أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

مبحث الاجتماع من الأصول فإنّه قد فرغ منه سنة ١٣٤٨ ، وكانت دروس هذه المسألة أعني مسألة الاجتماع في ربيع الثاني سنة ١٣٤٧.

ومن جميع ذلك يظهر لك أنّه ليس الموجب لعدم تحقّق التقرّب أو عدم إمكانه هو وحدة الارادة أو تعدّدها ، بل ولا كون متعلّق إرادة المأمور به هو الطبيعة أو الفرد ، بل إنّ المانع الحقيقي هو كون تلك الطبيعة المأتي بها في هذا المكان أو في هذا الزمان أو مع ذلك الفعل الآخر المقارن أو غير ذلك غير صالحة لأن تكون مقرّبة ، فلا يمكن أن يريدها المكلّف قربة إليه تعالى ، بمعنى أنّ إرادتها لا تكون مقرّبة لأجل ما يقارنها من الخصوصيات المبغوضة ، ويكفي في ذلك علمه بترتّب تلك الخصوصية ، سواء كان ترتّبها بإرادة منه أو كان وقوع الطبيعة في ذلك الحال موجبا لترتّبه عليها ، كما ذكرناه من مثال حركة المغصوب المحمول بحركات الصلاة أو صلاته مع كون المصحف خلفه.

ولا يخفى أنّي راجعت بعد هذا ما حرّره عنه السيّد جمال الدين سلّمه الله والمرحوم الشيخ موسى في الأصول فوجدت التعليل مقصورا على القبح الفاعلي ، نعم عبّر السيّد جمال الدين بقوله : القبح الفاعلي الصدوري لا الفعلي. ولعلّ المراد من القبح الفاعلي هو ما شرحناه وشرحه قدس‌سره في درس الفقه من عدم إمكان تحقّق التقرّب الخ. وهذا هو أساس المنع لاكون إرادة المكلّف لا تتعلّق إلاّ بالأفراد أو أنّ له إرادتين أو إرادة واحدة ، فتأمّل.

لا يقال : على ما ذكرتموه ينبغي أن تقولوا ببطلان صلاة من تعمّد ترك الازالة لأنّها مقرونة بالمبغوض الذي هو ترك الازالة. لأنّا نقول : إنّ ترك الازالة ليس بمبغوض وإلاّ لكان ترك الواجب محرّما ، وقد حقّق في محلّه (١) أنّ ترك

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المتقدّمة في الصفحة : ٤٥٢ وما بعدها من المجلّد الثالث من هذا الكتاب.

١٠١

الواجب ليس بحرام كما أنّ ترك فعل الحرام ليس بواجب.

والأولى أن يقال : إنّ ترك الازالة ليس هو متّحدا مع الصلاة ولا من مشخّصاتها ولا من مقارناتها ، بل هو أمر مستقل عدمي صرف لا ربط له بالصلاة أصلا ، وهو حاصل بمنشئه الذي هو الصارف عن الازالة أو إرادة تركها.

ونظير هذا الإشكال ما ربما يقال من أنّه بناء على ما ذكرتموه ينبغي أن تقولوا ببطلان صلاة محلوق اللحية بناء على حرمة ذلك. والجواب عنه بأنّ المحرّم والمنهي عنه إنّما هو الحلق بنفسه أو بأمره والإذن فيه للحلاّق ، أمّا المحلوقية أعني كون الشخص محلوق اللحية الذي هو نتيجة ذلك الفعل فليس موردا لحكم من الأحكام التكليفية ، لما عرفت من أنّها إنّما تتعلّق بالمصادر لا بأسماء المصادر.

لا يقال : إنّ الحلق إذا كان بمعناه المصدري الذي هو إزالة الشعر محرّما اختصّ بما إذا كان هناك شعر ، أمّا لو حلق مرّة وارتكب الحرام واستمرّ كلّ يوم يمرّ الموسى على وجهه لم يكن ذلك الاستمرار محرّما. لأنّا نقول : إنّ ذلك داخل في المعنى المصدري ، بمعنى أنّ الفعل الذي ينشأ عنه عدم اللحية يكون محرّما فتأمّل (١).

وقد تأمّل المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس‌سره (٢) في بطلان الصلاة في

__________________

(١) [ ذكر قدس‌سره هنا عبارة وترك وراءها فراغا ، وإليك نصّ العبارة : ] ينبغي أن يتأمّل في أنّ السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض فيما لو كانت الأرض التي تكون جبهة المصلّي مماسة لها ، كما لو كانت التربة الحسينية مثلا مغصوبة وصلّى وسجد عليها ، هل يكون من قبيل الاجتماع أو يكون من قبيل النهي عن العبادة.

(٢) كتاب الصلاة : ٤٧.

١٠٢

اللباس المغصوب ، نظرا إلى أنّ المحرّم هو اللبس وهو حاصل صلّى أو لم يصلّ ، والركوع والسجود بل سائر الانتقالات ليست تصرّفا آخر غير ذلك اللبس ، إذ ليس في ذلك إلاّ تغيير الهيئة تبعا لتغيير هيئات اللابس ، فلم تكن الأفعال الصلاتية تصرّفا محرّما آخر غير ما كان عليه قبل الصلاة ، انتهى ملخّصا.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ اللبس وإن كان حاصلا قبل الصلاة إلاّ أنّ الأفعال الصلاتية خصوصا الحركات الانتقالية لا تخرج عن كونها تصرّفا في المغصوب ، بمعنى نقله ولو بواسطة حركة البدن من حيّز إلى حيّز.

ولا يخفى أنّه قدس‌سره ادّعى أوّلا خروج مسألة اللباس المغصوب عن مسألة الاجتماع ، بدعوى أنّ الحركات الصلاتية على أصل اللبس. ثمّ إنّه قال : وقد يتفصّى عن كون المورد من قبيل اجتماع الأمر والنهي بوجه آخر الخ (١) ، وهو راجع إلى ما قد يدّعى من أنّ تلك الحركات خارجة عن أفعال الصلاة. لكنّه قدس‌سره أجاب عن هذا الإشكال أعني دعوى خروج الحركات المذكورة عن أفعال الصلاة التي هي من مقولة الوضع والهيئات بما حاصله :

أوّلا : جعل تلك الحركات هي مركز التكليف باعتبار كون تلك الهيئات نتائج عن تلك الحركات ، وجعل نسبة تلك النتائج إلى تلك الحركات كنسبة أسماء المصادر إلى المصادر ، وقاس ذلك على العناوين الثانوية المتولّدة من العناوين الأوّلية كتولّد الطهارة من الحدث من أفعال الوضوء ، وحينئذ يكون المكلّف به فيما نحن فيه هو تحصيل هيئة الركوع الذي هو من مقولة الوضع ، وهو أعني تحصيل الركوع متّحد مع حركة الهوي إليه وهي متّحدة مع الغصب.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ لنا مقدّمة تكون علّة لحصول ذيها الذي هو الواجب ،

__________________

(١) كتاب الصلاة : ٤٧.

١٠٣

وذلك مثل آخر حركة يتعقّبها الكون في المسجد أو على السطح لمن توجّه إليه الأمر بذلك.

ولنا فعل له عنوان أوّلي وعنوان آخر ثانوي على وجه يتخلّل بينهما الفاء كما في مثل الالقاء والاحراق ، مع أنّه ليس في الخارج إلاّ فعل واحد وهو إخلاء اليد من الشيء الذي يكون عنوانه الأوّلي هو الالقاء وعنوانه الثانوي هو الاحراق.

ولنا أيضا مصدر واسم المصدر ، وهذا الأخير لا يكون لنا فيه إلاّ فعل واحد وهو ذلك الحدث الصادر منّا ، إن لاحظناه في حدّ نفسه بما أنّه موجود من الماهيات ، غايته أنّه عرض لا جوهر نعبّر عنه باسم المصدر ، وإن لاحظنا صدوره منّا بأن لاحظنا جهة صدوره نعبّر عنه بالمصدر على ما مرّ غير مرّة في بيان الفرق بين المصدر واسم المصدر ، وليس في هذا الأخير تعدّد واقعي كما في الأوّل ولا تعدّد عنواني كما في الثاني على وجه يوجب تخلّل الفاء بين العنوانين ، بل ليس فيه إلاّ شيء واحد يلاحظ في حدّ نفسه أو يلاحظ بما أنّه صادر عن فاعله.

والظاهر أنّ الحركات الخارجية التي يتعقّبها تلك الهيئات الصلاتية كالهوي الذي يتعقّبه الركوع ليس إلاّ من قبيل القسم الأوّل ، فلا يكون الأمر المتعلّق بتلك الهيئة متعلّقا بنفس تلك الحركة ، بل لا تخرج الحركة بذلك عن كونها مقدّمة وجودية وكون الواجب مترتّبا عليها ، كترتّب الكون في المسجد على آخر حركة انتقالية واقعة من المكلّف الساعي لتحصيل ما وجب عليه من الكون فيه.

نعم إنّ الركوع نفسه يجري فيه لحاظ اسم المصدر وهو عبارة عن نفس تلك الهيئة الوضعية ، ولحاظ المصدر وهو عبارة عن جهة صدورها من المكلّف ، وهو بهذا الاعتبار الأخير يكون موردا للأمر والنهي إلاّ أنّ جهة صدوره ليس هي إلاّ عبارة عن إيجاد المكلّف له ، وليست هي عبارة عن تلك الحركة الانتقالية ،

١٠٤

وإنّما تلك الحركة الانتقالية مقدّمة لوجوده ، وإيجاده يحصل بها ، ومجرّد كون إيجاده والقدرة عليه حاصلا بواسطة إيجاد تلك المقدّمة لا يوجب اتّحاده مع تلك المقدّمة على وجه يكون أحدهما عين الآخر ولو مع تعدّد العنوان الأوّلي والثانوي ، فضلا عن الاتّحاد الأخير الذي هو اتّحاد المصدر مع اسم المصدر الذي هو من مقولة الفرق الاعتباري بين الايجاد والوجود فلاحظ وتأمّل ، هذا حاصل ما يتعلّق بما أفاده أوّلا في الجواب عن هذه الشبهة.

ثمّ إنّه قدس‌سره أجاب ثانيا بقوله : وأمّا ثانيا : على فرض امكان تعلّق التكليف بنفس النتيجة من دون الارجاع إلى المعنى المصدري نقول : لا يكاد يمكن حصول القرب من نتيجة فعل يكون محرّما ، لأنّ حسن الأفعال وقبحها إنّما يكون بملاحظة اختيار الفاعل ، ولو فرضنا أنّ الفاعل لم يتحقّق منه إلاّ الاختيار السوء وقصد المعصية فكيف يمكن أن يكون نتيجة هذا الاختيار السوء حسنا ومقرّبا ، وما قرع سمعك من عدم منافاة تحقّق الواجب العبادي مع كون المقدّمة محرّمة فهو فيما إذا بقي للمكلّف اختيار بعد الفراغ عن تلك المقدّمة المحرّمة ، كما في مثال الحجّ مع ركوب الدابة المغصوبة ، دون ما إذا لم يكن له إلاّ اختيار واحد كما فيما نحن فيه فليتأمّل جيّدا (١).

ولا يخفى أنّ عدم امكان التقرّب إنّما هو لأجل كونه غير اختياري ، وكونه بعد الفراغ عن تلك المقدّمة يكون خارجا عن حيّز الاختيار ، وإلاّ فلو فرضنا أنّه كان بعد المقدّمة اختياريا لم يكن حرمة مقدّمته مانعة من حصول التقرّب به ، بل وعن الأمر به معلّقا على الاتيان بمقدّمته ولو عصيانا على نحو الترتّب ، وقد تقدّم

__________________

(١) كتاب الصلاة : ٤٨.

١٠٥

في بعض ما علّقناه على ص ٢٠٨ (١) ما له دخل في هذه الجهة ، أعني إمكان تعلّق الأمر بالمسبّب المباين للسبب مع فرض كون سببه مقدورا ، من جهة أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، أو أنّه لا يمكن ذلك وأنّ ما يكون من هذا القبيل إنّما يكون من قبيل العناوين الثانوية بالنسبة إلى الجزء الأخير من المقدّمة كما أشرنا إليه هنا وشرحنا ثمّة فراجع ، والغرض هنا هو أنّ مجرّد حرمة المقدّمة لا يكون مانعا من إمكان التقرّب بذيها ما لم يكن في البين مانع من عدم كون الفعل المتقرّب به داخلا تحت الاختيار.

والذي تلخّص أنّ الجزء الأخير من هذه الحركات الانتقالية يكون جزءا صلاتيا ، فيكون تحريكه اللباس أو المحمول موجبا لفساد الصلاة ، فيكون داخلا في مسألة النهي عن العبادة.

نعم إنّ هناك شيئا آخر وهو أنّ آخر حركة يتعقّبها الواجب الأصلي الذي هو الركوع أو الكون في المسجد يكون نسبتها إلى ذلك الواجب نسبة العناوين الأوّلية إلى العناوين الثانوية ، لأنّ تلك الحركة لا يبقى معها اختيار للمكلّف بالنسبة إلى ذلك الواجب ، وتكون هي محقّقة لذلك الواجب ، ولعلّ ذلك هو مراد المرحوم الحاج آقا رضا قدس‌سره في كتاب الصلاة عند تعرّضه للإشكال المزبور بقوله : والمناقشة في تسمية الحركة ركوعا أو سجودا أو قياما حيث إنّ هذه الأفعال بحسب الظاهر أسام للكون الحاصل عقيب تلك الحركات غير مجدية ، إلاّ على القول بعدم اعتبارها رأسا في ماهية الصلاة وإنّما هي من مقدّمات الأفعال ، وهو باطلاقه ضعيف كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ، فيتمّ ما ذكر ( من كون الحركات

__________________

(١) وهي الحاشية المذكورة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٩٢ وما بعدها.

١٠٦

الواقعة في اللباس المغصوب الحاصلة بفعل الصلاة منهيا عنها ) وإن لم يصدق على الحركات اسم الركوع أو السجود ونحوه حقيقة كما هو واضح (١). وقوله : كما سيأتي ، إشارة إلى ما ذكره في مبحث الركوع (٢) من كون الهوي داخلا في حقيقته أو أنّه مقدّمة له ، فراجع.

قوله : القسم الأوّل : فيما إذا كان خطاب المأمور به شموليا بحيث يشمل مورد الاجتماع أيضا كما أنّ الخطاب التحريمي كذلك ... الخ (٣).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام ، أعني مورد عدم المندوحة دائما ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : والتفصيل في ذلك أنّ عدم المندوحة تارة يكون دائميا كما لو فرض أنّ إطلاق الأمر كان شموليا ، كما في مثل الأمر بتعظيم كلّ عالم والنهي عن اكرام الفاسق واجتمع الاكرام والتعظيم في فعل واحد بالنسبة إلى شخصين يكون أحدهما عالما والآخر فاسقا ، أو شخص واحد يكون عالما وفاسقا بناء على كون ذلك من مسألة الاجتماع ، فإنّه حينئذ يكون ذلك الاطلاق أعني اطلاق الأمر شموليا ، ويكون كلّ فعل مأمورا به بأمر مستقلّ ، فيكون الفرد من الكلّي الذي هو متعلّق ذلك الأمر المجتمع مع الفرد من متعلّق النهي مأمورا به بأمر مستقل ، ولا يكون في امتثال الأمر المتوجّه إلى ذلك الفرد مندوحة عن ارتكاب عصيان النهي ، ويكون عدم المندوحة في امتثال ذلك الأمر دائميا ، فإنّ المأمور به وإن كانت له أفراد أخر إلاّ أنّ تلك الأفراد مأمور بها بأوامر أخر مستقلّة ، كما أنّ هذا الفرد مأمور به بأمر مستقل ، انتهى.

__________________

(١) مصباح الفقيه ١٠ ( كتاب الصلاة ) : ٣٥٦.

(٢) مصباح الفقيه ١٢ ( كتاب الصلاة ) : ٤١٣ ـ ٤١٥.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٨١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

١٠٧

قلت : لكن هذا المثال غير صالح لما نحن فيه من مسألة الاجتماع ، لكونه خارجا عن هذه المسألة من ناحية الموضوع أعني العالم والفاسق ، وأنّ تركّبهما اتّحادي كما مرّ في صدر المسألة (١) ، ولا يكون مثالا للجهة التي نحن فيه من مسألة الاجتماع التي يكون عدم المندوحة فيها دائميا إلاّ على فرض وقول أو احتمال تقدّم (٢) بطلانه ، وهو كونه من مسألة الاجتماع.

والأولى أن يمثّل لذلك بالأمر الاستحبابي المتعلّق بمطلق الصلاة ، أعني النافلة المبتدأة في الدار المغصوبة ، فإنّ التزاحم بينه وبين مثل لا تغصب دائمي ، فينبغي أن يكون اجتماعهما داخلا في باب التعارض. لكن لازم كونهما من باب التعارض هو الحكم ببطلان النافلة المبتدأة في المكان المغصوب إذا كان المكلّف جاهلا بالغصبية. ولا يمكن الجواب عنه بأنّ الاستحباب لا يزاحم الحرام ، لما لا يخفى من تحقّق التدافع بينهما بالضرورة ، وإنّما نقول إنّ المستحبّ لا يزاحم الحرام لأنّا نقول إنّ الحرمة مقدّمة على الاستحباب في مقام التزاحم ، والمفروض أنّ المقام مقام تعارض لا مقام تزاحم.

والذي يهوّن الإشكال هو عدم ترتّب الأثر على فساد النافلة المبتدأة لو قدّمنا دليل التحريم على دليل الاستحباب بعد فرض المعارضة بينهما ، إذ ليس لها إعادة ولا قضاء إلاّ إذا كانت منذورة وجاء بها في الدار المغصوبة ، هذا ما حرّرته سابقا في التعليق على ما نقلته عنه قدس‌سره.

ولكن لا يخفى أنّ هذا المثال أيضا لا يصلح مثالا لما نحن فيه من مسألة الاجتماع وكون عدم المندوحة دائميا ، فإنّ عموم هذا الأمر الاستحبابي وإن كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٤١.

(٢) [ لعلّه تقدّم في تحريراته المخطوطة ].

١٠٨

شموليا ، وكانت النافلة في هذا الزمان الذي هو زمان الاتيان بها في الدار المغصوبة مأمورا بها في نفسها بالخصوص لا على البدل ، إلاّ أنّ هذه النافلة في هذا الزمان لمّا كانت في حدّ نفسها يمكن الاتيان بها في نفس ذلك الزمان لكن في مكان آخر ، لم تكن من باب عدم المندوحة. ولو فرض أنّه قد اتّفق أنّه لا يمكنه الاتيان بها إلاّ في ذلك المكان المغصوب كان من اتّفاق عدم المندوحة ، لا من باب دوام عدمها.

وبالجملة : أنّي حتّى الآن لم أتوفّق للعثور على مثال لمسألة الاجتماع مع كون عدم المندوحة دائميا ، أمّا مسألة وجوب استقبال القبلة وحرمة استدبار الجدي فهو أيضا خارج عن مسألة الاجتماع التي يكون فيها تركّب بين المتعلّقين ، غايته أنّه تركّب انضمامي لا اتّحادي ، لما تقدّم في محلّه (١) من خروج المتلازمين في الوجود عن باب الاجتماع ، فتأمّل.

فما يظهر ممّا حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي من التمثيل لذلك باستقبال المشرق واستدبار المغرب لم يتّضح وجهه ، فإنّه قد جعل العنوان هو ما لو فرض تعلّق الأمر بعنوان وتعلّق النهي بعنوان آخر وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وكان التركيب بينهما انضماميا لا اتّحاديا ، ولكن كان كلّ من إطلاق الأمر وإطلاق النهي شموليا الخ. وذكر أنّه ينبغي التنبيه على ذلك وأنّه قد فاتنا التنبيه عليه ، إلى آخر ما ذكره في التحرير (٢).

ولا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره قد نبّه على هذا المثال في أوائل مسألة الترتّب (٣)

__________________

(١) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥٤ وما بعدها.

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٥٣ ، راجع أيضا فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٣٢١ ، ٣٣٦.

١٠٩

عند تعرّضه لضبط موارد التزاحم ، وأفاد هناك أنّ التلازم بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي لو كان دائميا كان داخلا في باب التعارض وخارجا عن باب التزاحم ، فراجع.

وبالجملة : أنّ هذا المثال لا يصلح لما نحن فيه ، لأنّ خروجه عن باب الاجتماع ليس من جهة كون الأمر شموليا ، بل من جهة أنّه أمر بما يكون في حدّ نفسه ملازما للحرام ، مضافا إلى أنّه ليس من وادي التركّب الانضمامي ولا من وادي التركّب الاتّحادي ، بل هو من وادي اجتماع الفعلين المتلازمين غير المخلوط أحدهما بالآخر. ولو قيل إنّه ليس في البين إلاّ فعل واحد وهو ذلك الوضع الخاصّ الذي يكون مصداقا لكلّ من الاستقبال والاستدبار كان من التركّب الاتّحادي حينئذ ، فيكون خارجا عمّا صدّر به العنوان من التركّب الانضمامي.

قوله في الحاشية : التحقيق صحّة ما ذهب إليه المشهور (١).

يعني الطولية ، ولا يخفى أنّ المراد بالطولية هو أن يكون تقييد الصلاة بعدم الشيء فرعا عن حرمة ذلك الشيء ، لا مجرّد عدم الأمر بالعبادة الناشئ عن تعلّق النهي بها ، فإنّ هذا لا ينكره شيخنا قدس‌سره ولا غيره ، ولا يدّعي شيخنا قدس‌سره أنّه في عرض التحريم ، وإنّما الذي يدّعيه شيخنا هو أنّ تقييد الصلاة بمثل عدم الحرير [ لا ] يكون ناشئا عن حرمة لبسه ، وأنّ ذلك حاله حال تقييد الصلاة بعدم لباس ما يحرم أكل لحمه في كون التقييد في عرض حرمة الأكل لا في طوله ، ولأجل [ ذلك ] قلنا فيما سيأتي (٢) إنّ الطولية مسلّمة في باب الاجتماع على القول بالامتناع ، وأنّ العرضية لا بدّ من الالتزام بها في اللباس من غير المأكول ومحلّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٨٢.

(٢) في الحاشية الآتية في الصفحة : ١١٥ وما بعدها.

١١٠

تأمّل في لباس الحرير والذهب. أمّا مجرّد النهي عن العبادة وكونه موجبا لعدم الأمر بها فهو لا يسقط إلاّ عند الاضطرار لتلك العبادة ، وهذا لا دخل له بالاضطرار إلى ما يحرم لبسه في العبادة.

وأمّا الاضطرار إلى مطلق التصرّف بالماء المغصوب وجواز الوضوء منه حينئذ ، ففيه أنّ نفس الوضوء إن كان حراما لم يكن الاضطرار إلى استعمال الماء المذكور مسوغا له ، وإن كان الحرام هو مطلق التصرّف فلو فرضنا أنّه صار مضطرا إلى التصرّف كان حاله حال من اضطرّ إلى لبس المغصوب لأجل البرد مثلا ، فلا مانع له من الصلاة فيه حينئذ ، وليس هذا له دخل بالمانعية العرضية التي يدّعيها شيخنا قدس‌سره ، لما عرفت من أنّ تلك هي عبارة عن القيد العدمي المأخوذ في العبادة ، لا مطلق ما يكون موجبا لفسادها الذي هو حرمتها بنفسها الموجب لعدم الأمر بها.

قوله : أمّا المقام الأوّل فتوضيح الحال فيه أن يقال : إنّ القيود العدمية المعتبرة في المأمور به ... الخ (١).

التفصيل في ذلك هو أنّ النهي تارة يكون مسوقا للمانعية الصرفة ، كما في مثل لا تصلّ في غير المأكول.

وأخرى يكون للنهي التكليفي عن اللبس كما في حرمة لبس الحرير والذهب ، فتكون الصلاة به باطلة من جهة عدم إمكان التقرّب بها لأجل ما هي عليه من الخصوصية المبغوضة. ويلحق بذلك مسألة الاجتماع إن قلنا بالجواز من الجهة الأولى والامتناع من الجهة الثانية.

وثالثة يكون المنهي عنه هو نفس الصلاة فيه ، كما يقال إنّ الذهب يحرم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٢ [ تقدّمت في صفحة : ٨٠ تعليقة للمصنّف قدس‌سره على هذا المتن ولكن بصياغته الموجودة في النسخة الحديثة من الأجود ].

١١١

لبسه ويحرم أيضا الصلاة فيه حرمة تكليفية زائدة على حرمة لبسه ، وكذا إن قلنا إنّه لا يحرم لبسه بنفسه وإنّما يحرم الصلاة فيه ، فيكون نظير التكفير بناء على كون الصلاة معه حراما لا أنّه بنفسه حرام ، ومنه مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الأولى.

ورابعة تكون المانعية تابعة للنهي التكليفي أو تكون ناشئة عن منشئه ، بأن يكون كلّ منهما في عرض الآخر ، كما يقال ذلك في الصلاة في الحرير (١).

وجميع هذه الممنوعات تكليفا أو تقييدا يكون الاضطرار إلى مخالفته على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يكون هناك من يجبره على لبس ذلك في حال الصلاة ، بمعنى أنّه لا يدعه يصلّي حتّى يلبس ذلك الملبوس ، وإن كان هو غير مضطرّ إلى لبسه لكنّه لو أراد أن يصلّي لم يتمكّن من الصلاة إلاّ معه.

وهذا النحو هو الذي أراده في العروة بقوله في مسألة ٨ : وأمّا المضطرّ إلى الصلاة في المكان المغصوب فلا إشكال في صحّة صلاته (٢) بعد أن تعرّض لصلاة المحبوس.

__________________

(١) اللهمّ إلاّ أن يقال : يستفاد من دليل حرمة الصلاة فيه أنّ الحرمة مقصورة على ما إذا كان لبسه حراما ، أو يقال إنّ دليل جواز لبسه للحرب أو الضرورة مثلا يلزمه تجويز الصلاة فيه فتأمّل. والأوّل هو الذي يظهر من المرحوم الحاج آقا رضا في صلاته [ مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) ١٠ : ٣٠٨ ] فراجع ، لكن ظاهر الروايات [ لاحظ وسائل الشيعة ٤ : ٣٦٧ / أبواب لباس المصلّي ب ١١ ـ ١٦ ] بناء على كونها تفيد الحرمة أنّها عرضية ، لأنّها جمعت في الحرمة بين لبسه والصلاة فيه ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٣٦٩.

١١٢

والثاني : أن يكون في حدّ نفسه مضطرّا إلى ذلك لبرد مثلا ، سواء صلّى أو لم يصلّ.

الثالث : أن لا يكون له ساتر غيره وإن لم يكن مضطرّا في نفسه إلى لبسه ، ولا كان مضطرّا إلى الصلاة فيه لإمكان أن يصلّي عاريا ، وإنّما يتصوّر ذلك في مثل اللباس دون المكان.

أمّا الصورة الثالثة : فقد حكموا فيها بعدم سقوط المنع ، وألزموا المكلّف في مثل ذلك بالصلاة عاريا ، ذكر ذلك في العروة مسألة ٣٨ (١). نعم ربما احتيط بالتكرار في النجس أو ما لا يؤكل لحمه كما يظهر من العروة (٢) ، وإن كان ظاهر عبارة شيخنا هو استحباب الاحتياط بالتكرار في الجميع ، فيصلّي عاريا مرّة ومعه أخرى.

وأمّا الثانية : فالظاهر سقوط جميع هذه الممنوعات وجواز الصلاة بل وجوبها مع أحدها (٣) ، إلاّ فيما لو كان النهي متوجّها إلى الصلاة نفسها بأن يكون

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٣٤٨.

(٢) نفس المصدر المتقدّم.

(٣) لسقوط تلك النواهي بالاضطرار حتّى المسوق للمانعية الصرفة ، وحينئذ يشكل الحكم بأنّه يصلّي صلاة المختار ، لوقوع التزاحم بين وجوب الصلاة وحرمة الغصب وهو من حقوق الناس ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّ مراده من الاضطرار إلى الصلاة فيه هو أن يجبر على أصل الصلاة وعلى إيقاعها فيه ، ففي مثل هذه الصورة يسقط حرمة الغصب كالصورة التي حرّرها أوّلا ، وحينئذ فلا يكون في البين خصوصية. ولعلّ مراده من ذلك هو ما لو أجبر على الصلاة تامّة الأجزاء ، بحيث إنّه يكون مجبورا على تلك الحركات التي هي حسب الفرض زيادة في الغصب ، وكأنّه لأجل ذلك لم يعلّق عليه شيخنا قدس‌سره. [ منه قدس‌سره ]

١١٣

النهي قد توجّه إلى الصلاة مع الحرير ، ففي مثل ذلك تأمّل ، لوقوع التزاحم بين وجوب الصلاة وبين حرمتها مع الحرير.

وأمّا الأولى فإن كان المنع تقييديا صرفا فالظاهر سقوط القيد فيلزمه أن يصلّي مع غير المأكول ، ولا يجوز له ترك الصلاة ، وإن كان في البين حرمة تكليفية وقع التزاحم بينها وبين وجوب الصلاة ، ولا ريب في تقدّم الحرمة على الوجوب لو كان المحرّم هو نفس الصلاة ، وكذلك لو كان المحرّم هو اللبس لكن كان من حقوق البشر مثل الغصب ، أمّا لو كان من قبيل الذهب والحرير بناء على كون الحرمة مقصورة على لبسه ففيه إشكال ، وإن أمكن أن يقال بسقوط الحرمة أخذا من اطلاق أنّ الصلاة لا تسقط بحال (١) ، لكن ذلك محلّ تأمّل وإشكال. وإن شئت التفصيل فراجع ما حرّرناه (٢) في هذا المقام على تحريراتنا عن شيخنا قدس‌سره في هذا المقام وفي مبحث النهي عن العبادة إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى أنّ الذي يظهر ممّا حرّره عنه المرحوم الشيخ محمّد علي بقوله : وأمّا لو كان متمكّنا من ترك الغصب ولكن كان غير متمكّن من الصلاة إلاّ في المغصوب ، إلى قوله : فتأمّل (٣). أنّه قدس‌سره أخرج هذه الصورة من البحث عن الاضطرار لا بسوء الاختيار. ولعلّ في بعض ما حرّرته عنه أيضا إيماء إلى ذلك ، وإن كانت العبارة التي حرّرتها عنه في هذه الجهة مجملة لم يتّضح لي فعلا المراد

__________________

(١) لم يرد هذا اللفظ ، نعم روي : « ولا تدع الصلاة على حال » راجع وسائل الشيعة ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) مخطوط ، لم يطبع بعد.

(٣) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٦.

١١٤

منها ، فراجع (١) وتأمّل.

قوله : كما في صورة الاضطرار إلى لبس الحرير أو غير المأكول المعتبر عدمها في الصلاة ... الخ (٢).

الأولى إسقاط لبس الحرير وإخراجه عن هذا القسم الذي يكون النهي فيه ممحّضا للمانعية ، لكونه داخلا في القسم الثاني الذي تكون المانعية منتزعة عن الحرمة التكليفية أو في عرضها.

قوله : وأمّا القسم الثاني فإن قلنا فيه بأنّ القيدية تابعة للحرمة ومرتبتها متأخّرة عنها ـ إلى قوله : ـ وإن قلنا بأنّ القيدية والحرمة معلولان للنهي في مرتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما ... الخ (٣).

قد تقدّم في صدر العبارة (٤) أنّه أدخل في هذا القسم مورد اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع ، وحينئذ يتعيّن فيه الطولية ، لأنّ فساد الصلاة فيه يكون ناشئا عن حرمة الصلاة فيه ، وحرمة الصلاة فيه ناشئة عن حرمة الغصب لأجل دعوى تركّبها معه تركّبا اتّحاديا ، فإذا حلّ الغصب لأجل الاضطرار انعدم ما كان مترتّبا على حرمته من حرمة الصلاة وفسادها فيه ، وهذا بخلاف ما لو كان الغصب مجهولا فإنّه لا يرفع الحرمة الواقعية التي أوجبت خروج المجمع عن حيّز الأمر خروجا واقعيا ، لأنّ الجهل لا يوجب الحلّية ، وإنّما أقصاه أن يوجب

__________________

(١) تحريراته رحمه‌الله مخطوطة ، لم تطبع بعد.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٨٢.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٣ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٤) المصدر المتقدّم : ١٨٢.

١١٥

المعذورية التي لا تنافي بقاء الحرمة الواقعية ، فهو في ذلك نظير النهي المتعلّق بنفس العبادة في أنّ الجهل به لا يوجب سقوطه واقعا لتكون العبادة حينئذ صحيحة.

وبالجملة : أنّ باب الاجتماع على القول بالامتناع يتعيّن فيه الطولية ، ولا أظنّ أنّ أحدا يحتمل فيه العرضية ، ولكن مع ذلك كلّه ينبغي مراجعة هذا البحث في مبحث النهي عن العبادة عند التعرّض لأقسام المانعية ، وينبغي مراجعة ما علّقناه هناك (١).

أمّا ما يتعيّن للعرضية فهو مانعية ما لا يؤكل لحمه ، فإنّ فساد الصلاة فيه وحرمة أكله كلاهما في عرض واحد ناشئان عن ملاك واحد ، وحينئذ لا يكون الاضطرار إلى أكله مسوغا للصلاة فيه. نعم لو اضطرّ إلى لبسه كان ذلك موجبا لسقوط المانعية وكان موردا للقسم الأوّل.

أمّا لباس الحرير والذهب فقد ورد النهي عنه كما ورد النهي عن الصلاة فيه ، فإن كان النهي التكليفي المتعلّق بالصلاة فيه ناشئا عن حرمة لبسه كانت المانعية الناشئة عن حرمة الصلاة فيه ناشئة أيضا عن حرمة لبسه ، وبعد فرض سقوط حرمة لبسه لأجل الاضطرار تكون حرمة الصلاة فيه والمانعية الناشئة عنها ساقطين أيضا.

وإن قلنا إنّ حرمة الصلاة فيه في عرض حرمة لبسه لم يكن سقوط حرمة اللبس لأجل الاضطرار إليه موجبة لسقوط حرمة الصلاة ، ولا للمانعية المتولّدة من تلك أعني حرمة الصلاة فيه ، وحينئذ يقع التزاحم بين هذه الحرمة ووجوب

__________________

(١) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة في الصفحة : ٣٠١ وما بعدها.

١١٦

الصلاة كما عرفت فيما تقدّم (١) ، هذا. ولكن لا يبعد القول بأنّ النهي عن الصلاة فيه إرشاد إلى حرمة لبسه ، أو لا أقل من كونه إرشادا إلى المانعية الناشئة عن حرمة لبسه ، وبعبارة أخرى أنّه إرشاد إلى عدم إمكان تأتّي القربة بالصلاة فيه.

فالذي تلخّص : أنّ النهي عن الصلاة في الحرير يمكن أن يكون إرشادا إلى المانعية وقيدية العدم مثل لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ، ويمكن أن يكون إرشادا إلى أنّ لبسه لمّا كان محرّما كان مفسدا للصلاة لعدم إمكان التقرّب بها ، ويمكن أن يكون تكليفا صرفا مثل النهي عن صلاة الحائض ، فيكون من قبيل النهي عن العبادة ويكون موجبا للفساد من هذه الجهة. والأظهر هو الوجه الثاني ، فيكون الفساد في طول الحرمة ، وأمّا على الأوّل والثالث فالظاهر العرضية.

قوله : ولا ريب أنّ الحركات الركوعية والسجودية تعدّ من التصرّفات الزائدة عرفا ... الخ (٢).

أورد عليه في الحاشية بقوله : وأمّا دعوى أنّهما يعدّان بنظر العرف من التصرّف الزائد فهي دعوى بلا بيّنة وبرهان الخ (٣) كأنّ المحشّي يدّعي أنّ العرف لا يعدّون ذلك تصرّفا زائدا ، ولأجل ذلك قال إنّ هذه الدعوى بلا برهان ، وما أدري من أين فهم من العرف أنّه لا يعدّون ذلك تصرّفا زائدا.

نعم ، يمكن أن يقال كما نقله المرحوم الشيخ محمّد علي عن شيخنا قدس‌سره :

__________________

(١) في الصفحة ١١٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٨٥.

١١٧

إنّه لا عبرة بالنظر العرفي بعد ما كان تصرّفه بحسب الدقة لا يزيد ولا ينقص (١).

وهذا الذي حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي عنه قدس‌سره لم أجده لغيره في من حرّر عنه قدس‌سره ، ولعلّه أخذه من درس الفقه في كتاب الصلاة ، فإنّه قدس‌سره (٢) بنى هناك على مقتضى هذه الدقّة كما يومي إليه ما حرّرته عنه قدس‌سره.

والذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام هذا لفظه : وما يقال إنّ من اضطرّ إلى الكون في المكان المغصوب فقد اضطرّ إلى اشغال الحيّز المغصوب بمقدار جسمه بأي كيفية كان وبأي نحو أراد ، فلا يكون قيامه بعد جلوسه مثلا أو بالعكس تصرّفا زائدا ، وإن كان في الدقّة العقلية كذلك ( أعني أنّه لا يكون تصرّفا زائدا ) كما ذكرناه في درس الفقه. إلاّ أنّ الانصاف أنّ ذلك يعدّ عرفا تصرّفا زائدا ، والمدار في أمثال هذه الأمور على العرف لا على الدقّة العقلية ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ اللازم لعدّ الحركات المذكورة تصرّفا زائدا أن يكون المضطرّ كالمحبوس في المكان المغصوب يلزمه أن يبقى على الحالة التي وجد عليها في ذلك المكان ، ولا يغيّر شيئا من حالته الوضعية الأوّلية ، وحينئذ يكون حقّ التعبير أن يقال إنّه يصلّي على تلك الحالة ايماء ، بل يترك حتّى الايماء ، بل حتّى حركة الشفة لكون ذلك كلّه حركة زائدة ممنوعا عنها.

ولعلّ غرض من عبّر بقوله بشرط أن لا تكون الصلاة مستلزمة للتصرّف الزائد ، هو أنّه لو فرض أنّه كان في مكان قائما وكان النصف الأعلى مثلا من الفضاء مباحا بمقدار نصف قامته فإنّه يصلّي قائما ، وليس له الركوع والسجود والجلوس ، لأنّ كلّ واحد من هذه الأمور مستلزم للتصرّف الزائد على الغصب

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٤٦.

(٢) كتاب الصلاة ( للآملي قدس‌سره ) ١ : ٣٢٨.

١١٨

الذي اضطرّ إليه ، وهو اشغاله المغصوب بنصفه الأسفل فتأمّل.

ولا يخفى أنّ مثل ذلك لا يبيحه العسر والحرج ، بل إنّما يبيحه الاضطرار ، فلو لم يتمكّن من الاستقرار على ذلك المقدار جاز له رفع اضطراره المذكور بالمقدار الذي يرتفع به ضرره فتأمّل.

أمّا مجرّد العسر والحرج فالظاهر أنّهما لا مورد [ لهما ] فيما نحن [ فيه ] من حرمة التصرّف في أموال الناس ، فما أفاده المرحوم الحاج آقا رضا قدس‌سره في هذه المسألة من كتاب الصلاة بقوله : إنّ كلا من هذه الأفعال نحو من وجودات مطلق الكون الذي اضطرّ إليه ، وليس لخصوصية شيء منها خصوصية مقتضية لتعيّنه (١) في غاية المتانة ، لكن ما ألحقه به بقوله : مع أنّه ينافيه أدلّة نفي الحرج ، فإنّ في الزام المحبوس في مكان مغصوب ببقائه على هيئة خاصّة من قيام أو قعود ونحوه مشقّة شديدة ، كاد أن يكون تكليفا بغير المقدور (٢) ، الظاهر أنّه لا وجه له ، لما عرفت من عدم جريان أدلّة العسر والحرج في مثل ذلك لو سلّمنا أنّ تغيير الهيئة غصب زائد ، ولو سلّم اجراء دليل العسر والحرج أو دليل عدم المقدورية فإنّما هو بمقدار ارتفاع ذلك المحذور أعني الحرج أو عدم المقدورية أو الضرر ، فلا يمكن أن يستنتج منه أنّه يصلّي صلاة المختار كما فرّعه عليه بقوله : فعليه أن يصلّي حينئذ صلاة المختار.

وحينئذ فالعمدة هو ما عرفت من أنّ تغيير الهيئة ليس بتصرّف زائد ، وهذا هو الذي اختاره في الجواهر ، لكنّه مع ذلك قال ما هذا لفظه : ومن الغريب ما صدر من بعض متفقّهة العصر ، بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنّه يجب

__________________

(١) مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) ١١ : ٥٠.

(٢) مصباح الفقيه ( كتاب الصلاة ) ١١ : ٥٠.

١١٩

على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أوّل الدخول إلى المكان المحبوس فيه ، إن قائما فقائم وإن جالسا فجالس ، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا ، لما فيه من الحركة التي هي تصرّف في مال الغير بغير إذنه ، ولم يتفطّن أنّ البقاء على الكون الأوّل تصرّف لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرّف ، كما أنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشدّ ما عامله الظالم ، بل حبسه حبسا ما حبسه أحد لأحد ، اللهمّ إلاّ أن يكون في يوم القيامة مثله ، خصوصا وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائدا على ما يحتاج إليه ، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك ، انتهى (١).

ولا يخفى أنّ من يقول بذلك إنّما يقول به من جهة كون التغيير تصرّفا زائدا ، فلا يرد عليهم أنّ البقاء على الكون الأوّل تصرّف لا دليل على ترجيحه ، نعم يرد عليهم أنّ التغيير ليس بتصرّف زائد. وأمّا ما أفاده بقوله : كما أنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم الخ فهو وإن كان كذلك إلاّ أنّه بعد فرض كونه تصرّفا زائدا لا مفرّ عن الالتزام بذلك الحبس الشديد ، ولا يرفعه الصعوبة ، نعم لو اضطرّ إلى تغيير الهيئة جاز له التغيير بمقدار ما يرفع اضطراره.

نعم ، إنّ الحركة لو كانت تصرّفا زائدا كان ممنوعا من حركة جفنه ، بل ممنوعا من حركة شفته ولسانه وإن كان محتاجا إلى ذلك ، لأنّ مجرّد الحاجة لا يكون مسوغا للغصب ، فما نقله عن بعضهم من اختصاص الحرمة بما يزيد على الحاجة لا وجه له بناء على أنّ كلّ حركة تكون تصرّفا زائدا.

قال في كشف الغطاء : ولو اختصّ الغصب بالفضاء الأعلى جلس ، فإن لم يسع اضطجع ، ولو اختصّ المباح بمقدار موضع القدمين وفراغ القامة وجب

__________________

(١) جواهر الكلام ٨ : ٣٠٠.

١٢٠