أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

بالنسبة إلى ما بعد انكشاف الخلاف فلأنّ مرجع الحكم بالإجزاء إن كان بلسان إسقاط الجزء أو الشرط الذي كان المأتي به فاقدا له كان انطباقه على المأمور به انطباقا قهريا ، وكذلك لو قلنا إنّ مرجع الإجزاء إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، إذ لا محصّل لذلك التنزيل بعد انكشاف الخلاف إلاّ إسقاط لزوم ذلك الذي انفقد.

أمّا القول بأنّ الإجزاء من باب اكتفاء الشارع بالفاقد كما أفاده قدس‌سره في أواخر البراءة فقد شرحنا هناك (١) أنّه لا يمكن إلاّ بأن يكون ذلك الفاقد مفوّتا لمصلحة الواجد ، وموجبا لعدم إمكان استيفائها ، ومعه لا صحّة أصلا كي نتكلّم في كونها مجعولة أو منتزعة. ومن ذلك كلّه يظهر الحال في الأوامر الاضطرارية.

ثمّ إنّه قدس‌سره بعد هذا الذي تقدّم ممّا يظهر منه أنّ الصحّة في موارد الحكم الظاهري وفي موارد الاجزاء تكون مجعولة ، أفاد حسبما حرّرته عنه توضيحا أو استدراكا لما تقدّم بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه وهو : أنّ الصحّة دائما انتزاعية ، وإنّما الاختلاف فيما تنتزع عنه ، فما ينتزع عنه صحّة كلّ مأتي به بالنسبة إلى كليّه الواقع في درجته يكون واقعيا لا تناله يد الجعل ، وما ينتزع عنه صحّة المأتي به بالنسبة إلى كلّي آخر ، أعني ذلك الحكم الشرعي الوارد على ذلك المصداق بأنّه مطابق للكلّي الواقعي الأوّلي يكون مجعولا للشارع ، انتهى.

وبنحو ذلك صرّح المرحوم الشيخ محمّد علي في هذا المقام ، فإنّه قال فيما حرّره عنه قدس‌سره بعد ذكره الخلاف في كونهما مجعولين ما هذا لفظه : والأقوى كونهما من الأمور الانتزاعية مطلقا في العبادات والمعاملات ، كالسببية والشرطية والجزئية والمانعية ، وإنّما المجعول هو منشأ الانتزاع ، وهذا ليس على اطلاقه ، بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول. ثمّ أخذ في تفصيل ذلك إلى أن قال :

__________________

(١) [ الظاهر أنّ مراده قدس‌سره تحريراته المخطوطة ].

٢٤١

وعلى كلّ حال ، الصحّة والفساد أينما كانا فإنّما يكونان من الانتزاعيات (١). ومراده بقوله : بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول ، موارد الفعل بالنسبة إلى أمره المتعلّق به لا بالنسبة إلى أمر آخر ، فإنّ منشأ الانتزاع في الأوّل كنفس عنوان الصحّة المنتزع غير مجعول ، فلاحظ. وهكذا صرّح بذلك كلّه في باب الاستصحاب ص ١٤٦ (٢) فراجعه بما علّقناه عليه (٣) وكذلك صرّح المرحوم الشيخ موسى فيما عثرت عليه من تحريراته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، فإنّه بعد تعرّضه للصحّة في مورد الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف ولها فيه بعد انكشاف الخلاف قال ما هذا لفظه : وكيف كان ، فالحقّ أنّهما منتزعان في خصوص هذين الموردين ، وأمّا في غيرهما فلا هما مجعولان متأصلا ولا انتزاعا الخ.

ولكن مع هذا كلّه فالمطلب بعد يحتاج إلى التأمّل ، فإنّ الشارع في مورد انكشاف الخلاف إن أسقط جزئية الجزء المفقود كانت الصحّة غير مجعولة كمنشإ انتزاعها ، وكان حال ذلك الفاقد في كون صحّته انتزاعية وكون منشأ انتزاعها غير مجعول حال المأمور به الواقعي بالنسبة إلى أمره. وإن لم يسقط الجزئية المذكورة كان اللازم هو الاعادة.

وهذا التنزيل الذي أفاده شيخنا قدس‌سره لا يجتمع مع بقاء وجوب ذلك الجزء بحاله ، وليس المتحصّل من تنزيل الفاقد في هذا الحال منزلة الواجد إلاّ أنّ هذا في هذا الحال كالواجد في حال الالتفات ، في كون كلّ منهما مطابقا لما تعلّق به من الأمر ، وذلك عبارة أخرى عن سقوط الجزئية في هذا الحال. ولو سلّمنا صحّة

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٤٠٠.

(٣) في المجلّد التاسع.

٢٤٢

التنزيل المذكور مع فرض أنّ الشارع لم يسقط وجوب ذلك الجزء ، كان مرجعه إلى جعل هذا الفاقد منطبقا تنزيلا وتعبّدا مع ذلك الواجد ، وحينئذ يكون نفس الصحّة التي هي المطابقة لما هو الواقع المأمور به مجعولة من جانب الشارع ، لا أنّ المجعول هو شيء آخر والصحّة بمعنى المطابقة منتزعة عنه ، إذ ليس في البين شيء قابل للتصرّف الشرعي ومغاير لاسقاط الجزئية إلاّ ذلك التنزيل الراجع إلى جعل المطابقة ، وحينئذ تكون الصحّة مجعولة شرعا ، فتأمّل. وسيأتي (١) له مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه في الأمر الظاهري بعد انكشاف الخلاف ، وأمّا هو قبل الانكشاف فتارة يكون في مقام الجعل والتعلّق ، كأصالة البراءة من الجزئية والشرطية في مسألة الأقل والأكثر ، بل كالخبر الوارد بأنّ الجزء الفلاني ليس بواجب أو أنّه واجب. وأخرى يكون في مقام الفراغ ووادي الامتثال ، مثل قاعدة التجاوز والفراغ ونحوهما ممّا يجري في وادي تحقّق الامتثال ، ولو مثل الأمارة القائمة على الاتيان بالجزء ، كالظنّ بناء على حجّيته في الأفعال. فإن كان الأوّل فهو أجنبي عن جعل الصحّة لا ظاهرا ولا واقعا ، إذ ليس هو إلاّ منقّح لما هو المأمور به كلّية ، ويتفرّع على ذلك مطابقة المأتي به له وعدم مطابقته. وأمّا الثاني فكذلك أيضا ، إذ ليس الحكم في ذلك كلّه إلاّ من قبيل الأحكام الظاهرية الجارية في تحقيق الموضوعات الخارجية ، مثل موت زيد وحياة عمرو ، إذ لا فرق بين قيام الحكم الظاهري بأنّ زيدا قد مات في ترتّب أثره عليه من قسمة ميراثه ، وبين قيام الحكم الظاهري على هذا في الركوع بعد الفراغ ، بأنّه قد ركع بمقتضى قاعدة الفراغ أو بمقتضى الظنّ مثلا ، في ترتّب أثر الركوع عليه من سقوط الأمر وعدم الاعادة ،

__________________

(١) في هذه الحاشية والحاشية اللاحقة.

٢٤٣

وليس ذلك في شيء من جعل الصحّة.

وبالجملة : أنّ الصحّة التي هي عبارة عن مطابقة العمل للواقع أو التمامية هي من الأمور الواقعية ، فيكون حالها حال الأمور الواقعية في كونها قابلة للثبوت بالأمارات الشرعية ، وبما جعله الشارع مثبتا لها مثل قاعدة الفراغ ، فيترتّب على ذلك آثارها الشرعية ، من سقوط الأمر وعدم وجوب الاعادة والقضاء وغير ذلك ، وليس ذلك من قبيل جعل الصحّة في شيء. وأي فرق بين من صلّى ثمّ شكّ في كونه صلّى إلى القبلة وجرت في حقّه قاعدة الفراغ ، ومن قامت عنده البيّنة بعد صلاته بأنّها كانت إلى القبلة. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المجعول في حقّهما معا هو كون تلك الصلاة قد وقعت إلى القبلة ، فكانت مطابقة لما هو المأمور به واقعا ، ويكون جميع ذلك راجعا إلى جعل الصحّة ظاهرا ، فتأمّل.

وحاصل البحث أو خلاصته أو توضيحه : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) نظر إلى أثر الصحّة ، وحيث إنّه عند المتكلّم مطابقة المأمور به ، فحكم بأنّها عند المتكلّم انتزاعية صرفة ، ولمّا كان أثرها عند الفقيه إسقاط الأمر المتعلّق بالعبادة وهو عقلي بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بذلك الفعل المأتي به ، حكم بأنّها عند الفقيه عقلية صرفة لا انتزاعية ولا جعلية لا أصالة ولا تبعا ، نعم بالنسبة إلى إسقاط الاعادة أو القضاء عن الأمر الآخر الواقعي الأوّلي ، الذي هو عبارة عن الإجزاء الذي لا يكون إلاّ بحكم الشارع ، حكم بأنّها في ذلك مجعولة للشارع ، كما هو الحال في صحّة المعاملة لكون أثرها وهو الملكية مثلا مجعولا شرعا. هذا بالنسبة إلى الكلّيات ، وأمّا انطباق هذا الشخص من الفعل الخارجي الذي أوقعه المكلّف فهي لا تكون إلاّ منتزعة صرفة. هذا خلاصة ما في الكفاية.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٣ / تنبيه.

٢٤٤

ويرد عليه أنّه مناف لما حقّقه (١) أوّلا من أنّ الصحّة ليست إلاّ عبارة عن التمامية ، وأنّ هذه لا تكون إلاّ آثارا للصحّة ، وحينئذ لا تكون الصحّة إلاّ ذلك الأمر الواقعي الذي هو الواجدية لتمام ما اعتبر فيها في ترتّب الأثر المطلوب عليها ، فلا تكون الصحّة مجعولة في شيء من الموارد ، وإنّما المجعول في بعض الموارد المذكورة هو أثرها المترتّب عليها. مضافا إلى أنّ نفس الأثر في صورة الإجزاء لا يكون مجعولا ، فإنّ الإجزاء لا يكون إلاّ بعد فرض إسقاط الشارع جزئية المفقود ، وحينئذ يكون المأمور به في ذلك الحال هو ذلك الفاقد ، ولا ريب أنّ إسقاطه القضاء والاعادة حينئذ لا يكون إلاّ عقليا.

وشيخنا قدس‌سره أخذ الصحّة بمعنى انطباق المأتي به على ذلك الكلّي المأمور به ، أو انطباقه على ذلك الكلّي الذي رتّب عليه الشارع الملكية ، وهذا أعني الانطباق المذكور لا يكون إلاّ عقليا ، نعم في موارد الإجزاء ربما كان الانطباق بجعل الشارع ، فتكون الصحّة حينئذ مجعولة إذا فرضنا بقاء المجعول الواقعي على حاله ، وكان مرجع الحكم بالانطباق إلى التنزيل منزلة الواجد ، كما في موارد الإجزاء في الأمر الظاهري بعد انكشاف الخلاف. أمّا موارد الإجزاء في الأوامر الاضطرارية فحيث إنّه إنّما يكون بتبدّل التكليف عن الواجد إلى ذلك الفاقد ، لا يكون الانطباق المذكور إلاّ عقليا وانتزاعيا صرفا.

والذي هو محلّ التأمّل هو ما أفاده قدس‌سره في موارد إجزاء الأمر الظاهري عند انكشاف الخلاف ، فإنّه أيضا لا بدّ لنا من الالتزام بسقوط الأمر بذلك الجزء المفقود ، وحينئذ يكون حاله حال الإجزاء في الأوامر الاضطرارية ، لكنّه قدس‌سره التزم

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٢.

٢٤٥

هنا حسبما حرّره عنه في هذا الكتاب (١) بأنّ الأمر بالجزء المفقود باق بحاله ، وأنّ الأمر الواقعي لم يتغيّر عمّا هو عليه من تعلّقه بالمركّب التامّ ، غير أنّ الشارع من باب التسهيل والمنّة على المكلّفين حكم بأنّ هذا الفاقد منزل منزلة الواجد ، وأنّه مطابق لذلك الواجد مطابقة تنزيلية بحكم الشارع ، فيكون المجعول الأوّلي هو هذه الجهة أعني المطابقة ، فتكون المطابقة مجعولة بنفسها.

والذي يظهر ممّا حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي (٢) وغيره هو أنّ الصحّة عنوان منتزع من المطابقة ، فإن كانت المطابقة واقعية لم تكن الصحّة مجعولة ، كما أنّ منشأ انتزاعها الذي هو المطابقة لم يكن مجعولا. وإن لم تكن المطابقة واقعية ، بل كانت تنزيلية بجعل الشارع ، كما في موارد الأحكام الظاهرية قبل الانكشاف أو بعده لو قلنا بالاجزاء ، كانت المطابقة التي هي منشأ انتزاع عنوان الصحّة مجعولة ، ولكن الصحّة نفسها لا تكون مجعولة ، بل هي كما في بقية الموارد انتزاعية صرفة.

ولا يخفى أنّ هذا لا يتوقّف على كون الصحّة منتزعة من المطابقة ، بل الظاهر تأتّيه لو قلنا بأنّها منتزعة من التمامية. كما أنّ الأوّل الذي حرّره عنه قدس‌سره في هذا الكتاب لا يتوقّف على دعوى كون الصحّة عبارة عن نفس المطابقة ، بل يتأتّى مع دعوى كونها عبارة عن التمامية ، فإنّ نفس التمامية يتأتّى فيها ما تأتّى في المطابقة ، بأن يقال إنّ التمامية تارة تكون واقعية وأخرى تكون جعلية تنزيلية ، كما في موارد الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف وبعده.

وعمدة التأمّل في هذا الذي أفاده قدس‌سره بكلا تقريريه هو من ناحية أنّ التنزيل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦٠.

٢٤٦

ليس بمقصور على نفس المطابقة أو على نفس التمامية ، بل يكون مرجعه إلى إسقاط جزئية المفقود بعد انكشاف الخلاف ، فيكون حال إجزاء الأمر الظاهري بعد انكشاف الخلاف حال إجزاء الأمر الاضطراري في كون الصحّة فيه غير مجعولة ، سواء فسّرناها بالمطابقة أو بالتمامية. وأمّا الأمر الظاهري قبل انكشاف الخلاف فليس حاله إلاّ كحال الأوامر الظاهرية الجارية في الشبهات الموضوعية في عدم تكفّله إلاّ للحكم الظاهري بترتيب أثر الصحّة الواقعية من دون حاجة إلى الالتزام بجعل صحّة ظاهرية ، بل نقول إنّ الصحّة عبارة عن التمامية أو عن المطابقة ، وهذه من جملة الموضوعات الخارجية لها آثار عملية ، فمرجع التعبّد بتحقّقها كمرجع التعبّد بحياة زيد أو موته في أنّه غير متضمّن لجعل موت أو حياة ، بحيث يكون لنا موت أو حياة مجعولان شرعا ولو جعلا ظاهريا.

ثمّ إنّ ما تضمّنه تقرير المرحوم الشيخ محمّد علي من أنّ الصحّة منتزعة من المطابقة ربما لا يساعد عليه الذوق ، فإنّ الظاهر أنّ نفس المطابقة منتزعة من التمامية ، والتمامية هي الصحّة نفسها لا أنّها أمر آخر منتزع من التمامية. وإن شئت فقل : إنّ الصحّة ليست منتزعة من التمامية ولا من المطابقة ، بل هي إمّا التمامية نفسها وإمّا المطابقة نفسها ، وإذا كان في البين جعل فإنّما هو راجع إلى نفس التمامية أو إلى نفس المطابقة.

لكنّك قد عرفت أنّه لا جعل بالنسبة إلى التمامية ولا بالنسبة إلى نفس المطابقة ، بل إنّ كلا منهما ـ أعني المطابقة أو التمامية ـ إنّما هو من الأمور الواقعية ذات الآثار الشرعية العملية ، فبالنسبة إلى ما قبل الانكشاف يكون جريان الحكم الظاهري فيها كجريانه في غيرها من الموضوعات الواقعية ، في كونه لا يتضمّن الجعل ولو ظاهرا بالنسبة إلى نفس الموضوع الخارجي ، وإنّما يتضمّن الجعل

٢٤٧

الظاهري بالنسبة إلى آثاره ، هذا. مضافا إلى أنّ شيخنا قدس‌سره أنكر في محلّه (١) جعل الأحكام الظاهرية حتّى ما كان منها جاريا في الشبهات [ الحكمية ] ، وأفاد هناك أنّه ليس في مثل قيام الخبر الصحيح على وجوب الشيء الفلاني إلاّ جعل الحجّية ، الذي يعبّر عنه بجعل الهوهوية ، من دون تكفّل بجعل وجوب ظاهري.

وأمّا بالنسبة إلى ما بعد انكشاف الخلاف ينقطع ذلك الحكم الظاهري ، ويكون الدور هو دور الإجزاء ، فإن دلّ دليل على الإجزاء كان محصّله هو سقوط اعتبار ذلك المفقود من جزء أو شرط ، ويكون حال المكلّف حينئذ فيما بعد الانكشاف كحال من أتى بما هو المأمور به الواقعي ، وعلى تقدير الحكم بالصحّة تكون الصحّة واقعية لا ظاهرية.

وتوضيحا لذلك نقول : قد عرفت أنّ شيخنا قدس‌سره أخرج مسألة إجزاء الأمر الاضطراري عمّا هو محلّ الكلام ، وجعلها من قبيل تبدّل الأمر الواقعي من الواجد إلى الفاقد ، ويكون حينئذ حاله بعد ارتفاع الاضطرار كحال من قد أتى بما هو المأمور به واقعا ، في كون الصحّة فيه بمعنى التمامية أو بمعنى المطابقة لما هو الواقع ، غير مجعولة لا هي بنفسها ولا بما هو منشأ انتزاعها. وينبغي أن يكون الحال في الأجزاء الذكرية والشرائط العملية كذلك ، يعني من قبيل التبدّل وأنّ ذلك الجزء المفقود أو الشرط المفقود لنسيان أو جهل لا يكون معتبرا في ذلك الحال. وهكذا الحال في جميع ما هو مورد لحديث لا تعاد (٢) ونحوه ممّا دلّ على عدم لزوم الاعادة عند حدوث خلل فيه ، وإن كان ذلك ـ أعني عدم الاعادة ـ مقرونا بلزوم قضائه بعد الصلاة ، مثل السجدة المنسية أو التشهّد المنسي

__________________

(١) راجع فوائد الأصول ٣ : ١٠٥ وما بعدها.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٤٠١ / أبواب التشهّد ب ٧ ح ١.

٢٤٨

ونحوهما ، سواء كان ذلك من باب النسيان المحض ، أو كان من باب الاعتماد على مثل قاعدة التجاوز ثمّ بعد أن فات محلّه انكشف الخلاف ، فإنّ جميع ذلك لا يكون من قبيل إجزاء الأمر الظاهري ، بل هو من باب سقوط اعتبار ذلك المفقود في ذلك الحال. وإن شئت فراجع ما حرّرناه عنه قدس‌سره (١) في بيان مفاد حديث لا تعاد وأنّه حاكم على الأدلّة الأوّلية المتكفّلة للأجزاء والشرائط ، وأنّ الحديث مسوق لبيان عدم الجزئية عند انحصار أثرها بالاعادة. كما أنّ من الواضح خروج ما كان من قبيل الجهر والاخفات والقصر والاتمام ممّا يحكم فيه بعدم الاعادة مع بقاء التكليف الواقعي بحاله ، بحيث إنّه يعاقب على مخالفته ، فإنّ مرجع ذلك إلى الحكم بفساد العمل مع عدم التمكّن من الإعادة لكون ذلك العمل مذهبا لمصلحة الواجب أو معدما لموضوعه.

أمّا ما يكون الاعتماد فيه على مجرّد إجزاء الأمر الظاهري فالظاهر أنّه لا صغرى له فيما لدينا ولا كبرى ، ولو ثبت ذلك في بعض الموارد كان ملحقا بما تقدّم من كونه من قبيل سقوط ذلك الجزء أو الشرط المفقود.

نعم ، ادّعي الإجماع على الإجزاء في موارد تبدّل التقليد أو تبدّل الرأي ، والظاهر اختصاص ذلك بموارد القضاء في العبادات ، فلا يشمل الاعادة فيها ولا يشمل المعاملات.

وهذا الإجماع لو تمّ فلا يمكن تنزيله على ما ذكرناه من سقوط اعتبار ذلك الجزء أو الشرط المفقود ، وإلاّ لكانت جميع تلك الأجزاء والشرائط علمية بهذا المقدار ، بمعنى أنّ جزئيته تكون منوطة بعدم قيام الأمر الظاهري على خلافها في خصوص الشبهة الحكمية ، لأنّ ذلك مورد تبدّل التقليد أو الرأي. وحينئذ لا بدّ من

__________________

(١) مخطوط ، لم يطبع بعد.

٢٤٩

تنزيل ذلك الإجماع على تخصيص أدلّة القضاء ، وأنّه إنّما يجب القضاء فيما عدا موارد تبدّل الرأي أو تبدّل التقليد ، ولا دخل لذلك بالصحّة التنزيلية أصلا ، بل إنّه حينئذ يكون مؤكّدا للحكم بفساد ذلك المأتي به ، لكنّه مع ذلك لا يجب قضاؤه استنادا إلى الإجماع المذكور. أو نقول إنّ هذا الإجماع كاشف عن اختصاص حجّية الفتوى المتأخرة بما يكون من الأعمال متأخرا عنها ، فتخرج المسألة عمّا نحن فيه. على أنّ ثبوت هذا الإجماع محلّ نظر وإشكال ، فراجع ما حرّرناه فيما علّقناه في هذا الكتاب على مباحث الاجزاء (١).

والحاصل : أنّ دليل الاجزاء لا دخل له بالصحّة التنزيلية وتنزيل الفاقد منزلة الواجد ، وليس هو من الأحكام الظاهرية ، بل هو حكم واقعي لا تنزيل فيه أصلا ، فإن كان في مورد الاعادة كان مخصّصا لدليل الجزئية أو الشرطية ، وكان ملحقا لهما بالأجزاء والشرائط العلمية ، وإن كان في مورد القضاء كان مخصّصا لدليل القضاء ، ولا دخل لشيء من ذلك بالحكم الظاهري والصحّة الظاهرية ولا الصحّة الواقعية ، فتأمّل.

قوله : إلاّ أنّ الصحّة حينئذ لا تكون من الأحكام الظاهرية الصرفة ، بل تكون متوسّطة بينها وبين الأحكام الواقعية الثانوية ، فمن جهة أخذ الشكّ في موضوعها تكون من الأحكام الظاهرية ... الخ (٢).

قد تقدّم (٣) ما يظهر لك منه أنّ هذه الصحّة على تقدير كونها مجعولة للشارع ليست هي إلاّ واقعية ، ولا دخل لها بالأحكام الظاهرية. وكون موردها هو

__________________

(١) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٢٧ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢١١ [ مع اختلاف يسير عمّا في النسخة المحشاة ].

(٣) تقدّم ذلك كلّه في الحاشية السابقة.

٢٥٠

الفعل الفاقد لبعض الأجزاء الذي وقع امتثالا للأمر الظاهري لا يوجب كونها ظاهرية ، بعد فرض أنّ مورد الحكم بها إنّما هو بعد انكشاف الخلاف. ومنه يظهر لك أنّه لم يؤخذ الشكّ في موضوعها ، وإنّما كان موضوعها هو الفعل الذي علم أنّه مخالف للواقع.

ونظير هذه العبارة موجود فيما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي في هذا المقام ، فقال : نعم للشارع بعد انكشاف الخلاف الحكم بالصحّة ، ومرجع الصحّة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما أتى به امتثالا للواقع عن الواقع ، وهذه ترجع إلى الصحّة الواقعية بوجه (١). فقوله : وهذه ترجع إلى الصحّة الواقعية بوجه ، إشارة إلى هذا التفصيل الموجود في هذا الكتاب ، من كون هذه الصحّة متوسّطة بين الواقعية والظاهرية فتأمّل.

هذا كلّه في الصحّة المجعولة بعد انكشاف الخلاف ، وقد عرفت أنّها على تقدير القول بها لا تكون إلاّ حكما واقعيا. لكن قد تقدّم (٢) ما عرفت منه أنّه لا مورد لهذه الصحّة إلاّ في موارد تبدّل التقليد أو تبدّل الرأي ، وقد عرفت الحال فيهما ، وأنّ القول بالاجزاء وعدم القضاء في مثل ذلك لا يرجع إلى الصحّة. أمّا ما يكون من الصحّة الظاهرية قبل انكشاف الخلاف فقد عرفت (٣) المناقشة في كونها مجعولة ظاهرا ، لما تقدّم أوّلا من أنّ شيخنا قدس‌سره لا يقول بجعل الأحكام الظاهرية حتّى ما يجري منها في الشبهات الحكمية ، فضلا عمّا يكون جاريا منها في الشبهات الموضوعية. وثانيا أنّ الصحّة والفساد بعد الفراغ عن كونهما في مقام

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٦١.

( ٢ و٣ ) تقدّم ذلك كلّه في الحاشية السابقة.

٢٥١

الواقع من الأمور الواقعية ، يكون حالهما حال الموت والحياة في أنّ إثباتهما بأمارة أو أصل لا يكون مرجعه إلى جعلهما ، بل إلى جعل آثارهما ، هذا ما تقدّم.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ذلك أعني جعل الآثار إنّما يمكن الالتزام به فيما لو كان في البين آثار شرعية ، فإنّه حينئذ يكون مرجع التعبّد بذلك الموضوع إلى التعبّد بآثاره ، حتّى في مثل الصحّة في المعاملة المحرزة بقاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة ، فإنّه يمكن القول بأنّ مرجع التعبّد بالصحّة في ذلك إلى التعبّد بآثارها ، وهي النقل والانتقال أعني الملكية ، وهي أثر شرعي. أمّا الصحّة الظاهرية في باب العبادة المحرزة بأصالة الصحّة ، أو بقاعدة الفراغ أو بقاعدة التجاوز ، فإنّه لا يترتّب على التعبّد بهذه الصحّة إلاّ إسقاط الأمر الواقعي وحصول الامتثال ، ومن الواضح أنّ ذلك أيضا من الأمور الواقعية الغير الراجعة إلى الجعل الشرعي. وحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ أن نلتزم بأنّ الصحّة قابلة للجعل الظاهري ، أو نقول إنّ التعبّد الظاهري لم يرد على الصحّة نفسها ، وإنّما ورد على أثرها وهو حصول الامتثال وسقوط الأمر ، فيكون ذلك الأثر هو المجعول الشرعي ظاهرا لا الصحّة نفسها التي هي التمامية أو المطابقة ، لكن الأمر سهل (١) بعد الالتزام بأنّه لا بدّ من الالتزام بجعل أحد الأمرين من الصحّة أو أثرها.

__________________

(١) والوجه في هذه السهولة هو أنّه لا يتأتّى في هذه الصحّة الظاهرية ما تأتى في صورة الاجزاء الواقعي ، من أنّه كيف يمكن الحكم واقعا بأنّ هذا مجز عن الواقع مع أنّ الواقع باق بحاله لم يتغيّر. وهذا الإشكال لا يتأتّى في الصحّة الظاهرية التي يكون أثرها الاجزاء الظاهري ، الراجع إلى أنّ هذا هو الواقع ظاهرا ، من دون فرق في ذلك بين أن نجعل مركز هذا التعبّد الظاهري هو الصحّة نفسها ، أو هو أثرها الذي هو اسقاط الأمر الواقعي ظاهرا ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٢٥٢

قوله : ومع دليل النهي يكون الحكم بالفساد من جهة الدليل ، فيكون رافعا لموضوع الشكّ ... الخ (١).

هذا في العبادات واضح من جهة أنّ النهي يوجب المبغوضية ، وهي موجبة لعدم امكان التقرّب ، فيكون النهي كدليل اجتهادي على الفساد ، فلو فرض أنّ الشكّ في مشروعية العبادة يوجب القطع بفسادها ، كما أنّ الشكّ في حجّية الأمارة يوجب القطع بعدم حجّيتها ، إلاّ أنّ ذلك لا ينافي كون النهي موجبا للقطع بالفساد وعدم الحجّية ، وأنّ ما كان من جهة الشكّ نظير الحكم الظاهري ، وما جاء من جهة النهي من قبيل الحكم الواقعي.

وأمّا في المعاملة ففيه إشكال ، وهو [ أنّ ] أقصى ما في النهي عنها هو سلب السلطنة ، فلو كانت المعاملة المشكوكة مشمولة في حدّ نفسها لحديث السلطنة (٢) كان النهي عنها موجبا لفسادها ، وذلك مثل منجزات المريض لو ورد النهي عنها (٣). أمّا لو كانت من قبيل المعاملات الجديدة فلو فرضنا أنّها لا يشملها في حدّ نفسها ـ مع قطع النظر عن النهي عنها ـ عموم من العمومات حتى مثل « الناس مسلّطون على أموالهم » لأنّها لا تجري في مقام الشكّ في مشروعية السبب ، فتلك المعاملة لا يكون النهي عنها كدليل اجتهادي على الفساد ، وحينئذ يكون اللازم خروجها عن محلّ النزاع ، إذ لا أثر حينئذ في هذه المعاملة لكون النهي سالبا للسلطنة في الحكم بفسادها.

لكن الجواب عن هذا الإشكال واضح ، لأنّ مرجعه إلى دعوى عدم دلالة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

(٣) راجع وسائل الشيعة ١٩ : ٣٠٠ / كتاب الوصايا ب ١٧ ح ١١ ، ١٣ ، ١٤.

٢٥٣

النهي على الفساد في مثل ذلك ، وهذا لا يوجب خروجه عن عنوان النزاع ، وحينئذ نقول إنّ مثل هذا النهي داخل في محلّ النزاع ، غايته أنّ المختار فيه هو عدم الدلالة على الفساد ، وهو لا ينافي ما نريده من أنّ الدخول في محلّ النزاع لا يتوقّف على كونه في حدّ نفسه محكوما بالصحّة لو لا النهي ، بل يدخل فيه ما كان في حدّ نفسه محكوما بالفساد. والغرض أنّ النهي لو اقتضى الفساد لكان كدليل اجتهادي عليه ، وإن كان هو في حدّ نفسه لو لا النهي محكوما بالفساد استنادا إلى أصالة الفساد.

بل يمكن أن يقال إنّ هذه المعاملة فاسدة وإن لم يكن حديث السلطنة شاملا لها مع قطع النظر عن النهي ، لكونها من قبيل الشكّ في نفوذ ذلك السبب ، وحديث السلطنة لا يرفع الشكّ من هذه الناحية لعدم كونه مشرعا ، إلاّ أنّ حرمة هذه المعاملة كافية في الحكم بفسادها ، استنادا إلى أنّ النهي يوجب عدم قدرة المكلّف في عالم التشريع عليها ، وهو كاف في الحكم بفسادها ، وإن لم يكن ذلك النهي موجبا لخروجها عن عموم حديث السلطنة وغيره.

وحينئذ يكون فسادها مستندا إلى الدليل الاجتهادي ، الذي هو النهي السالب للقدرة في عالم التشريع على المعاملة ، وبذلك تخرج عن الفساد المستند إلى أصالة الفساد.

قوله : ولو لم يكن تمثيله بما ذكره لأمكن حمل كلامه قدس‌سره على إرادة القابلية من الاقتضاء ... الخ (١).

قال في القوانين : الثالثة محلّ النزاع في هذا الأصل ما تعلّق النهي بشيء بعد ما ورد عن الشارع له جهة صحّة ، ثمّ ورد النهي عن بعض أفراده ، أو خوطب به

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٥٤

عامّة المكلّفين ثمّ استثني منه بعضهم ، فمثل الامساك ثلاثة أيّام والقمار ونحو ذلك ليس من محلّ النزاع في شيء ، إذ الكلام والنزاع في دلالة النهي على الفساد وعدمه ، وما ذكر فاسد بالأصل ، لأنّ الأصل عدم الصحّة ، وأمّا الفساد فيدلّ عليه عدم الدليل الخ (١).

والظاهر أنّا لو أسقطنا هذا المثال لم يمكننا أن نحمل العبارة المذكورة على ما تقدّم (٢) من أنّه يعتبر في محلّ النزاع أن يكون الشيء في حدّ نفسه قابلا للاتّصاف بالصحّة والفساد ، ليخرج منه ما لا يكون كذلك.

ثمّ إنّ شيخنا قدس‌سره أفاد فيما حرّرته عنه أنّ محلّ النزاع شامل لما تكون الشبهة في صحّته لو لا النهي حكمية كهذا المثال ، والأولى تبديله بصوم الصمت ، ولما تكون الشبهة فيه مفهومية ، كما لو ورد النهي عن النافلة الرباعية مع الشكّ في كون النافلة المشروعة شاملة للرباعية ، ولما تكون الشبهة في صحّته لو لا النهي مصداقية ، كما لو شككنا في الصلاة إلى هذه الجهة الخاصّة في كونها صلاة إلى القبلة وورد النهي عن الصلاة إلى تلك الجهة ، فكلّ هذه الأمثلة يكون النهي فيها داخلا في محلّ النزاع.

قلت : وهذه الأمثلة وإن كانت لو لا النهي محكومة بالفساد استنادا إلى أصالة الفساد ، لأنّ الفرض أنّه لا عموم يشملها كي يكون ذلك العموم حاكما بصحّتها لو لا النهي ، إلاّ أنّها مع ذلك هي داخلة في محلّ النزاع ، لأنّها على تقدير القول يكون النهي فيها مقتضيا للفساد تكون محكومة بالفساد لأجل الدليل الاجتهادي الذي هو النهي ، وذلك كاف في الثمرة المترتّبة على دخولها في محلّ النزاع ، وإن

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ١٥٥.

(٢) في المقدّمة الرابعة ، راجع أجود التقريرات ٢ : ٢٠٤.

٢٥٥

كانت هي لو لا النهي أيضا محكومة بالفساد ، إلاّ أنّ ذلك من جهة الأصل أعني أصالة الفساد ، وهذا من جهة الدليل الاجتهادي. ثمّ لا يخفى أنّه يمكن القول بجعل صوم الوصال من قبيل الشبهة المفهومية نظير النافلة الرباعية ، والأمر سهل.

قوله : فإنّ مقتضى الأصل في المعاملة دائما هو الفساد ـ إلى قوله : ـ وأمّا في العبادات فإن كان الشكّ في الصحّة والفساد من جهة شبهة موضوعية ... الخ (١).

الذي ينبغي هو أن يحرّر الكلام تارة في الشبهة مع قطع النظر عن النهي ، وأخرى في الشبهة الناشئة عن النهي ، ويتكلّم على كلّ واحدة من هاتين على حدة ، وإن كانت الشبهة من الجهة الأولى خارجة عمّا نحن بصدده ، إلاّ أنّه لا بدّ من الكلام عليها أوّلا ليتّضح حالها ، وليكون الكلام على الجهة الثانية ممحضا لها ، فلا يدخله الشكّ من الناحية الأولى ، فنقول بعونه تعالى :

أمّا الكلام من الجهة الأولى فتارة يكون في العبادات ، وأخرى في المعاملات. أمّا العبادات فإن كانت الشبهة حكمية صرفة كما في مثل صوم الصمت فالظاهر أنّ الحكم فيها هو الفساد ، للشكّ في المشروعية ، وكذلك الحال فيما إذا كانت الشبهة مفهومية ، بأن يشكّ في شمول النافلة المشروعة للنافلة الرباعية. وإن كانت الشبهة المفهومية راجعة إلى الشكّ في الشرطية والجزئية ، بأن شكّ في اعتبار الاستعاذة أو التحنّك في الصلاة ، ولم يكن في البين اطلاق ، كان المرجع هو البراءة أو الاشتغال ، على الخلاف في مسألة الأقل والأكثر. وأمّا لو كانت الشبهة مصداقية فيجري فيها حكم الشكّ في تحقّق الجزء أو الشرط أو عدم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢٥٦

المانع ، ولكلّ حكم مذكور في محلّه (١) من حيث الاشتغال في الأوّل أو البراءة في الثاني. ولو كان الشكّ المذكور بعد التجاوز أو الفراغ فالمرجع هو قاعدته ، هذا حال الشبهة في العبادات.

وأمّا المعاملات فإن كانت الشبهة فيها حكمية ، كما لو شكّ في نفوذ معاملة كالمغارسة مثلا ، كان المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، إلاّ أن يدّعى أنّ لنا عمومات أو إطلاقات دالّة على نفوذ كلّ معاملة لم يثبت ردع الشارع عنها ، أو يدّعى أنّ الأصل في كلّ معاملة لم يثبت ردع الشارع عنها هو النفوذ ، من دون حاجة إلى عموم أو إطلاق يدلّ على صحّة كلّ معاملة. ولعلّ في هذا الوجه الثاني رجوعا إلى عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » (٢) وشموله لمقام الشكّ في السبب ، فتأمّل.

وهكذا الحال فيما لو كانت الشبهة مفهومية ، كما لو شكّ في شمول مثل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٣) للبيع بلا ثمن ، فإنّ الأصل في مثل هذا الشكّ هو عدم ترتّب الأثر أيضا ، إلاّ أن يدّعى الركون إلى أحد الأصلين المذكورين ، فإنّ أقصى ما فيه حينئذ هو سقوط العموم الوارد على عنوان البيع ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع عن دخوله تحت كلّي التجارة نظير الصلح بلا ثمن ، أو تحت كلّي المعاملة العرفية التي لم يثبت ردع الشارع عنها ، فتأمّل.

وإن كانت الشبهة مصداقية كان مقتضى القاعدة الأوّلية هو الحكم بعدم ترتّب الأثر ، لو لم يكن في البين ما يقتضي الصحّة ولزوم ترتّب الأثر ، من الحمل

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره على فوائد الأصول ٤ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ في المجلّد الثامن.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٢٥٧

على الصحّة أو قاعدة الفراغ ونحو ذلك من الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية في باب المعاملات لو كان الشكّ بعد الفراغ ، ولو كان قبله جرى فيه أصالة عدم ترتّب الأثر ، هذا حال الشبهة في العبادات والمعاملات من الجهة الأولى.

وأمّا الشبهة فيهما من الجهة الثانية فالذي ينبغي أن يكون موردها هو بعد الفراغ من الجهة الأولى ، بمعنى أن تكون المعاملة أو العبادة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها محكوما بصحّتها ، إذ لو كانت في حدّ نفسها محكوما بفسادها ولو بأصالة الفساد ، لم يكن للكلام عليها أثر من ناحية الجهة الثانية ، إذ لا محصّل للبحث عن أنّه هل الأصل في مثل صوم الصمت بعد نهي الشارع عنه هو كون النهي عنه موجبا لفساده أو كونه غير موجب لذلك ، بعد فرض كون الصوم المذكور في حدّ نفسه قبل ملاحظة طروّ النهي عليه محكوما بأصالة الفساد للشكّ في مشروعيته. إلاّ أن يقال إنّ ذلك بحث علمي وإن لم يترتّب عليه أثر عملي ، وحاصل ذلك : أنّ البحث عن صحّة مثل تلك العبادة يكون من ناحيتين : من ناحية نفسها ، ومن ناحية تعلّق النهي بها الراجع إلى الشكّ في مانعية النهي التحريمي ، لامكان الرجوع إلى أصالة البراءة من هذه المانعية ، مع فرض كون العبادة في حدّ نفسها محكومة بأصالة عدم المشروعية.

وبالجملة : أنّا وإن تقدّم (١) منّا ما قدّمناه في الإشكال على صاحب القوانين قدس‌سره ، إلاّ أنّ ذلك إنّما كان باعتبار أنّ الفساد الناشئ عن النهي غير الفساد الناشئ عن الأصل ، لكون الناشئ عن النهي يكون راجعا إلى الدليل الاجتهادي ، والناشئ عن الأصل يكون من قبيل الأصل العملي. لكن ذلك إنّما هو لو أثبتنا

__________________

(١) في الحاشية السابقة.

٢٥٨

دلالة النهي على الفساد ، أمّا لو لم يثبت عندنا شيء من ذلك ، وتوقّفنا في كلّ من اقتضاء النهي الفساد وعدم اقتضائه له ، وتولّدت عندنا من ذلك التوقّف مسألة ، عنوانها هل يكون المرجع عند الشكّ في كون النهي عن العبادة أو المعاملة موجبا للفساد هو أصالة الفساد أو الصحّة أو الاشتغال أو البراءة ، إلى غير ذلك من الأصول ، ولا ريب أنّ تلك العبادة لو كانت في حدّ نفسها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها محكومة بالفساد ، فلا أثر عملي للكلام على أنّ ذلك النهي المشكوك كونه مفسدا لها هل يكون الأصل فيه أنّه مفسد لها أو لا.

وربما يتّضح لك ذلك عند الكلام على الجهة الثانية فنقول بعونه تعالى : تقدّمت الاشارة إلى مطلب حقّق في محلّه ، وهو أنّه عند الشكّ في الجزئية والشرطية والمانعية على نحو الشبهة الحكمية أو المفهومية يكون المرجع الأوّلي هو الاطلاق أو العموم لو كان لنا ذلك ، بأن يدّعى أنّ الصلاة في مثل اطلاق قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(١) شامل للصلاة الفاقدة للاستعاذة مثلا ، المفروض كون جزئيتها مشكوكة وأنّ المرجع بعد العجز عن اتمام حجّية ذلك الاطلاق هو البراءة ، فإنّ هذا الاطلاق بعد سقوطه عن الحجّية في مثل ذلك وإن كان المرجع الأوّلي بعد سقوطه هو أصالة عدم مشروعية هذه العبادة ، إلاّ أنّ أصالة البراءة الشرعية من وجوب الاستعاذة فيها يرفع هذا الأصل ، ويحكم بصحّة الصلاة المذكورة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه لو ورد نهي عن صلاة مخصوصة مثل صلاة الحائض ، فإن حكمنا بأنّ ذلك النهي يوجب فسادها فلا إشكال ، سواء كان لنا عموم يشمل هذه العبادة لو لا النهي أو لم يكن. وإن توقّفنا في ذلك ولم نجزم

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

٢٥٩

بكون النهي المذكور مفسدا ، كما أنّا لم نجزم بكونه غير مفسد ، كان علينا أن نقول إنّه لو كان لنا عموم يشمل هذه العبادة ، بحيث إنّها لو لا هذا النهي لكانت صحيحة جزما ، لكنّا بعد النظر إلى ورود النهي عنها ، ولم نجزم بأنّ النهي مفسد لها ، تدخل الحرمة المذكورة في احتمال المانعية ، بمعنى أنّا نحتمل أنّ تحريم العبادة مانع من صحّتها ، نظير لباس ما لا يؤكل لحمه ، فحينئذ نجري أصالة البراءة في مانعية التحريم المزبور ، ويلزمنا الحكم بصحّتها ، ويكون حال احتمال مانعية التحريم المذكور حال احتمال جزئية الاستعاذة فيما تقدّم ، من أنّه برفع تلك الجزئية أو هاتيك المانعية بحديث الرفع (١) يرتفع الشكّ في صحّة تلك الصلاة.

هذا فيما لو كانت الصلاة المذكورة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن تعلّق النهي بها محكومة بالصحّة ، أمّا إذا كانت الصلاة المذكورة في حدّ نفسها محكومة بالفساد استنادا إلى أصالة الفساد ، لعدم عموم أو اطلاق يشملها في حدّ نفسها ، فأي أثر عملي حينئذ للشكّ في مانعية هذا التحريم ، وأي فائدة عملية ترتّب على اجراء أصالة البراءة في مانعية ذلك التحريم ، مع فرض كونها في حدّ نفسها محكوما عليها بالفساد ، وإنّما يظهر أثر ذلك فيما لو كان احتمال الفساد متطرّقا إلى هذه الصلاة من خصوص احتمال كون التحريم مانعا ، فإنّ أصالة البراءة حينئذ من هذه المانعية تنفعنا في إزالة الشكّ الآتي من ناحية تلك المانعية ، ويترتّب على ذلك حكمنا بصحّتها.

ومن ذلك يظهر الجواب عن ما ذكر في الحاشية على هذا الكتاب من قوله : لأنّ صحّة العبادة كما عرفت تتوقّف على وجود الأمر بها ، أو اشتمالها على ملاك المحبوبية غير مزاحم بملاك المبغوضية ، وشيء منهما لا يكون بمتحقّق في

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١ ، الخصال : ٤١٧ / ٩.

٢٦٠