أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

الأمر لأجل تنقيح كونهما من باب العموم من وجه نقول : إنّ الأمر تعلّق بالشرب سواء كان مصداقا لأكل مال الناس أو لا ، والنهي تعلّق بأكل مال الناس سواء كان بالشرب أو كان بالأكل أو كان بالتملّك والتصرّف واستيفاء المنفعة.

وإن شئت فقل : إنّ هذا المثال أعني وجوب شرب الماء سواء كان مباحا أو كان مال الغير مع حرمة أكل مال الغير سواء كان ماء أو كان غير ماء ، هو عين ما تقدّم من وجوب اكرام العالم الشامل للفاسق والعادل وحرمة اكرام الفاسق الشامل للعالم وغيره.

ومن ذلك كلّه يعلم الحال في الشرب أو الوضوء من الاناء المغصوب أو آنية الذهب ، فإنّ المنهي عنه ليس هو نفس الشرب أو الوضوء ، بل هو جهة تعلّقه بذلك الاناء ، وقد عبّر شيخنا قدس‌سره عن ذلك التعلّق بكونه متمّما للمقولة. وعلى أي حال يكون المنهي عنه غير نفس المأمور به ، ويكون تركّبهما انضماميا كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه في المقدّمة التاسعة (١).

نعم ، يبقى الإشكال في الوضوء أو الغسل في الماء المغصوب وهل هو من قبيل مسألة الاجتماع لكون التركّب فيه انضماميا ، أو هو خارج عن ذلك لكون التركّب فيه اتّحاديا؟ لا يبعد القول بأنّ حقيقة الوضوء والغسل هي مجرّد امرار الماء على البشرة ، فليست هي بنفسها إعداما للماء كما في مثل الشرب وإن كان ربما توقّفت على ذلك ، لكنّه أعني إعدام الماء ليس بداخل في حقيقتها ، فلم يبق إلاّ كون ذلك الوضوء تصرّفا في الماء المغصوب.

وحيث قد عرفت أنّ الوضوء ليس هو بنفسه إلاّ إمرار الماء على البشرة ، وإن شئت فقل : إنّه عبارة عن غسل البشرة وهذه الجهة هي المأمور بها ، وكونه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

٤١

متعلّقا بذلك الماء المغصوب من قبيل متمّم المقولة ، فيكون حاله حال التستّر بالمغصوب. لكنّه لا يخلو عن إشكال ، بل الظاهر أنّ نفس الوضوء بالماء المغصوب هو استعمال لذلك الماء بل هو إعدام له ، وحينئذ يتّحد متعلّق الأمر مع متعلّق النهي وتدخل المسألة في باب النهي عن العبادة ، وسيأتي في محلّه (١) إن شاء الله تعالى التعرّض للوجه في الحكم بفساده عند الجهل بالحرمة موضوعيا أو حكميا عند التعرّض لما عن بعض المحقّقين في كون المانعية منتزعة من الحرمة التكليفية.

وما ذكرناه في مسألة الوضوء من الآنية المغصوبة وآنية الذهب والفضّة من كونه من قبيل متمّم المقولة هو الذي أفاده شيخنا قدس‌سره فيما سيأتي في الأمر الثاني من المقدّمة التاسعة (٢) من كونه داخلا في محلّ النزاع فلا يتّجه عليه ما في الحاشية (٣). نعم ربما يقال إنّه مناف لما أفاده في باب الترتّب (٤) ، وما أفاده في حواشي العروة (٥) من الحكم بصحّة الوضوء فيما لم يكن الماء منحصرا بما في الآنية المذكورة ، وقد تقدّمت (٦) الاشارة إليه في مسألة الترتّب وأنّه إنّما حكم بالصحّة لأنّ الوضوء غير الاغتراف الذي هو محرّم ، وقد تقدّم منّا احتمال كون ما أفاده هنا من كونه من مسألة الاجتماع إنّما هو في صورة الوضوء الارتماسي فراجع وتأمّل.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٣ ، راجع أيضا حواشي المصنّف قدس‌سره في الصفحة ٣٠١ وما بعدها من هذا المجلّد.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٤٩.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ١٠١.

(٥) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٣٠٣ ، ٣١٣.

(٦) في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٢٣ وما بعدها.

٤٢

وهذا الأخير هو المتعيّن فإنّه قدس‌سره صرّح به في حواشي العروة وفي الوسيلة ، قال في حاشية العروة : الصحّة مع عدم الانحصار أقوى ، وكذا مع الانحصار أيضا لو أخذ في الغرفة الأولى بمقدار الكفاية كما في المغصوب ، نعم لو ارتمس في الآنية من أحدهما أو المغصوب اتّجه البطلان مطلقا (١). وبنحو ذلك صرّح في الوسيلة (٢).

نعم ، يبقى إشكال أشرنا إليه فيما تقدّم وحاصله التأمّل في الصحّة حتّى في مورد الاغتراف التدريجي ، لأنّ هذا الفرد من الافراد العرضية للوضوء مزاحم بحرمة الاغتراف ، كما أنّ هذا الفرد من الأفراد الطولية للصلاة مزاحم بوجوب الازالة ، وقد قلنا إنّ الطهارة المائية ينعدم ملاكها في صورة المزاحمة. اللهمّ إلاّ أن يفرّق بينهما بأنّ طبيعة الوضوء غير مزاحمة بالحرمة وإن كان هذا الفرد مزاحما بها ، لكن هل يرجع ذلك إلى ما أفاده المحقّق الثاني (٣) أو لا؟ ينبغي التأمّل في ذلك.

وقد صرّح قدس‌سره فيما سيأتي (٤) أنّ التكليف المزاحم للمأمور به يكون سالبا للقدرة على المأمور به وانحصاره فيما عدا ذلك الفرد المبتلى بالمزاحم ، من دون فرق بين الأفراد الطولية والعرضية ، ولأجل ذلك نقول إنّ هذا الفرد من الصلاة في الدار المغصوبة لا يكون مقدورا شرعا للمكلّف لكونه مبتلى بالنهي عن الغصب ، ويكون النهي عن الغصب موجبا لانحصار الأمر بالصلاة فيما عدا ذلك الفرد من بقية الأفراد العرضية ، فكذلك الحال فيما نحن فيه نقول : إنّ هذا الفرد من الوضوء

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٣١٣ / مسألة (١٤).

(٢) وسيلة النجاة : ٥.

(٣) جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ١٧٧.

٤٣

لكونه مزاحما بحرمة الاغتراف يكون غير مقدور شرعا فينبغي الحكم ببطلانه ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ عدم القدرة شرعا إنّما يوجب بطلان الوضوء إذا كان موجبا للانتقال إلى التيمّم ، لكونه حينئذ داخلا تحت من لم يجد الماء ، والمفروض فيما نحن فيه أنّ عدم وجدان ذلك الماء الخاصّ لا يوجب الانتقال إلى التيمّم لكونه واجدا لطبيعة الماء ، فتأمّل.

فلنعد إلى توضيح ما كنّا فيه من إلحاق ما هو متمّم المقولة بما هو من قبيل المقولة المستقلّة فنقول بعونه تعالى في توضيح ذلك : إنّك إذا قلت سرت من البصرة ، كان هناك عرض متأصّل وهو السير ، وكان هناك أيضا جوهر وهو البصرة ، وهناك أمر ثالث هو إضافة بينهما ، وتلك الاضافة هي المعبّر عنها في مقام لحاظها استقلاليا بالابتداء وفي مقام إيجادها بينهما في عالم الحكاية بلفظ من ، وهذه الاضافة وإن لم يكن لها تأصّل وليس لها ما بحذاء في الخارج كما حقّقه قدس‌سره في مبحث المعنى الحرفي (١) من أنّه في مثل سرت من البصرة لا يكون الموجود في الخارج إلاّ السير والبصرة ، وأنّ الابتداء ليس له ما بحذاء في الخارج إلاّ أنّها من الأمور الانتزاعية التي تنتزع من نحو وجود السير مربوطا ومتعلّقا بالبصرة ، أو يقال إنّها متأصّلة لكنّها من الأعراض الاضافية بأن تكون من مقولة الاضافة.

وسواء كانت متأصّلة أو كانت انتزاعية فهي على كلّ حال هي عرض من الأعراض قائم بما بين السير والبصرة ، على وجه يصحّ جعلها موردا للأمر بأن يقول الآمر : ابتدأ بسيرك من البصرة ، كما يصحّ جعلها موردا للنهي بأن يقول : لا تبتدئ بسيرك من البصرة. وهذا النحو من العرض كما لا ريب في أنّ تركّبه مع

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات ١ : ٢٥ وما بعدها.

٤٤

البصرة لا يكون على نحو التركّب الاتّحادي بل يكون تركّبهما انضماميا ، فكذلك لا ينبغي الريب في أنّ تركّبه مع السير لا يكون تركّبا اتّحاديا ، بل هو تركّب انضمامي ، وذلك لما عرفت من أنّه وإن لم يكن مقولة مستقلّة في عرض سائر المقولات المتأصّلة إلاّ أنّه عرض من الأعراض ، والأشبه أن نقول إنّه من مقولة الاضافة.

وكيف كان ، فإنّ حقيقته هو تلك الاضافة بينهما ، ونسبته إليهما على حدّ سواء. فكما أنّ تركّبه مع الجوهر الذي هو البصرة يكون تركّبا انضماميا ويستحيل كونه تركّبا اتّحاديا ، فكذلك تركّبه مع الطرف الآخر من طرفيه الذي هو السير نفسه ، وقد عرفت أنّه بنفسه قابل لتعلّق الأمر به والنهي عنه ، وحينئذ يمكن أن يكون أصل السير مأمورا به ويكون الابتداء به من البصرة منهيا ، ويكون ذلك داخلا فيما نحن فيه ، ويكون حاله حال الأمر بالصلاة والنهي عن الكون في الدار المغصوبة فيما لو أوقع الصلاة فيها ، ولا فرق بينهما إلاّ في أنّ كون الصلاة في الدار المغصوبة من مقولة الأين وابتداء السير من البصرة من مقولة الاضافة ، بل هو في التركّب الانضمامي أوضح من الصلاة في الدار المغصوبة ، لامكان أن يقال إنّ الصلاة بنفسها تصرّف في الدار المغصوبة ، بخلاف السير والابتداء فإنّه لا يعقل أن يكون أحدهما عين الآخر ، فهما في ذلك نظير الصلاة واستقبال القبلة في كون الاستقبال واسطة بين الصلاة والقبلة في قوله صلّ إلى القبلة ، فإنّه مثل سر من البصرة.

وقد اصطلح شيخنا قدس‌سره (١) على هذا النحو من العوارض المأخوذة من تعلّق الجار والمجرور بالفعل بأنّه من قبيل متمّم المقولة ، وهذا المعنى الذي شرحناه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٤٨.

٤٥

في مثل السير والابتداء والبصرة جار في كلّ فعل له جار ومجرور متعلّق به.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ مسألة الصلاة في الدار المغصوبة يمكن تنزيلها على المقولة وهي الصلاة ومتمّمها وهو كونها في المكان المغصوب الذي هو الأين ، لكن باعتبار كونه أينا للصلاة لا أينا لذات المصلّي ، على وجه لا تكون الصلاة مربوطة به ، ليكون حال الصلاة في حال كون ذات المصلّي في المكان المغصوب حال أعماله الفكرية التي تعرضه أو يفعلها وهو في ذلك المكان ، وإلاّ لخرجت المسألة عن مسألة الاجتماع بالمرّة ، بل لا بدّ من ربط الصلاة بذلك الأين ليكون أصلها مأمورا به ويكون متمّمها وأينها منهيا عنه.

وبعبارة أخرى : يكون المأمور به هو ذات الصلاة ويكون المنهي عنه هو ربطها بذلك المكان ، فيكون حالها حال السير المبتدأ به من البصرة في كونه في حدّ نفسه مأمورا به ، ويكون النهي متعلّقا بربطه بالبصرة ربط ابتداء نعبّر عنه بمتمّمه ، فلا يكون مسألة الاجتماع من قبيل التركّب من المقولتين ، بل يكون من قبيل التركّب من المقولة ومتمّمها فلاحظ وتدبّر ، وعلى أي حال لا يكون التركّب إلاّ انضماميا.

وبذلك ينحل لك ما أفاده قدس‌سره (١) في مثل قولنا توضأ ولا تتصرّف في الآنية المغصوبة ، عند ما يتوضّأ المكلّف من الآنية المغصوبة من أنّه من قبيل التركّب الانضمامي ، وأنّ كون الوضوء من الآنية المغصوبة متمّم لمقولة الوضوء وإن لم يكن بنفسه من المقولات المتأصّلة ، وهكذا الحال في الوضوء من آنية الذهب أو الفضّة.

أمّا الوضوء من الماء المغصوب فكونه من هذا القبيل موقوف على النظر

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

٤٦

في حقيقة الوضوء ، وهل حقيقته وتمام كيانه ليس إلاّ نفس غسل الأعضاء ، وكون ذلك الغسل بالماء يكون أمرا زائدا على حقيقته ، ليكون حاله حال كون السير مبتدأ به من البصرة ، ليكون تركّب الوضوء مع كونه بالماء من قبيل التركّب الانضمامي ، ليكون الوضوء بالماء المغصوب داخلا فيما نحن فيه ، أو أنّ حقيقته وتمام كيانه هو غسل الأعضاء بالماء ليكون كونه بالماء داخلا في حقيقته وهويته ، فيكون تركّب الغسل مع كونه بالماء من قبيل التركّب الاتّحادي.

وعلى الأوّل يكون الوضوء بالماء المغصوب داخلا فيما نحن فيه ، بخلافه على الثاني فإنّه بناء عليه يكون الوضوء المذكور داخلا في باب النهي عن العبادة ، وتكون مانعيته منتزعة من ذلك النهي النفسي المتعلّق بالعبادة المذكورة ، فيكون داخلا فيما تعرّض له شيخنا قدس‌سره في ذلك المبحث من أنّ سقوط مثل هذا النهي النفسي لأجل الجهل بالموضوع أو الحكم لا يوجب سقوط تلك المانعية خلافا للمشهور في ذلك ، فراجع ما أفاده قدس‌سره في ذلك البحث (١) وتأمّل.

قوله : وكذلك يخرج عن محلّ الكلام ما إذا كان العموم من وجه بين فعلين توليديين ... الخ (٢).

والأولى بالخروج ما لو كان النهي متعلّقا بالعنوان الثانوي وكان الأمر متعلّقا بالعنوان الأوّلي ، كما لو أمر بتحريك اليد ولكن نهى عن تحريك المفتاح وجعل حركة يده تحريكا للمفتاح ، وكما لو أمر بالقيام ونهى عن تعظيم الفاسق فجعل قيامه تعظيما لفاسق. ولكن الذي خرج من ذلك ما لو كان المنهي عنه هو العنوان الثانوي وكان صدق العنوان الثانوي على الفعل بعنوانه الأوّلي صدقا ذاتيا لا باعتبار

__________________

(١) راجع التنبيه المذكور في أجود التقريرات ٢ : ٢٢١ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٤٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٧

أينه.

وحينئذ فلو كان مصبّ ماء الوضوء مغصوبا وكان إراقة الماء على يده مثلا بنفسها تصرّفا في ذلك المصب ، بحيث إنّ اراقته الماء على يده يكون اراقة له في ذلك المصب ، فإنّ نفس الاراقة عنوان أوّلي للفعل وكونه تصرّفا في المغصوب عنوان ثانوي ، ولكن صدق ذلك العنوان الثانوي على نفس الاراقة ليس إلاّ من جهة كونه أينا لتلك الاراقة ، فيكون المأمور به نفس الغسل والاراقة والمنهي عنه كونه في المكان المغصوب ، وحينئذ يندرج في مسألتنا ، بخلاف ما لو كان الماء ينزل من أعضائه إلى الأرض المباحة ثمّ يسيل عليها حتّى يصل إلى الأرض المغصوبة ، فإنّه يدخل في المقدّمة المحرّمة إذا كانت علّة تامّة للحرام على وجه لا يمكنه الحيلولة دون ذلك الحرام ، فإنّ المقدّمة تكون محرّمة حينئذ بنفسها وبذاتها ، فيدخل الفرض في باب النهي عن العبادة ، فيكون أولى بالفساد من الصورة الأولى وهي الراجعة إلى باب اجتماع الأمر والنهي.

واعلم أنّه قال في النجاة في عداد شرائط الوضوء : وإباحة المكان الذي هو بمعنى الفضاء الذي يقع فيه الغسل والمسح ، أمّا غيره كالمصب والأواني فمع انحصار الاستعمال فيه يبطل الوضوء ومع عدمه يقوى الصحّة ، والأحوط التجنّب الخ (١). وقال السيّد الشيرازي قدس‌سره في الحاشية على قوله : والأحوط التجنّب الخ ما هذا لفظه : بل الأقوى إذا كانت الطهارة تصرّفا في المصب (٢). قال شيخنا قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ نظره قدس‌سره في ذلك إلى صورة كون التصرّف في المغصوب عنوانا ثانويا لصبّ الماء على أعضاء الوضوء ، لا إلى صورة ما إذا كان التصرّف في المغصوب معلولا للصبّ كما في الصورة الثانية. ولكن العلاّمة الآخوند قدس‌سره حمل

__________________

( ١ و٢ ) نجاة العباد : ٣٩.

٤٨

هذه الحاشية على الصورة الثانية ، ولأجل ذلك كتب على هذه الحاشية ما لفظه : يعني بنحو السببية والعلّية (١).

وقال شيخنا في حاشية العروة ما هذا لفظه : إذا كان إجراء الماء على أعضاء الوضوء هو بعينه الصب في المغصوب اتّجه البطلان مطلقا ، ومع تغايرهما العرفي واستلزام الوضوء لانصباب مائه فيه فإن عدّ ذلك تصرّفا في المغصوب عرفا يبطل وضوءه عند الانحصار بل مطلقا على الأحوط ، وإلاّ فالصحّة مطلقا هي الأقوى (٢). وهذه العبارة لا تخلو من الغلق. وأوضح منها عبارته في الوسيلة (٣) فراجعها ، فإنّها بمنزلة الشرح لهذه الحاشية.

وكيف كان ، فقد ظهر لك من ذلك أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من التوقّف في بطلان الصورة الثانية لا يخلو عن تأمّل ، لما عرفت من كونها موجبة للنهي عن نفس الغسل وأنّ النهي يكون فيها من قبيل النهي عن العبادة ، فينبغي أن تكون أولى بالبطلان من الصورة الأولى. كما أنّ ما أفيد في نفس النجاة من التوقّف في البطلان في صورة كون الآنية مغصوبة أو المصب مع أنّه قائل بامتناع الاجتماع ممّا لم يتّضح وجهه ، وكذلك تخصيص البطلان في حاشية السيّد بصورة المصب وعدم التعرّض لصورة كون الآنية مغصوبة لم يتّضح وجهه ، فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا القسم الثاني وهو ما إذا كانت السببية من جهة إضافة أخرى وجودية ... الخ (٤).

لا يخفى أنّ العنوان الأوّلي يكون سببا وعلّة للعنوان الثانوي ، ولأجل ذلك

__________________

(١) نجاة العباد ( المحشاة بحواشي الآخوند قدس‌سره ) : ٣٤.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٤٠٣ / الرابع من شرائط الوضوء.

(٣) وسيلة النجاة : ٦.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ١٥٠ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٤٩

يصحّ توسّط الفاء بينهما.

ثمّ إنّه تارة يكون العلّة هو نفس العنوان الأوّلي من دون جهة تلحقه وهذا يستحيل فيه انفكاك أحدهما عن الآخر كما أفاده قدس‌سره ، وإلاّ لزم منه وجود العلّة بلا معلول أو وجود المعلول بلا علّة كما في الضرب والايلام. لكن في كون انفكاك الثاني عن الأوّل من قبيل وجود المعلول بلا علّة إشكال ، لامكان أن يكون معلولا لأمر آخر غير الضرب غاية الأمر يكون العلّة في الحقيقة هو القدر الجامع بينهما ، نعم لا ريب في كون انفكاك الأوّل عن الثاني من قبيل وجود العلّة بلا معلول.

وأخرى لا تكون العلّة هي نفس العنوان الأوّلي ، بل يكون العلّة هو لحوق بعض الجهات أو الحالات المقارنة لذلك الفعل توجب تأثيره في ذلك المعلول ، فإن تجرّد الفعل عن تلك الجهة أو الحالة لم يكن مؤثّرا ذلك الأثر ، فإن كانت تلك الجهة الموجبة لتأثير ذلك الفعل في ذلك المعلول هي القصد كما في قصد التعظيم بالقيام والتأديب بالضرب كانت تلك الجهة من قبيل الجهة التعليلية في صدق ذلك العنوان الثانوي على ذلك الفعل.

وأمّا إذا كانت تلك الجهة غير القصد كما في الالقاء والإحراق والصوم والضرر مثلا ، فإنّ تلك الجهة الموجبة لكون الالقاء علّة للإحراق والصوم علّة للضرر هي كون الالقاء في النار وكون الصوم في حال المرض ، فعلى الظاهر أنّ الجهة المذكورة أيضا جهة تعليلية كالقصد ، ضرورة صدق العنوان الثانوي على الفعل الموجّه بتلك الجهة لا على نفس تلك الجهة كما أفاده قدس‌سره كي تكون جهة تقييدية ، وحينئذ ففي مثل ذلك لو كان النهي متعلّقا بالعنوان الثانوي والأمر متعلّقا بالعنوان الأوّلي لم يكن ذلك من باب الاجتماع ، لكون ما تعلّق به الأمر هو عين ما تعلّق به النهي وهو نفس ذلك الفعل الخارجي ، بل يكون من قبيل حكومة ذي

٥٠

العنوان الثانوي على ذي العنوان الأوّلي.

وأمّا ما تقدّم من مثال الصب في الأرض المغصوبة في باب الوضوء فليس هو من قبيل العنوان الأوّلي والثانوي ، لعدم كون التصرّف في الأرض المغصوبة في طول عنوان الصب بل هو في عرضه ، ويكون المجمع مؤلّفا منهما ، ويكون العنوان الأوّلي أعني الصب عبارة عن اراقة الماء من الاناء وتفريغه ، والثانوي هو كون ذلك في الأرض المغصوبة ، فيكون المجمع مؤلّفا من المقولة ومتمّمها ، نظير تألّف الصلاة في المكان المغصوب من هاتين الجهتين.

وإن شئت فقل : إنّ التصرّف في الأرض المغصوبة معلول لأين الاراقة لا لنفس الاراقة ، ولو كان الغصب أو التصرّف في المكان المغصوب عنوانا ثانويا لنفس الصب والاراقة لكان الغصب والتصرّف في المغصوب عنوانا ثانويا للصلاة.

وبالجملة : فكما أنّ الغصب أو التصرّف في المغصوب عنوان منتزع من أين الصلاة الذي هو كونها في المكان المغصوب لا أنّه عنوان ثانوي منطبق عليها ، فكذلك الحال في الصب في المكان المغصوب يكون الغصب أو التصرّف في المغصوب منتزعا من كون الاراقة في المكان المغصوب فتأمّل.

قد يقال : إنّ مبدأ الالقاء والاحراق هو اللقاء والحرقة وهما متباينان ، فلو تركّب الموضوع منهما يكون تركّبه انضماميا ، مضافا إلى كونهما من مقولتين ، فإنّ اللقاء من مقولة الفعل والحرقة من مقولة الانفعال ، وإذا كان اللقاء والحرقة كذلك كان الالقاء والاحراق أيضا كذلك ، لأنّ الالقاء بالنسبة إلى اللقاء من قبيل الايجاد والوجود ، ولا ريب في وحدتهما حقيقة وإن اختلفا اعتبارا ، وحينئذ فالالقاء والاحراق يكون التركّب منهما انضماميا ويجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما.

٥١

وفيه ما لا يخفى ، أوّلا : أنّ اللقاء ليس مباينا للحرقة بل إنّها بالنسبة إليه من قبيل العناوين التوليدية ، لأنّ اللقاء سبب للحرقة ، فيصحّ أن يقال إنّ اللقاء حرقة بهذا الاعتبار ، أعني باعتبار كون الثاني من العناوين التوليدية بالنسبة إلى الأوّل.

وثانيا : أنّ الالقاء ليس بمأخوذ من مادّة اللقاء ، لأنّ لقي متعدّ فيقال لقي الحطب النار ، وإذا زيدت عليه الهمزة فقيل ألقيت الحطب في النار ينبغي أن يقال ألقيت الحطب النار ، بل الظاهر الالقاء مأخوذ من مادّة أخرى لا وجود لها. ومعنى الالقاء هو اخلاء اليد من الشيء وطرحه في المحل ، لا مجرّد جعل أحدهما ملاقيا للآخر ، فإنّ ذلك لا يتمّ في مثل قوله تعالى : ( وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ )(١).

وثالثا : لو سلّمنا أنّ الالقاء مأخوذ من اللقاء فلا يلزم منه أن يكون عينه حقيقة ، إذ ليس ذلك من قبيل الايجاد والوجود ، فإنّه إنّما يكونان من هذا القبيل لو كانا من قبيل المصدر واسم المصدر ، والمفروض أنّ الالقاء واللقاء كلّ منهما مصدر على حدة ، غايته أنّ الأوّل مصدر من باب الافعال والثاني من باب الفعل ، فلا يلزم أن يكون أحدهما عين الآخر خارجا. وكيف يكون ما صدر عن الفاعل من قولنا أعلمت زيدا عين ما صدر عن الفاعل من قولنا علم زيد ، وهكذا الحال في مثل أقعدته وأقمته.

ورابعا : أنّ الوجدان شاهد على عدم المباينة بين الالقاء والاحراق ، ضرورة صحّة حمل الثاني على الأوّل فيقال الالقاء إحراق ، ولو كان تركّبهما انضماميا لما صحّ الحمل المذكور.

وخامسا : أنّه بعد جميع هذه المضايقات لا نعبّر بالالقاء ، بل نعبّر بالطرح واخلاء اليد أو الوضع أو ما أشبه ذلك ممّا هو خارج عن هذه الشبهة.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦٤.

٥٢

قوله : إذ متعلّق الأمر ليس نفس هذا الفرد بخصوصه بل صرف وجود الطبيعة ، غاية الأمر ترخيص المكلّف في تطبيقه على هذا الفرد ـ إلى قوله : ـ بخلاف ما إذا لم يكن كذلك وكان منهيا عنه تنزيها ، فإنّه لا ينافي بقاء الرخصة على حالها وإن كان التطبيق على هذا الفرد مرجوحا في نظر الشارع ... الخ (١).

ملخّصه : أنّ متعلّق الأمر هو صرف الطبيعة ومتعلّق النهي هو الخصوصية الفردية ، ولا منافاة بينهما لعدم وحدة المتعلّق ، ولأنّ النهي لو كان تحريميا لكان موجبا لسدّ باب الامتثال في ذلك الفرد ، بخلاف ما إذا كان تنزيهيا فإنّه لا يوجب سدّ باب الامتثال فيه.

ويمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ تركّب الخصوصية الفردية مع صرف الطبيعة المتحقّقة في ذلك الفرد إن كان على نحو التركّب الاتّحادي أوجب امتناع اجتماع الأمر مع النهي المذكور بعد الاعتراف بتضادّهما مع فرض اتّحاد متعلّقيهما ، وإن كان التركّب المذكور انضماميا كان اللازم هو القول بجواز اجتماعهما حتّى لو كان النهي تحريميا.

غاية الأمر أنّه يكون الفرق بين التحريمي والتنزيهي أنّ الأوّل يكون سادّا لباب الامتثال ، وهو راجع إلى الجهة الثانية من جهتي بحث الاجتماع ، فيكون العمل باطلا من هذه الجهة أعني الجهة الثانية بعد الفراغ عن جواز الاجتماع من الجهة الأولى ، بخلاف الثاني أعني النهي التنزيهي فإنّه كما لا يكون مانعا من الاجتماع من الجهة الأولى لا يكون مانعا منه من الجهة الثانية ، وحينئذ يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٥٣

تصحيح العبادة المكروهة في هذين القسمين أعني العموم من وجه والعموم المطلق مختصّا بذلك القول ، أعني الجواز من الجهة الأولى الذي يكون مبناه التركّب الانضمامي ، ولا يتأتّى تصحيحها على القول بالامتناع من الجهة الأولى الذي يكون مبناه التركّب الاتّحادي.

وحينئذ لو قلنا بالامتناع من هذه الجهة بأن منعنا التركّب الانضمامي وقلنا في أصل مسألة الاجتماع إنّ التركّب اتّحادي ، أو قلنا بأنّ التركّب في خصوص ما نحن فيه من العبادات المكروهة من قبيل التركّب الاتّحادي ، لم يكن لنا بدّ من حمل النهي على الارشاد إلى جهات طبيعية ، مثل البرص في الوضوء بماء اسخن بالشمس ، أو الارشاد إلى أكثرية ثواب غير تلك العبادة ، أو غير هذا الفرد من باقي أفراد الطبيعة ونحو ذلك ممّا سيأتي (١) شرحه إن شاء الله تعالى.

قوله : ولذا التزم جماعة تبعا للعلاّمة المحقّق الأنصاري قدس‌سره ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه بعد أن ذكر أنّ القسم الثالث لا يتأتّى فيه ما أفاده من الجواب في القسمين الأوّلين ما هذا لفظه : نعم لا بأس بذكر ما أفاده شيخنا أستاذ الأساتيذ قدس‌سره في التقريرات (٣) وتبعه عليه في الكفاية ، وحاصله : أنّه يمكن أن يكون نفس الترك ذا مصلحة مقتضية لطلبه إمّا بأن يكون بنفسه ذا مصلحة ، وإمّا أن يكون ملازما لعنوان ذي مصلحة ، وعلى أي حال يكون كلّ من الفعل والترك مطلوبا لكون كلّ منهما ذا مصلحة.

وفيه ـ بعد إصلاحه بأنّ الغرض من العنوان الملازم للترك هو العنوان

__________________

(١) في الصفحة : ٦٦ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٧٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) مطارح الأنظار ١ : ٦٤٤.

٥٤

التوليدي المنطبق على الترك ، وإلاّ فإنّ مجرّد ملازمة الترك لذلك العنوان لا توجب كونه مطلوبا ـ : أنّه بناء على ذلك لا بدّ من الكسر والانكسار وتقديم ما هو الأقوى ملاكا في نظر الشارع ، فيكون ما يجعله الشارع مطابقا له ، حيث إنّ التزاحم المذكور إنّما يكون من قبيل التزاحم في مقام الجعل والتشريع الموجب للكسر والانكسار ، فإنّ هذا من أوضح موارده لكونه بين النقيضين. وهكذا الحال في استحباب الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، بل في استحباب أحد المتلازمين في الوجود وكراهة الآخر ، كما في استقبال المشرق واستدبار المغرب مثلا. وبناء على ما ذكرناه من لزوم الكسر والانكسار في أمثال ذلك لا بدّ أن يكون دليل الكراهة الذي مفاده استحباب الترك معارضا لدليل استحباب الفعل حتّى على القول بجواز الاجتماع ، فلا بدّ حينئذ من الجواب عن هذا القسم بجواب آخر ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ أغلب المستحبّات تكون متزاحمة في مقام الجعل والتشريع ، لعدم قابلية الوقت لجميع المستحبّات الواردة فيه بالخصوص فضلا عمّا يدخل فيه بطريق العموم ، ومن الواضح أنّهم لم يجروا فيها قاعدة الكسر والانكسار ، فليكن استحباب العبادة فيما نحن فيه وكراهتها بمعنى استحباب تركها من هذا القبيل ، كما هو مقتضى توجيه الشيخ قدس‌سره ، إذ ليس تنافي الفعلين أو الأفعال التي لا يسع الزمان إلاّ بعضها إلاّ كتنافي الفعل والترك في استحباب كلّ منهما ، غاية الأمر أنّ التنافي فيما نحن فيه يكون من قبيل تنافي المتناقضين ، وفي مثل المستحبّات المتعدّدة في زمان واحد يكون من قبيل تنافي التضادّ ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب التفرقة بينها في جريان قاعدة الكسر والانكسار في الأوّل دون الثاني.

٥٥

وبالجملة : أنّ مناط الكسر والانكسار والتزاحم في مقام الجعل والتشريع إن كان هو عدم القدرة وكون ذلك على نحو الدوام فهو متحقّق في كلّ من البابين ، وكذلك الحال لو كان مناطه هو التدافع بين إرادة الفعل وإرادة تركه ، فإنّه أيضا متحقّق في إرادة أحد النقيضين وإرادة نقيضه الآخر (١) في زمان واحد ، لتدافع الارادتين الناشئ عن تدافع متعلّقيهما.

وأجاب قدس‌سره حينما عرضت ذلك بخدمته بما حاصله حسبما حرّرته عنه قدس‌سره بأنّ التزاحم الواقع فيما نحن فيه في مقام الجعل والتشريع كان بين الفعل والترك ، وفي سائر المستحبّات كان بين الأفعال المتضادّة ، وحيث إنّ استحباب أحد الفعلين لا يمنع من تركه والاشتغال بضدّه الذي هو مستحبّ آخر لم يكن بين الاستحبابين تناف ، بخلاف ما لو كان أحدهما وجوبيا فإنّه بعد فرض أنّ الزمان لا يسع إلاّ أحدهما وكان وجوب أحدهما مانعا من الاشتغال بالآخر كان موجبا لسدّ باب امتثاله ، سواء كان الآخر واجبا أو كان مستحبّا ، انتهى. هذا حاصل ما فهمته منه قدس‌سره حسبما ما حرّرته.

وشرح ذلك هو أنّ الفعل والترك وإن كان كلّ واحد منهما مشتملا على المصلحة إلاّ أنّ مجرّد المصلحة لا يكفي في جعل الحكم على طبقها ما لم تكن موجبة لرجحان ذيها على عدمه ، حيث إنّ الارادة الشرعية كالتكوينية لا يعقل أن تتعلّق بشيء ما لم يكن وجوده أرجح من عدمه في نظر المريد ، ولأجل ذلك ذكروا أنّ الممكن ما دام متساوي الطرفين لا يوجد إلاّ إذا كان وجوده أرجح من عدمه ، وحينئذ نقول : إنّ كلّ واحد من الفعل والترك إذا كان ذا مصلحة فإن كان مصلحة فعله أرجح من مصلحة عدمه تعلّق الأمر به ، ولا يمكن في هذه الصورة

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، ولعلّ المناسب : أحد الضدّين وإرادة ضدّه الآخر ].

٥٦

طلب تركه لأنّه ليس الترك بأرجح من الفعل. ومنه يظهر الحال في صورة العكس ، فإنّه إن كان مصلحة تركه أرجح من مصلحة فعله نهي عنه وتعلّق الطلب بتركه. ولو تساوى المصلحتان لم يمكن أن يؤمر به وأن ينهى عنه بحيث يكون كلّ من فعله وتركه مطلوبا على نحو التعيين ، لما عرفت من تناقض الارادتين ، مضافا إلى محالية كلّ منهما في حدّ نفسها لعدم رجحان متعلّقها على عدمه ، فلم يبق إلاّ التخيير الشرعي بين الفعل والترك ، وهو أيضا محال لكونه لغوا صرفا لعدم خلو المكلّف عن أحد الطرفين.

وأمّا الضدّان اللذان لا ثالث لهما فإن كان كلّ منهما ذا مصلحة وكان مصلحة أحدهما أقوى حكم باستحبابه لكون فعله أرجح من تركه ، إلاّ أنّه لا يكون الحكم باستحبابه منافيا للحكم باستحباب الآخر ، لأنّه أيضا يكون فعله أرجح من تركه. وإن كانا متساويين لم يمكن الحكم باستحباب كلّ منهما تخييرا ، لكونه لغوا لعدم خلو المكلّف عن أحدهما ، هذا.

لكنّه قدس‌سره أفاد حسبما فهمته وحرّرته عنه فيما تقدّم نقله عنه قدس‌سره أنّ الكسر والانكسار جار في استحباب الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وفي كراهة أحد المتلازمين في الوجود واستحباب الآخر. والظاهر أنّ نظره قدس‌سره في ذلك إلى قبح تشريع استحباب ما يكون وجوده ملازما للمرجوح ، وكلاهما من هذا القبيل. أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلأنّ فعل أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما ملازم لترك الآخر الذي هو مرجوح. إلاّ أنّ هذا لو تمّ لكان الأمر كذلك في الضدّين اللذين لهما ثالث ، لأنّ فعل كلّ واحد من الأضداد ملازم للمرجوح الذي هو ترك الآخر.

وهكذا الحال لو علّلنا الكسر والانكسار في ذلك بما مرّ من عدم إمكان تعلّق الارادة بالضدّين اللذين لا ثالث لهما ، أو تعلّق الارادة بالفعل الذي يكون

٥٧

ملازما لما يكون تركه مراده ، إذ لا يعقل أن يصدر من الحكيم إرادة أحد المتلازمين مع إرادة عدم الآخر ، فإنّ هذه الجهة جارية بعينها في الضدّين اللذين لهما ثالث.

نعم ، في الضدّين اللذين لا ثالث لهما وفي ترك أحد المتلازمين مع فعل الآخر لا يتأتّى التخيير الشرعي ، فيتعيّن فيهما الكسر والانكسار كما بين الفعل وتركه. أمّا الضدّان اللذان لهما ثالث لو كان كلّ منهما ذا صلاح فإنّ الحكم فيهما يكون بالتخيير ، غايته أنّه بين المتساويين إن كان صلاح أحدهما مساويا لصلاح الآخر ، وإن كان أحدهما أقوى كان أفضل الافراد المستحبّة تخييرا.

فظهر لك أنّه في تزاحم المستحبّات في مقام التشريع إن كانا من قبيل الفعل والترك ، أو كانا من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، أو كانا من قبيل فعل أحد المتلازمين مع ترك الملازم الآخر لا بدّ من الكسر والانكسار إن كان في البين ما هو الأقوى ، وإن تساويا لم يعقل تعلّق الأمر الاستحبابي بهما ولو على نحو التخيير الشرعي بينهما ، بل كان الحكم هو الاباحة الأصلية.

وإن كانا من قبيل الضدّين اللذين لهما ثالث لم يجر الكسر والانكسار بينهما في الحكم الاستحبابي ، بل كان الجميع مستحبّا غايته أنّه على نحو الاستحباب التخييري ، سواء كان أحدهما أرجح أو كانا متساويين (١).

ومن ذلك يظهر لك ما في الكفاية أعني قوله قدس‌سره : فهما حينئذ يكونان من

__________________

(١) ويمكن أن يقال : إنّه يجري فيه الكسر والانكسار ، ومقتضاه هو التعارض بين الدليلين ، إلاّ أنّه لمّا قام الإجماع مثلا على صحّة كلّ واحد من تلك المستحبّات لو أتى به المكلّف كان ذلك كاشفا عن الاستحباب التخييري. وربما جرى ذلك في الواجبات إن قام الدليل على صحّة كلّ واحد منها [ منه قدس‌سره ].

٥٨

قبيل المستحبّين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهمّ في البين ، وإلاّ فيتعيّن الأهمّ الخ (١) ، فإنّه قد ظهر أنّه في تزاحم المستحبّات في مقام الجعل والتشريع لا بدّ من الكسر والانكسار ، وأنّه لا يتصوّر فيه التخيير إلاّ في القسم الأخير ، وهو لا ينحصر بصورة التساوي بل يتأتّى في صورة رجحان أحدهما ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : إلاّ أنّ ذلك فيما إذا كانت المصلحة مترتّبة على مطلق وجود الفعل والترك ، وأمّا فيما إذا كانت مترتّبة على حصّة خاصّة من الفعل كما هو الحال في موارد العبادات المكروهة في محلّ الكلام ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه بعد فرض مسلّمية امتناع اجتماع تعلّق الارادة بالفعل مع تعلّقها بترك ذلك الفعل لا وجه للفرض المذكور.

أمّا أوّلا : فلأنّ الكلام كان مع دعوى الكفاية (٣) صلاح كلّ من الفعل والترك ولزوم استحباب كلّ منهما ، بحيث يكون الترك المستحبّ هو ترك نفس ذلك الفعل المستحبّ ، ففرض تعلّق الاستحباب بحصّة خاصّة من الفعل وتعلّق استحباب الترك بمطلق ذلك الفعل ، بحيث يكون الفعل المستحبّ هو الفعل المقيّد بقيد العبادة والترك المستحبّ هو ترك مطلق ذلك الفعل ، يكون مغايرا لما أسّسه في الكفاية من امكان تعلّق الأمر الاستحبابي بكلّ من الفعل وتركه.

وثانيا : أنّ الفعل العبادي كالصوم في يوم عاشوراء إنّما نتصوّر عباديته بتعلّق أمرين : أوّلهما متعلّق بذات الفعل ، والآخر بالاتيان به بداعي الأمر الأوّل ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٧٣.

(٣) كفاية الأصول : ١٦٣.

٥٩

وحينئذ يقع نفس الفعل مأمورا به بالأمر الأوّل وقد كان الطلب متعلّقا بتركه فعاد الإشكال.

وثالثا : سلّمنا أنّ الأمر الاستحبابي يتعلّق بالفعل العبادي لكن هذا الأمر المتعلّق بهذه الحصّة وهذا القسم من الفعل مناقض للأمر المتعلّق بترك مطلق الفعل كما هو المفروض ، ضرورة مناقضة الموجبة الجزئية للسلب الكلّي ، فإنّ مفاد طلب خصوص الامساك العبادي في يوم عاشوراء يكون بمنزلة الايجاب الجزئي ، كما أنّ مفاد طلب ترك مطلق الامساك في ذلك اليوم يكون بمنزلة السلب الكلّي وهما متناقضان ، فيكون من هذه الجهة كما لو تعلّق الطلب بنفس الفعل وتعلّق الطلب الآخر بترك نفس ذلك الفعل في تحقّق المناقضة بين الطلبين.

وكون المكلّف غير قادر على الجمع بين هذين المتعلّقين ممّا يؤكّد المناقضة بينهما ، وكونه قادرا على تركهما لا يرفع التدافع والتنافي بين الطلبين.

نعم إنّ ذلك يصحّح الاستحباب على نحو التخيير الشرعي ، فيستحبّ له أن يصوم عبادة أو يترك مطلق الامساك ولو لا عن عبادة ، على تأمّل في امكان الاستحباب التخييري بين فعل الخاص وترك العام.

ورابعا : أنّ الكلام كان في توجيه كراهة الصوم العبادي في يوم عاشوراء وكراهة النافلة المبتدأة في الأوقات الخاصّة ، بمعنى أنّ الكلام كان في توجيه طلب فعل تلك العبادة وطلب تركها ، فحمل النهي في ذلك على طلب ترك مطلق الامساك خلاف مفروض الإشكال ، لأنّ الإشكال كان في صحّة اجتماع طلب ترك العبادة مع طلب فعلها ، لا في صحّة اجتماع طلب فعل تلك العبادة مع طلب ترك مطلق الامساك الذي هو الأعمّ من الصوم العبادي.

والحاصل : أنّ الغرض من تلك النواهي هو المنع من تلك العبادة في ذلك

٦٠