أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

منهما لا ينفكّ عنها. ولو كان المراد هو أنّ الجهر في القراءة بقيد كونه في القراءة لا يكاد ينفكّ عن القراءة ، فلا ريب أنّ كلّ فعل في حال القراءة بقيد كونه واقعا في حال القراءة لا يكاد ينفكّ عن القراءة. ثمّ إنّا لو سلّمنا أنّ كلا منهما لا يكاد ينفكّ عن القراءة ، لم يكن ذلك بمجرّده موجبا لكون النهي عنه نهيا عنها ، فإنّه قد حقّق في محلّه (١) أنّ النهي عن أحد المتلازمين لا يوجب النهي عن الملازم الآخر. نعم إنّ النهي عنه لا يجتمع مع الأمر بما هو ملازمه ، وحينئذ فالأولى هو ما تقدّم من كون الجهر في القراءة من الأوصاف المتّحدة مع القراءة ، بمعنى كون تركّبهما تركّبا اتّحاديا ، ولا دخل لذلك بمسألة الانفكاك وعدمه.

قوله : تنبيه ذكر جملة من المحقّقين أنّ المانعية واعتبار عدم شيء في العبادة يتصوّر ... الخ (٢).

كنت علّقت في هذا المقام على ما حرّرته عن شيخنا قدس‌سره تعليقا مفصّلا ، لم أجد فرصة فعلا لتجديد النظر فيه ولا لاستنساخه ، بل قلعته برمّته من ذلك الدفتر وألحقته بهذه الأوراق ، لعلّ الله أن يوفّقني بعد هذا لتجديد النظر فيه ، وهاك عين ذلك التعليق بأوراقه ، وهو هذا :

لا يخفى أنّه في خصوص لباس الحرير قد ورد (٣) النهي عن عنوانين ، أحدهما لبسه ، والآخر عن الصلاة فيه ، فتكون لنا مسألتان. ولا شبهة على الظاهر في كون النهي الأوّل نفسيا تحريميا ، لكن الظاهر أنّه لا أثر له في ناحية الصلاة ولا في الأمر بها ، فإنّ النهي عن لبس الحرير وإن كان بينه وبين الأمر بالصلاة عموم من

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٢١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) وسائل الشيعة ٤ : ٣٦٧ / أبواب لباس المصلّي ب ١١.

٣٠١

وجه ، إلاّ أنّه عند اجتماعهما لا يكون إلاّ من قبيل حرمة النظر إلى الأجنبية في حال الصلاة ، حيث إنّه لا يؤثّر في ناحيتها أثرا أصلا ، ولأجل ذلك تراهم يفتون بصحّة الصلاة فيما هو من هذا القبيل ، أعني لباس الشهرة ولبس الرجل لباس المرأة وبالعكس ، فإنّهم يفتون بصحّة الصلاة في ذلك مع التزامهم بحرمة اللباس المذكور.

وبالجملة : أنّ النهي النفسي التحريمي المتعلّق بلباس الحرير لا أثر له في ناحية الصلاة ، إلاّ بدعوى أنّ اجتماعه مع الصلاة من قبيل اجتماع الأمر والنهي ، بنحو من التخيّل أو التعمّق ، أو نقول كما حقّقناه (١) في بيان الامتناع من الجهة الثانية من مسألة الاجتماع : إنّ كلّ محرّم مقارن للصلاة يوجب عدم إمكان التقرّب بها ، وإن لم يكن تركّبه معها تركّبا انضماميا فضلا عن كونه اتّحاديا. نعم لو تستّر المكلّف بالحرير كان من قبيل النهي عن شرط العبادة ، لكنّه يكون خارجا عمّا نحن بصدده من بيان القسم الثاني من أقسام المانعية ، أعني ما تكون المانعية فيه ناشئة عن النهي النفسي ، كمسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

أمّا النهي الثاني ـ أعني النهي المتعلّق بالصلاة مع لباس الحرير ـ : فإن قلنا إنّه نهي غيري فلا كلام لنا فيه أيضا ، لكونه حينئذ عبارة عن القسم الأوّل من أقسام المانعية ، نظير النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، وليس هو محلّ كلام الجماعة من المانعية الناشئة عن النهي النفسي ، إذ ليست هذه المانعية الثابتة بالنهي عن الصلاة في لباس الحرير ناشئة عن النهي النفسي المتعلّق بنفس لبس الحرير ، ولا يتأتّى فيها ما أفادوه من أنّ تحقّق النهي موجب لانعدام الأمر ، لما

__________________

(١) تقدّم ذلك مفصّلا في الحاشية المذكورة في الصفحة : ٨٩ وما بعدها من هذا المجلّد.

٣٠٢

عرفت من أنّ تحقّق النهي عن لبس الحرير لا يكون موجبا لارتفاع الأمر بالصلاة مع لباس الحرير ، إذ لا منافاة بين النهي عن لبس الحرير وبين شمول الأمر للصلاة التي تكون مع لباس الحرير ، كما ذكروه في مسألة الصلاة بلباس الشهرة ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول بكون الملاك والعلّة في هذا النهي المفروض كونه غيريا المتعلّق بالصلاة مع الحرير ، هي نفس الملاك والعلّة في النهي عن لبس الحرير كما يظهر ممّا أفاده الأستاذ قدس‌سره (١) ، أو يكون الملاك والعلّة فيه أمرا آخر ، بحيث يكون كلّ من النهيين معلولا لعلّه مستقلّة غير علّة النهي الآخر ، فإنّ النهي الغيري المتعلّق بالصلاة مع لباس الحرير ، يكون متضمّنا لحكم شرعي مستقلّ ، لا ربط له بحرمة لبس الحرير فلا دليل على كونهما معلولين لعلّة واحدة ، فلا يستقيم حينئذ ما أفاده قدس‌سره (٢) من أنّه لو كان دليل الاضطرار رافعا للحرمة النفسية خطابا وملاكا لكان موجبا لارتفاع المانعية المزبورة ، فإنّه إنّما يوجب ارتفاعها لو قام الدليل على أنّ العلّة في المانعية المزبورة المستفادة من مثل لا تصلّ في لباس الحرير ، هي العلّة في الحرمة النفسية المستفادة من النهي عن لبس الحرير ، الذي وقع الاضطرار إليه.

وبالجملة : أنّ ما أفادوه من برهان المانعية وأنّها ناشئة عن النهي النفسي ، أعني منافاة النهي النفسي مع الأمر ، وأن تحقّق النهي يوجب ارتفاع الأمر عمّا تعلّق به النهي ، وتقيّد الأمر واختصاصه بما عدا مورد النهي ، كلّ ذلك لا ينطبق على النهي النفسي المتعلّق بلبس الحرير.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٢٤ ، وقد صرّح بذلك في فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٨ ( قوله : وثانيا ... ).

(٢) المصدر السابق.

٣٠٣

والحاصل : أنّ النهي النفسي الذي جعلوا مضادّته مع الأمر برهانا على سببيته للمانعية ، وكذلك النهي النفسي الذي سلّم الأستاذ قدس‌سره مضادّته مع الأمر ولكن أنكر كون تحقّقه علّة في ارتفاع الأمر (١) ، ليس هو النهي النفسي المتعلّق بلبس الحرير ، لما عرفت من عدم مضادّته للأمر بالصلاة ، سواء كان المنهي عنه هو مطلق اللبس ، أو كان هو خصوص اللبس في حال الصلاة ، بناء على كون النهي في ذلك نفسيا. أمّا النهي المتعلّق بالصلاة مع الحرير ، فإن قلنا إنّه نهي غيري فلا شبهة في خروجه عن مورد كلماتهم في هذا التنبيه ، لدخوله في القسم الأوّل من أقسام المانعية. وكذا لو قلنا إنّه نفسي ولكن يستفاد منه النهي الغيري ، فإنّه أيضا يكون خارجا عن محلّ كلامهم ، فإنّ المانعية فيه تكون منتزعة عن النهي الغيري. غايته أنّه استفيد ذلك النهي الغيري من النهي النفسي. مضافا إلى المنع من هذه الاستفادة ، إذ لا وجه لها. مع أنّ مانعية لباس الحرير والنهي الغيري عنه بعد فرض تعلّق النهي التحريمي النفسي بالصلاة مع لباس الحرير ، الموجب لخروج الصلاة المزبورة عن حيّز الأمر خروجا واقعيا ، لا يكون إلاّ لغوا صرفا.

ومن مجموع هذا الذي حرّرناه يظهر لك : أنّ مرادهم من النهي النفسي الذي هو السبب في المانعية هو النهي المتعلّق بالصلاة المزبورة ، وأنّ ذلك النهي نهي نفسي وأنّه محقّق للمانعية ابتداء بلا توسّط نهي غيري ، على وجه لا يكون في البين من الأحكام الشرعية إلاّ ذلك التحريم النفسي وتلك المانعية ، غايته أنّ الجماعة يدّعون الطولية بين هذين الحكمين الشرعيين ، ويقولون إنّ المانعية التي هي حكم من الأحكام الشرعية مسبّبة عن النهي التحريمي النفسي المتعلّق بالصلاة مع الحرير ، والأستاذ قدس‌سره يقول بالعرضية ، وأنّ المانعية المذكورة هي في

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٢٤.

٣٠٤

عرض النهي المذكور ، وإن اشتركا في كونهما معلولين لعلّة واحدة ، وهي المفسدة في الصلاة المزبورة.

ولكن نحن لو نظرنا إلى الدليل الدالّ على النهي عن الصلاة في لباس الحرير واستفدنا منه التحريم النفسي ، وجمعناه مع عمومات الأمر بالصلاة ، سواء كانت بدلية أو كانت شمولية ، وجدناهما متنافيين في مقام الدلالة والحكاية ، فلا بدّ حينئذ من إدخالهما في باب التعارض ، وحيث كان دليل النهي أخصّ مطلقا من دليل الأمر ، فلا محيص من جعله مخصّصا لدليل الأمر ، بحيث يكون موجبا لانحصار مدلول الأمر بما عدا مورد النهي ، كما هو الشأن في جميع ما كان من هذا القبيل ، كصلاة الحائض ونحوها من العبادات التي تعلّق بها النهي النفسي التحريمي ، فلا يكون في البين إلاّ التخصيص الواقعي ، وإخراج مورد النهي عن عموم الأمر إخراجا واقعيا ، وتقييد متعلّق الأمر بما عدا مورد النهي. ومن الواضح أنّ ذلك بمجرّده ليس من الأحكام الشرعية المجعولة للشارع ، كي نتكلّم على أنّ هذا الحكم الشرعي هل هو في طول الحرمة النفسية كما يقوله الجماعة ، أو هو في عرضها كما يقوله الأستاذ قدس‌سره ، إذ ليس في قبال النهي النفسي حينئذ إلاّ التخصيص والخروج الواقعي والتقيّد القهري لمتعلّق الأمر بما عدا مورد النهي ، وذلك أجنبي عن الأحكام الشرعية بالمرّة ، سيّما على مسلك الأستاذ قدس‌سره من عدم كون المانعية التي هي عبارة عن تقيّد المأمور به بقيد عدمي مجعولة بنفسها ، وأنّ المجعول إنّما هو منشأ انتزاعها كالجزئية والشرطية.

نعم ، يصحّ ذلك على مسلك من يقول إنّ التقييد للمأمور به بقيد وجودي أو بقيد عدمي مجعول بنفسه للشارع ، وأنّ الأمر الغيري المتعلّق بذلك القيد الوجودي والنهي الغيري المتعلّق بذلك الذي اعتبر عدمه في المأمور به منتزع عن

٣٠٥

التقييد المزبور ، فإنّه بناء على هذا القول يمكن أن يقال هنا : إنّ النهي المتعلّق بالصلاة مع الحرير بناء على كونه نفسيا لما أوجب تقيّد المأمور به بما عدا مورد النهي ، كان ذلك ـ أعني التقييد المزبور ـ حكما شرعيا مسبّبا عن النهي المذكور ، وذلك التقيّد هو المعبّر عنه بالمانعية. وهذا التقييد وإن كان من محض التعبير ، إذ لا واقعية في البين إلاّ للحرمة الشرعية النفسية ، وأمّا التقيّد المزبور فليس حكما شرعيا ، بل هو لازم قهري لكلّ تخصيص ، لكن له صورة في الجملة عند أرباب هذا القول ، أعني القائلين بجعل الجزئية والشرطية والمانعية ، التي هي عندهم ليست إلاّ تقيّد المأمور به بقيد وجودي أو بقيد عدمي.

وأمّا عند الأستاذ قدس‌سره الذي يقول بعدم جعل هذه الأمور ، ويقول إنّها انتزاعية محضة ، وإنّ المجعول إنّما هو منشأ انتزاعها ، الذي هو الأمر الغيري المتعلّق بالأمور الوجودية والنهي المتعلّق بالأمور العدمية ، فلا يصحّ له أن يقول هنا إنّ لنا حكما آخر في عرض الحرمة النفسية ، لما عرفت من أنّه ليس في البين إلاّ تلك الحرمة النفسية وتقيّد المأمور به بما عدا مورد النهي. فليس في البين حكم شرعي آخر في مقابل الحرمة النفسية يكون هو المعبّر عنه بالمانعية ، على وجه يكون ذلك الحكم باقيا بعد ارتفاع تلك الحرمة النفسية بالاضطرار ونحوه ، أو يكون هو في حدّ نفسه مجرى للأصل العملي في قبال جريان الأصل في ناحية تلك الحرمة في مقام الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، كما أفاده قدس‌سره (١) في ردّ القائلين بالطولية.

ومنه يظهر التأمّل فيما أفاده قدس‌سره من قياس هذه الحرمة النفسية المتعلّقة بالصلاة مع لباس الحرير بالحرمة النفسية المتعلّقة بالأكل في مسألة مانعية عدم المأكولية من الصلاة ، بحيث إنّه قدس‌سره أفاد ما حاصله : أنّه كما لا يكون الاضطرار

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٢٥.

٣٠٦

المسوغ لأكل لحم الأرنب مثلا ، أو البراءة الشرعية المسوّغة لأكل اللحم عند الشكّ رافعين للمانعية ، فكذلك حالهما فيما نحن فيه. ووجه التأمّل واضح ، فإنّ المانعية في غير المأكول لما كانت منتزعة عن النهي الغيري المتعلّق بما يؤخذ من حيوانات خاصّة عبّر عنها في الروايات الشريفة بما لا يؤكل لحمه ، لم يكن حل أكل لحم حيوان خاصّ عند الاضطرار ، أو عند الشكّ موجبا لاندراج ما يؤخذ من ذلك الحيوان في ذلك الصنف الخاصّ ، المعبّر عنه بأنّه مأكول اللحم ، الظاهر في كونه بعنوانه الأوّلي مأكول اللحم.

وحاصل الفرق بين المسألتين : هو أنّ حرمة الأكل ليس الإشكال مقصورا عليها ، بل يوجد في قبالها حكم شرعي آخر ، وهو النهي الغيري عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، الذي هو منشأ انتزاع التقييد المعبّر عنه بالمانعية ، بخلاف حرمة الصلاة في لباس الحرير بناء على هذا التحرير ، فإنّها لا يوجد في قبالها حكم شرعي آخر ، إذ ليس في البين إلاّ التقيّد والخروج الواقعي الناشئ عن أخصية دليل الحرمة من دليل الأمر ، فلو سقطت الحرمة المذكورة لاضطرار لم يكن في البين ما يوجب التقييد. وكذلك الحال في صورة الشكّ ، نعم في خصوص الشبهة الموضوعية إشكال ، وسيأتي (١) توضيح ذلك كلّه ، وبيان أنّ الحكومة ظاهرية أو واقعية إن شاء الله تعالى.

ولكن لا يبعد بل ينبغي القطع بأنّ مراده قدس‌سره بالحرمة النفسية في هذا المقام هي الحرمة المتعلّقة بنفس لبس الحرير ، ومراده بالمانعية هي المستفادة من النهي عن الصلاة فيه ، بناء على كون مفاده هو النهي الغيري ، وحينئذ تتمّ المقايسة التي

__________________

(١) في الصفحة ٣١٢ ـ ٣١٣ ( المقام الثالث ).

٣٠٧

أفادها قدس‌سره (١) ، وإن كان حمل كلامه قدس‌سره على ذلك منافيا لما سلّمه من المضادّة بين الحرمة النفسية والأمر ، فإنّ المضادّة لا تنطبق إلاّ على حرمة الصلاة في الحرير. اللهمّ إلاّ أن يكون تسليمه المضادّة المزبورة من باب المماشاة مع الجماعة ، كما سيأتي الاشارة إليه في آخر المبحث إن شاء الله تعالى (٢).

وكيف كان ، فالذي ينبغي هو تحرير الكلام في هذا النهي المتعلّق بالصلاة مع لباس الحرير ، بناء على هذا الذي يظهر من الجماعة من كونه نفسيا تحريميا في مقامات أربعة ، وتلحق بذلك في كلّ مقام من هذه المقامات الاشارة إلى حكم مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، ومسألة النهي الغيري لو كان النهي المتعلّق بالصلاة بلباس الحرير من قبيل النهي الغيري ، مثل النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، كما هو غير بعيد ، لما سيتّضح (٣) إن شاء الله من عدم انطباق جملة من الفتاوى المسلّمة ظاهرا عندهم على دعوى كون النهي المزبور نفسيا. مضافا إلى كون ذلك خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ ظاهرها هو مجرّد النهي الغيري عن الصلاة مع لبس الحرير ، كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ، كما لا يخفى على من لاحظ الأدلّة المقرون جملة منها بما لا يؤكل (٤) ، والمعبّر في بعضها بلا يصحّ الصلاة فيه (٥) فنقول بعونه تعالى :

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٤.

(٢) في الصفحة : ٣٢٠.

(٣) لاحظ ما سيأتي في الصفحة : ٣١٥.

(٤) راجع ما رواه إسماعيل بن سعد الأحوص عن الرضا عليه‌السلام المروي صدره في وسائل الشيعة ٤ : ٣٥٤ / أبواب لباس المصلّي ب ٦ ح ١ ، وذيله في ب ١١ ح ١.

(٥) لم نعثر على هذا اللفظ في الروايات الناهية عن الصلاة في الحرير.

٣٠٨

المقام الأوّل : في مورد تنجّز النهي المزبور ، وعدم عروض ما يوجب المعذورية في مخالفته من جهل أو غفلة أو نسيان أو شكّ أو اضطرار. ولا ريب في بطلان الصلاة في هذا المورد ، لما عرفت من أنّ النهي عن الصلاة في لباس الحرير لمّا كان أخصّ من الأمر بالصلاة كان مخصّصا له ، وموجبا لخروج الصلاة المذكورة عن تحت الأمر خطابا وملاكا ، وقهرا تكون فاسدة ، من دون أن يكون في البين مانعية وممنوعية ، لا في طول النهي المذكور ولا في عرضه (١). وهكذا الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى. نعم في مسألة النهي الغيري يكون الفساد مستندا إلى المانعية الشرعية. ومن ذلك يعلم الكلام في :

المقام الثاني : وهو مورد الجهل أو الغفلة أو النسيان ، سواء تعلّقت هذه الأمور بالحكم أو كانت متعلّقة بالموضوع ، إذ بعد أن اتّضح خروج الصلاة مع الحرير عن الأمر خروجا واقعيا خطابا وملاكا ، لم يكن حينئذ أثر للعلم بذلك

__________________

(١) [ وجدنا ورقة مرفقة بالأصل ارتأينا إدراجها في الهامش. وهي كما يلي : ] هذا ولكن لا يخفى أنّ إخراج الصلاة مع الحرير يوجب قهرا تقيّد العام بما عداها ، كما حقّق في محلّه في باب العموم ، وإذا كان مركب الأمر بالصلاة هو الصلاة المقيّدة بعدم الحرير كان ذلك عبارة أخرى عن المانعية. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إخراج الصلاة مع الحرير لا يوجب تقيّد الصلاة بعدم الحرير ، بل إنّما يوجب تقيّدها بعدم الصلاة مع الحرير ، بمعنى أنّ الباقي تحت العام هو كلّ صلاة غير الصلاة مع الحرير ، فيكون القيد هو عدم الصلاة مع الحرير ، لا نفس عدم الحرير. إلاّ أنّ ذلك لا يخرج عن تقيّد الصلاة المطلوبة ، وأنّ المطلوب هو خصوص الصلاة مع عدم الحرير وأنّ الصلاة مع الحرير خارجة. والمطلب محتاج إلى مزيد تأمّل ، فتأمّل جيّدا [ وسيأتي في الهامش (٢) من الصفحة ٣١١ ما يرتبط بالمطلب ].

٣٠٩

والجهل به ، ولا للغفلة ولا للنسيان في جميع مواردها من التعلّق بالحكم أو التعلّق بالموضوع ، فيكون مقتضى ذلك هو الحكم ببطلان الصلاة في الصور المفروضة جميعا ، إلاّ بدليل آخر مثل حديث لا تعاد (١) ونحوه ، ممّا يستند إليه في تصحيح الصلاة التي وقعت مخالفة للأمر من جهة بعض الأجزاء أو الشرائط عن جهل أو نسيان أو نحوهما ، إن قلنا بجريان حديث لا تعاد في مثل ذلك.

وهكذا الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، فكما أفاد قدس‌سره (٢) أنّ التخصيص هناك يكون واقعيا لا يؤثّر فيه الجهل والنسيان ، فكذلك ينبغي أن يقول هنا بذلك. ولو قلنا بجريان حديث لا تعاد في هذه المسألة ـ أعني مسألة حرمة الصلاة في لباس الحرير ـ لزمنا القول به في تلك المسألة ، أعني مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، لكنّه قدس‌سره جعل ما تسالموا عليه من الحكم بصحّة الصلاة في مورد الاجتماع عند الجهل والنسيان برهانا على بطلان القول بالامتناع من الجهة الأولى ، ولم أتوفّق لمعرفة وجه الفرق بين المسألتين ، فإنّه قدس‌سره (٣) وإن لم يكن الحديث الشريف جاريا عنده في صورة الجهل ، وإنّما يجريه في خصوص النسيان ، إلاّ أنّهم على الظاهر يجرون حديث لا تعاد في كلّ من صورتي الجهل والنسيان في مسألة لباس الحرير ، فلم لا يمكن أن يقال إنّ الوجه في حكمهم بالصحّة في صورة الجهل والنسيان في مسألة الاجتماع ، مع قولهم بالامتناع من الجهة الأولى ، هو الاستناد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٤٠١ / أبواب التشهّد ب ٧ ح ١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٦٣.

(٣) كتاب الصلاة ( للآملي ) ٣ : ٥ وما بعدها.

٣١٠

إلى حديث لا تعاد (١).

نعم ، يمكن المناقشة في جريان حديث لا تعاد في كلا المسألتين ، بدعوى أنّه إنّما يجري في خصوص ما لو كان المأمور به محفوظا ، غايته أنّه وقع ناقصا لبعض الأجزاء والشرائط أو واجدا لبعض الموانع. أمّا لو فرض أنّ الواقع خارج عن المأمور به خطابا وملاكا كما هو مقتضى التخصيص ، فلا يكون الحديث جاريا فيه ، وإن أمكن دفع المناقشة بأنّ كلّ فاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط أو الواجد لبعض الموانع يكون خارجا عن المأمور به ، لأنّ التقييد بالجزء أو الشرط أو بعدم المانع يوجب خروج الفاقد عن حيّز الأمر ، فإنّ كلّ تقييد ينتهي إلى التخصيص ، فتأمّل (٢).

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال في مسألة النهي الغيري ، فإنّ مقتضاه هو المانعية الواقعية ، فتكون الصلاة المخالفة له فاسدة حتّى في مورد الجهل والنسيان ، إلاّ أن يستند في الصحّة في هذه الموارد إلى حديث لا تعاد. ولتوضيح

__________________

(١) فائدة : في مسألة الصلاة بلباس الحرير ، ومثل التقدّم على قبر المعصوم ونحو ذلك ، إن كان لجهل بالحكم بطلت صلاته ، لعدم جريان حديث لا تعاد في موارد الجهل بالحكم ، أمّا موارد الجهل بالموضوع فالظاهر الصحّة لحديث لا تعاد [ منه قدس‌سره ].

(٢) ونحن وإن قلنا إنّ خروج بعض الأفراد أو الأنواع عن العموم يوجب تقيّد الباقي بعدم ذلك الخارج ، مثلا إذا قال : أكرم عالما أو أكرم كلّ عالم ، ثمّ قال لا تكرم العالم الفاسق ، فإنّ هذا الأخير يوجب تقيّد الباقي بعدم العالم الفاسق ، إلاّ أنّ ذلك التقييد ليس براجع إلى المانعية ، فإنّ مرجع المانعية إلى مطلوبية عدم المانع طلبا ضمنيا ، وهذا إنّما يتصوّر في الجهة الزائدة على أصل المطلوب. أمّا إذا كان المضاف إليه العدم هو نوع خاصّ من ذلك العام مثل العالم الفاسق ، فلا يكون إخراجه موجبا للمانعية الشرعية أصلا ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٣١١

مفاد هذا الحديث الشريف ، وبيان جريانه في موارد الجهل بالحكم وعدم جريانه مقام آخر. ومن الكلام في هذا المقام يظهر لك الكلام في :

المقام الثالث : وهو مورد الشكّ ، سواء كان من قبيل الشبهة الحكمية أو كان من قبيل الشبهة الموضوعية ، فإنّ جريان البراءة في حرمة الصلاة في هذا اللباس يكون مسوغا للاتيان بها ، من دون حاجة إلى أصل آخر يجري في طرف المانعية ، لما عرفت من أنّه ليس في البين مانعية ولا ممنوعية. ثمّ لو انكشف الخلاف بعد الفراغ كان اللازم هو الاعادة أو القضاء ، إلاّ إذا استند إلى حديث لا تعاد ، بناء على جريانه فيما نحن فيه من موارد التخصيص على ما عرفت الاشارة إليه أو إلى الإجماع على إجزاء الأوامر الظاهرية في خصوص باب العبادات.

ومنه يظهر لك المنع ممّا أفادوه ممّا يظهر من كلامهم ، أعني الصحّة الواقعية لأجل حكومة البراءة على الشكّ في المانعية ، لما عرفت من أنّه بناء على كون النهي عن الصلاة في لباس الحرير تحريميا نفسيا لا يكون في البين مانعية ، وإنّما هو الخروج الواقعي ، فلو صحّ لنا أن نسمّي ذلك التخصيص الموجب للتقييد المزبور بالمانعية ، وصحّ لنا أن نقول إنّه حكم شرعي ، لم تكن الحكومة إلاّ حكومة ظاهرية لا واقعيّة. ومن ذلك يظهر لك الكلام في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

نعم ، يبقي لنا إشكال في خصوص الشبهة الموضوعية ، حيث إنّ مجرّد الحكم الظاهري برفع الحرمة أو بعدم استحقاق العقاب عليها ، لا يصحّح الاقدام على الصلاة بعنوان الامتثال بعد فرض خروج الصلاة مع الحرير عن عموم الأمر خروجا واقعيا ، فلا يكون التمسّك بالعموم في مورد الشكّ المزبور إلاّ من قبيل التمسّك به في الشبهة المصداقية. وبالجملة : لا يمكن الاقدام على الصلاة إلاّ مع

٣١٢

إحراز الأمر بها بالتمسّك بعموم الأمر ، فإن كانت الشبهة حكمية لم يكن مانع من التمسّك بالعموم بعد جريان حديث البراءة في الحرمة النفسية ، وإن كانت الشبهة موضوعية كان التمسّك به من قبيل التمسّك في الشبهة المصداقية.

والفرق بين ما نحن فيه وبين المانعية المستفادة من النهي الغيري ، أنّ المانعية لمّا كانت هناك انحلالية كان مرجع الشبهة المصداقية إلى الشكّ في اعتبار عدم هذا اللباس الخاصّ في المأمور به ، فلو جرت البراءة من اعتباره ، بمعنى أجرينا البراءة في ذلك النهي الغيري المتعلّق بذلك اللباس الخاص ، كان ذلك مصحّحا للعموم في ذلك المورد ، لرجوع الأمر بالأخرة إلى الشكّ في تخصيص العام بهذا اللباس الخاص. وهذا بخلاف الشبهة المصداقية فيما نحن فيه ، فإنّ النهي التحريمي وإن كان انحلاليا ، إلاّ أنّه لمّا أوجب خروج مورده عن تحت العام خروجا واقعيا ، كان التمسّك بالعموم في مورد الشبهة المزبورة تمسّكا به في الشبهة المصداقية.

وفي الفرق المذكور تأمّل ، لامكان أن يقال إنّ النهي التحريمي أيضا يوجب تقيّد المأمور به بما عدا مورده ، فإذا جرت فيه البراءة في مورد الشبهة المزبورة كان مرجعها إلى رفع ذلك المنع الموجب للتقييد ، فلا يكون في البين ما يمنع من جريان العموم ، فتأمّل.

ومن ذلك يتّضح لك الكلام في مسألة النهي الغيري ، فإنّ الكلام في مورد الشكّ فيها مبني على مسألة الشكّ في الأقل والأكثر.

وأمّا المقام الرابع : وهو مقام الاضطرار ، فالكلام موقوف على تحرير مقدّمة ، وهي أنّ الاضطرار إنّما يكون رافعا للحرمة التي كان متعلّقها موردا للاضطرار دون غيرها ، فلو كان الاضطرار متعلّقا بفعل لم يكن هو متعلّقا للحرمة ،

٣١٣

بل كان المتعلّق لها غيره ، لم يكن الاضطرار المذكور رافعا للحرمة المفروض عدم تعلّقها بما تعلّق به ، وذلك واضح لا يحتاج إلى شرح ولا بيان.

فنقول بعونه تعالى : إنّ الاضطرار في مثل مسألة لباس الحرير والصلاة فيه يكون على صور :

الأولى : أن لا يكون مضطرّا إلى لبسه ، ولكن انحصر ساتره بالحرير على وجه يكون متمكّنا من أحد أمور ثلاثة : الصلاة عريانا ، أو الصلاة مع الحرير ، أو ترك الصلاة.

ولا ريب في خروج هذه الصورة عمّا نحن فيه ، أعني الاضطرار إلى متعلّق الحرمة النفسية ، الذي هو حسب الفرض نفس الصلاة في الحرير. والحكم في هذه الصورة هو بقاء الحرمة المذكورة بحالها ، فيسقط الاحتمال الثاني ويبقى الأمر دائرا بين الاحتمال الأوّل وهو الصلاة عريانا والاحتمال الثالث وهو ترك الصلاة ، وتكون المسألة من باب تعذّر الشرط أعني ستر العورة ، وحيث إنّ الصلاة لا تترك بحال يتعيّن الاحتمال الأوّل. وهكذا الكلام في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

وأمّا مسألة النهي الغيري ففي هذه الصورة تكون من قبيل التزاحم بين المانعية والشرطية. وهل يكون الساقط هو شرطية الستر فيصلّي عريانا ، أو أنّ الساقط هو المانعية فيصلّي فيما لا يؤكل لحمه ـ مثلا ـ محلّ تأمّل وإشكال ، والكلام في ذلك موكول إلى محلّه من باب التزاحم (١).

الصورة الثانية : أن يكون مضطرّا إلى لبس الحرير لبرد ونحوه ، من دون

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٥٠ ، وللمصنّف قدس‌سره حواشي على الفائدة الاستطرادية المذكورة هناك تبدأ من الصفحة ٢٧٣ من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

٣١٤

اضطرار إلى نفس الصلاة وإن كانت واجبة عليه لضيق الوقت.

ولا يخفى أنّ الاضطرار في هذه الصورة إنّما يسقط حرمة لبسه ، دون حرمة الصلاة فيه ، إذ لم تكن الصلاة بنفسها هي مورد الاضطرار ، وإنّما كان مورد الاضطرار هو مجرّد اللبس ، وبناء على ذلك يقع التزاحم بين حرمة الصلاة المزبورة ووجوب أصل الصلاة ، ولا بدّ حينئذ في تقديم وجوب أصل الصلاة من الركون إلى مثل : إنّ الصلاة لا تترك بحال (١) ونحوه ، وإلاّ كان الحكم بصحّة الصلاة المزبورة بناء على تعلّق الحرمة النفسية بنفس الصلاة في غاية الإشكال ، بل بناء على الحرمة المزبورة لا يبعد القول بتقديم جانب النهي ، ولزوم تأخير الصلاة إلى ما بعد ارتفاع الاضطرار ولو بعد الوقت فتكون قضاء. ولكن الظاهر منهم قدس‌سرهم التسالم على صحّة الصلاة في الصورة المزبورة استنادا إلى الاضطرار ، وهو ممّا يؤيّد بل يدلّ على بنائهم على عدم حرمة الصلاة في الحرير ، وإن حرم مطلق لبسه ، بل وإن حرم لبسه في خصوص حال الصلاة.

وكيف كان ، فلو قلنا بحرمة الصلاة في الحرير ، وبعدم سقوط تلك الحرمة في هذه الصورة ، يظهر لك الفرق بين هذه المسألة على هذا التقدير ، وبين مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، فإنّه لو اضطرّ إلى المكان المغصوب أو اللباس المغصوب لا بسوء الاختيار صحّت الصلاة فيه بلا إشكال ، من دون حاجة إلى أنّ الصلاة لا تترك بحال. والسرّ في ذلك : أنّه ليس لنا في تلك المسألة حرمتان ، تعلّقت إحداهما بلبس المغصوب والأخرى بالصلاة فيه ، كي نقول إنّه لا يلزم من سقوط الأولى سقوط الثانية ، وإنّما الحرمة في تلك المسألة

__________________

(١) لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال ». راجع وسائل الشيعة ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

٣١٥

ممحضة للجهة الأولى ، أعني حرمة لبس المغصوب والتصرّف فيه ، وحيث إنّ الصلاة ـ بناء على الامتناع من الجهة الأولى ـ متّحدة مع التصرّف المزبور حكمنا عليها بالحرمة المزبورة ، فإذا سقطت الحرمة المزبورة بالاضطرار إلى لبس المغصوب لم يكن في البين مانع من صحّة الصلاة فيه.

ومن ذلك يظهر لك الحال في النهي الغيري ، فإنّه لو اضطرّ إلى لبس ما لا يؤكل لحمه كان ذلك موجبا لسقوط المانعية ، لعدم القدرة على تحصيل ذلك القيد العدمي ، فيكون ذلك موجبا لسقوطه ، ولو من جهة أنّ الصلاة لا تترك بحال ، الحاكم على مقتضى القيدية من سقوط المقيّد عند تعذّر قيده ، المعبّر عنه بالقيدية المطلقة. وممّا ذكرناه في هذه الصورة يظهر لك الحكم في :

الصورة الثالثة : وهي ما لو لم يكن مضطرا إلى لبس الحرير ولا إلى الصلاة فيه ، ولكنّه لو أراد أن يصلّي لم يتمكّن من الصلاة إلاّ مع لبس الحرير ، لتقية أو لحكم قاهر عليه يمنعه من الصلاة إلاّ مع الحرير ، فإنّ الكلام فيها عين الكلام في الصورة الثانية ، لكن لو اتّفق مثلها في المغصوب على القول بالامتناع من الجهة الأولى لم يجز له الإقدام على الصلاة فيه بلا كلام ، لدوران الأمر حينئذ بين الغصب الحرام أو الصلاة ، ولا ريب في تقدّم الأوّل على الثاني لكونه من حقوق الناس. ولو اتّفق مثل ذلك في مسألة النهي الغيري لزمه الصلاة معه ، لسقوط المانعية بذلك كما عرفت في الصورة الثانية.

الصورة الرابعة : ما لو كان مضطرا إلى الصلاة مع لبس الحرير. والظاهر أنّها لا صغرى لها ، نعم يتصوّر ذلك في الإكراه والالجاء ، كأن يقهره قاهر على لبس الحرير وعلى الصلاة فيه ، بحيث إنّه لا يرضى منه بمجرّد لبسه. لكنّها ليست من صغريات الاضطرار ، بل هي من صغريات الاكراه.

٣١٦

وكيف كان ، فالحكم في هذه الصورة هو صحّة الصلاة المذكورة بحسب الجمع العرفي بين الأدلّة اللفظية ، فإنّ دليل حرمة الصلاة فيه وإن كان مخصّصا لدليل الأمر بالصلاة ، إلاّ أنّه لمّا كانت أدلّة الاكراه أو الاضطرار حاكمة على دليل التحريم ، كان دليل حرمة الصلاة بلباس الحرير مختصّا بما عدا مورد الاكراه والاضطرار ، فيكون الخارج عن عمومات الأمر هو الصلاة الاختيارية في لباس الحرير ، دون ما كان منها واقعا بالاكراه أو الاضطرار ، من دون حاجة إلى ما أفادوه من كون المانعية في طول الحرمة النفسية ، لما عرفت (١) من أنّه ليس في البين مانعية وممنوعية ، لا طولية ولا عرضية.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره (٢) ، من الإشكال على ذلك بأنّ الترخيص للاضطرار أو للاكراه لا يكون رافعا إلاّ للخطاب التحريمي ، دون ملاكه الذي هو المفسدة الواقعية ، فلو كان المراد بالحرمة المذكورة فيه هي الحرمة المتعلّقة بالصلاة في لباس الحرير ، ولو بقرينة اعترافه قدس‌سره بكون الحرمة النفسية مضادّة للأمر ، وبقرينة إلحاقه مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى بهذه المسألة ، لكان قابلا للتأمّل والإشكال من جهات :

أمّا أوّلا : فلأنّ المفسدة إنّما استكشفناها من الخطاب التحريمي ، ومع كون دليل الاكراه حاكما على دليل التحريم وموجبا لاختصاصه بما عدا مورد الاكراه تخصيصا واقعيا ، لم يبق عندنا ما يستكشف منه الملاك المزبور. بل يمكن أن يقال بدلالة دليل الاضطرار على سقوط التحريم خطابا وملاكا كما اعترف به قدس‌سره (٣).

__________________

(١) في الصفحة : ٣٠٥ ـ ٣٠٧.

(٢) راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٢٤.

(٣) المصدر السابق.

٣١٧

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من عدم المانعية الشرعية على هذا التقدير ، وأنّه بناء عليه لا يكون في البين إلاّ النهي النفسي التحريمي المتعلّق بالصلاة بلباس الحرير ، وهذا هو المخصّص لدليل الأمر الموجب لبطلان الصلاة المذكورة ، ومع فرض كون هذا الدليل ـ أعني دليل الحرمة المزبورة ـ مخصّصا بدليل الاكراه بما عدا مورد الاكراه ، لم يبق لنا ما يوجب خروج الصلاة المزبورة التي أكره عليها عن عموم الأمر ، ومجرّد وجود ملاك التحريم المفروض كونه مرخّصا فيه شرعا لا يوجب التخصيص ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلأنّا لو سلّمنا خروج الصلاة المذكورة عن الأمر ، فلا ينبغي لنا الإشكال في جواز الإقدام عليها حتّى لو قلنا بالمانعية الشرعية زيادة على الحرمة النفسية. وإنّما الكلام حينئذ في كونها مسقطة للاعادة أو القضاء ، ويمكننا الحكم بذلك حينئذ استنادا إلى حديث لا تعاد (١) ، بناء على جريانه في مثل ذلك. ومن ذلك يظهر الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، وفي مسألة النهي الغيري ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن لا يخفى أنّ هذه التأمّلات الثلاثة إنّما تتوجّه على ما أفاده قدس‌سره لو كان مراده بالحرمة النفسية المدّعى ارتفاعها بالاضطرار هي حرمة الصلاة بلباس الحرير ، المستفادة من النهي عنها ، بناء على كون مفاد النهي المذكور هو الحرمة النفسية.

أمّا لو كان مراده قدس‌سره بالحرمة المذكورة هي الحرمة المتعلّقة بلبس الحرير فلا مورد للتأمّلات المسطورة ، لوضوح أنّ ارتفاع حرمة اللبس بالاضطرار إليه لا يوجب ارتفاع المانعية المستفادة من النهي عن الصلاة فيه ، بناء على كون مفاده

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٤٠١ / أبواب التشهّد ب ٧ ح ١.

٣١٨

المانعية ، بل لا بدّ حينئذ من إسقاط المانعية بمثل أنّ الصلاة لا تسقط بحال ونحوه. وهذا المعنى ـ أعني كون المراد بالحرمة النفسية هي الحرمة المتعلّقة بنفس لبس الحرير وكون النهي عن الصلاة فيه ممحضا للمانعية والنهي الغيري ـ هو الذي ينبغي أن يجزم به ، وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلامه قدس‌سره ، فيتّجه حينئذ ما أفاده من الإشكال على سقوط المانعية بالاضطرار إلى مخالفة النهي : أوّلا بعدم كون المانعية مسبّبة عن الحرمة النفسية ، وثانيا بأنّ الاضطرار إنّما يسقط الخطاب بالتحريم ، دون ملاكه الذي هو أيضا ملاك المانعية.

نعم ، يتوجّه الخدشة فيما أفاده من تسليم المضادّة بين الحرمة النفسية والأمر وإنكار كون تحقّق الحرمة سببا لعدم الأمر (١) ، فإنّ هذه المضادّة لا تنطبق على حرمة لبس الحرير ، وإنّما تنطبق على حرمة الصلاة فيه. اللهمّ إلاّ أن يكون تسليمه المضادّة من باب المماشاة مع الجماعة ، بناء على أنّ مرادهم من الحرمة المضادّة للأمر هي الحرمة المتعلّقة بلبس الحرير. لكنّه خلاف ظاهر ما نقله قدس‌سره (٢) عنهم ، فإنّ ظاهر كلامهم هو أنّ الحرمة المضادّة للأمر هي حرمة الصلاة في الحرير ، دون حرمة لبسه ، ولأجل ذلك ألحقوا بهذه المسألة مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى ، فإنّ ظاهر هذا الالحاق هو أنّهم يريدون بالحرمة هي حرمة الصلاة بالحرير ، إذ لو كان مرادهم بالحرمة حرمة اللبس لكان القول بالجواز من الجهة الأولى أيضا من قبيل هذه المسألة ، لاشتماله على حرمة اللبس ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٢١.

٣١٩

وقد تقدّم من شيخنا قدس‌سره (١) في أوّل المسألة عند التعرّض لمسألة الشكّ في اقتضاء النهي الفساد ما يستفاد منه أنّ نفس التحريم مانع ، فإنّ الصلاة تكون مقيّدة بعدمه ، لكن قد عرفت فيما تقدّم (٢) أنّ هذه المانعية عقلية لا شرعية.

هذا تمام الكلام على مانعية النهي الغيري ومانعية النهي النفسي ، ويلحق به مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

وأمّا على ما هو المختار من الجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية ، فالذي ينبغي أن يحكم به هو صحّة الصلاة واقعا في مورد الجهل والغفلة والنسيان ، وفي مورد الشكّ أيضا ، بلا حاجة إلى مثل حديث لا تعاد ، وفي الصورة الثانية والرابعة من صور الاضطرار. وأمّا في مورد العلم والاختيار ، وفي الصورة الأولى والثانية (٣) من صور الاضطرار ، فيتعيّن الحكم ببطلان الصلاة وعدم جواز الإقدام عليها مع المغصوب ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت هذا المبحث راجعت تقريرات درس الشيخ المرتضى قدس‌سره الذي أظن أنّه الأصل في هذا التقسيم ـ أعني تقسيم المانعية إلى الأقسام الثلاثة المذكورة ـ فوجدته صريحا في أنّ مرادهم بالنهي الذي هو سبب الفساد والمانعية هو النهي النفسي المتعلّق بالعبادة ، فإنّه في مبحث دلالة النهي على الفساد ذكر أنّ النواهي الواردة في العبادة على قسمين : القسم الأوّل النواهي الغيرية ، والثاني النواهي النفسية. ومثّل للثاني بمثل لا تصلّ في الدار المغصوبة ، ثمّ قال : فالحقّ أنّ النهي التحريمي يقتضي الفساد ، لما عرفت في المسألة المتقدّمة من عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة في مورد شخصي ، فالنهي

__________________

( ١ ، ٢ ) راجع ما تقدّم في الصفحة : ٢٦٧ وما بعدها.

(٣) [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ الصحيح هو : الثالثة ].

٣٢٠