكم العقل ، فاللفظ الدالّ على وجوب ذي المقدّمة ، سواء كان إخبارا عن وجوبه أو كان انشاء لجعل وجوبه يكون عندنا موجبا لتحقّق وجوبه ، ونحن بعد أن تحقّق عندنا وجوبه نحكم بأنّ مقدّمته واجبة أيضا ، لأنّه قد ثبت عندنا من الخارج أنّ وجوب المقدّمة لازم لوجوب ذيها. وهكذا الحال في جميع ما هو من هذا القبيل ، حتّى ما نحن فيه من مفهوم القضية الشرطية الذي هو الانتفاء عند الانتفاء ، لأنّ القضية الشرطية بعد أن دلّت على أنّ علّة الحكم في ناحية الجزاء هو المقدّم ، وأنّه على نحو العلّة المنحصرة ، يتحقّق عندنا المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء ، لأنّ هذا المعنى ـ أعني الانتفاء عند الانتفاء ـ لازم للانحصار المذكور ، نعم حيث إنّ هذه الملازمة يكفي في الحكم بها مجرّد تصوّر الملزوم الذي هو انحصار علّة الحكم بالمقدّم ، فلنا أن نقول : إنّ هذا اللزوم بيّن بالمعنى الأخصّ بذلك المعنى الذي ذكرناه ، لا بالمعنى الذي اصطلح عليه أهل المنطق ، واللفظ المذكور وهو القضية الشرعية وإن كانت لم تدلّ إلاّ على الملزوم ، لكن لمّا كان لزوم ذلك اللازم بيّنا واضحا ، فلنا أن نقول إنّ اللفظ

٣٨٢

يدلّ عليه بنحو من المسامحة ، وإلاّ فإنّ هذه الدلالة عقلية صرفة.

تنبيه : ربما أشكل على ما ذكروه من كون مدرك الدلالة الالتزامية هو اللزوم الذهني البيّن بالمعنى الأخصّ ، الذي هو عبارة عن كون تصوّر الملزوم موجبا لتصوّر اللازم ، بما يكون لازما للوجود الذهني ، مثل الكلّية بالنسبة إلى الإنسان ، حيث إنّها إنّما تعرضه في الذهن ، لأنّه في الخارج لا يتّصف بالكلّية ، وإنّما يتّصف بها عند وجوده في الذهن. وهكذا في لازم الماهية مثل زوجية الأربعة ، فإنّها تعرّضها في الذهن أيضا كما في الخارج. وحينئذ يلزم أن نقول : إنّ دلالة الإنسان على الكلّية والأربعة على الزوجية دلالة التزامية ، لأنّ وجود الإنسان في الذهن يلازم وجود كلّيته في الذهن ، وكذلك وجود الأربعة في الذهن يكون ملازما لوجود زوجيتها في الذهن ، فيكون مثل العمى بالنسبة إلى البصر ، حيث إنّ وجوده في الذهن يلازم وجود البصر في الذهن ، فينبغي أن تكون دلالة الإنسان على كونه كلّيا ودلالة الأربعة على كونها زوجا دلالة التزامية ، مع أنّ الملازمة بينهما ليست من قبيل البيّن بالمعنى الأخصّ ، بل هي من قبيل البيّن بالمعنى الأعمّ.

والجواب عن هذا الإشكال هو أن يقال : إنّ وجود الإنسان في الذهن وإن كان يلزمه اتّصافه بالكلّية ، وهكذا وجود الأربعة في الذهن وإن لازم اتّصافها بالزوجية في الذهن ، إلاّ أنّ ذلك ليس من قبيل البيّن بالمعنى الأخصّ ، إذ لا يكون تصوّر الإنسان موجبا لتصوّر الكلّية كما أنّ تصوّر العمى موجب لتصوّر البصر ، بل أقصى ما في البين هو أنّ الكلّية تعرضه عند وجوده في الذهن ، وهذا أمر آخر غير أنّ نفس تصوّر الإنسان يوجب تصوّر الكلّية ، إذ ربما نتصوّر الإنسان ونغفل عن كونه كلّيا.

وبالجملة : أنّ كون الكلّية لازمة له عند وجوده في الذهن الذي هو ملاك

٣٨٣

لزومها له ذهنا غير كون تصوّره موجبا لتصوّر كلّيته ، وهكذا الحال في زوجية الأربعة.

وهذا الجواب مأخوذ ممّا حقّقه السيّد الشريف في حاشيته على شرح الشمسية (١) في الجواب عن الإشكال في لازم الماهية ، وأنّه يلزم أن يكون من البيّن بالمعنى الأخصّ.

ولعلّ عبارته صريحة في أنّ اللازم الذهني هو البيّن بالمعنى الأخصّ ، وأنّ الإشكال إنّما هو في لازم الماهية.

وكيف كان ، فإنّ في هذا الجواب مجالا للنظر ، لأنّا إذا اعترفنا أنّ الكلّية لازمة لوجود الإنسان ذهنا كان محصّله أنّ الإنسان إذا وجد في الذهن لحقته الكلّية في الذهن فكانت كلّيته موجودة في الذهن ، وليس الوجود الذهني إلاّ التصوّر ، وحينئذ يكون تصوّر الإنسان الذي هو عبارة عن وجوده ذهنا ملزوما لتصوّر كلّيته الذي هو عبارة عن وجود كلّيته.

فالذي يتلخّص : توجّه الإشكال عليهم من جهات :

الأولى : عدّ مثل اللازم البيّن من عوارض الملزوم ، وقد عرفت أنّه كثيرا ما لا يكون منها ، مثل لزوم البصر للعمى.

الثانية : أنّ جعل اللزوم المذكور ملاكا للدلالة الالتزامية لا يتسرّى إلى الدلالة التصديقية.

الثالثة : أنّ البيّن بالمعنى الأخص بالتفسير المذكور لا يصحّ فيه أن نقول إنّه أخص من البيّن بالمعنى الأعمّ.

__________________

(١) شروح الشمسية ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

٣٨٤

الرابعة : أنّ جعل الملاك في الدلالة الالتزامية هو اللزوم المذكور يوجب عدم انحصار الدلالة الالتزامية فيه ، بل ينبغي تسريتها إلى مطلق اللزوم الذهني ، فتأمّل.

قال أستاذنا المحقّق المرحوم آغا ضياء الدين العراقي قدس‌سره فيما حرّرته عن درسه في هذا المقام ما هذا لفظه : إنّ الملازمة تارة تكون بعيدة جدّا ، بحيث إنّه لا ينتقل الذهن من الملزوم فيها إلى اللازم إلاّ بعد بيان ملاك الملازمة وبرهانها ، وليسمّ باللزوم غير البيّن. وتارة تكون أظهر من ذلك ، بحيث لا يحتاج الانتقال المذكور إلى أزيد من الالتفات إلى نفس الملازمة تفصيلا ، وليسمّ باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ. وثالثة تكون أظهر من هذا أيضا ، بحيث لا يحتاج في الانتقال المذكور إلى الالتفات إلى الملازمة تفصيلا ، لكونها ملتفتا إليها إجمالا حيث إنّها ارتكازية ، وليسمّ ذلك بالبين بالمعنى الأخصّ. والمراد بالملازمة في الدلالة اللفظية الالتزامية هو هذا الأخير ، أمّا إذا كانت الملازمة على أحد النحوين الأوّلين فلا تكون الدلالة على اللازم فيه من قبيل الدلالة اللفظية ، وإن كانت حجّة متّبعة عند العقلاء ، وهي مدار المطالب العلمية. ولا يخفى أنّ المفهوم حيث يدّعى فهو من قبيل القسم الأخير ، أعني ما كان لزومه للمنطوق من قبيل البيّن بالمعنى الأخصّ ، انتهى ما حرّرته عن درسه قدس‌سره.

وقال هو قدس‌سره في مقالته المطبوعة ما هذا نصّه : مقالة في المفهوم والمنطوق ، وعرّفوهما بما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق أو في محلّه. ولكن لا يخفى ما فيه من أنّ هذا البيان في المفهوم يشمل مطلق المداليل الالتزامية حتّى غير البيّنة منها بالمعنى الأعمّ ، ولازمه كون المنطوق منحصرا بالدلالة المطابقية والتضمّنية لأنّها

٣٨٥

يكون مدلولها في محلّ النطق لا غير ، والحال أنّ بناءهم على حصر المفهوم المصطلح بالبيّنات بالمعنى الأخصّ ، الذي كانت الملازمة بينهما بمثابة من الوضوح الموجب للانتقال من الملزوم إلى اللازم في عالم التصوّر ، بلا التفات إلى الملازمة تفصيلا ، بل يختصّ المفهوم المصطلح أيضا بالقضايا ، ولا يشمل دلالة المفردات على لازمها ولو كانت بتلك المثابة كدلالة الحاتم على الجود ، بل ينحصر اصطلاح المفهوم بصورة تعليق سنخ الحكم لا شخصيته وإلاّ فليس ذلك بمفهوم ، وحينئذ فلو فرض حصر المعنى عندهم بالمفهوم والمنطوق ، لازمه دخول غير ما هو مفهوم عندهم في المنطوق ، كما صرّح الفصول حيث جعل دلالة الآيتين على أقلّ الحمل في المنطوق ، وحينئذ يختلّ أمر التعريفين كليهما (١).

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي أفاده قدس‌سره في بيان مراتب الملازمة من حيث الجلاء والخفاء وإن كان صحيحا في حدّ نفسه ، إلاّ أنّه على الظاهر لا ينطبق على ما اصطلحوا عليه في البيّن بالمعنى الأخصّ ، فإنّ الذي اصطلحوا في هذا النحو من اللزوم هو أن يكون تصوّر أحد الطرفين كالعمى موجبا لتصوّر الآخر الذي هو البصر ، من دون أن يكون بينهما ملازمة ذاتية ، كي يقال إنّ وضوح ذلك التلازم الذاتي بينهما هو الذي أوجب الانتقال في عالم التصوّر من تصوّر الأوّل إلى تصوّر الثاني ، بل إنّ الذي أوجب هذا الانتقال التصوّري من الأوّل إلى الثاني هو كون الثاني مأخوذا في الأوّل ، لأنّ العمى لمّا كان معناه الموضوع له هو عدم البصر عمّا من شأنه أن يكون بصيرا ، كان تصوّر معناه المذكور موجبا لتصوّر البصر ، لأنّ معناه هو عدم [ البصر ] عمّا من شأنه أن يكون بصيرا ، فكان حضور هذا المعنى

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٣٩٥.

٣٨٦

في الذهن ملازما لحضور معنى البصر في الذهن أيضا ، من دون أن يكون بينهما تلازم ذاتي ، كي يقال إنّ هذا التلازم التصوّري الذي هو عبارة عن الانتقال في عالم التصوّر من الأوّل إلى الثاني منشؤه وضوح الملازمة بينهما.

ولو كان المراد أنّ وضوح الملازمة بين التصوّرين هو الذي أوجب ذلك الانتقال ، ففيه أنّ الملازمة بين التصوّرين ليست إلاّ كون تصوّر الأوّل موجبا للانتقال إلى تصوّر الثاني ، فلا معنى لاتّصافها بالوضوح والخفاء ، ولا لكون الوضوح هو الذي أوجب ذلك الانتقال ، لما عرفت أنّ ذلك الانتقال التصوّري هو عين الملازمة المذكورة.

وهكذا الحال في الأبوّة والبنوّة فإنّهما ليسا من المتلازمين بحسب الذات ، إذ التلازم الذاتي إنّما ينشأ عن كون [ أحد ] الأمرين معلولا للآخر أو كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، والمفروض أنّهما لا علّية ومعلولية بينهما وليسا معلولين لعلّة ثالثة ، ومع ذلك يكون تصوّر أحدهما مستدعيا لتصوّر الثاني ، فلا يمكن أن يقال إنّ منشأه هو وضوح الملازمة ، لما عرفت من أنّه لا ملازمة بينهما ، بل إنّ منشأه هو التضايف بينهما الموجب لكون تعقّل أحدهما مستدعيا تعقّل الآخر ، وحينئذ لو خصصنا اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ بما يكون منشأ الانتقال التصوّري فيه هو وضوح الملازمة ، لخرجت هذه الأمثلة عن كونها من قبيل اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ.

نعم ، يمكن أن نوسّع المنطقة في اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، ونقول إنّه عبارة عن كون تصوّر الأوّل موجبا لتصوّر الثاني ، سواء كان ذلك ناشئا عن كون الثاني مأخوذا في معنى الأوّل بالنحو الذي شرحناه في العمى والبصر ، أو كان

٣٨٧

ناشئا عن كونها من قبيل المتضايفين ، أو كان ناشئا عن اشتهار الموصوف في صفة خاصّة كاشتهار حاتم بالجود على وجه يكون حضوره في الذهن مستدعيا لحضورها فيه ـ وهذه الثلاثة لا لزوم فيها بين الذاتين. وتكلّف التفتازاني (١) للثالث وألحقه بالملازمة وسمّاها ملازمة عرفا ـ أو كان ناشئا عن وضوح الملازمة الذاتية بينهما على وجه يكون تصوّر أحدهما موجبا لتصوّر الآخر ، لأنّهما لشدّة الملازمة بينهما ووضوحها وجلائها لدى العقل يرى أنّ أحدهما عين الآخر ، على وجه يكون العقل بتعقّل أحدهما متعقّلا للآخر ، بحيث إنّه يغفل عن كونهما متغايرين وأنّ الثاني منهما لازم لذات الأوّل ، بل بواسطة وضوح الملازمة لا يرى التغاير بينهما.

وهذا الأخير إنّما يكون في اللازم الذي يكون فيه مجرّد تصوّر الملزوم كافيا في الحكم باللزوم ، كما في مثل لزوم ضعف الواحد للاثنين ، ومنه ملازمة الانتفاء عند الانتفاء للعلّية المنحصرة. ولكن هذا لو تمّ فإنّما يوجب كون اللفظ الموجب لحضور الأوّل منهما في ذهن السامع موجبا لحضور الثاني أيضا في ذهنه ، وهذه المرحلة ليست إلاّ مرحلة الدلالة الخطورية المعبّر عنها بالدلالة التصوّرية ، وأين ذلك من الدلالة التصديقية التي مرجعها إلى الحكم على المتكلّم بأنّه أراد الثاني.

نعم ، إنّا بعد أن تحقّق عندنا الملازمة الذاتية بينهما وأخبرنا المخبر بوجود الأوّل ننتقل إلى الحكم بوجود الثاني ، وهذا هو عبارة عن الاستدلال العقلي ، ولا دخل له بالدلالة اللفظية ، ولا دخل فيه أيضا لوضوح الملازمة وجلائها ، فإنّه

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٣٨٨

يجري حتّى في الملازمة الخفية ، وحينئذ يكون إدراج مثل ذلك في الدلالة اللفظية منوطا بأنّ هذه الملازمة لوضوحها يكون اللفظ الدالّ على وجود الملزوم دالا على وجود اللازم لأنّ ذلك الوضوح يسلب ما بينهما من التغاير ، فيكون الاخبار بأحدهما إخبارا بالثاني ، فيكون ذلك هو الملاك في كون هذه الدلالة لفظية ، لا أنّ ملاكه هو كون حضور الأوّل في الذهن موجبا لحضور الثاني ، بل إنّ ذلك أعني وضوح الملازمة هو الملاك أيضا في كون حضور الأوّل في الذهن موجبا لحضور الثاني فيه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ وضوح الملازمة بتلك الدرجة لما لم يكن له ضابط يضبطه ، جعلوا الضابط فيه هو كون الملازمة بدرجة من الوضوح بحيث يكون حضور الأوّل في الذهن موجبا لحضور الثاني ، ويتفرّع على الوضوح بهذه الدرجة كون الاخبار عن الأوّل إخبارا عن الثاني ، وحينئذ يكون الأمر في ذلك سهلا ، لأنّا لا بدّ لنا بعد أن ثبت وجود الأوّل أن نحكم بوجود الثاني ، بحيث ننتقل من وجود الأوّل إلى وجود الثاني. وهذا المقدار لا إشكال فيه ، غايته أنّ ذلك الانتقال هل هو عقلي صرف أو أنّه بدلالة اللفظ الدالّ على وجود الأوّل ، بحيث يكون اللفظ الدالّ على الملزوم دالا على وجود اللازم دلالة لفظية. ولو صحّحنا ذلك فلا يكون إلاّ بنحو من التسامح ، وإلاّ فإنّ الدالّ على وجود الملزوم لو كان أمرا عقليا لم يكن ذلك الأمر العقلي دالا ابتداء على وجود [ اللازم ](١) ، وإنّما يدلّ ابتداء على وجود الملزوم ، ونحن ننتقل من وجود الملزوم إلى وجود اللازم ببرهان آخر ، وهو استحالة وجود الملزوم بدون اللازم ، فتأمّل.

__________________

(١) [ في الأصل : الملزوم ، والصحيح ما أثبتناه ].

٣٨٩

قوله : وعلى أن يكون من باب ترتّب المعلول على علّته ، لا على نحو ترتّب العلّة على المعلول أو ترتّب أحد المتلازمين على الآخر كما في البرهان الإنّي ، فإنّ غاية ما يقتضيه البرهان الإنّي هو كون تحقّق المقدّم مستلزما لتحقّق التالي حتّى يترتّب انكشاف التالي على انكشاف المقدّم ، ولا يكون فيه دلالة على امتناع وجود التالي من دون المقدّم ، فلا يكون فيه دلالة على المفهوم قطعا (١).

توضيح هذه الجمل يتوقّف على ذكر مصطلحات لأهل المنطق ذكروها في قسم التصديقات ، فاللازم ذكر تلك المصطلحات ، وينحصر بيان ذلك في أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّ صاحب التهذيب قال : ثمّ إن كان الأوسط مع علّيته للنسبة في الذهن علّة لها في الواقع فلمّي ( يعني فالقياس لمّي ) وإلاّ فإنّي (٢) ، يعني أنّ الوسط المتكرّر في الشكل القياسي ، الذي هو علّة لانتقال الذهن إلى التصديق بالنسبة الواقعة في النتيجة ، إن كان في الواقع علّة لتلك النسبة كان ذلك الاستدلال القياسي لمّيا ، وإن لم يكن علّة لها في الواقع كان الاستدلال القياسي إنّيا ، وهو منحصر في ثلاثة : كون الوسط معلولا لتلك النسبة ، وكونهما معا معلولين لعلّة ثالثة ، وكونهما متضايفين مثل قولك : زيد أب وكلّ أب له ابن فزيد له ابن.

ولا يخفى أنّ الانتقال من أحد المعلولين إلى المعلول الآخر يشتمل على الانتقال أوّلا من المعلول الأوّل إلى علّتهما ، وعلى الانتقال ثانيا من وجود العلّة لهما إلى وجود المعلول الثاني ، فهو يشتمل على الانتقال من المعلول إلى العلّة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) الحاشية على تهذيب المنطق : ١١٢.

٣٩٠

لهما فيكون إنّيا من هذه الجهة ، وعلى الانتقال من علّتهما إلى المعلول الثاني فيكون لمّيا من هذه الجهة ، لكنّهم أدرجوه في الإنّي ، نظرا إلى أنّ الحجر الأساسي في الانتقال من أحد المعلولين إلى المعلول الآخر هو الانتقال الأوّل وهو إنّي ، فلأجل ذلك أطلقوا عليه اسم الإنّي ، وإلاّ فهو في الحقيقة مشتمل على كلا الانتقالين.

الأمر الثاني : أنّهم قسّموا التلازم وحصروه باعتبار منشئه في : كون أحد المتلازمين معلولا للآخر ، وكونه علّة له. وكونهما معلولين لعلّة ثالثة ، وكونهما متضايفين ، ولأجل ذلك كانت القضية الشرطية اللزومية منحصرة في أربعة أقسام : كون المقدّم علّة للتالي ، وبالعكس ، وكونهما معلولين لعلّة ثالثة ، وكونهما متضايفين مثل إن كان زيد أبا لعمرو فعمرو ابنه ، وحيث إنّ القضية الشرطية تشتمل على انتقال الذهن من المقدّم إلى التالي ، لأنّ قولنا إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا يشتمل على الانتقال الذهني من طلوع الشمس إلى وجود النهار ، نقول إنّ المقدّم فيها إن كان علّة للتالي كانت من قبيل الاستدلال والانتقال اللمّي. وإن لم يكن علّة للتالي بل كان الأمر بالعكس ، أو كانا معلولين لعلّة ثالثة ، أو كانا متضايفين ، كانت القضية الشرطية من قبيل الاستدلال والانتقال الإنّي.

ويمكن أن يقال : إنّ المتضايفين راجعان إلى المعلولين لعلّة واحدة ، حيث إنّ العلّة في أبوّة هذا لذاك وبنوّة ذاك لهذا هو تولّد هذا من ماء الأب ، وذلك التولّد هو العلّة في كون هذا أبا وذاك ابنا.

الأمر الثالث : أنّ صاحب التهذيب في القياس الاستثنائي قال : الاستثنائي ينتج مع المتّصلة وضع المقدّم ورفع التالي (١).

__________________

(١) الحاشية على تهذيب المنطق : ١٠٣.

٣٩١

فلو قلت : لو كان هذا إنسانا كان ناطقا ، كان وضع المقدم بقولك لكنّه إنسان منتجا وضع التالي وهو أنّه ناطق ، كما أنّ رفع التالي بقولك لكنّه ليس بناطق يكون منتجا رفع المقدّم وهو أنّه ليس بإنسان. أمّا رفع المقدّم بقولك لكنّه ليس بإنسان فلا يكون منتجا رفع التالي ، وكذلك وضع التالي بقولك لكنّه ناطق لا يكون منتجا وضع المقدّم. وذكر أنّ السرّ في عدم انتاج ذلك هو أنّه ربما كان التالي أعمّ ، لجواز أن يكون اللازم أعمّ من الملزوم ، مثل قولك : إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ، فلمّا كان مثل ذلك لا يكون نفي المقدم فيه موجبا لنفي التالي ، ولا إثبات التالي إثبات المقدّم ، وكانت قواعدهم عامّة ، قالوا إنّ القياس الاستثنائي في القضية المتّصلة لا يكون المنتج منه إلاّ وضع المقدّم ورفع التالي ، ولا يكون رفع المقدم ولا وضع التالي فيه منتجا ، فإنّه وإن صحّ الانتاج فيما لو كانا متساويين كما في مثل : لو كان هذا إنسانا كان ناطقا ، بأن تقول : لكنّه ليس بإنسان فهو ليس بناطق ، أو لكنّه ناطق فهو إنسان ، لكنّه لمّا لم يجر فيما لو كان التالي أعمّ من المقدم سدوا باب هذا الانتاج ، واقتصروا على وضع التالي ورفع المقدّم ليكون ذلك قاعدة كلّية جارية في كلا قسمي الشرطية ، أعني كون التالي أعمّ من المقدم وكونه مساويا له.

ولا يخفى أنّه لا يعقل كون التالي أخصّ من المقدّم ، إذ لا يصحّ أن تقول : إن كان هذا حيوانا كان إنسانا ، على نحو القضية الكلّية ، بأن تقول : كلّما كان الشيء حيوانا كان إنسانا ، فإنّ المراد من القضية الشرطية المنتجة في القياس الاستثنائي هي القضية الكلّية.

ولا يخفى أنّ مثل قولك : إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ، لو ادّعى مدّع أنّها خارجة عن الأقسام الأربعة لم يكن ذلك بضائر ، لأنّ ابراز مثل هذه القضايا الحملية بقالب القضايا الشرطية إنّما هو من قبيل المسامحة والتوسّع في التعبير ،

٣٩٢

وإلاّ فإنّ الجنس متّحد بالنوع ومحمول عليه ، لا أنّه شيء آخر يكون معلولا له أو علّة أو مضافا له.

ثمّ لا يخفى أنّ كون التالي أعمّ لا يتصوّر في القضية الشرطية المؤلّفة من المتضايفين ، ولا في القضية الشرطية التي يكون التالي فيها علّة للمقدّم ، إذ لا يعقل أعمّية أحد المتضايفين على الآخر ، ولا يعقل أعمّية العلّة من المعلول ، وإنّما يتصوّر ذلك فيما لو كان التالي معلولا للمقدّم ، فإنّه يتصوّر فيه كون المعلول أعمّ من العلّة باعتبار إمكان صدوره من علّة أخرى ، مثل : إن رمست يدك النجسة في الكرّ كانت طاهرة ، فإنّه يمكن حصول طهارتها من علّة أخرى هي غسلها بصب الماء القليل عليها. وكذلك يتصوّر كون التالي أعمّ من المقدّم في صورة كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، بأن يكون المعلول الأوّل مساويا لتلك العلّة ولكن يكون الثاني أعمّ منها باعتبار امكان حصوله من غيرها.

وبعد الفراغ من هذه المقدّمات نقول بعونه تعالى : إنّك قد عرفت أنّ أهل المنطق قالوا إنّ رفع المقدّم لا ينتج رفع التالي ، ولا يخفى أنّ انتاج رفع التالي (١) لرفع المقدّم هو عبارة أخرى عن المفهوم الذي اصطلح عليه أهل الأصول ، فإنّ أهل الأصول يقولون إنّ قولنا إن كان هذا إنسانا كان ناطقا ، يلزمه أنّه إن لم يكن إنسانا لم يكن ناطقا وهو عبارة أخرى ممّا يتحصّل من قولك لكنّه ليس بإنسان فهو ليس بناطق ، الذي قال المنطقيون إنّه ليس بصحيح. وقد عرفت أنّ عدم صحّته حقيقة إنّما هو في صورة كون المقدّم علّة للتالي وفي صورة كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، أمّا في صورة كون المقدّم معلولا للتالي وفي صورة كونهما متضايفين فقد عرفت أنّه صحيح حقيقة ، لكنّهم إنّما منعوه ليحتفظوا بقاعدتهم

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ هذا من إضافة المصدر إلى المفعول ].

٣٩٣

الكلّية.

ونحن معاشر الأصوليين بعد أن لم نتقيّد بمصطلحات المنطقيين ، وقلنا بأنّ القضية الشرطية التي يكون المقدم فيها علّة للتالي يكون لها مفهوم ، بشرط انحصار العلّة الذي هو عبارة عن كون التالي مساويا للمقدم وليس بأعمّ منه ، كان الأجدر بنا أن نقول بالمفهوم فيما لو كان المقدّم معلولا للتالي ، وفيما لو كانا متضايفين ، فلما ذا حصرناه في صورة كون المقدم علّة للتالي.

والحاصل : كما أنّ انتفاء المقدم الذي هو علّة للتالي يكون ملازما لانتفاء التالي ، فكذلك انتفاء المقدم الذي هو المعلول للتالي أو المتضايف معه يكون ملازما لانتفاء التالي ، بل إنّ الملازمة في هذين أولى منها في الأوّل ، لأنّ الانتفاء عند الانتفاء في الأوّل يتوقّف على كون العلّة منحصرة ، بخلافه في الأخيرين.

نعم ، في القضية الشرطية المؤلّفة من المعلولين لعلّة ثالثة لا يمكننا القول بالمفهوم فيها ، لأنّ ذلك يتوقّف على كون العلّة الثالثة بالنسبة إلى التالي من قبيل العلّة المنحصرة ، ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك كما أثبتناه في صورة كون المقدم علّة بطريق الاطلاق ونحوه.

والحاصل : أنّ الانتقال من نفي المقدم إلى نفي التالي الذي هو عين المفهوم قد منعه المنطقيون في صورة كون المقدم علّة للتالي. وإنّما منعوه نظرا إلى أنّه ربما كان المعلول أعمّ ، فلا يكون نفي الخاصّ دليلا على نفي العام. وهذا المانع يرتفع فيما لو كانت العلّة منحصرة ، فإنّ التالي حينئذ لا يكون أعمّ من المقدّم ، فنحن قيّدنا العلّة بالانحصار لأجل ارتفاع المانع المذكور ، وحينئذ ففيما كان المقدم متضايفا مع التالي ينبغي أن نقول فيه بثبوت المفهوم بطريق أولى. وهكذا فيما لو كان المقدم معلولا للتالي ينبغي أن نقول فيه بثبوت المفهوم بطريق

٣٩٤

أولى ، لأنّ انتفاء المعلول يلزمه انتفاء العلّة ، سواء كانت العلّة منحصرة أو كانت غير منحصرة. مضافا إلى أنّ المعلول الذي لا تكون علّته منحصرة بالتالي لا يصحّ جعله مقدّما ، إذ لا يصحّ لك أن تقول إن طهر ثوبك فقد رمسته في الماء الكثير ، إذ ليس الرمس بالماء الكثير لازما لطهارة الثوب ، لجواز حصول طهارته بالغسل بالماء القليل ، وإنّما يصحّ جعل المعلول مقدما في خصوص ما لو كان التالي الذي هو علّته من قبيل العلّة المنحصرة ، فلما ذا نقول إنّ المفهوم يتوقّف على كون المقدم علّة للتالي ، ولا يتأتّى فيما لو كان الأمر بالعكس أو كانا متضايفين.

أمّا ما أفاده في الجواب عن هذا السؤال في هذه العبارة الموجودة في هذه الطبعة الأولى (١) ، وكذلك ما أفاده وأوضحه في العبارة الموجودة في الطبعة الجديدة بقوله : ضرورة أنّ وجود المعلول ( الذي أخذناه مقدما ) وإن كان يكشف عن وجود علّته التامّة بجميع أجزائها وعن جميع ما يترتّب عليه ، إلاّ أنّ عدم المعلول لا يكشف عن عدم ذات العلّة ، لجواز استناده إلى وجود المانع ، مثلا وجود ممكن ما يكشف عن وجود الواجب بالذات ، لاستحالة وجود الممكن بنفسه. وأمّا عدمه فلا يكشف عن عدم الواجب ولا عن عدم ممكن آخر ، لجواز استناده إلى أمر يخصّه ولا يعمّ غيره ، وعلى ذلك فالقضية الشرطية التي لا يكون ترتّب التالي على المقدّم فيها من قبيل ترتّب المعلول على علّته لا يكون فيها دلالة على المفهوم قطعا ، انتهى (٢).

ففيه تأمّل ، أمّا أوّلا : فلأنّا لو فتحنا هذا الباب ـ أعني أنّ عدم المعلول لا يكشف عن عدم علّته ، لجواز وجود العلّة مع المانع من وجود المعلول ـ لانسدّ

__________________

(١) [ وهي العبارة المتقدّمة أوّل الحاشية ].

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٣٩٥

علينا باب البرهان اللمّي ، أعني الانتقال من وجود العلّة إلى وجود المعلول ، إذ حينئذ يمكن أن يقال إنّ العلّة وإن كانت موجودة إلاّ أنّ وجودها لا يكشف عن وجود معلولها ، لجواز اقتران تلك العلّة بالمانع ، فلا يكون وجود العلّة كاشفا عن وجود المعلول ، وبذلك يبطل الانتقال من وجود العلّة إلى وجود المعلول الذي هو البرهان اللمّي ، بل بذلك يبطل منطوق القضية الشرطية التي يكون مقدّمها علّة في جزائها ، إذ لا يكون وجود تلك العلّة محقّقا لوجود المعلول ، لجواز اقتران تلك العلّة بالمانع من المعلول ، فلا يصحّ قولنا إن كانت الشمس طالعة كان الأفق مضيئا. وبذلك ينهدم أساس ما رمناه من أخذ المفهوم من القضية الشرطية التي يكون مقدمها علّة في الجزاء حتّى بعد إثبات كونها علّة منحصرة ، إذ مع بطلان نفس المنطوق كيف يمكننا أخذ المفهوم منه.

وأمّا ثانيا : فلأنّا لو فرضنا كون العلّة مركّبة ولو من ذات العلّة وعدم المانع وقابلية المحل المعبّر عنه في إيجاد الممكن بالمصلحة وغير ذلك ممّا يتوقّف عليه وجود الممكن ، وإن صحّ لنا أن نستدلّ من وجود الممكن على وجود ذات علّته ، ونشكّل من ذلك قضية شرطية ونقول إنّه إن كان الممكن موجودا كانت ذات علّته موجودة أو كان انعدام مانعة محقّقا ، إلاّ أنّ ذلك تسامح في التعبير ، بل إنّ وجود الممكن إنّما يكون دليلا على وجود تمام علّته ، وبعد أن يثبت عندنا تحقّق تمام علّته ننتقل إلى تحقّق الجزء الفلاني من علّته ، فعلينا حينئذ أن نشكّل من ذلك قضيتين شرطيتين فنقول إنّه إذا وجد الممكن فقد وجدت تمام علّته ، ثمّ نقول إنّه إذا وجدت تمام علّته فقد وجد الجزء الفلاني في ضمنها ، لأنّه إذا وجد الكل فقد وجد الجزء في ضمنه.

وحينئذ نقول : إنّ انتفاء المقدم في القضية الأولى يلزمه انتفاء التالي فيها ،

٣٩٦

ثمّ نقول إذا انتفى المقدم في الثانية يلزمه انتفاء التالي فيها ، ولكن التالي هو وجود الجزء في ضمن الكل ، وأقصى ما يكون من النتيجة حينئذ هو انتفاء الجزء في ضمن الكل ، بمعنى أنّ مفهوم القضية الأولى هو أنّه إن لم يوجد الممكن لم توجد علّته التامّة ، ومفهوم القضية الثانية هو أنّه إن لم توجد علّته التامّة لم يكن جزؤها الفلاني موجودا في ضمنها. ومن الواضح أنّ نفي وجود ذات العلّة في ضمن تمام العلّة لا ينافيه وجود ذات العلّة في حدّ نفسها لا في ضمن مجموع أجزاء العلّة.

وحاصل القضية الأولى أنّه إن وجد الممكن فقد اجتمعت أجزاء علّته ، وحاصل القضية الثانية أنّه إن اجتمعت أجزاء علّة الممكن فقد وجد في ضمنها أحد أجزائها الذي هو ذات الواجب ، وحينئذ يكون مفهوم الأولى أنّه إن لم يوجد الممكن فلم تجتمع أجزاء علّته ، وحاصل مفهوم الثانية أنّه إن لم تجتمع أجزاء علّة الممكن لم يكن ذات الواجب في ضمنها ، وكلّ هذا لا ضير فيه ولا إشكال.

وبالجملة : أنّ عدم وجود الممكن لا يمكن أن يكون دليلا إلاّ على عدم اجتماع أجزاء علّته ، وعدم اجتماع أجزاء علّته لا يكون دليلا إلاّ على عدم كون الجزء الفلاني موجودا في ضمنها ، لا على عدم وجوده أصلا. وهكذا الحال من طرف الاثبات ، إذ لا علقة بين المعلول وبين أحد أجزاء علّته بما أنّه في حدّ نفسه أمر استقلالي ، وإنّما العلقة بينه وبين ذلك الجزء باعتبار كونه داخلا في ضمن أجزاء علّته ، فيكون وجود المعلول دليلا على وجود ذلك الجزء من العلّة في ضمن مجموع العلّة ، وحينئذ لا يدلّ وجود الممكن ابتداء ولا يكشف بدوا إلاّ عن اجتماع أجزاء علّته ، كما أنّ اجتماع أجزاء علّته لا يكون دليلا إلاّ على وجود الجزء الفلاني في ضمنها ، لا أنّ الاجتماع يكون دليلا على أصل وجود ذلك الجزء وإن لم يكن في ضمن المجموع ، ليكون انتفاء اجتماعها دليلا على انتفاء

٣٩٧

أصل وجود ذلك الجزء. وما أشبه هذه المغالطة بالمغالطة في قولك : كلّما وجدت الثلاثة فقد وجدت الاثنان ، وكلّما وجدت الاثنان كانت زوجا ، لتكون النتيجة أنّه كلّما وجدت الثلاثة كانت زوجا.

وحاصل المراد : هو أنّه عند كون العلّة بسيطة لا ريب في أنّ وجودها كاشف عن وجود المعلول ، وعدمها كاشف عن عدمه ، سواء جعلنا المقدم هو العلّة أو جعلناه هو المعلول. أمّا لو كان العلّة مركّبة من أربعة أجزاء مثلا فالعلّة إنّما هو اجتماع تلك الأجزاء الأربعة ، فيكون اجتماعها كاشفا عن وجود المعلول ، وعدم اجتماعها كاشفا عن عدم وجوده. كما أنّ وجود ذلك المعلول يكشف عن اجتماعها ، وعدم وجوده لا يكشف إلاّ عن عدم اجتماعها. وحينئذ يصحّ لنا أن نقول بتمامية المفهوم فيما لو كان ذلك المعلول هو المقدّم ، لأنّ عدمه يكشف عن عدم علّته وهو اجتماع تلك الأربعة ، ولا يتوقّف صحّة مفهوم تلك القضية على كون عدم ذلك المقدم كاشفا عن عدم وجود ذات الجزء الأوّل من علّته المزبورة.

فالذي تلخّص : أنّ ثبوت المفهوم للقضية الشرطية لا يتوقّف على كون المقدّم علّة ، بل إنّه لو ثبت كون المقدم علّة يتوقّف ثبوت المفهوم على ثبوت انحصار تلك العلّة ، أمّا إذا كان الشرط معلولا فلا يتوقّف ثبوت المفهوم فيه على شيء ، كما لو قلنا إنّه إن وجبت المقدمة الفلانية فقد وجب ذوها ، فإنّ مفهومه واضح ، وهو أنّه إن لم تكن تلك المقدّمة واجبة لم يكن ذوها واجبا ، انتقالا من عدم المعلول إلى عدم علّته.

وهكذا الحال في المتضايفين لو تصوّرناه في القضايا الأحكامية ، بأن ندّعي أنّ الطلب الالزامي إضافة بين الفعل وتركه ، فبالاضافة إلى الفعل يكون إيجابا ، وبالاضافة إلى الترك يكون تحريما ، فنقول إن وجب الفعل الفلاني فقد حرم

٣٩٨

تركه ، ومفهومه أنّه إن لم يجب لم يحرم تركه ، بل في المعلولين لعلّة ثالثة لو تصوّرناه في الأحكام كما سيأتي (١) في رواية معاوية بن وهب من قوله عليه‌السلام « إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت » (٢) فإنّ كلا من التقصير والافطار معلول لعلّة واحدة وهي السفر. وكما في مقدّمتين لفعل واحد مثل الوضوء وتطهير البدن للصلاة ، فنقول حينئذ إن وجب الوضوء مقدمة للصلاة فقد وجب تطهير البدن ، ومفهومه أنّه إن لم يجب الوضوء فلا يجب التطهير المذكور. نعم هذا يحتاج إلى إثبات انحصار مورد وجوب التطهير بمورد وجوب الوضوء ، كما في صورة كون المقدم علّة للتالي ، ويمكننا إثبات ذلك من الطرق التي بها أثبتنا الانحصار في ذلك.

والسرّ في ذلك هو ما عرفت من أنّ مثل هذه القضايا ينحل إلى قضيتين ، مثلما قلنا (٣) في كون الاستدلال به ينحل إلى استدلالين ، فنقول إنّ محصّل القضية الأولى هو أنّه إن وجب الوضوء غيريا للصلاة فقد تحقّقت علّته وهي وجوب الصلاة ، وإن تحقّقت علّته المذكورة تحقّق المعلول الآخر وهو وجوب التطهير ، فيكون حاصل القضية الثانية أنّه إن وجبت الصلاة فقد وجب التطهّر.

وهذه القضية الثانية وإن أمكن فيها كون التالي أعمّ ، لامكان وجوب التطهير للثوب بعلّة أخرى هي وجوب الطواف مثلا ، فتكون هذه القضية داخلة فيما يكون المقدم فيها علّة للجزاء ، فيتوقّف ثبوت المفهوم فيها على ثبوت الانحصار. ويمكننا إثبات الانحصار من القضية الأولى اللفظية وهي قولنا إن

__________________

(١) في الفائدة المذكورة في الصفحة : ٤٠٨.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٥٠٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٧.

(٣) في الصفحة : ٣٩٠.

٣٩٩

وجب الوضوء للصلاة فقد وجب التطهير ، فإنّ ظاهرها انحصار المورد الذي يجب فيه التطهّر بالمورد الذي يجب فيه الوضوء. أو نقول إنّه بعد إحراز كونهما معلولين لعلّة واحدة يكون محصّل القضية الأولى هي أنّه إن وجد هذا المعلول لأجل هذه العلّة فقد وجد المعلول الآخر لأجل تلك العلّة ، فيكون المنفي عند الانتفاء هو المعلول الآخر المترشّح من تلك العلّة ، ففي المثال لا بدّ أن يكون محصّل القضية الأولى أنّه إن وجب الوضوء للصلاة فقد وجب التطهير للصلاة ، فيكون المنفي عند انتفاء وجوب الوضوء للصلاة ، هو وجوب التطهير للصلاة لا مطلق الوجوب ولو ما يكون للطواف.

وعلى كلّ حال ، أنّ توقّف ثبوت المفهوم في مثل هذه القضية على استفادة الانحصار شيء ، وكون المفهوم منحصرا في صورة كون المقدم علّة للتالي على وجه لا يكون غيرها من القضايا الشرطية ذات مفهوم شيء آخر. وإن شئت فقل : إنّ كون القضية الشرطية ذات مفهوم لا يتوقّف على كون الشرط علّة ، بل يتأتّى فيما لو كان الشرط هو المعلول.

ومن ذلك يظهر لك أنّ المفهوم لا ينحصر بالانتقال من عدم المقدّم إلى عدم التالي ، بل يتأتّى الانتقال من عدم التالي إلى عدم المقدّم. فالقضية التي يكون مقدّمها هو العلّة يكون لها مفهومان : الانتقال من عدم مقدمها إلى عدم تاليها ، والانتقال من عدم تاليها إلى عدم مقدمها. كما أنّ القضية التي يكون مقدمها معلولا لتاليها يكون لها هذان المفهومان. غاية الأمر أنّ الانتقال من عدم العلّة إلى عدم المعلول لا يكون إلاّ إذا كانت العلّة منحصرة ، من دون فرق في ذلك بين كون العلّة هي المقدم كما في النحو الأوّل ، أو كونها هي التالي كما في النحو الثاني.

والحاصل : أنّ ما ذكروه من كون الشرطية التي يكون المقدم فيها علّة

٤٠٠