أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

الوقوف والايماء.

ثمّ قال : والمختار في دخول المغصوب وخروجه تبطل صلاته الكائنة حال دخوله ومكثه. وفي الخروج وجهان. وقد يقال بتخصيص الحال بضيق الوقت عن ركعة أو عن اكمال الصلاة لتفويت بعض الأعمال ، هذا إذا لم يكن تصرّف زائد على الخروج. وفي المجبور ( يعني دخولا فقط بأن يكون مختارا في الخروج ) مع ضيق الوقت لا ينبغي التأمّل في الصحّة مع عدم زيادة التصرّف وتلزم الأجرة على الجابر. ويحتمل لزوم الاقتصار على الواجبات ، والإسراع بقدر الامكان عادة. وتحريك اللسان من التصرّف في المكان إن جعل عبارة عن الفراغ ، والقول بخروجه منه أقوى. وفي إلحاق التائب بالمعذور لجبر أو جهل أو نحوهما إشكال ، وغير التائب أشدّ إشكالا.

ثمّ قال : والمجبور من غير المالك على الكون في المغصوب إذا لم يحصل منه تصرّف من جهة الصلاة زائد على أصل الكون تصحّ صلاته (١).

والظاهر أنّ مراده من التصرّف الزائد هو ما يحصل بواسطة الأفعال الصلاتية ، مثل أنّه لو حبس واقفا لكن كان المحلّ ممّا يتحرّك بالضغط كالرمل ونحوه ، فإنّه لو نام عليه أو سجد يكون ذلك موجبا لتحريكه ، وذلك تصرّف زائد على أصل الوقوف ، ونحو ذلك ممّا هو زائد على أصل الكون واشغال الحيز.

وأمّا ما ذكره بقوله : وتحريك اللسان من التصرّف ، فإنّما ذكره في سياق الصلاة في حال الخروج لمن ألقي في المكان المغصوب وكان في خروجه مختارا ، وأنّ التصرّف الزائد على الخروج يكون ممنوعا ، فذكر أنّ من جملة التصرّفات تحريك اللسان ، فلو كان ذلك زائدا على أصل الخروج [ حرم ] لكون

__________________

(١) كشف الغطاء ٣ : ٥٠ ـ ٥٢.

١٢١

التصرّف الخروجي المفروض كونه جائزا لا دخل له بالتصرّفات الأخر وإن لم تكن موجبة لاطالة الخروج. ونظير ذلك ما لو أذن له المالك في الكون في المكان ، فإنّه يحتاج إلى الاذن في الصلاة فيه ولو بمثل الفحوى.

وبالجملة : أنّ حركة اللسان لا تزيد على أصل الكون ، ولو قلنا بذلك كان اللازم في جميع هذه الفروع التي ذكرها أن تكون مقصورة على الأفعال القلبية فتأمّل.

وقد يقال : إنّ التصرّف في الفضاء وإن كان تصرّفا في ملك الغير إلاّ أنّه بحسب النظر العرفي لا يعدّ تصرّفا في ملك الغير ، فلو رمى حجارة من داره إلى داره الأخرى وبينهما دار لشخص آخر ، فعبرت الحجارة على دار ذلك الشخص في الفضاء لم يعدّ عرفا أنّه تصرّف في دار الغير. وبذلك يمكن تسويغ العبور في الطرق التي تأخذها الحكومة من دور الناس بعد تبليطها ، فإنّه قبل التبليط يكون المشي على نفس أرض الغير ولكن بعد التبليط يكون وضع القدم على التبليط لا على أرض الغير ، فلم يبق إلاّ العبور في الفضاء وهو لا يعدّ تصرّفا عرفا. ومن ذلك يمكن القول في المحبوس قائما أنّه لا يجوز له الجلوس لأنّه حينئذ يتّسع تصرّفه في الأرض ، ولا السجود أيضا لأجل ذلك ، نعم له الركوع والمشي.

ولكن عدم عدّ ذلك تصرّفا محرّما ممنوع ، نعم إنّه تصرّف لا أهميّة له عندهم أو لا يقدّر بالمال لقلّته ، فلأجل ذلك لا يمنعون عن مثله ، لأجل حقارته لا لأجل أنّه ليس بتصرّف ، ولأجل ذلك يمنعونه بأشدّ المنع لو كان بقائيا استقراريا كما لو صنع صاحب الدارين جسرا من إحداهما إلى الأخرى وبنى عليه طابقا ، بل لو عبر في الطيارة لكن عند الوصول إلى فضاء الغير أسكن حركة الطائرة وبقيت واقفة.

١٢٢

والحاصل : أنّ هذا الذي يتسامحون فيه هو التصرّف العبوري السريع ، سواء كان لأجل المسامحة أو لأجل أنّه لا يعدّ تصرّفا في نظرهم ، أمّا لو جلس في ذلك الطريق المبلّط مدّة طويلة وجعل له فيه دكّانا ، بل لو صلّى فيه ، كلّ ذلك غير داخل في العبور المذكور ، بل إنّ العبور الذي تسامحوا فيه هو مثل عبور الطيارة السريعة فلعلّه لا يشمل المشي المتعارف في الطرقات

قوله في الحاشية : وهذا بخلاف الحكم الوضعي ، فإنّه يتبع ما في نفسه من الملاك المقتضي لجعله ... الخ (١).

ليست المقابلة بين جعل هذا الحكم الوضعي وبين جعل الأمر والنهي ، وإنّما المقابلة بين نفس الحكم الوضعي المجعول وبين متعلّق الأمر والنهي ، فكما أنّ متعلّق الأمر لا بدّ أن يكون ذا مصلحة ومتعلّق النهي لا بدّ أن يكون ذا مفسدة ، والفعل الواحد في الزمان الواحد لا يعقل أن يكون مشتملا على كلا الملاكين وإن كان زمان الأمر والنهي مختلفا ، فكذلك نفس الحكم الوضعي المجعول الذي هو الملكية مع وحدة المملوك ووحدة زمان الملكية لا يعقل أن يكون مشتملا على ملاك يقتضي جعله وعلى ملاك يقتضي نفيه.

وإن أردت تمام المقايسة بينهما فاجعل المقيس في مسألة البيع هو العقد نفسه وقل إنّه حكم عليه بحكمين متناقضين وهما الصحّة والفساد ، وبعبارة أخرى هما النفوذ وعدمه مع كون زمانه واحدا وإن كان زمان الجعل مختلفا ، فتأمّل.

وكما يمكن أن يجاب عن التنافي هنا بأنّه قبل الاجازة لا يكون مقتضي الجعل موجودا فيحكم بنفيها وبعد تحقّق الاجازة ينوجد مقتضي جعل الملكية ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٨٩.

١٢٣

فكذلك يمكن أن يقال هناك إنّه قبل الدخول يكون التصرّف الخروجي ذا مفسدة فيكون محرّما ، وبعد تحقّق الدخول يرتفع ما يقتضي الحكم بتحريمه ، ولو باعتبار تحقّق العصيان وارتفاع الحرمة خطابا مع بقائه على ما هو عليه من المبغوضية واستحقاق العقاب. فهو من هذه الجهة يشارك ما عليه الجبائي (١) من اجتماع استحقاق العقاب على التصرّف الخروجي مع كونه مخاطبا بارتكابه ووجوبه الشرعي فعلا.

قوله : أمّا الموضع الأوّل فقد اختلف فيه بالأقوال الأربعة ... الخ (٢).

نقل في الكفاية (٣) قولا خامسا وهو كونه منهيا عنه فقط ، ونقله المرحوم الشيخ محمّد علي في تحريراته (٤). وهذه الأقوال إنّما تتأتّى فيما لو كان الخروج ممكنا ، أمّا لو لم يكن الخروج ممكنا ومع ذلك ارتكب الدخول بسوء اختياره ـ كما لو تعمّد ركوب المركب المغصوب ـ فالظاهر أنّه لا إشكال في حرمة مكثه ، ولا أقل من كونه مبغوضا وإجراء حكم المعصية عليه وأنّه يستحقّ عليه العقاب ، وحينئذ لا يتحقّق التقرّب بالصلاة فيه. وهكذا الحال في من اضطرّ إلى لبس الحرير أو المغصوب بسوء اختياره ، بأن كان الوقت باردا بحيث لا يمكنه نزعه وكان عنده غيره من الألبسة فأعدمها ، أو أنّه لم يكن عنده غيره ولكنّه تعمّد في الخروج إلى الصحراء على وجه لا يمكنه العود ، أو شرب ما يوجب اضطراره إلى

__________________

(١) البرهان في أصول الفقه ١ : ٢٠٨ ، بيان المختصر ١ : ٣٩١ ، التقريب والإرشاد ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٨٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) كفاية الأصول : ١٦٨.

(٤) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٧.

١٢٤

لبسه ، كما يظهر ذلك من الكفاية بقوله : الأوّل ـ إلى قوله : ـ وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب (١).

وبالجملة : أنّ الحكم في هذه يكون عين الحكم في الصلاة حال الخروج على تقدير كونه غير واجب ، وسيأتي (٢) إن شاء الله تعالى التعرّض له فيما نعلّقه على ما أفاده شيخنا قدس‌سره إن شاء الله تعالى ، ولعلّ هذه الصورة هي المنظور إليها في عبارة كشف الغطاء فإنّه قال في ذيل عبارته المتقدّمة ما هذا لفظه : وفي إلحاق التائب بالمعذور لجبر أو جهل أو نحوهما إشكال ، وغير التائب أشدّ إشكالا (٣).

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ ما تعرّض له من حكم الخروج فيما لو دخل بسوء اختياره إنّما مورده التوبة ، فإنّه لو لم يتب وخرج من قبل نفسه لم يكن إشكال في بطلان صلاته في حال الخروج كبطلانها في حال المكث ، وحينئذ يكون قوله في ذلك : وفي الحاق التائب الخ ، مختصّا بما إذا تاب ولم يمكنه الخروج. ولو سلّم فلا أقل من كون هذا شاملا لما إذا تمكّن من الخروج وصلّى خارجا ولما إذا لم يتمكّن منه وصلّى ماكثا ، كلّ ذلك بعد توبته ، فلا يكون مختصّا بما إذا صلّى خارجا بعد توبته ليكون كلامه السابق في الخروج بعد الدخول الاختياري مختصّا بالخروج بدون توبة ، لأنّ ذلك لا ينبغي التأمّل في فساد صلاته ، وإن كان الذي يظهر من كلمات الفقهاء مثل الحاج آقا رضا قدس‌سره (٤) وغيره أنّ ذلك محلّ الكلام أيضا ، فراجع.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) في الصفحة ١٧١ وما بعدها.

(٣) كشف الغطاء ٣ : ٥١ ، وقد تقدّمت العبارة في الصفحة ١٢١.

(٤) مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) ١١ : ٣٧ وما بعدها.

١٢٥

نعم ، لو كان ذلك اللباس نجسا أو من غير المأكول لزمه الصلاة فيه ، وإن كان معاقبا على تفويت قدرته على غيره أو على ما يوجب عدم تمكّنه من الصلاة عريانا ، ويكون حاله حال من عجّز نفسه عن بعض الأجزاء أو بعض الشرائط.

قوله : وتوهّم تصحيح تعلّق الحكمين في زمانين بموضوع واحد بالالتزام بالواجب التعليقي ... الخ (١).

أبدل العبارة في الطبعة الجديدة بقوله : وبالجملة الأمر والنهي إنّما يصدر من المولى ليكون باعثا للمكلّف إلى الفعل أو زاجرا له عنه ، فإذا فرض سقوط التحريم في ظرف إمكان صدور متعلّقه امتنع جعله ، ومن ذلك يظهر بطلان توهّم أنّ القول بصحّة الواجب المعلّق يستلزم صحّة تعلّق الحكمين الخ.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال على صاحب الفصول غير مربوط بدعواه كون الخروج مأمورا به ، وإنّما هو ممحّض للإشكال على دعوى كونه منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالعصيان ، وحينئذ لا يختصّ بصاحب الفصول ، بل هو متوجّه أيضا على الكفاية.

وحاصل الإشكال هو عدم إمكان صدور مثل هذا النهي من الحكيم ، لأنّ الغرض من النهي هو زجر المكلّف عن الاتيان بمتعلّقه ، وذلك إنّما يمكن في ظرف امكان حصول ذلك المتعلّق من المكلّف ، والمفروض أنّ هذا المتعلّق الذي هو الخروج لا يمكن حصوله من المكلّف ، أمّا قبل الدخول فواضح إذ لا يتصوّر صدور الخروج منه قبل الدخول ، وأمّا بعد الدخول فلأنّ المفروض أنّه بمجرّد الدخول يكون النهي عن الخروج ساقطا بالعصيان ، لكونه بعد الدخول لا يكون ترك الخروج مقدورا له ، وليس هذا إلاّ من قبيل ما لو تعلّق الوجوب بفعل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٩.

١٢٦

في الزمان الآتي مع كون ذلك الفعل في ذلك الزمان غير مقدور.

ومنه يظهر لك أنّ هذا الإشكال ـ أعني عدم معقولية هذا النهي ـ لا يندفع بالتعلّق بالتعليق ، بل الذي أفسده هو كون النهي معلّقا أعني كونه معلّقا على الدخول ، الذي هو حسب الفرض موجب لسقوط النهي فيكون الفساد والبطلان آتيا من ناحية أنّ هذا النهي لا يصحّ إلاّ معلّقا على الدخول ، الذي هو حسب الفرض موجب لسقوط النهي المذكور ، هذا. مضافا إلى أنّ التعلّق بالتعليق لا يدفع إشكال اجتماع المبغوضية الناشئة من النهي السابق والمحبوبية الناشئة من الأمر بالدخول.

ولأجل ما ذكرناه من أنّ هذه الجهة من الإشكال على النهي المذكور متوجّهة أيضا على صاحب الكفاية قدس‌سره حاول تصحيح ذلك النهي في ظرفه يعني قبل الدخول وإن سقط بعد الدخول بأنّ المتعلّق وهو الخروج مقدور في ذلك الظرف أعني قبل الدخول ، وإن كانت قدرته عليه بواسطة قدرته على الدخول ، وأنّه قبل الدخول يكون تاركا للخروج حقيقة ، غايته أنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وهذا جار في المكث بل في جميع المحرّمات التدريجية مثل صلاة الحائض ومثل شرب الخمر مثلا ، فإنّ الجزء الثاني من الصلاة أو الشرب مثلا لا يكون مقدورا بل لا يكون له موضوع إلاّ بعد الفراغ من الجزء [ الأوّل ] وحينئذ يكون النهي عن الجزء الثاني مشروطا بفعل الجزء الأوّل أو أنّ ذلك من قبيل الواجب التعليقي.

والذي أتخيّله أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره ملتزم بما التزم به صاحب الفصول من كون الخروج مبغوضا ، لكونه منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بواسطة الدخول ، فيكون الخروج مشتملا على ملاك النهي بل على المبغوضية الفعلية ، غايته أنّ

١٢٧

الخطاب الفعلي بالترك في ذلك الظرف أعني ما بعد الدخول يكون ساقطا ، كما أنّ الخروج أيضا يكون مشتملا على ملاك الأمر الذي هو المقدّمية للتخلّص من الغصب على وجه يعاقب على ترك ذلك الخروج ، غايته أنّه لا يخاطب بذلك خطابا فعليا ، وحينئذ فيكون الخروج عنده واجدا للملاكين ، غايته أنّه لا يكون في البين خطاب شرعي مولوي لا من ناحية النهي ولا من ناحية الايجاب ، فيكون على كلّ حال مستحقّا للعقاب ، والمصحّح له هو سوء اختياره ، وإن لم يكن مندرجا في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا بالمعنى الذي شرحه شيخنا قدس‌سره (١) ولا بالمعنى الذي شرحه في الكفاية (٢) ، وصرّح بأنّ ما نحن فيه ليس من ذلك القبيل ، فراجع الكفاية وما أفاده شيخنا قدس‌سره وتأمّل.

وكيف كان نظر صاحب الكفاية قدس‌سره في ملاك الايجاب ، فإنّه مصرّح بأنّ هذا المكلّف بعد أن دخل الدار بسوء اختياره يدور أمره بين البقاء والخروج ، وكلاهما معصية للنهي السابق الساقط بالعصيان ، غير أنّ الثاني منهما أخفّ عصيانا لكونه أقل ، فيتعيّن عليه بحكم العقل نظرا إلى كونه أقل القبيحين ، لكنّه مع ذلك معاقب عليه ، وليس له أن يعتذر بأنّه بعد دخوله اضطرّ إلى ارتكاب أحدهما ، لأنّ هذا الاضطرار لمّا كان بسوء اختياره لا يكون معذّرا وموجبا لارتفاع العقاب عنه.

وهذا هو محصّل ما يقال من أنّ الامتناع بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ، لكونه مختارا من أوّل الأمر في الاقدام على ما يعلم أنّه ينتهي به إلى ذلك الامتناع والاضطرار ، فهو لا يريد أن يدّعي أنّ نفس الحركة الخروجية صار تركها ممتنعا عليه كي يتوجّه عليه ما أفاده شيخنا أوّلا من أنّ نفس الخروج ليس تركه ممتنعا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٩ ـ ١٩٣.

(٢) كفاية الأصول : ١٧٣.

١٢٨

عليه ، لضرورة كونه بعد أن دخل يمكنه فعله وتركه بأن يبقى في الدار ، بل إنّما يدّعي أنّه مضطرّ إلى ارتكاب أحد الأمرين من البقاء والخروج ، واضطراره إلى ذلك لكونه بسوء الاختيار لا يرفع العقاب عنه عند ارتكاب أحدهما ، فهو قائل بأنّ اضطراره هذا بمنزلة الاختيار ، بل هو إنّما كان بالاختيار فلا يكون العقاب على ارتكاب أحدهما قبيحا بنظر العقل.

هذا حاصل كلامه قدس‌سره غير أنّه لا يسمّيه قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لأنّه يفسّر القاعدة المذكورة بما محصّله : أنّها في مقام الردّ على الأشاعرة القائلين بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وتعلّق إرادته به توجب لزومه وخروجه عن قدرته ، فيجابون بأنّ ذلك الايجاب الذي هو عبارة عن امتناع الترك لما كان بالارادة والاختيار كان من قبيل الامتناع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار.

وحينئذ لا يتوجّه الايراد على ما أفاده شيخنا قدس‌سره أوّلا بما حاصله أنّ صاحب الكفاية لا يقول باجراء قاعدة الامتناع بالاختيار فيما نحن فيه ، وذلك لما عرفت من أنّه لا محيص لصاحب الكفاية من اجراء هذه القاعدة فيما نحن فيه.

نعم ، يتوجّه على شيخنا قدس‌سره ما عرفت من أنّ صاحب الكفاية لا يدّعي أنّ نفس ترك الخروج صار ممتنعا ، بل إنّما يدّعي أنّ ترك هذين المحذورين جميعا صار ممتنعا عليه بسوء اختياره ، فهو مضطرّ إلى ارتكاب أحدهما بسوء اختياره ، فلا يكون هذا الاضطرار إلى ارتكاب أحدهما موجبا لرفع العقاب عنه لو اختار أحدهما. نعم العقل بعد تمامية هذا كلّه يعيّن عليه اختيار الخروج لكونه أخفّ العقابين وأهون القبيحين.

وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يدفع به إشكال شيخنا قدس‌سره ، لا ما في حاشية

١٢٩

هذا الكتاب (١) من الالتزام عن صاحب الكفاية بأنّ الخروج نفسه يكون مضطرّا إليه ، نظرا إلى حكم العقل بلزومه ـ وبنحو ذلك أشكل المرحوم الشيخ محمّد علي (٢) في الهامش ـ أو نظرا إلى حكم الشرع بحرمة التصرّف الزائد الذي يشتمل عليه البقاء ، فإنّ هذه القاعدة أعني قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لا يكون موضوعها إلاّ الامتناع الوجداني المولد من الاضطرار الوجداني إلى مخالفة التكليف ، فلا يدخل فيه الاضطرار المولد من حكم العقل بلزوم الخروج لكونه أهون القبيحين ، ولا الاضطرار المولد من الحرمة الشرعية اللاحقة للتصرّف الزائد الحاصل بالبقاء ، فإنّ الممنوع شرعا وإن كان كالممتنع عقلا إلاّ أنّه لا دخل له بموضوع مسألتنا ممّا يكون امتناعه بسوء الاختيار ، وأين الامتناع بسوء الاختيار من كون الشخص واقعا بسوء اختياره بين محذورين أحدهما أهون من الآخر عقلا أو شرعا ، فإنّ أشدّية قبح الطرف الآخر أو أكثرية المحرّم فيه لا تصيّر هذا الطرف الأهون مضطرّا إليه وتركه ممتنعا عليه بسوء الاختيار فتأمّل.

وبالجملة : أنّ حكم العقل بلزوم اختيار الأخفّ متأخّر في الرتبة عن تحقّق الاضطرار فكيف يكون محقّقا لذلك الاضطرار ، كما أنّ حرمة ما زاد شرعا لا تولّد الاضطرار المذكور ، وإنّما تكون مرجّحة للطرف الآخر بعد تحقّق الاضطرار إلى أحدهما.

ثمّ إنّه قبل الشروع في بيان ما أراده شيخنا قدس‌سره من الأمر الثاني والثالث والرابع ينبغي أن نقدّم مقدّمة ، وهي أنّ السرّ الوحيد في هذه الأمور وحجرها الأساسي أمران :

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٠.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٩.

١٣٠

الأوّل : هو دعوى استحالة الخطاب بترك الخروج والنهي عنه ، أمّا قبل الدخول فلكونه سالبة بانتفاء الموضوع ، ولا معنى لأن يخاطب الشخص الذي هو غير داخل في الدار بقوله لا تخرج منها. وأمّا بعد الدخول فلاستحالة خطابه بترك الخروج مضافا إلى ترك المكث ، لكونه حسب الفرض مضطرّا إلى أحد الأمرين من المكث أو الخروج فلا يتوجّه إليه الخطاب بتركهما. وبذلك يظهر لك أنّه لم يكن مخاطبا بالنهي عن الخروج في وقت من الأوقات ، وهذا هو محصّل ما يأتي (١) ذكره من أنّ هذا الخطاب يستحيل كونه مطلقا من حيث الدخول ، ويستحيل أيضا كونه مشروطا به ، فلا بدّ لنا من القول بأنّه لم يخاطب بالنهي المذكور في وقت من الأوقات. ثمّ بعد ثبوت استحالة النهي خطابا ننقل الكلام إلى :

الأمر الثاني : وهو استحالته ملاكا ، وبيان ذلك هو دعوى كون الخروج ذا ملاك حسن في جميع الحالات والأوقات ، لكونه في حدّ نفسه معنونا بعنوان الرد والتخلية ، وهو حسن عقلا مطلوب شرعا فلا يكون الخروج إلاّ مأمورا به.

والحجر الأساسي في الأمر الثاني والثالث هو الأمر الأوّل ، وأنّه بعد ثبوت كونه غير مخاطب بالنهي عن الخروج في وقت من الأوقات لا يكون من قبيل قاعدة الامتناع بالاختيار ، فإنّ ذلك إنّما يكون من هذه القاعدة إذا فرضنا صحّة توجّه النهي إليه ، والحجر الأساسي في الأمر الرابع هو الأمر الثاني من هذين الأمرين.

وعمدة ما يتوجّه عليه قدس‌سره هو منع الأمر الأوّل بامكان توجّه الخطاب المطلق

__________________

(١) في الصفحة : ١٣٥ ، ١٣٨.

١٣١

بالنهي عن الخروج ، ومنع الأمر الثاني بعدم الدليل على وجوب الردّ. وسيأتي (١) إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك وإقامة البرهان عليه ، وأنّ جميع ما أورده المحشّي عليه ممّا هو خارج عمّا ذكرناه غير متوجّه عليه قدس‌سره.

قوله : الثاني أنّ محلّ الكلام في القاعدة هو ما إذا كان ملاك العبادة مطلقا ، بحيث تكون هي واجدة للملاك ، وجد المقدّمة الاعدادية لها أم لا ... الخ (٢).

لعلّ الأولى نقل نفس ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، إذ ربما كان أوضح وهذا لفظه :

الثاني : أن يكون ذلك الفعل الذي امتنع بسوء الاختيار بواسطة تفويت مقدّمة من مقدّماته الاعدادية قابلا لأن يتعلّق به التكليف المطلق من حيث الملاك ، وإن لم يمكن أن يكون مطلقا من حيث الخطاب بالقياس إلى تلك المقدّمة لتأخّره عنها زمانا ، وإنّما قلنا إنّ التكليف بذلك الفعل يكون بالقياس إلى تلك المقدّمة مطلقا من حيث الملاك لعدم مدخلية تلك المقدّمة في ملاك ذلك التكليف.

قلت : ولو لم يكن متعلّق ذلك التكليف مقيّدا بالزمان المتأخّر عن تلك المقدّمة كما لو قصر في تحصيل اللباس غير الممنوع فاضطرّ إلى الحرير ونحوه ، وكما لو دخل الوقت وكان متمكّنا من تحصيل الماء والتراب ولكنّه قصر في تحصيل ذلك فاضطرّ إلى عدم الطهور ، لكان ذلك التكليف بالقياس إلى تلك

__________________

(١) راجع التتميم المذكور في الصفحة : ١٤٣ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٣٢

[ المقدّمة ] مطلقا خطابا وملاكا (١).

كما أنّه قابل لأن يتعلّق به التكليف المشروط بوجود تلك المقدّمة الاعدادية ، كما في الحجّ بالنسبة إلى قطع المسافة ، فإنّه مع تفويت تلك المقدّمة الاعدادية يكون ممتنعا ، ولكنّه يمكن قبل تفويت تلك المقدّمة الإعدادية أن يتعلّق به التكليف المطلق ، كما يمكن أن يتعلّق به التكليف المشروط بوجود تلك المقدّمة الاعدادية. وترك الخروج وإن سلمنا كونه ممتنعا عند تفويت مقدّمته التي هي ترك الدخول ، إلاّ أنّه لا يمكن أن يقع قبل تفويت تلك المقدّمة متعلّقا للتكليف المطلق بالقياس إلى تلك المقدّمة ، لا لمدخليتها في ملاكه بل لجهة أخرى ، وهي أنّ موضوع ذلك التكليف المفروض تعلّقه بالخروج فعلا أو تركا يتوقّف على تحقّق تلك المقدّمة ، إذ لا معنى للخروج إلاّ بعد الدخول ، ويكون نسبة تلك المقدّمة إلى ذلك التكليف كنسبة الموضوع إلى الحكم ، ويكون التكليف بترك الخروج قبل الدخول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

قلت : ولكن كون نسبة هذه المقدّمة ـ أعني الدخول ـ إلى المكلّف به ـ أعني ترك الخروج ـ دخيلة في الموضوع بعد فرض عدم مدخليتها في ملاكه لا يخرجها عن كون تفويتها من قبيل الامتناع بالاختيار هذا ، مضافا إلى ما تقدّم نقله (٢) في توجيه كلام الكفاية من منع كونها دخيلة في الموضوع ، وأنّ التحريم في أمثاله لا يكون مشروطا بالشروع في الجزء السابق. وإن شئت فقل : ليس لنا إلاّ حرمة الغصب وحرمة التصرّف في المغصوب الشاملة للحركات الدخولية

__________________

(١) [ الظاهر أنّ هذه العبارة والعبارة الآتية أعني « قلت » الثانية منه قدس‌سره ، وباقي العبارات هي عبارات شيخه قدس‌سره ].

(٢) في الصفحة : ١٢٧.

١٣٣

والمكثية والخروجية في عرض واحد ، وإن كانت تلك الحركات تدريجية ، إذ لا نظر في النهي عن ذلك إلى خصوص حركة خاصّة من الدخول أو الخروج أو المكث ، فتأمّل.

قوله : الثالث أنّ الملاك في القاعدة هو أن يكون المقدّمة موجبا للقدرة على ذي المقدّمة ... (١).

الأولى في تقريب هذا الوجه الثالث أن يقال : إنّ المقدّمة الاعدادية التي تكون موردا للقاعدة كالمسير يكون فعلها موجبا للتمكّن من فعل الواجب الذي هو الحجّ ، على وجه يكون المكلّف بعد فعله هذه المقدّمة أعني المسير مختارا في فعل الحجّ ، إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ، كما أنّ تركها يكون موجبا لعدم التمكّن منه. وواجبنا فيما نحن فيه هو ترك الخروج ومقدّمته الاعدادية هي ترك الدخول ، وهذه المقدّمة الاعدادية التي هي ترك الدخول يكون فعلها موجبا لعدم التمكّن من الواجب الذي هو ترك الخروج ، لأنّه مع تركه الدخول لا يكون ترك الخروج ممكنا له على وجه يكون صادرا بارادته ، لكونه حينئذ قهريا فلا يكون اختياريا له. وترك هذه المقدّمة التي هي ترك الدخول يكون موجبا للتمكّن من الواجب الذي هو ترك الخروج ، فإنّه عند الدخول الذي هو ترك المقدّمة المذكورة ـ التي هي ترك الدخول ـ يكون الواجب الذي هو ترك الخروج اختياريا له ، إن شاء خرج وإن شاء ترك وبقي. وما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (٢) يحوم حول هذا.

أمّا ما في هذا الكتاب من قوله : فالدخول موجب لسقوط الخطاب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٥٠.

١٣٤

التحريمي ، إذ به يكون تركه غير مقدور على ما اختاروه ، فكيف يمكن أن يكون المقام من صغريات تلك القاعدة. وبالجملة : ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان ، إذ وجود المقدّمة فيما نحن فيه يعدم الخطاب وفي مورد القاعدة يكون موجدا له (١). وكذا ما حرّرته عنه قدس‌سره فإنّه قريب من ذلك.

ففيه تأمّل ، لما عرفت من أنّ المقدّمة هنا هي ترك الدخول وهي لا تسقط الخطاب ، وأمّا الدخول فهو ترك تلك المقدّمة التي هي ترك الدخول ، فهذا هو الذي زعموا أنّه يسقط الخطاب ، فتأمّل.

نعم ، تقدّم أنّه مع عدم الدخول لا يكون الخروج مقدورا لا فعلا وهو واضح ، ولا تركا لكونه حينئذ قهريا ، فحينئذ لا يكون الخروج مقدورا إلاّ مع الدخول ، فيكون الدخول مقدّمة اعدادية ، لكنّهم على ما اختاروه قالوا إنّه يكون مضطرا إلى الخروج بعد الدخول ، فيكون الخروج حينئذ غير مقدور بعد الدخول ، فيكون الدخول مسقطا للخطاب بترك الخروج ، فيكون على العكس من المقدّمات الاعدادية مثل المسير.

قلت : فيكون الحاصل حينئذ أنّ التكليف بترك الخروج لا يمكن أن يكون مطلقا بالقياس إلى الدخول على وجه يكون متحقّقا قبل الدخول ، لما عرفت من كونه من قبيل انعدام الموضوع. كما أنّه لا يمكن أن يكون مشروطا بالدخول ، لما عرفت من أنّ الدخول يسقطه لا أنّه يوجب فعليته وتحقّقه فتأمّل ، فلا بدّ أن نقول إنّ الخروج ليس بمحرّم أصلا ، إذ لا يعقل تحريمه قبل الدخول كما لا يعقل ذلك بعد الدخول.

ولا يخفى أنّ ما حرّرته عنه قدس‌سره مقارب لما في هذا الكتاب ، فإنّه نظيره في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٢ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٣٥

جعل المقدّمة هي الدخول ، فراجع وتأمّل.

وخلاصة الفرق أنّ الحجّ واجب ومقدّمته هي قطع المسافة ، فإن فعل المقدّمة كان الأمر بالحجّ في محلّه ، وإن كان تركها امتنع عليه ذلك الواجب وهو الحجّ ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ واجبنا هو ترك الخروج ومقدّمته هي ترك الدخول ، فإن فعل المقدّمة بأن ترك الدخول لم يكن الأمر بالواجب الذي هو ترك الخروج في محلّه ، لأنّه حينئذ تحصيل للحاصل ولأنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وإن عصى وترك هذه المقدّمة بأن لم يفعل المقدّمة ولم يترك الدخول بل فعله لم يكن الواجب وهو ترك الخروج ممتنعا عليه ، بل كان يمكنه ترك الخروج ولو بالبقاء (١).

قوله في الحاشية : لا يخفى أنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره في هذا الوجه ملاكا ... الخ (٢).

قد عرفت (٣) أنّ حاصل ما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما نقلناه عمّا حرّرناه عنه في هذا الوجه الثاني هو مقايسة واجبنا ـ الذي هو ترك الخروج ـ بالحجّ نفسه ، وحيث إنّ هذا الواجب وهو ترك الخروج يكون ممتنعا على المكلّف بعد اقدامه على

__________________

(١) [ وجدنا ورقة مرفقة بالمتن ذكر فيها قدس‌سره ما يلي : ]

١ ـ ليس مضطرا إلى الخروج وإنّما هو مضطر إلى القدر الجامع.

٢ ـ مع فعل المقدّمة وهي ترك الدخول يكون الأمر بترك الخروج تحصيلا للحاصل.

٣ ـ يكون عدم الخروج من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

٤ ـ تجري القاعدة لو لم يكن في البين عنوان حسن يقتضي الوجوب ، وهو فيما نحن فيه ردّ المال إلى أهله.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٩٠.

(٣) في الحاشية المتقدّمة صفحة : ١٣٢.

١٣٦

الدخول كما هو مبنى كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (١) كان لازم ذلك أن يكون ترك الدخول مقدّمة اعدادية لذلك الواجب ، فيكون ترك الدخول بازاء المسير نفسه في كونه مقدّمة اعدادية للواجب.

لكن الفرق بينهما أنّ تلك المقدّمة الاعدادية التي هي المسير يكون وجوب الحجّ مطلقا بالقياس إليها قبل تفويتها ، بمعنى أنّ ذلك الوجوب يكون متحقّقا قبل تفويت المسير ، لكن مقدّمتنا الاعدادية هنا التي هي ترك الدخول لا يمكن أن يكون وجوب ترك الخروج مطلقا بالقياس إليها ، بمعنى أنّ وجوب ترك الخروج لا يكون متحقّقا قبل تفويت ترك الدخول ، وإنّما يكون متحقّقا بعد ارتكاب الدخول الذي هو تفويت تلك المقدّمة الاعدادية التي هي ترك الدخول ، لما ذكرناه من أنّه لا معنى لوجوب ترك الخروج قبل ارتكاب الدخول الذي هو محصّل النهي عن الخروج ، لكونه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، ومن الواضح أنّ المقدّمة الاعدادية التي يكون تفويتها شرطا في نفس الوجوب لا يعقل أن يكون تفويتها داخلا في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، هذا هو محصّل الوجه الثاني.

وأمّا محصّل الوجه الثالث فهو ما عرفت (٢) من أنّه بعد فرض كون تفويت تلك المقدّمة موجبا لتحقّق التكليف بترك الخروج تتّجه علينا الناحية الأخرى ، وهي أنّ ذلك التفويت الذي هو عبارة عن ارتكاب الدخول يكون موجبا ( كما هو المفروض عندهم ) لسقوط التكليف بترك الخروج ، لأنّهم يقولون إنّه عند الدخول يكون ترك الخروج ممتنعا ، فلا بدّ أن نقول حينئذ إنّ التكليف بترك

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٨ وما بعدها.

(٢) في الحاشية السابقة.

١٣٧

الخروج إنّما يكون قبل ذلك التفويت ، وحينئذ يكون حالها على العكس من المسير ، فإنّ حفظه يكون محقّقا للقدرة على الحجّ وصحّة التكليف به ، وتضييعه يكون موجبا لعدم القدرة على الحجّ ولسقوط التكليف به ، بخلاف هذه المقدّمة وهي ترك الدخول ، فإنّ وجودها وحفظها يكون موجبا لعدم القدرة على ترك الخروج ولعدم صحّة توجّه التكليف به ، لما ذكرناه من كونه حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع ، ولازم ذلك أن يكون عدم هذه المقدّمة وتضييعها بارتكاب الدخول موجبا لصحّة ذلك التكليف وتحقّقه ، على العكس ممّا هو الحال في المسير.

وبتقريب أوضح : أنّه بالنظر إلى ما ذكرناه من أنّ الخروج قبل الدخول يكون غير مقدور فعلا وتركا يكون لازم ذلك هو انحصار القدرة عليه بعد الدخول ، ولازم ذلك هو كون الدخول مقدّمة إعدادية للخروج فعلا أو تركا ، لكن هذه المقدّمة الاعدادية على العكس من المسير ، فإنّ الدخول بوجوده يكون سالبا للقدرة على الواجب الذي هو ترك الخروج كما هو مفروض دعواهم ، وبعدمها يكون محقّقا للقدرة عليه ، وحينئذ يكون الدخول بوجوده رافعا لوجوب ترك الخروج وبعدمه يكون محقّقا لذلك الوجوب على العكس من المسير ، فلا يمكن اندراجها في قاعدة الامتناع بالاختيار.

والذي يتلخّص من هذين الإشكالين : أنّ التكليف بترك الخروج لا يعقل أن يكون بالقياس إلى الدخول مطلقا ، لأنّ لازم ذلك وجوب ترك الخروج قبل الدخول ، وهو غير معقول لكونه من السالبة بانتفاء الموضوع. كما أنّه لا يمكن أن يكون مشروطا به ، لما ذكروه من أنّ ترك الخروج يكون ممتنعا بعد الدخول.

وقد عرفت فيما تقدّم (١) أنّ هذه الإشكالات إنّما جاءت من دعوى عدم

__________________

(١) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٢٦ وما بعدها.

١٣٨

امكان توجّه النهي عن الخروج قبل الدخول ، وعرفت أيضا أنّ ذلك لا مانع منه ، بل إنّ نظيره جار في جميع المحرّمات التدريجية ، فإنّ حرمة الجزء الأخير من مثل صلاة الحائض داخل في قوله في خطابها لا تصلّي أيّتها الحائض ، ومن الواضح أنّ الجزء الأخير إنّما يكون مقدورا لها بعد الفراغ ممّا سبقه.

وحلّ ذلك هو أنّ المنهي عنه هو ذلك الفعل المستمرّ المستطيل بنهي واحد من دون نظر إلى خصوص جزئه الأوّل أو الوسط أو الأخير ، فمن قال لا تغصب أو لا تتصرّف في الدار المغصوبة ليس ناظرا إلى النهي عن نفس الدخول أو المكث والخروج كلا بنهي مستقلّ ، كي يقال إنّ النهي عن الخروج لا يعقل قبل ارتكاب الخروج.

وهكذا الحال في الواجب التدريجي الحصول ، فإنّ الأمر يتعلّق به قبل الشروع ويكون الامتثال تدريجيا أو بآخر جزء ، وعلى كلّ حال هو مأمور قبل أن يشرع بجميع الأجزاء حتّى الجزء الأخير ، وليس أمره بالجزء الأخير معلّقا أو مشروطا بالنسبة إلى الأجزاء السابقة.

ولا فرق بين هذا النحو من الواجبات والمحرّمات وبين ما نحن فيه إلاّ أنّ ما نحن فيه إذا دخل في الجزء الأوّل لا يمكنه التخلّص من الجزء الأخير. وإن شئت فبدّل النهي فيما نحن فيه بالأمر وانظر ما ذا يكون حال الخروج بالنسبة إلى ذلك الأمر ، هل يكون متعلّقا للأمر قبل الدخول ، أو أنّ أمره مشروط أو معلّق بالدخول.

والحاصل : أنّ التكليف بالأجزاء المتأخرة فعلا أو تركا ليس من قبيل الواجب المشروط ولا من قبيل الواجب المعلّق مع فرض كون الأجزاء المتقدّمة مقدورة ، كما إذا كانت هناك مقدّمة وجودية اختيارية تحتاج إلى مقدار من الزمان ، فإنّها لا توجب جعل التكليف بذيها مشروطا أو معلّقا ، فراجع مبحث الواجب

١٣٩

المعلّق.

هذا هو غاية ما يمكن أن يقال في الإشكال على ما أفاده شيخنا قدس‌سره ، وأنت ممّا حرّرناه في توضيح مرام شيخنا قدس‌سره من المقايسة المذكورة تعرف أنّه لا يتوجّه عليه شيء ممّا في هذه الحاشية من التفرقة بين المقدّمات المفوّتة في المحرّمات والمقدّمات المفوّتة في الواجبات ، كما أنّك قد عرفت فيما تقدّم (١) أنّ مسألة الممنوع شرعا كالممتنع عقلا لا دخل لها بما نحن فيه من قاعدة الامتناع بالاختيار كما هو أساس الايراد في الحاشية السابقة وهذه الحاشية ، فراجع وتأمّل.

قوله : الرابع أنّ الخروج فيما نحن فيه واجب في الجملة ولو كان بحكم العقل ، وما كان كذلك لا يدخل تحت القاعدة قطعا ... الخ (٢).

وقال في الطبعة الجديدة : فيكشف ذلك عن كونه مقدورا وقابلا لتعلّق التكليف به ... الخ.

والذي حرّرته عنه قدس‌سره في بيان هذا الأمر مقصور على مفاد الجملة الأولى من دون تعرّض لاستكشاف أنّه مقدور ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه وهو : أنّه يعتبر في هذه القاعدة أن يكون ذلك الفعل الممتنع غير منطبق عليه أحد العناوين الموجبة لحسنه ، المنافية لوقوعه على صفة المبغوضية ولاستحقاق العقاب عليه ، والخروج فيما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّه معنون بعنوان يحكم العقل بحسنه ، أعني عنوان التخلّص من الغصب ، فلا يمكن أن يكون واقعا على صفة المبغوضية ومستحقّا عليه العقاب ، وإن سلّمنا أنّه ممتنع بسوء الاختيار ، انتهى.

__________________

(١) في الصفحة : ١٣٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٩٢ ـ ١٩٣.

١٤٠