أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

والنهي الغيري والنهي التبعي ، فإنّ هذه كلّها لو طرأ شيء منها في الواقع وفي مقام الثبوت على فعل من الأفعال لا يبقى مجال فيه لكونه عبادة صحيحة مأمورا بها قابلة للتقرّب بها.

الجهة الثانية : أنّ العلّة التي أوجبت الفساد في النهي المولوي التحريمي ـ أعني المبغوضية المانعة من إمكان التقرّب ـ يجري نظيرها في النهي الكراهتي ، لأنّه موجب لمرجوحية متعلّقه ، ومع فرض كونه مرجوحا لا يمكن الحكم بصحّته عبادة ، إذ لا بدّ في العبادة من كونها راجحة. وهذا هو الفساد الثبوتي الثابت في نفس الأمر والواقع للعبادة التي ورد عليها النهي في نفس الأمر من دون أن يكون في البين عموم في مقابله ، إذ لا عموم ولا تخصيص في هذه المرحلة كي يكون الفساد المذكور ناشئا عن إعمال قواعد التعارض. وهذا الفساد هو المراد من قولهم إنّ النهي عن العبادة يوجب فسادها ، فإنّ مرادهم به هو الفساد الواقعي الثابت في نفس الأمر والواقع ، من دون أن يكون في قباله عموم أصلا ، فلا يكون هذا الفساد إلاّ معلولا لنفس النهي الموجب للمبغوضية المانعة من إمكان التقرّب بها.

الجهة الثالثة : أنّ الكلام إن كان في الفساد الواقعي في مقام الثبوت الذي هو راجع إلى المرحلة الأولى ، فلا معنى للقول بأنّه بعد تحقّق الفساد المذكور يحكم بالتخصيص ، فإنّ الحكم بالتخصيص إنّما هو في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت. مضافا إلى أنّ هذا التخصيص ليس بتخصيص شرعي ، وإنّما هو بحكم العقل ، فإنّ الحاكم بأنّ العبادة المبغوضة لا يمكن التقرّب بها وأنّها خارجة عن عموم الأمر إنّما هو العقل دون الشرع. مضافا إلى أنّ الحرمة الواقعية لا طريق لنا إليها إلاّ من جهة هذا الدليل الخاصّ ، الناهي عن صوم يوم العيد مثلا.

٢٠١

وحينئذ نقول : إنّ هذا الدليل الخاصّ إنّما يترتّب عليه الفساد بعد ثبوت مدلوله الذي هو النهي والحرمة ، وما دام عموم الأمر موجودا ولو مثل « الصوم جنّة من النار » (١) لا يمكننا الحكم بحرمة صوم يوم العيد كي نرتّب عليه الفساد ، وإنّما يتسنّى لنا ذلك كلّه بعد اسكات ذلك العموم بتخصيصه بذلك النهي الخاصّ ، وبعد التخصيص وخروج يوم العيد عن عمومات الأمر بالصوم خطابا وملاكا ، كما هو الشأن في التخصيصات الواقعية ، يكون صوم يوم العيد فاسدا ، وحينئذ تكون عملية التخصيص سابقة في الرتبة على الحكم بالفساد ، ويكون الفساد مستندا إلى التخصيص لا إلى نفس النهي والمبغوضية ، وبناء عليه يكون المناسب إرجاع هذه الثمرة إلى باب التعارض ، ويكون الفساد هنا من ناحية الجمع الدلالي ، أعني تحكيم الخاصّ على العام ، سواء كان ذلك الخاص متضمّنا للنهي المولوي التحريمي أو النهي الغيري أو النهي التبعي أو النهي الكراهتي ، أو كان متضمّنا لعدم الوجوب والاباحة.

ويمكن الالتزام بالجهة الثانية ، بل بالجهة الأولى باخراج النهي الغيري والتبعي والالتزام بكون الاباحة ـ بمعنى تساوي الطرفين وعدم الرجحان ـ منافيا للعبادة وموجبا لفسادها ، ولا ضير في ذلك.

كما أنّه مع قطع النظر عن هذه الجهة من المنافاة الواقعية بين العبادية وبين المبغوضية أو المرجوحية أو تساوي الطرفين القاضي بالفساد ، يمكن التطرّق إلى الفساد من ناحية أخرى ، هي دعوى كون التحريم أو الكراهة أو الاباحة بل الاستحباب لا يجتمع مع الوجوب ، فيكون ما دلّ على تحريم هذا الفعل أو كراهته أو إباحته ـ بمعنى أنّه ليس بواجب ـ مخصّصا لما دلّ بعمومه على وجوبه سواء

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٣٩٥ / أبواب الصوم المندوب ب ١ ح ١ وغيره.

٢٠٢

كان العموم شموليا أو كان بدليا ، وبعد التخصيص الواقعي يبقى ذلك الفعل مجرّدا عن الأمر والملاك ، فلا يصحّ عبادة. نعم ، لو دلّ الدليل على استحبابه فهو وإن أخرجه عن عموم الوجوب إلاّ أنّه لا يوجب فساده ، لكونه حينئذ مأمورا به بالأمر الاستحبابي.

والحاصل : أنّه يمكن الاستدلال على اقتضاء النهي عن العبادة فسادها بكلّ من الطريقتين مع قطع النظر عن الأخرى ، وعلى هذا يكون النهي التنزيهي داخلا في محلّ النزاع كالتحريمي ، سواء كان العموم المقابل لذلك بدليا أو كان شموليا ، أو لم يكن في البين أمر أصلا إن تصوّرنا ذلك ، وكذلك تدخل الاباحة في محلّ النزاع ـ بمعنى تساوي الطرفين وعدم رجحان أحدهما على الآخر ـ فإنّها حينئذ تنافي العبادة القاضية برجحان الفعل على الترك.

ومن ذلك يظهر لك أنّ جميع هذا الذي حرّرناه فيما سلف من الدورات السابقة فيما يرجع إلى هذه الجهة إنّما هو خبط عشواء في الليلة الظلماء.

وتنفرد الطريقة الأولى أعني المنافاة مع قطع النظر عن العموم فيما لو فرض عدم العموم في البين ، مثل ما ذكرناه من العبادة بالتكتّف قائما نحو المعبود. كما تنفرد الطريقة الثانية أعني طريقة التخصيص فيما لم يكن الاخراج بواسطة دليل التحريم ، بل كان بالاستثناء أو بمجرّد قوله مثلا إنّ صوم يوم العيد خارج عن استحباب صوم كلّ يوم ، ومن ذلك كلّه يتبيّن لك أنّ الجهة الثالثة ليست بمانعة عن الاستدلال بالطريقة الأولى.

وأمّا النهي الغيري المتعلّق بالعبادة الناشئ عن الأمر بضدّها ، كما في الصلاة في مورد الأمر بالازالة ، فهو خارج عن محلّ البحث بالطريقة الأولى ، لعدم تأتّيها فيه ، إذ لا يكون مثل ذلك النهي موجبا للمبغوضية ولا للمرجوحية. أمّا الطريقة

٢٠٣

الثانية فالظاهر أيضا خروجه عنها ، لما سيأتي بيانه (١) إن شاء الله تعالى من أنّ هذا الخروج عن عموم الأمر لا يكون خروجا واقعيا ناشئا عن التعارض ، وإنّما من باب التزاحم ، وهو لا يقتضي انتفاء الأمر ملاكا وإن نفاه خطابا ، هذا كلّه في العبادات.

وأمّا المعاملات فالوجه في اقتضائه للفساد هو أنّ عمومات المعاملة مقيّدة أو مخصّصة بعموم السلطنة ، بمعنى أنّ تلك العمومات لا تجري فيما يكون المالك فيه مسلوب السلطنة ، ولا بدّ في جريانها والحكم بالنفوذ فيها من الاعتماد على حديث السلطنة ، وإخراج المورد عن احتمال كونه محجرا عليه من ناحية هذه المعاملة لكونه ممنوعا منها ، وحينئذ يكون النهي التحريمي سالبا للسلطنة وواردا أو حاكما على حديثها فتفسد ، ولا يمكن الحكم بترتّب الأثر عليها.

والظاهر أنّ النهي الغيري والتبعي يشاركان النهي التحريمي النفسي في هذه الجهة ، فلم يخرج عن ذلك إلاّ النهي التنزيهي ، فإنّه لا يوجب سلب السلطنة ، وحينئذ يكون الحكم بالفساد في ذلك ناشئا عن النهي نفسه ، لا عن كونه مخصّصا لعموم في البين كي يكون من ثمرات ذلك التخصيص ، بل هو ناش عن نفس النهي التحريمي لكونه موجبا لسلب السلطنة ، فتفسد لكونه غير مسلّط عليها ، ويكون النزاع في ذلك صغرويا ، بمعنى أنّه هل يكون التحريم الوارد على المعاملة موجبا لسلب السلطنة كي يكون بذلك حاكما أو واردا على حديثها ، وليس ذلك من باب التخصيص في شيء ، لأنّ عمومات المعاملة قد تقيّدت وتخصّصت بحديث السلطنة ، بمعنى كون تلك المعاملات قد خرج منها كلّ ما لا سلطان للمالك عليه ، وإنّما أقصى ما يحدثه النهي هو سلب السلطنة المذكورة.

__________________

(١) في الصفحة : ٢٠٦ ـ ٢٠٩.

٢٠٤

وهذا غاية ما يمكن من توجيه كون اقتضاء النهي الفساد للمعاملة راجعا إلى الجهة الأولى ، وحاصله المقابلة بين باب العبادة وباب المعاملة ، فكما أنّ العبادة يعتبر فيها إمكان الرجحان والتقرّب ، والنهي يوجب سلب الرجحان وعدم إمكان التقرّب بها ، فيفسدها في المرتبة الأولى من دون حاجة إلى إعمال أدلّة اجتهادية في البين ، فكذلك المعاملة هي معتبر فيها السلطنة ، والنهي يسلب السلطنة عن تلك المعاملة فتفسد ، من دون حاجة إلى إعمال أدلّة اجتهادية وقواعد تخصيصية ، كي يكون ذلك الفساد خارجا عمّا نحن فيه وراجعا إلى الفساد من ناحية التخصيص والجمع بين الأدلّة ، وهو الفساد في المرتبة الثانية التي قلنا إنّه خارج عن محلّ النزاع فيما نحن فيه أصلا.

ولكن لا يخفى الفرق الواضح ، فإنّ الحاكم بتوقّف صحّة العبادة هو العقل ، وهو الحاكم بأنّ المبغوض لا يمكن التقرّب به ، فلا يكون الفساد الآتي من قبل النهي متوقّفا على إعمال تحكيم ولا على تخصيص في دليل اجتهادي ، بل يكون الفساد ابتدائيا بمجرّد تعلّق النهي ، وهذا بخلاف باب المعاملات فإنّ الحاكم بأنّه يعتبر فيها السلطنة إنّما هو الشرع حسبما أفاده الجمع بين مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس مسلّطون على أموالهم » (٢) وحينئذ يكون النهي عن المعاملة مؤثّرا في سلب السلطنة ، وبذلك يكون موجبا لخروجه عن عموم ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) فيكون فاسدا بواسطة ذلك ، لا بمجرّد ارتفاع السلطنة وسلبها كي يكون راجعا إلى المرتبة الأولى من مراتب الفساد ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما تكرّر في هذه الأوراق من كون دليل النهي عن المعاملة حاكما أو

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

٢٠٥

واردا على حديث السلطنة ممنوع ، بل هو مخصّص لحديث السلطنة ، فإنّ مفاد الحديث هو أنّ المالك مسلّط على أن يتصرّف في ماله جميع التصرّفات ، وحينئذ يكون النهي عن هذه المعاملة موجبا لخروجها عن تلك التصرّفات ، وموجبا لرفع السلطنة على ذلك التصرّف الذي هو تلك المعاملة.

نعم ، بعد فرض كون عموم مثل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) مقيّدا بالبيع الذي للمالك سلطان عليه يكون النهي عن بيع خاصّ حاكما على ذلك العموم ، فالفساد الآتي من ناحية هذا النهي إنّما هو بواسطة ذلك التخصيص وتلك الحكومة ، فلا يكون إلاّ من ناحية إعمال الأدلّة الاجتهادية وتحكيم بعضها على بعض ، فلا يكون الفساد المذكور الناشئ عن ذلك إلاّ عبارة عن الفساد الناشئ عن الجمع بين الأدلّة الاجتهادية ، وتخصيص بعضها على بعض وتحكيم بعضها على بعض ، فلا يكون حاله حال الفساد الطارئ على العبادة الآتي من ناحية النهي نفسه ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في المقام إشكالا ، وهو كيف تكون المعاملة المنهي عنها خارجة عن حديث السلطنة ، بحيث إنّها لو لا النهي لكانت داخلة فيه.

والجواب أنّه إنّما يكون في مثل معاملة المريض ، فإنّه لو نهي عنها خرجت عن عموم السلطنة القاضي بنفوذها ، ولا يتأتّى ذلك في المعاملة الجديدة التي لم يشملها عموم حتّى حديث السلطنة ، لكون الشكّ من جهة السبب غير داخل في حديث السلطنة ، فلو ورد النهي عنها لم يكن ذلك النهي مخرجا لها عن حديث السلطنة.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه من كون النهي الغيري أو التبعي موجبا للفساد في المرحلة الثانية ـ أعني التخصيص ـ إنّما هو مماشاة مع القوم القائلين بأنّ ثمرة كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه هو فساد ذلك الضدّ لو كان عبادة ، وأنّ النهي

٢٠٦

الغيري يكون موجبا للفساد ، كلّ ذلك بناء على كون النهي المذكور مخصّصا لدليل الأمر وإن كان بينهما عموم من وجه ، لما تقدّم من الاتّحاد بين المتعلّقين ، بمعنى أنّ الصلاة المزاحمة بالازالة تكون مأمورا بها ، نظرا إلى مثل قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) الشامل لما إذا كانت ضدّا للازالة أو لم تكن ، كما أنّها بنفسها تكون منهيا عنها ، نظرا إلى ما دلّ على حرمة الفعل الذي هو ضدّ للمأمور به أعني الازالة ، سواء كان ذلك الضدّ هو الصلاة أو كان غيرها ، فيجتمعان في الصلاة المزاحمة بالازالة ، وبعد تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب تكون الصلاة المذكورة خارجة عن عموم الأمر خروجا واقعيا وتخصيصا شرعيا ، موجبا لاخراجها عن الأمر خطابا وملاكا.

وهذا كلّه إنّما يتمّ لو كان لنا دليل يدلّ على حرمة الضدّ استقلالا ذا (٢) كيان في حدّ نفسه ، أمّا إذا لم يكن ذلك التحريم إلاّ مولدا من الأمر بالازالة الذي لا ريب في كون نسبته إلى الأمر بالصلاة نسبة التزاحم دون التعارض ، فحينئذ يستحيل كون ذلك التحريم المولد من الأمر بالازالة معارضا للأمر بالصلاة ، بل لا يكون بينهما إلاّ عين تلك النسبة أعني نسبة التزاحم ، وحينئذ لا يكون تقدّم ذلك التحريم الغيري الطارئ على الصلاة إلاّ من قبيل التقدّم في باب المزاحمة دون التعارض ، وحيث كان التقديم المذكور تقديما تزاحميا لا تقديما تعارضيا فلا يكون نتيجته إلاّ إسقاط الأمر بالصلاة خطابا لا ملاكا ، وحينئذ يتأتّى تصحيح الصلاة المذكورة بالملاك كما يتأتّى تصحيحها بالترتّب ، ويكون حال الصلاة المذكورة على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ كحالها فيما

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

(٢) [ هكذا في الأصل ].

٢٠٧

لو لم نقل بذلك ، في جريان تصحيحها بالملاك أو بالأمر الترتّبي كما أفاده شيخنا قدس‌سره ، وكأنّ القول بأنّها لا بدّ من الالتزام بفسادها بناء على القول المزبور ، ناشئ عن دعوى كون ذلك النهي والتحريم كسائر النواهي يكون حكما مستقلا ذا كيان استقلالي ، كما إذا ورد النهي عن المزاحم للازالة بنهي وتحريم مستقل غير متولّد من الأمر بالازالة ، فإنّه بناء على هذه الدعوى لا بدّ من إعمال قواعد التخصيص الشرعي ، الذي يكون لازمه خروج الصلاة المذكورة عن عموم الأمر خطابا وملاكا. لكنّك قد عرفت المنع من هذه الدعوى ، وأنّ هذا النهي على تقدير القول به لا يكون إلاّ متفرّعا عن الأمر بالازالة ومتولّدا عنه ، بل ليس ذلك النهي الناشئ عن ذلك الأمر إلاّ كوجود ظلّي لذلك الأمر ، فيستحيل أن يكون ذلك النهي أقوى من ذلك الأمر ، على وجه تكون منافاته للأمر بالصلاة منافاة تعارض مع فرض كون منافاة أصله ـ الذي هو الأمر بالازالة ـ مع الأمر بالصلاة منافاة تزاحم.

وحاصل ذلك : أنّه لا يعقل أن يكون تقديم ذلك النهي على الأمر بالصلاة موجبا لخروجها عن حيّز الأمر خطابا وملاكا ، مع فرض أنّ تقديم أصله وأساسه الذي هو الأمر بالازالة على الأمر بالصلاة لا يكون موجبا لخلل في الصلاة ، إلاّ من حيث سقوط وجوبها خطابا فقط ، من دون أدنى خلل يمسّ كرامة ملاكها.

وإن شئت إقامة البرهان على ذلك فقل : إنّ النهي الغيري عن الصلاة معلول للأمر بالازالة ، فلو كان ذلك النهي معارضا للأمر بالصلاة على وجه لا يجتمعان في عالم التشريع ، بحيث كان النهي عن ضدّ الازالة منافيا في عالم التشريع للأمر بالصلاة ، كانت هذه المنافاة في عالم التشريع سارية بالضرورة إلى علّة ذلك النهي الذي هو الأمر بالازالة ، فلازمه أن تكون هذه العلّة منافية في عالم التشريع ومعارضة للأمر بالصلاة ، وقد تقرّر أنّه لا منافاة في عالم التشريع بين الأمر بالصلاة

٢٠٨

والأمر بالازالة ، هذا خلف ، وحينئذ لا بدّ أن نقول إنّ ذلك المعلول غير مناف للأمر بالصلاة.

وبالجملة : أنّا نستكشف من عدم التعارض وعدم المنافاة بين الأمر بالإزالة والأمر بالصلاة عدم ذلك التنافي بين الثاني وهو الأمر بالصلاة ومعلول الأوّل وهو النهي عنها ، إذ لو كان المعلول المذكور منافيا لكانت علّته أيضا منافية بالضرورة ، ونتيجة ذلك كلّه هو أنّ النهي المذكور ليس إلاّ وجودا ظلّيا للأمر بالازالة ، وكلّ أثر راجع إلى ذلك النهي من تقديمه على الأمر بالصلاة واخراجها عن عموم الأمر إنّما هو في الحقيقة راجع إلى أساسه وأصله الذي هو الأمر بالازالة ، فإنّ ذلك الفعل والتأثير لذلك النهي إنّما هو بقوّة ذلك الأساس الذي هو الأمر بالازالة ، فلا بدّ أن يكون تقديم ذلك النهي على الأمر بالصلاة مقصورا على المقدار الذي يتأتّى من الأمر بالازالة من التصرّف في ناحية الأمر بالصلاة في المرحلة الخطابية ليس إلاّ.

وبالجملة : ليس حال هذا النهي الغيري عن الصلاة الناشئ عن الأمر بالازالة بالنسبة إلى نفس الأمر النفسي بالصلاة إلاّ كحال الأمر الغيري المتعلّق بسلوك الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق بالنسبة إلى حرمة السلوك نفسيا ، في أنّ تنافيهما لا يكون إلاّ من باب التزاحم دون باب التعارض ، وإن كان بينهما فرق في جريان الترتّب فيما نحن فيه دون مسألة حرمة السلوك مقدّمة لإنقاذ الغريق ، كما حقّقه شيخنا قدس‌سره في تنبيهات الترتّب (١) ، فراجع.

فالذي تلخّص : هو أنّ النهي المذكور لا يوجب الفساد ، لا من جهة عدم

__________________

(١) لاحظ ما ذكره المصنّف قدس‌سره في حاشيته المتقدّمة في الصفحة : ٤٣٤ وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

٢٠٩

ترتّب العقاب عليه كما عن المحقّق القمي قدس‌سره (١) لكي يرد عليه ما في الكفاية (٢) وما عن الشيخ قدس‌سره في التقريرات (٣) ، بل من جهة أنّ الفساد في المرتبة التي قدّمنا ذكرها إنّما ينشأ عن المبغوضية ، والنهي الغيري لا يؤثّر في المبغوضية. ولعلّ مراد المحقّق القمي قدس‌سره من استتباع العقاب هو لازمه ، أعني المبغوضية التي هي تمام الملاك في اقتضاء النهي الفساد ، فلا يرد عليه حينئذ ما أورداه قدس‌سرهما من أنّه ليس الملاك في افساد النهي هو استتباعه العقاب. وأمّا الفساد في المرتبة الثانية التي هي ناشئة عن التخصيص فهي إنّما تتمّ لو كان ذلك التخصيص ناشئا عن التعارض ، والمفروض أنّه ليس من هذا القبيل ، وأنّ المسألة ليست من وادي التعارض ، بل هي من وادي التزاحم.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما في الكفاية (٤) من كون ملاك الفساد متحقّقا في النهي الغيري ، سيّما بعد تفسير الملاك بما في حاشية المرحوم القوچاني (٥) بالمبغوضية ، فراجع وتأمّل.

هذا كلّه في العبادة المأمور بضدّها على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وأمّا المعاملة الواقعة ضدّا لما هو الواجب ، فينبغي القول بعدم الفساد فيها ، ولو بناء على ما تقدّم من كون تحريم المعاملة موجبا لبطلانها وسلب السلطنة عليها ، وذلك لأنّ هذا النهي لمّا كان متولّدا من الأمر بالضدّ الذي

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ١٠٢ ضمن المقدّمة السادسة.

(٢) كفاية الأصول : ١٨١.

(٣) مطارح الأنظار ١ : ٧٢٨.

(٤) كفاية الأصول : ١٨١.

(٥) كفاية الأصول ١ ( مع تعليقة القوچاني رحمه‌الله ) : ١٤٧ / تعليقة ٤٩.

٢١٠

هو غير معارض لدليل نفوذ تلك المعاملة بل ولا مزاحم له ، لم يعقل كون ذلك النهي المتولّد منه معارضا لدليل نفوذ تلك المعاملة أو مخصّصا له بل ولا مزاحما له.

ولكن مع ذلك ينبغي التأمّل في المسألة ، فإنّه قد تحقّق في محلّه في بعض مباحث المكاسب وباب الاجارة أنّه لا تصحّ الاجارة على ما يضادّ الواجب ، فلو آجر نفسه نهارا تامّا بطلت الاجارة فيه بمقدار أداء الصلاة اليومية ، لأنّ الأمر الفعلي بتلك الصلاة سالب للقدرة على العمل المضادّ لها ، وحينئذ نقول : إنّ الأمر بالازالة مثلا يكون سالبا للقدرة على نفس المعاملة الواقعة ضدّا له ، فيكون هذا الشخص المأمور فوريا بالازالة غير قادر في عالم التشريع على البيع مثلا في وقتها ، فيكون ذلك عبارة أخرى عن كونه في عالم التشريع مسلوب السلطنة على تلك المعاملة ، فينبغي القول بفسادها.

نعم ، يمكن المناقشة في ذلك من باب المناقشة المثالية ، بأن يقال : إنّ المضادّ للازالة ليس هو نفس المعاملة بمعناها الاسم المصدري ، بل هو بمعناها المصدري. وإن شئت فقل : إنّ المزاحم للازالة إنّما هو السبب ، وسلب القدرة في عالم التشريع على السبب لا يوجب سلبها عن المسبّب ، وعلى كلّ حال فالمطلب الكبروي هو أنّ المسبّب بنفسه لو وقع ضدّا لما هو الواجب فهل يكون ذلك موجبا لفساده أم لا ، ومقتضى ما ذكره قدس‌سره في مثل الشاة المنذورة للصدقة ونحوها من بطلان البيع ، لكون وجوب الوفاء بالنذر سالبا للسلطنة على البيع ، هو الحكم بالفساد فيما ذكرناه من المعاملة التي هي ضدّ للواجب ، فإنّ من الواضح أنّ نفس البيع لم يكن فيه ما يوجب الفساد سوى كونه ضدّا للواجب الذي هو التصدّق ، سواء قلنا إنّ النذر كالشرط محدث للحقّ للمنذور له أو للشارع ، أو كونه تكليفا

٢١١

صرفا ، وحينئذ تكون النتيجة هي بطلان المعاملة الواقعة ضدّا للواجب ، سواء قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ أو لم نقل ، لكفاية وجوب ذلك الواجب في سلب سلطنة المالك على المعاملة التي هي ضدّه ، وقد تقرّر أنّ من شرط نفوذ المعاملة هو كون المالك مسلّطا عليها ، وأنّ كلّ ما يوجب عدم سلطنته عليها في عالم التشريع يكون موجبا لبطلانها ، فراجع وتأمّل.

فقد تلخّص لك من جميع ما حرّرناه : أنّ العبادة المأمور بضدّها تكون صحيحة بالملاك أو بالترتّب حتّى على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وأنّ المعاملة المأمور بضدّها تكون فاسدة حتّى على القول بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

وانتظر تتمّة لذلك في مبحث اقتضاء النهي عن المعاملة فسادها ، فإنّا قد حقّقنا هناك (١) أنّه ليس كلّ ضدّ يكون الأمر به سالبا للسلطنة على المعاملة ، بل إنّما هو خصوص ما يكون تصرّفا في المال بنحو يضادّ المعاملة ، مثل وجوب التصدّق بالمال المعيّن بنذر أو شبهه في قبال بيعه ، دون مثل إزالة النجاسة عند وقوع البيع مزاحما لها ، فإنّه وإن سلب القدرة على البيع إلاّ أنّه لا يوجب سلب السلطنة عليه ، وليست المعاملة مقيّدة بالقدرة شرعا ، وإنّما هي مقيّدة بالسلطنة على المال وعدم الحجر عليه ، فراجع وتأمّل.

قوله قدس‌سره في الكفاية في الأمر الرابع : ضرورة أنّها بواحد منها لا يكاد يمكن أن يتعلّق بها النهي ... الخ (٢).

إن كان المراد من تفسير العبادة في قولهم النهي عن العبادة يوجب فسادها

__________________

(١) في الصفحة : ٣٣٤ وكذا ٣٤٦ ـ ٣٤٨.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٢.

٢١٢

بما نقله قدس‌سره هو أنّها تكون كذلك بعد تعلّق النهي بها ، بحيث إنّها تكون مصداقا لأحد هذه العناوين الثلاثة ـ أعني ما أمر به لأجل التعبّد به ، أو ما يتوقّف صحّته على النيّة ، أو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء ـ حتّى بعد ملاحظة تعلّق النهي بها ، فذلك ضروري البطلان كما أفاده قدس‌سره. أمّا على الأوّل فواضح ، إذ لا يعقل تعلّق النهي بما هو مأمور به فعلا. ومن ذلك يتّضح لك عدم معقولية الاجتماع على التفسيرين الأخيرين ، حيث إنّ توقّف الصحّة على نية التقرّب لا يكون إلاّ من جهة كون الأمر به يستدعي توقّف صحّته على نيّة التقرّب ، وكذلك الوجه الأخير أعني كونه لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء ، إذ المراد أنّه لا يعلم المصلحة الداعية إلى الأمر به ، فكان الأمر الفعلي معتبرا على كلا الوجهين ، ولا يمكن اجتماعه مع النهي.

وإن كان مراد من قال إنّ المراد بالعبادة هو ما يكون في حدّ نفسه لو لا لحاظ تعلّق النهي مصداقا لأحد هذه العناوين فذلك واضح لا غبار عليه ، غايته أنّه بعد لحاظ طرو النهي عليه يكون خارجا عن ذلك ، لكون النهي مخصّصا للأمر.

ومنه يتّضح لك التأمّل فيما أفاده أوّلا من تفسير العبادة بما يكون في حدّ نفسه خضوعا أو خشوعا ، أو سجودا له تعالى أو تسبيحا أو تقديسا له تعالى ، أو ما لو أمر به لكان عبادة ، فإنّ جميع هذه العبادات المنهي عنها تكون لو لا النهي مأمورا بها ، ولا أقل من عمومات إقامة الصلاة ، والندب إلى الصوم ، والبعث على العبادة ولو مثل قوله تعالى : ( لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(١) وغير ذلك من

__________________

(١) البيّنة ٩٨ : ٥. [ في الأصل : فاعبدوه مخلصين له الدين. وهو من سهو القلم. ويحتمل أن يريد بذلك قوله تعالى ( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) غافر ٤٠ : ٦٥ ، أو قوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) الزمر ٣٩ : ٢ ].

٢١٣

الأدلّة العامّة ، فإنّ عموم هذه الأدلّة شامل لما ذكره قدس‌سره من العبادات ، غير أنّه بعد لحاظ تحقّق النهي عنها تكون خارجة عن تلك العمومات ، لكون النهي عنها مخصّصا أو مقيّدا لتلك العمومات ، وكأنّه قدس‌سره يريد أنّ قولهم النهي عن العبادة يوجب فسادها أنّها بعد النهي تكون عبادة ، غايته أنّها عبادة فاسدة ، فاضطرّ إلى تفسير العبادة بما يكون في حدّ نفسه عبادة وإن كان منهيا عنه فعلا ، وهو العبادة الذاتية المنهي عنها فعلا ، أو ما يكون عبادة ومأمورا به لو لم يكن منهيا عنه ، هذا.

ولكن لا داعي إلى هذه المضايقة ، بل الظاهر أنّ المراد بالعبادة في ذلك ما يكون عبادة في حدّ نفسه مع قطع النظر عن تعلّق النهي به ، وإن خرج عن كونه عبادة بواسطة تعلّق النهي به. فالمراد بالعبادة ما يكون في حدّ ذاته مقرّبا أو يكون مقرّبا بواسطة الأمر ، لكن بملاحظة تعلّق النهي به يخرج الأوّل عن كونه مقرّبا بل يكون مبعدا ، ويخرج الثاني عن كونه مأمورا به ، بل يكون محرّما ومنهيا عنه ، وحينئذ يلتئم قولهم النهي عن العبادة يوجب فسادها مع كلّ واحد من تفاسير العبادة الراجعة إلى ما يكون مقرّبا ، من دون حاجة إلى هذا التكلّف ، هذا.

مضافا إلى أنّه قدس‌سره قد ارتكب هذا التسامح بقوله : ما يكون بنفسه مقرّبا لو لا حرمته ، فإنّه إن صحّ هذا التسامح فلم لا يصحّحه في تفسير العبادة بما أمر به ، ويكون المراد أنّه مأمور به لو لا حرمته ، كما قال قدس‌سره إنّه يكون مقرّبا لو لا حرمته ، فتأمّل.

قوله : والمراد من المعاملة ليس كلّ ما لم يكن عبادة حتّى يشمل مثل الحيازة والتحجير وأمثالهما ، بداهة أنّ غير العقود والايقاعات لم يتوهّم فيها دلالة النهي على الفساد ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : الخامسة أنّ للعبادة اطلاقين ، أحدهما : العبادة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٠٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٢١٤

بالمعنى الأخصّ ، وهو ما أمر به لأن يتعبّد به ، بحيث كان قصد التقرّب معتبرا فيه بنحو من الأنحاء ، كما في الصلاة ونحوها. ثانيهما : العبادة بالمعنى الأعمّ ، وهو ما يكون الأمر به صالحا لأنّ يتعبّد به ، سواء كان مقيّدا بقصد التعبّد أو كان غير مقيّد بذلك ، ولكنّه كان بحيث لو أتى بمتعلّقه بقصد الامتثال والتعبّد لترتّب عليه الثواب ، كما في تطهير الثوب ونحوه ، وكلّ منهما يكون النهي عنه موجبا لفساده.

أمّا الأوّل فيكون النهي عنه موجبا لفساده في نفسه لكونه بنفسه عبادة ، فلا يقع مسقطا للأمر. وأمّا الثاني فيكون موجبا لفساد جهة عباديته مع بقائه على ما هو عليه من كونه مسقطا للأمر.

أمّا المعاملة فلها ثلاثة إطلاقات ، كلّ واحد أخصّ من لاحقه :

الأوّل : ما يكون بين شخصين ، كما في جميع العقود.

الثاني : ما يكون واقعا بانشاء وجعل من الشخص ، أعمّ من أن يكون قائما بين شخصين كما في العقود ، أو يكون عن شخص كما في الايقاعات.

الثالث : ما يكون من أفعال الشخص منشأ لأثر شرعي ولم يعتبر في صحّته قصد الامتثال والتقرّب ، فيشمل العقود والايقاعات وجميع أبواب المعاملات كما في التذكية واحياء الموات والسبق إلى الوقف والحيازة ونحو ذلك ، بل يشمل جميع أبواب الفقه ما عدا الواجبات العبادية ، حتّى في مثل الغسل من الخبث ونحوه. والمراد بالمعاملة في هذه المسألة هي المعاملة بالاطلاق الثاني ، فيشمل العقود والايقاعات ، ولا يشمل مثل إحياء الموات والحيازات.

نعم لو كان النهي في مثل ذلك إرشادا إلى عدم ترتّب الأثر المرغوب من متعلّقه كان دالا على فساده. إلاّ أنّه خارج عمّا هو محلّ النزاع من النهي التحريمي فتأمّل ، انتهى.

٢١٥

قلت : إن كان النهي عن الحيازة ـ كحيازة الماء مثلا ـ متوجّها إلى التصرّف بالآلة الغصبية ، كما مثّل به المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : فإنّ النهي عن الاحياء بالآلة الغصبية مثلا لا يوجب فساد الاحياء ، وذلك واضح ، إلاّ إذا كان النهي إرشادا إلى عدم كون المحياة ملكا للمحيي ، وهذا خارج عمّا نحن فيه ، انتهى (١) كان خارجا عمّا نحن فيه من النهي الموجب لفساد المنهي عنه ، لأنّه من باب الاجتماع باعتبار كون المنهي عنه هو التصرّف بالمغصوب ، والذي هو منشأ الأثر هو نفس الحيازة ، ويكون حاله حال التستّر الواجب إذا حصل باللباس المغصوب.

وإن شئت فقل : إنّ النهي عن الاحياء بالآلة المغصوبة متوجّه إلى سبب المعاملة ، والكلام في النهي عن نفس المعاملة ، فلو توجّه النهي إلى نفس الاحياء أو إلى نفس الحيازة أو إلى نفس التحجير فلا يبعد القول باقتضائه الفساد ، بمعنى أنّ ذلك النهي يكون سالبا لسلطنة المكلّف على إيجاد ذلك الأثر ، كما قلناه في النهي عن البيع المتوجّه إلى نفس المعاملة.

وبعبارة أخرى : يكون النهي متوجّها إلى المسبّب الذي يحدث بفعل المكلّف لا إلى الفعل نفسه. وإن شئت فقل : إنّه متوجّه إلى المعنى الاسم المصدري لا إلى نفس المصدر ، فلو قال لا تسبق العالم أو العلوي إلى الصفّ الأوّل في المسجد عند صلاة الجماعة كان ذلك موجبا لعدم ترتّب الأثر على السبق المذكور ، لامكان القول بأنّ النهي عن السبق المذكور يكون موجبا لعدم ذلك السبق في عالم التشريع ، ويكون مخصّصا لمثل قوله عليه‌السلام : « من سبق إلى ما

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٥٦.

٢١٦

لم يسبقه إليه أحد فهو أحقّ بذلك » (١).

وفيه تأمّل ، نعم لو كان مرجع النهي إلى الارشاد إلى عدم ترتّب الأثر ، أو إلى بيان أنّه ليس له حقّ السبق في مثل ذلك ، لتمّ ما ذكرناه من الفساد ، أمّا مجرّد تحريم السبق تحريما مولويا فلا يكون موجبا لعدم ترتّب الأثر إلاّ إذا قلنا إنّ السبق أو الحيازة ونحوهما من الأمور القصدية الانشائية ، بمعنى أنّه ينشئ بتلك الأفعال تحقّق الملكية أو الحقّية ، فإنّه حينئذ يكون حاله حال المعاملات الانشائية ، فلو كان النهي متوجّها إلى أثرها المقصود إنشاؤه بذلك الفعل كان موجبا لعدم قدرته في عالم التشريع على إيجاده ، فتأمّل.

وقد استشكل شيخنا قدس‌سره (٢) في حواشيه على العروة من حصول الطهارة بالاستنجاء بالروث والعظم ، ولعلّ منشأ تخصيص الإشكال بالروث والعظم ما في بعض الأخبار العامية بعد أن « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستنجى بروث أو عظم ، قال : إنّهما لا يطهّران » (٣) فراجع وتأمّل.

قال في الجواهر : وقد صرّح بعدم حصول الطهارة في المبسوط (٤) والمعتبر (٥) كما عن ابن إدريس (٦) بل ربما نقل عن المرتضى (٧) : قال في الأوّل

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ١١١ / أبواب كتاب إحياء الموات ب ١ ح ٤ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٣٣٤ / مسألة (١).

(٣) سنن الدارقطني ١ : ٥٦ / ٩.

(٤) المبسوط ١ : ١٧ ( مع اختلاف يسير عمّا ينقله بعد قليل ).

(٥) المعتبر ١ : ١٣٢ ، ١٣٣.

(٦) السرائر ١ : ٩٦.

(٧) نقله الشهيد رحمه‌الله في ذكرى الشيعة ١ : ١٧١.

٢١٧

( يعني المبسوط ) : كلّ ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا إن استعمل في ذلك ونقي به الموضع لا يجزي ، لأنّه منهي عنه ، والنهي يقتضي الفساد ، انتهى ما نقله في الجواهر (١) عن المبسوط.

وقال الشيخ قدس‌سره فيما حكاه عنه في التقريرات : فالمراد بالشيء هو العبادة بالمعنى الأعمّ ، والمعاملة التي تتّصف بالصحّة والفساد شرعا ، وقد عرفت وجه التخصيص في الثاني. وأمّا وجه التعميم فيه بالنسبة إلى ما يتّصف بالصحّة فأمران :

أحدهما : عموم الأدلّة كما ستعرف. الثاني : ما ذكره الشيخ قدس‌سره في محكي المبسوط. ثمّ بعد نقل عبارة المبسوط المتقدّمة قال : وقد نقله في المعتبر ، ولم يعترض عليه بخروجه عن محلّ الكلام كغيره ، وإنّما اعترضوا بعدم اقتضاء النهي الفساد الخ (٢).

وهذه شهادة من أستاذي الفنّ بأنّ النهي عن المعاملة في هذه المسألة شامل لمثل الأفعال التي لها آثار شرعية ، ولا يختصّ بالعقود والايقاعات.

نعم ، بعد فرض دخوله في محل النزاع لا يلزمنا القول بكون النهي عن مثل الاستنجاء بالعظم أو الروث موجبا للفساد ، إمّا لانكار أصل كون النهي في المعاملة يوجب الفساد ، وإمّا لتسليم كون النهي في المعاملة موجبا لفسادها. إلاّ أنّ ذلك إنّما هو في المعاملة التي يتوقّف نفوذها على الاعتماد على حديث السلطنة (٣) والنهي يسلب السلطنة فتفسد من هذه الجهة. أمّا هذا النحو من المعاملات فلما

__________________

(١) جواهر الكلام ٢ : ٥٤.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٧٣١ ـ ٧٣٢.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

٢١٨

لم يكن ترتّب الأثر عليه منوطا بحديث السلطنة فلم يكن النهي مؤثّرا في ناحية من نواحي ترتّب الأثر عليه فلا يكون موجبا لفساده ، ولأجل ذلك نقول إنّه لو نذر أن لا يستنجي إلاّ بالماء وخالف ، ترتّب الأثر على فعله من الطهارة وإن كان قد عصى وأحنث ، وحينئذ يكون المختار هو عدم اقتضاء النهي في مثل ذلك الفساد. إلاّ أنّ ذلك اختيار لنا ، لا أنّه يوجب خروجه عن محل النزاع.

وهناك طريقة أخرى لاقتضاء الفساد هي غير سلب السلطنة ، وهي أنّ كلّ فعل من هذه الأفعال التي هي مورد ترتّب الأثر لا بدّ له من عموم ، مثل أوامر الغسل وأوامر الاستنجاء ، أو عموم إباحة مثل عموم أدلّة الاحياء والحيازة والسبق ونحو ذلك ، فإذا تعلّق النهي بفعل من تلك الأفعال كان ذلك النهي مخصّصا لذلك العموم الوارد في ذلك الباب ، سواء كان أمرا أو كان من مجرد الاباحة ، وبعد خروج المنهي عنه عن ذلك العموم نحتاج في ترتّب الأثر عليه إلى دليل ، وحيث لا دليل كانت أصالة عدم ترتّب الأثر عليه محكّمة فيه ، فتكون النتيجة حينئذ هي الفساد في المرتبة الثالثة ، فتأمّل.

وفي الجواهر في أثناء شرحه لعبارة المصنّف قدس‌سره وهي قوله ـ بعد أن منع من الاستنجاء بالعظم والروث والمحترم ـ : ( ولو استعمل شيئا من ذلك لم يطهر ) بعد أن نقل القول بعدم الطهارة عن الشيخ في المبسوط (١) ونقل عبارة المبسوط التي تمسّك فيها على عدم حصول الطهارة بذلك بأنّ النهي عن المعاملة يقتضي الفساد ، ثمّ نقل القول بحصول الطهارة عن العلاّمة (٢) وجمع من المتأخرين ،

__________________

(١) تقدّم استخراجه ونقل العبارة في ص ٢١٨.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٠١ مسألة ٥٨ ، قواعد الأحكام ١ : ١٨٠ ، تذكرة الفقهاء ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨ مسألة ٣٧.

٢١٩

قال قدس‌سره : وأقصى ما يمكن أن يستدلّ به للأوّل ( يعني عدم حصول الطهارة ) الأصل ، وعدم شمول ما دلّ على الاستنجاء لما نهى الشارع عنه ، ولا أقل من إفادته الإذن التي لا تشمل المنهي عنه ، إلى أن قال : وأقصى ما يمكن أن يستدلّ به للثاني ( يعني حصول الطهارة ) تناول الاطلاقات والعمومات ، والنهي لا يقتضي الفساد في مثل المقام ، لكونه من قبيل المعاملات. ودعوى عدم تناولها له لاستفادة الإذن منها فلا تشمل المنهي عنه يدفعها أنّ الحكم الوضعي المستفاد منها شامل للجميع. على أنّ الاستفادة ليس من المدلول في شيء ، وعلى تقديره فلا دلالة فيها على شرطية الإذن بالنسبة للطهارة. ولعلّ الأقوى التفصيل بين ما نهي عن الاستنجاء به كالعظم والروث ، فإنّا وإن لم نقل باقتضاء الفساد في مثله عقلا ، لكن نقول باستفادته عرفا كما لا يخفى ، إذ هو كالنهي عن نفس المعاملة ونحوه ممّا يستفاد من ( منه ظ ) عدم ترتّب الأثر عليه ، بل قوله : « لا يصلح » (١) ظاهر في عدم ترتّب الأثر الشرعي عليه ، وبين ما لم ينه عن الاستنجاء به ، بل جاءت حرمة الاستنجاء به لأمر خارج مثل المحترمات ، فإنّه لا نهي عن الاستنجاء بها ، لكنّه يحصل الحرمة من جهة منافاته للاحترام المأمور به ، فحالها كحال الحجر المغصوب ونحوه (٢) ، انتهى ما أردنا نقله.

ولعلّ نظر شيخنا قدس‌سره (٣) في التفصيل في الإشكال بين المحترمات وبين الروث والعظم إلى هذه الجهة التي أفادها في الجواهر من الفرق بين النوعين.

وكيف كان ، فإنّ الغرض من نقل هذه العبارة بطولها بيان مطلبين :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٥٧ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣٥ ح ١.

(٢) جواهر الكلام ٢ : ٥٤ ـ ٥٥.

(٣) المتقدّم في ص ٢١٧.

٢٢٠