أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

يلازم فساد ما تعلّق به. ولكن ليس الفساد الحاصل من النهي في المقام مثل الفساد في القسم الأوّل ، لأنّ الفساد في المقام تابع للنهي ، فمتى وجد النهي يمكن الحكم بالفساد ، ومتى انتفى النهي لمانع ـ كالغفلة والنسيان والضرورة ونحوها ممّا يرتفع معها التكليف ـ فلا فساد ، بخلاف الفساد في القسم الأوّل ، فإنّه ليس تابعا للنهي ، بل النهي إنّما تعلّق به لكونه فاسدا ، فعند ارتفاع النهي بواسطة الضرورة ـ مثلا ـ لا يمكن الحكم بعدم الفساد ، الخ (١).

وهو كما ترى صريح في أنّ التحريم الذي جعلوه سببا للمانعية وأنّ المانعية ترتفع بارتفاعه هو التحريم اللاحق لنفس العبادة ، وهو ما يستفاد من قوله : لا تصلّ في الدار المغصوبة أو لا تصلّ في الحرير ، وأمّا ما أفاده في القسم الأوّل ـ أعني النهي الغيري ـ من أنّه ليس تابعا للنهي ، بل إنّما تعلّق به لكونه فاسدا ، فكأنّه إيماء إلى أنّ النهي الغيري يكون منتزعا عن المانعية ، التي هي عبارة عن تقيّد العبادة بعدم ذلك المنهي عنه.

وينبغي مراجعة ما حرّره في مسألة اجتماع الأمر والنهي في ذيل الجواب عن الوجه الثالث ممّا احتجّ به المجوّزون (٢) ، إذ لا يخلو من منافاة لما أفاده في هذا المقام ، فإنّ المتحصّل من كلامه هناك أنّ النهي المتعلّق بالعبادة لصفة لاحقة لها وكان أخصّ من الأمر ، ومثّل لذلك بقوله لا تصلّ في الدار المغصوبة ، وأفاد أنّ هذا القسم لا يؤثّر فيه السهو والنسيان والاضطرار ، بخلاف ما لو كان متعلّق النهي أعمّ من وجه من متعلّق الأمر. ولعلّه أراد ممّا هو أخصّ من متعلّق الأمر هو خصوص النهي الغيري ، ويشهد بذلك أنّه ذكر في بيان هذا النهي الذي هو أخصّ

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٧٥٠ ـ ٧٥١.

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٦٩١ ـ ٦٩٢.

٣٢١

مطلقا من الأمر جميع ما ذكره في بيان النهي الغيري ، فلا منافاة بين المقامين.

نعم ، يبقى الإشكال فيما أفاده في خصوص ما كان بينهما عموم من وجه ، من تأثير السهو والنسيان والاضطرار فيه ، فإنّه لا يجتمع مع قوله بالامتناع (١) ، إذ بناء على هذا القول يكون مورد الاجتماع ملحقا بالنهي عن العبادة ، الذي مقتضاه التخصيص الواقعي وخروج مورد الاجتماع عن عموم الأمر خطابا وملاكا ، فلا يؤثّر فيه السهو والنسيان والاضطرار ، لكنّه مع قوله بامتناع الاجتماع أجرى عليه حكم باب التزاحم ، فيتوجّه عليه حينئذ الإشكال الذي توجّه على الكفاية ، من أنّ المسألة على القول بالامتناع من الجهة الأولى لا تدخل في باب التزاحم ، وإنّما هي داخلة في باب التعارض (٢).

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٦٩٣.

(٢) بسمه تعالى لا يخفى أنّه قد تقدّم الكلام على كثير من هذه الجهات في مسألة الاضطرار لا بسوء الاختيار من تنبيهات مسألة الاجتماع [ أجود التقريرات ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٣ ، والحواشي على هذا المطلب تقدّمت في الصفحة : ٨٠ ـ ٨٨ وكذا في الصفحة : ١١٠ وما بعدها ] وأهمّها هو المنع من تولّد المانعية من النهي النفسي المتعلّق بالعبادة. نعم ، إنّ النهي عن مثل الصلاة في الحرير يوجب خروج تلك الصلاة عن عموم الأمر ، فيكون الباقي تحت الأمر هو ما عداها ، وبذلك يتعنون الباقي بعنوان عدم تلك الصلاة ، كما هو الحال في جميع التخصيصات ، إلاّ أنّ ذلك التقييد أعني تقييد الباقي واتّصافه بعدم الخارج ليس مرجعه إلى كون الخارج مانعا بالاصطلاح ، أعني تقيّد المأمور به بعدمه ، بل هو نحو آخر لا دخل له بالمانعية التي هي في قبال الجزئية والشرطية.

وبالجملة : يكون حال قوله ( لا تصلّ في الحرير ) بالنسبة إلى قوله ( صلّ ) حال قوله ( لا تكرم العالم الفاسق ) بالنسبة إلى قوله ( أكرم عالما ). نعم تقدّم [ في الصفحة : ٨٢ ـ

٣٢٢

قوله : اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ سقوط الخطاب إن كان لدليل عقلي فلا يكون كاشفا عن سقوط الملاك ... الخ (١).

لا يخفى أنّا بعد أن ذكرنا في مقام التشريع أنّ ملاك النهي قد غلب على ملاك الأمر ، لا يكون النسيان أو الاضطرار المسوّغان لارتكاب ذلك المنهي مصحّحين لتعلّق الأمر بتلك العبادة ، إلاّ أن نقول بأنّ طروّ الاضطرار أو النسيان يوجب انقلاب تلك الغلبة من جانب ملاك [ النهي ] إلى جانب ملاك الأمر ، فلا يمكننا الحكم بالصحّة إلاّ إذا أحرزنا الانقلاب المذكور.

نعم ، في مقام الاثبات ربما نجعل دليل الاضطرار المسقط للحرمة (٢) ، مثلا أن نقول إنّه مع دليل التحريم نستكشف أنّ الغالب هو ملاك التحريم ، أمّا مع فرض خروج الاضطرار عن حيّز دليل التحريم كان في إمكاننا أن نقول إنّه في مورد الاضطرار لا دليل على الغلبة المذكورة ، أو لا دليل على أصل ملاك التحريم.

وفيه تأمّل ، إذ كما أنّه لا دليل على غلبة ملاك التحريم ، أو لا دليل على أصل وجود ملاكه ، فلا دليل لنا أيضا على وجود ملاك الايجاب أو غلبة ملاكه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اطلاق الأمر وشموله للاضطرار الخارج عن عموم النهي كاف في إثبات ذلك. لكن هذا ليس بأولى من أن نقول إنّ مقتضى إطلاق

__________________

٨٣ ] الفرق بين التخصيص في مثل أكرم عالما ولا تكرم الفاسق من العلماء ، وبينه في مثل صلّ ولا تصلّ في الحرير ، وفي مثل صلّ ولا تغصب ، بناء على الامتناع من الجهة الأولى ، فراجع [ منه قدس‌سره ].

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ].

٣٢٣

النهي هو وجود ملاكه وغلبته على ملاك الأمر ، ولم يحرز من مقاومة دليل الاضطرار لذلك الاطلاق إلاّ مجرّد الترخيص في فعل ذلك الحرام ، ولم يحرز منه انتفاء ملاك التحريم أو انتفاء غلبة ملاكه ، فتأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّه بعد الاعتراف بهذا التخصيص لا وجه لدعوى كونه تخصيصا عقليا ناشئا عن التزاحم المفقود في صورة عدم تنجّز النهي كما في الكفاية (١) ، لما عرفت مرارا من أنّ التزاحم هنا آمري ، فيكون التخصيص الناتج منه واقعيا ، وليس هو تزاحما مأموريا كي لا يكون التخصيص فيه إلاّ عقليا ناشئا عن عدم القدرة ، كي ينحصر بصورة تنجّز التحريم. كما أنّه لا وجه لما في الحاشية (٢) من الاشارة إلى حاشية تقدّمت في مبحث الاجتماع من أنّ ملاك النهي وإن كان موجودا ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن مؤثّرا في توجّه النهي لم يكن هناك ما يمنع من تأثير ملاك الأمر المفروض كونه مغلوبا ، وذلك لما عرفت من أنّ الملاك المغلوب لا يؤثّر ولو مع تعطيل الملاك الغالب عن التأثير بواسطة طروّ الاضطرار ، فإنّ المانع من الأمر حينئذ هو قصور ملاكه ، لا وجود أثر ملاك النهي. إلاّ أن ندّعي كما تقدّمت الاشارة إليه أنّ طروّ الاضطرار يوجب انقلاب تلك الغلبة.

وبالجملة : ليس المانع من الأمر هو التمانع بينه وبين النهي ، بل المانع منه هو مغلوبية ملاكه ، وهي موجودة مع الاضطرار ، إلاّ أن يكون ذلك الاضطرار موجبا لتحويل الغلبة من جانب ملاك النهي إلى جانب ملاك الأمر ، فراجع الحاشية المشار إليها وتأمّل.

__________________

(١) [ لعلّه قدس‌سره يشير بذلك إلى ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في التنبيه الثاني من تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فراجع كفاية الأصول : ١٧٤ ـ ١٧٦ ].

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٢٣.

٣٢٤

نعم ، تقدّمت الاشارة (١) إلى الفرق بين مثل أكرم عالما ولا تكرم العالم الفاسق وبين مثل صلّ ولا تصلّ في الحرير ـ مثلا ـ بأنّ الأوّل يكون الخروج فيه واقعيا ولا يكون الاضطرار فيه مصحّحا ، لعدم الملاك. وهذا بخلاف الثاني فإنّه من باب التزاحم في مقام التشريع ، وغلبة ملاك النهي على ملاك الأمر. ومقتضاه وإن كان هو الالحاق بالأوّل ، إلاّ أنّه لمّا قام الإجماع على الصحّة في مورد الاضطرار كان ذلك الإجماع كاشفا عن تأثير ملاك الأمر عند سقوط التحريم بالاضطرار ، وهكذا الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

قوله : وأمّا المقام الثاني : وهو النهي عن المعاملات فتوضيح الحال فيه : أنّ النهي المتعلّق بمعاملة تارة يكون نهيا غيريا مسوقا لبيان المانعية ، فلا إشكال في دلالته على الفساد ، سواء تعلّق بالسبب فيدلّ على تقيّده بعدمه ، أو تعلّق بالمسبّب فيدلّ على عدم ترتّبه به ، فيدلّ على تقيّد السبب بعدمه ... الخ (٢).

مثال النهي عن السبب النهي عن بيع المنابذة ، ومثال النهي عمّا يكون وجوده مفسدا للمعاملة النهي عن الفصل الطويل بين الايجاب والقبول ، ومثل قوله عليه‌السلام : « لا تسمّ بذرا ولا بقرا » (٣) ومثال النهي عن المسبّب النهي الوارد عن نقل أمّ الولد.

لكن تسمية أمثال هذه النواهي بالنواهي الغيرية تسامح. أمّا الأوّل والأخير

__________________

(١) لاحظ ما تقدّم في الصفحة : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ٤٣ / كتاب المزارعة والمساقاة ب ٨ ح ١٠ ، ٦ ( نقل بالمضمون ).

٣٢٥

فواضح ، إذ ليس في البين قيد ومقيّد كي يكون النهي عمّا اعتبر عدمه نهيا غيريا. وأمّا الثاني فلأنّ المنهي عنه وإن كان قد اعتبر عدمه في المعاملة ، إلاّ أنّ ذلك لا يصحّح النهي عنه بالنهي الغيري ، كما في العبادات التي يكون المانع فيها مطلوب العدم في ضمن الطلب المتعلّق بالكل ، إذ ليس في البين طلب ، وإنّما المانعية هنا عبارة عن كون ما يترتّب عليه الأثر من العقد مقيّدا بعدم ذلك المانع ، سواء قلنا إنّ هذه المانعية منتزعة من جعل الأثر مترتّبا على المقيّد بالعدم ، أو قلنا بأنّها مجعولة ابتداء ، فإنّه على أي حال لا يكون في البين طلب أصلا.

فالأولى في المقام تبديل النهي الغيري بالارشادي ، ويكون النهي في الأوّل ارشادا إلى عدم ترتّب الأثر على مثل بيع المنابذة. وفي الثاني ارشادا إلى مانعية الفصل الطويل من ترتّب الأثر ، أو إلى تقيّد السبب بعدمه. وفي الثالث إرشادا إلى عدم حصول النقل والانتقال. والعبارة الجامعة هي كون النهي ارشاديا ، كما صنعه المرحوم الشيخ محمّد علي (١) تبعا للكفاية (٢).

والأولى أن يقال : إنّ مفاد الأوّل ـ وهو النهي عن بيع المنابذة ـ هو الاستثناء من عموم السبب ، ومفاد الثالث هو الاستثناء من عموم المسبّب ، ومفاد الثاني هو تقيّد السبب من ناحية ترتّب الأثر عليه بعدمه ، فيكون وزان التقيّد بالعدم وزان جزء العقد أو شرطه. والجامع هو عدم ترتّب الأثر ، ويكون النهي عن كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة إرشادا إلى عدم ترتّب الأثر. ومنشؤه في الثاني هو التقيّد ، وفي الأوّل والثالث هو الاستثناء.

ويمكن أن يجعل النهي عن البيع وقت النداء في قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ

__________________

(١) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٧١.

(٢) كفاية الأصول : ١٨٧.

٣٢٦

لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )(١) إرشادا إلى وجوب الصلاة ، وأنّها هي المطلوب في ذلك الحال ، فيكون ذلك حثّا على حضورها بالنصيحة في ترك البيع وأمثاله من الأمور الدنيوية ، لا أنّه متضمّن للحرمة التكليفية ، كما هو الشأن في كلّ ما هو ضدّ للمأمور به. وحينئذ تدخل المعاملة المذكورة فيما سيأتي (٢) التعرّض له إن شاء الله تعالى من المعاملات المأمور بضدّها ، وأنّ ذلك هل يوجب سلب السلطنة عليها مطلقا ، أو نفصّل بين ما يكون الضدّ ممّا يتعلّق بالمال فيوجب الفساد ، دون ما ليس له الدخل في المال ، مثل إزالة النجاسة ونحوها ، فلا يكون الأمر به موجبا لسلب السلطنة على المال.

وسيأتي (٣) إن شاء الله تعالى بيان أنّه لو كان هذا النهي تحريميا لما كان دالا على الفساد ، لا لأنّه من قبيل النهي المتعلّق بالسبب ، إذ ليس المراد بالبيع هاهنا سببه الذي هو العقد نفسه ، لوضوح أنّ المراد به هو نفس المعاملة التي هي عبارة عن تبديل المالين ، بل لأنّ هذا النهي المتعلّق بهذه المعاملة لم يتعلّق بها بما أنّها تصرّف ومن حيث كونها تصرّفا في المال ، بل إنّ النهي تعلّق بها بما أنّها فعل من الأفعال باعتبار كونها فعلا شاغلا عن الصلاة ، كسائر الأفعال الأخر مثل الأكل والشرب ونحوهما ، وإنّما ذكر خصوص البيع من جهة خصوصية المورد ، أعني به سبب النزول كما يعطيه قوله تعالى : ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً )(٤) الخ ، فلا

__________________

(١) الجمعة ٦٢ : ٩.

(٢) في الصفحة : ٣٣٣ ـ ٣٣٦ و٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٣) في الصفحة : ٣٣٣ ـ ٣٣٦ و٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٤) الجمعة ٦٢ : ١١.

٣٢٧

يكون النهي عنها من الناحية المذكورة موجبا لفسادها ، وإنّما يكون النهي عنها موجبا لفسادها لو كان تعلّق النهي بها من الناحية الأخرى ، أعني كونها تصرّفا في المال بالنقل والانتقال. فقد تلخّص لك من جميع ذلك : أنّ النهي عن البيع في قوله تعالى ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) لا يكون موجبا للفساد ، سواء جعلناه إرشادا إلى وجوب السعي ، أو جعلناه تكليفا مولويا متعلّقا بالمسبّب الذي هو البيع بما أنّه فعل من الأفعال لا من باب أنّه عبارة عن النقل المالي ، أو جعلناه متعلّقا بالسبب بمعنى العقد نفسه.

قال الشيخ قدس‌سره فيما حكاه عنه في التقريرات : وتوضيح الحال : أنّ النواهي في المعاملات على أقسام :

أحدها : أن يكون النهي متعلّقا بالمعاملة من حيث إنّها أحد أفعال المكلّف ، فيكون إيجاد السبب والتلفّظ بالايجاب والقبول ـ مثلا ـ وقت النداء مثل شرب الخمر محرّما ، من غير ملاحظة أنّ ذلك الفعل المحرّم يوجب نقلا وانتقالا ، ولا ريب في عدم دلالة هذا النحو من النهي على الفساد ، فإنّ غاية مدلوله التحريم ، وهو لا ينافي الصحّة ، فإنّ المعصية تجامع ترتّب الأثر ، كما يشاهد في الأسباب العقلية بالنسبة إلى الآثار العقلية ، والشرعية أيضا.

وثانيها : أن يكون مفاد النهي هو مبغوضية إيجاد السبب ، لا من حيث إنّه فعل من الأفعال المتعلّقة للأمر والنهي باعتبار المصالح والمفاسد ، بل من حيث إنّ ذلك السبب يوجب وجود مسبّب مبغوض في نفسه ، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر ، فإنّ إيجاد السبب حرام بواسطة إيراثه أمرا غير مطلوب مبغوض ، وهو سلطنة الكافر على المسلم بناء على القول بالصحّة ، إلى أن قال : وهذا القسم أيضا يمكن القول بعدم دلالة النهي فيه على الفساد ، إذ لا مانع من صحّة البيع

٣٢٨

حينئذ ، إلى أن قال : إلاّ أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما إذا قلنا بأنّ الأسباب الناقلة إنّما هي مؤثّرات عقلية ، قد اطّلع الشارع عليها وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد. وأمّا على القول بأنّ هذه أسباب شرعية إنّما وضعها الشارع وجعلها مؤثّرة في الآثار المطلوبة منها ، فلا بدّ من القول بدلالة النهي على الفساد ، فإنّ من البعيد في الغاية جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبّب مبغوضا. وكأنّه إلى ذلك ينظر ما حكي عن الفخر (١) بأنّ قضية اللطف عدم امضاء المعاملات التي تكون مبغوضة عنده. فإنّ ذلك على اطلاقه ربما لا يساعده دليل ولا ضرورة (٢).

وأنت إذا تأمّلت هذه الكلمات تقدر على تفسيرها بما ذكرناه ، من كون النظر في النهي عن المعاملة تارة إلى ناحية كونها عملا من أعمال يتوخّى الناهي تركه وانعدامه ، كما في مثل النهي النفسي عن المعاملة عند إرادة سكون المكلّف وعدم اقدامه على فعل من الأفعال. ومن ذلك إيقاع العبد عقد البيع بين البائع والمشتري بتوكيل منهما ، مع فرض كونه مملوكا لغيرهما ، وكما في ضماناته لما يتبع به بعد العتق ، ونحو ذلك ممّا لا تعلّق له بسيده ، فإنّ نفس إيجاد المعاملة يكون محرّما ، لكونه غير مأذون بها من سيّده. لكن هذا التحريم لا يوجب الفساد ، لتعلّقه بإيجاد المعاملة المعبّر عنه بالمعنى المصدري ، لا بما هو ملحوظ قنطرة لحصول اسم المصدر ، كما في معاملته فيما يتعلّق به حقّ سيّده من نقل ما يملكه العبد أو تزويج نفسه ، فإنّ النهي عنه يوجب الفساد لكن تصلحه الإجازة خلافا لما يظهر من شيخنا قدس‌سره (٣) ومن الشيخ (٤) أيضا في مبحث معاملة العبد من

__________________

(١) [ لم نعثر عليه ].

(٢) مطارح الأنظار ١ : ٧٥١ ـ ٧٥٢.

(٣) المكاسب والبيع ١ : ٤٨٤ ، منية الطالب ١ : ٤٢٥.

(٤) كتاب المكاسب ٣ : ٣٣٨.

٣٢٩

المكاسب ، وكلام شيخنا قدس‌سره هناك لعلّه مخالف لما هنا ، فإنّه هناك جعل المعنى المصدري من باب المسبّب ، وهنا جعله من باب السبب ، فراجع وتأمّل.

وأخرى يكون النظر في ذلك النهي إلى ناحية كونه نقلا ماليا ، كما في مثل النهي عن نقل المصحف أو العبد المسلم إلى الكافر ، أو ناحية كونه علقة ازدواجية ، كما في مثل قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(١) ، وليس هذا النهي بارشاد إلى الفساد ، لقوّة ظهوره في التحريم بواسطة ما اكتنف به من استثناء ( ما قَدْ سَلَفَ ) في زمان الجاهلية وتسميته ( مَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً ). وهكذا الحال في مثل قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) إلى قوله تعالى : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ )(٢) فإنّ جميع هذه النواهي نواه تحريمية نفسية ، وعلى الظاهر أنّه لم يتردّد أحد في استفادة الفساد منها.

وكيف كان ، نقول إنّك تقدر على ارجاع ما أفاده الشيخ قدس‌سره في النحو الأوّل إلى ما ذكرناه في النحو الأوّل ، وارجاع ما أفاده في الوجه الثاني إلى ما ذكرناه في النحو الثاني من النهي ، فيكون مراده من السبب هو المعاملة بجهة النظر إلى كونها فعلا خارجيا ، ويكون مراده من المسبّب هو المعاملة أيضا لكن بملاحظة جهة النقل والانتقال فيها.

نعم ، الفرق بين ما ذكرناه في النحو الثاني وبين ما ذكره الشيخ فيه ، هو أنّ الشيخ يستدلّ على اقتضائه الفساد بنحو من الدلالة العرفية ، ونحن نريد أن نجعل النهي موجبا للفساد قهرا لكونه علّة لسلب السلطنة ، فلاحظ وتأمّل.

بل يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا قدس‌سره إلى هذا التفصيل ، خصوصا مثل قوله

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٢.

(٢) النساء ٤ : ٢٣.

٣٣٠

في مقام بيان النهي عن السبب بقوله : أمّا الأوّل ( يعني السبب ) فلأنّ مبغوضية الايجاد بما هو فعل من أفعال المكلّف لا تلازم عدم ترتّب أثر المعاملة عليها بوجه (١).

وبنحو ذلك عبّر المرحوم الشيخ محمّد علي فقال : إنّ النهي لو كان عن نفس الايجاد والانشاء والاشتغال بالمعاملة فهو لا يقتضي الفساد ، إذ حرمة الايجاد لا يلازم مبغوضية الموجد وعدم تحقّقه الخ (٢).

وقال المرحوم الشيخ موسى في النهي عن المعاملة ما هذا لفظه : وهذا على قسمين ، لأنّ متعلّقه تارة المعاملة من حيث الانشاء ، أي من حيث إنّه فعل من أفعال المكلّف ، وغير ناظر إلى المنشأ ، كالنهي عن البيع وقت النداء ، فهذا لا إشكال في عدم دلالته على الفساد. وأخرى متعلّقه نفس المنشأ كبيع المصحف والعبد المسلم من الكافر الخ.

قوله : وعلى ذلك يترتّب حكمهم بفساد الاجارة في الواجبات المجانية ، فإنّ العمل بعد خروجه عن سلطان المكلّف وكونه مملوكا له تبارك وتعالى ، لا يمكن له تمليكه من الغير بالاجارة ، وحكمهم ببطلان بيع منذور الصدقة ، فإنّ المكلّف بنذره يكون محجورا عن كلّ ما ينافي الوفاء بنذره ، فلا ينفذ تصرّفاته الناقلة ، وحكمهم بفساد البيع من شخص خاصّ إذا اشترط في ضمن العقد عدم البيع له ، فإنّه بالاشتراط يكون محجورا عن البيع منه ... الخ (٣).

أمّا الاجارة على الواجبات فقد حقّق في محلّه أنّه يعتبر في متعلّق الاجارة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٤٧١.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٣١

أن يكون زمام العمل بيد الأجير شرعا ، وأن يكون ذلك العمل حاصلا للمستأجر ، والايجاب الشرعي يخرجه عن ذلك ، فتكون الاجارة عليه فاسدة وإن لم نقل بكون الفعل الواجب مملوكا للشارع. وأمّا توجيه بطلان الاجارة على ذلك بما في الحاشية من دعوى العلم الخارجي بتقييد العمل بالمجانية فيمكن منعه ، وإلاّ صحّ عمله للغير تبرّعا بلا أجرة.

وهل المانع من أخذ الأجرة على الواجبات هو كون الواجب على الأجير مملوكا للشارع وغير مملوك للأجير ، أو أنّ الايجاب يسلب سلطنة الأجير على ذلك الفعل ، أو أنّ الايجاب على الأجير يوجب عدم حصول الفعل للمستأجر ، لأنّه بعد الايجاب على المؤجّر لا يمكن أن يحصل إلاّ للمؤجّر نفسه. كلّ هذه الجهات محلّها باب أخذ الأجرة على الواجبات ، وقد تعرّض له شيخنا قدس‌سره (١) في تلك المباحث ، فراجعه بما علّقناه (٢) عليه هناك. وقياس ما نحن فيه به مبني على كون المانع هو الجهة الأولى أو الجهة الثانية ، وكان الأنسب قياس ما نحن فيه بأخذ الأجرة على الفعل المحرّم. وعلى كلّ حال ، أنّ محلّ البحث في هذه المسائل إنّما هو ذلك البحث ، فراجعه وتأمّل.

وكذلك الاجارة على الفعل المحرّم ، هل المانع فيه هو عدم المملوكية ، أو عدم المقدورية ، أو سلب السلطنة ، أو أنّ التحريم يوجب سلب المالية ، أو النصوص الخاصّة و « أنّ الله إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه » (٣)؟ كلّ ذلك محرّر في تلك

__________________

(١) منية الطالب ١ : ٤٨ ، المكاسب والبيع ( للآملي ) ١ : ٤٣ وما بعدها.

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

(٣) عوالي اللآلي ٢ : ١١٠ / ٣٠١ ، راجع مستدرك الوسائل ١٣ : ٧٣ / أبواب ما يكتسب به ب ٦ ح ٨.

٣٣٢

المباحث ، فراجعه.

ثمّ لا يخفى أنّ الكلمة الجامعة هنا هي أنّ باب المعاملات من حيث اعتبار السلطنة فيها يكون حالها حال التكاليف المشروطة شرعا بالقدرة ، في أنّ أقلّ التكاليف المشروطة بالقدرة عقلا يوجب سقوطها ، فإنّ التكليف في باب المعاملات إذا كان سالبا للسلطنة كانت المعاملة فاسدة من هذه الجهة ، وهذا المانع جار في كون متعلّق الاجارة في حدّ نفسه واجبا أو محرّما ، وفي المعاملة المأخوذ ضدّها أو نقيضها شرطا في معاملة أخرى أو منذورا ، مثل ما لو شرط عليه أن لا يبيع فباع ، أو شرط عليه البيع من عمرو فباعه من زيد. وهكذا الحال فيما لو كان المنذور هو أحد هذين الأمرين ، لا من جهة أنّ الشرط أو النذر يحدثان حقّا للمشروط له أو للشارع ، بل من جهة حرمة المخالفة الموجبة لسلب السلطنة ، فبالاقدام على مثل تلك المعاملة يكون قد فعل حراما ، وبه يتحقّق الخيار للمشروط له والحنث الموجب للكفّارة في باب النذر ، هذا. مع الالتزام بفساد ما أقدم عليه من المعاملة المزبورة. وقد حقّقنا هذه الجهات في بعض ما حرّرناه في المجموعة الفقهية ، هذا.

ولو كان المنذور ضدّه عبادة ، مثل ما لو نذر أن يصلّي ظهر هذا اليوم جماعة فصلاّها منفردا ، فإنّ صلاته تكون صحيحة كما صرّح به في العروة مسألة ١ قال : وقد تجب ( يعني الجماعة ) بالنذر والعهد واليمين ، ولكن لو خالف صحّت الصلاة وإن كان متعمّدا ، ووجبت عليه الكفّارة الخ (١).

والفرق بينه وبين المعاملة المنذور ضدّها هو ما أشرنا إليه من كون المعاملة ملحقة بالتكاليف المشروطة بالقدرة الشرعية لاعتبار السلطنة فيها ، ووجوب

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ١١٤.

٣٣٣

ضدّها يخرجها عن السلطنة ، بخلاف مثل صلاة الفرادى فإنّها مشروطة بالقدرة العقلية ، فلا يكون التكليف بضدّها موجبا لبطلانها ، لامكان تصحيحها بالملاك وبالترتّب. نعم ، لو كان المنذور هو ترك الصلاة فرادى بطلت الصلاة المزبورة ، لكونها حينئذ محرّمة ، كما ذكروه في مسألة نذر ترك الصلاة في الحمّام.

ثمّ لا يخفى أنّ الأمر بضدّ المعاملة إنّما يكون موجبا لسلب السلطنة عليها لو كان ذلك الضدّ متعلّقا بما هو مورد المعاملة ، مثل ما لو وجب عليه التصدّق بهذه الشاة بنذر ونحوه ، فإنّه يكون سالبا للسلطنة على بيعها ، حيث إنّ وجوب التصدّق بتلك الشاة يسلب سلطانه عليها ، بخلاف ما لو لم يكن كذلك ، مثل لزوم إزالة النجاسة عن المسجد لو زاحم المعاملة ، بأن يترك الازالة ويشتغل بالبيع والشراء مثلا ، فإنّه لم يتخيّل أحد أنّ ذلك موجب لسلب سلطانه على البيع ، بحيث يكون البيع فاسدا عند مزاحمته لازالة النجاسة عن المسجد ، ولعلّ من هذا القبيل البيع وقت النداء.

والسرّ في الفرق هو ما عرفت من أنّ التكليف المتعلّق بنفس العين يوجب سلب السلطنة على تلك العين ، بخلاف التكليف المتوجّه إلى الشخص من دون تعلّق له بالعين مثل إزالة النجاسة ، فإنّه لا يوجب إلاّ سلب سلطنة الشخص على نفسه ، وسلب قدرته على الأفعال المضادّة لذلك الفعل ومن جملتها المعاملة ، لكنّه لا يوجب إفسادها ، إذ لم تكن القدرة على المعاملة بما أنّها فعل من الأفعال الخارجية مأخوذة في صحّتها ، وإنّما المأخوذ في صحّتها هو السلطنة على المال الذي تقع عليه تلك المعاملة. ومن الواضح أنّ سلب القدرة على المعاملة بما أنّها فعل خارجي لا يوجب قصر سلطنته على العين التي تقع عليها تلك المعاملة.

نعم ، لا تصحّ الاجارة على ما هو ضدّ للواجب الذي هو الازالة المذكورة ،

٣٣٤

فإنّ ذلك الضدّ يكون حينئذ غير مقدور شرعا ، ولا تصحّ الاجارة عليه حينئذ ، ولأجل ذلك التزموا بخروج مقدار أداء الصلاة فيما لو آجر نفسه من الصبح إلى الغروب ، بمعنى كون الاجارة فيما قابل مقدار أداء الصلاة تكون باطلة. ولا منشأ له إلاّ الضدّية المذكورة ، على وجه لو عصى الأجير ولم يصلّ لم يكن للمستأجر الزامه بالعمل في مقدار المدّة المزبورة.

ومن هذا الفرق الذي ذكرناه بين الضدّ الذي يكون تصرّفا في المال والضدّ الذي لا يكون تصرّفا فيه في كون الأوّل موجبا لسلب السلطنة على المعاملة دون الثاني ، يتّضح لك مطلب مهمّ في أصل المسألة ، أعني مسألة النهي عن المعاملة ، فإنّ النهي عنها ربما يتعلّق بها بما أنّها تصرّف في المال ، فيكون موجبا لفسادها ، لكونه سالبا للسلطنة عليها. بخلاف ما لو كان النهي عنها متعلّقا بها بما أنّها فعل من الأفعال الخارجية ، لا باعتبار كونه تصرّفا في المال وإن كان هو تصرّفا فيها ، كما لو نذر أن لا يفعل في هذه الساعة فعلا من الأفعال ، فإنّ ذلك وإن أوجب حرمة البيع مثلا ، إلاّ أنّه لا يوجب فساد البيع المذكور.

ولعلّ من قال إنّ النهي عن المعاملة لا يوجب فسادها إنّما ينظر إلى هذا النحو من النهي ، دون النحو الأوّل ، بل لعلّ نظر شيخنا قدس‌سره في بيان أنّ النهي عن السبب لا يوجب بطلان المعاملة ، معلّلا ذلك بقوله : لأنّ مبغوضية الايجاد بما هو فعل من أفعال المكلّف لا تلازم عدم ترتّب أثر المعاملة عليها بوجه ، فلا ينافي حرمة البيع وقت النداء مع وقوع المبادلة به في الخارج الخ (١) إلى هذا الذي ذكرناه من كون الملحوظ في النهي هو مجرّد الفعل ، لا بما أنّه تصرّف في المال ، وإلاّ فإنّك قد عرفت أنّ النهي عن المسبّب لا بدّ أن يتعلّق به باعتبار إيجاده ، ولا يعقل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٣٣٥

أن يتعلّق النهي به والزجر عنه بما أنّه حدث وعرض من الأعراض في قبال الجواهر.

قوله : وأخرى نهيا تحريميا نفسيا ، وهو تارة يكون متعلّقا بالسبب أي بالايجاد بما هو ، من دون أن يكون ما يوجد مبغوضا كالنهي عن البيع وقت النداء ... الخ (١).

أمّا البيع وقت النداء فيمكن كما عرفت (٢) أن يكون النهي عنه كناية عن الأمر بضدّه على نحو لا يكون سالبا للسلطنة على المال. وأمّا إرجاع النهي عن السبب إلى النهي عن الايجاد ـ أي إيجاد المعاملة ـ ففيه تأمّل ، لأنّ إيجاد المعاملة ليس إلاّ المسبّب.

وبالجملة : أنّ الذي يظهر من بعض التحارير عنه قدس‌سره أنّ النهي تارة يكون عن السبب ، وأخرى عن المسبّب. وفسّر المسبّب بالمعنى الاسم المصدري ، وفسّر السبب بالمعنى المصدري. ولا يبعد أن يقال : إنّ المعنى الاسم المصدري المجرّد عن لحاظ النسبة الذي يكون المنظور إليه هو ذات الحدث غير منسوب إلى فاعل ، ممّا لا وجه لتعلّق النهي به ، وإنّما يكون كذلك لو لوحظ منسوبا إلى الفاعل. نعم ، هو قابل لتعلّق الحكم الوضعي به ، كما في مثل قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٣) إذا أخذنا الحلّية فيه وضعية بمعنى النفوذ والصحّة ونحوهما ، فإنّها يصحّ تعلّقها بالبيع بالمعنى الاسم المصدري.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الصفحة : ٣٢٦ وما بعدها.

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٣٣٦

أمّا السبب المجرّد فهو العقد نفسه ، فإنّه ربما توجّه النهي إليه باعتبار كونه في حدّ نفسه كلاما لفظيا ، مثل ما لو حرم عليه الكلام ، وهذا هو الذي ينبغي فيه أنّه لا يقتضي الفساد حتّى لو كان منحصرا. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تحريم السبب المنحصر ملازم لسلب السلطنة على تلك المعاملة ، لكنّك قد عرفت أنّ ذلك أقصى ما فيه أن تكون المعاملة بما أنّها فعل من الأفعال غير مقدورة ، وذلك لا يوجب فسادها ، بل يكون الفساد الطارئ على المعاملة من ناحية كونها منهيا عنها منحصرا بما يرجع إلى سلب السلطنة على المال ، ولا يكفي فيه مجرّد كون المعاملة غير مقدورة شرعا ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : فالتحقيق في هذا المقام أن يقال : إنّ هناك ثلاثة أمور ، أحدها : اعتبار الملكية ـ مثلا ـ القائم بمن بيده الاعتبار أعني به الشارع ، وثانيها : اعتبار الملكية القائم بالمتبايعين ـ مثلا ـ مع قطع النظر عن امضاء الشارع له وعدم امضائه ، وثالثها : إظهار المتبايعين في مفروض المثال اعتبارهما النفساني بمظهر خارجي من لفظ أو غيره ... الخ (١).

قد عرفت مرارا أن الملكية من الأمور الاعتبارية القابلة للجعل والايجاد في وعائها من الاعتبار ، وهذا الجعل والايجاد أو الانشاء إنّما يكون محتاجا إلى آلة ينشئ الجاعل بها ذلك الأمر الاعتباري فيتحقّق في وعائه من الاعتبار ، وتلك الآلة هي الانشاء العقدي أو الفعلي. أمّا ما تضمّنته الحاشية من كون الملكية قائمة في نفس الجاعل الذي هو الشارع ، أو في نفس المتبايعين ، وأنّ هذه الأحكام الشرعية أو هذه العقود الانشائية ليست إلاّ مظهرات لذلك الاعتبار النفساني القائم بنفس المعتبر ، فذلك ممّا لا وجه له ، وإلاّ لكان الانشاء إخبارا عن تلك الحالة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٢٦.

٣٣٧

النفسانية ، ولا أظن أنّ أحدا يقول بهذا التفصيل.

نعم ، في باب التكاليف قال بعضهم إنّه عبارة عن الارادة أو الطلب القائم بنفس الطالب ، وأنّ الطلب الانشائي يكون مظهرا لذلك الطلب النفساني. لكن لو تمّ هذا فإنّما هو في خصوص الطلب الذي هو من مقولة الارادة دون مثل الملكية والعتاق والطلاق ونحو ذلك. فراجع ما حرّر في باب اتّحاد الطلب والارادة ، وبيان الفرق بين الانشاء والاخبار ، وتأمّل.

قوله في الحاشية المشار إليها : وأمّا الاعتبار القائم بالمتبايعين مثلا فهو وإن كان قابلا لتعلّق النهي به ، إلاّ أنّه لا يدلّ على عدم امضاء الشارع له ، لأنّ سلب القدرة عن المكلّف في مقام التكليف لا يستلزم حجر المالك وعدم إمضاء اعتباره على تقدير تحقّقه في الخارج ... الخ (١).

ليت شعري أي عبارة أدلّ على الردع وعدم الامضاء في باب النكاح من قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) الخ (٢).

ويمكن أن يقال : إنّ الردع لا يتوقّف على جريان سابق على النهي ، بل يكفي فيه مجرّد توهّم النفوذ. ثمّ إنّ هذا الردع مرجعه إلى التخصيص فيما لو كان في البين عموم ، وقد تقدّم (٣) نقل الكلمات التي مفادها الاستناد بفساد المعاملة المنهي عنها إلى التخصيص ، فدعوى كون دلالة النهي على الردع خارج عن محل كلامهم كما في آخر هذه الحاشية قابل للمنع. ولا يخفى أن اقتضاء النهي للردع لا يتوقّف على قصد الردع ، بل يكفي نفس النهي في تحقّق الردع ، بل ليس الردع إلاّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٢٢٧.

(٢) النساء ٤ : ٢٢.

(٣) في الصفحة : ٢١٩ وما بعدها.

٣٣٨

نفس النهي ، فلا يكون اقتضاؤه الردع متوقّفا على كونه واردا في ذلك المقام.

وبالجملة : أنّ الردع والتخصيص من لوازم النهي قهرا ، بل إنّ الأوّل ـ أعني الردع ـ عين النهي ، فلا محصّل للقول بأنّه يتوقّف على القصد والدلالة ، أو على كونه واردا في ذلك المقام فتأمّل ، كما ربما يظهر من المرحوم شيخنا الأستاذ العراقي كما في مقالته المطبوعة (١) ، فراجع.

والحاصل : أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من أنّ النهي عن المعاملة يوجب سلب السلطنة عليها في مرحلة التشريع وإن كان قويا متينا ، إلاّ أنّه يكفي في الحكم بالفساد ما يدلّ عليه النهي من الردع والزجر الموجب لخروج مورده عن العمومات الواردة في تلك المعاملة. وحينئذ يكون اقتضاء هذا النهي الشرعي لفساد المعاملة أوضح من اقتضاء وجوب العمل على الأجير فساد أخذه الأجرة عليه ، كما أنّه أيضا أوضح من اقتضاء تعلّق النذر بما هو ضدّ المعاملة أو بما هو نقيضها لفسادها. بل يمكن أن يقال : إنّ النهي المتعلّق بالمعاملة وإن سلب سلطان المالك عليها إلاّ أنّه لا أثر لذلك السلب ، لأنّه لا يكون مخصّصا لحديث السلطنة (٣) ، لأنّ حديث السلطنة لا يعمّ المعاملة المشكوكة النفوذ في حدّ نفسها على نحو الشبهة الحكمية ، لما حقّق في محلّه أنّه إنّما ورد في مقام توهّم الحجر ، لا في مقام أصل تشريع المعاملة.

وبالجملة : أنّ حديث السلطنة غير شامل للمعاملة المنهي عنها قبل تعلّق النهي بها ، كما أنّه غير شامل لها بعد تعلّق النهي بها.

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٣٩٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٨.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ / ٧ ، عوالي اللآلي ١ : ٢٢٢ / ٩٩.

٣٣٩

نعم ، يمكن أن يقال إنّ عمومات المعاملة مقيّدة بعدم الحجر وبالسلطنة على المعاملة التي يوقعها المكلّف ، وحينئذ يكون النهي موجبا لخروجها عن القيد المزبور ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّ حديث السلطنة لا شغل له ببعض المعاملات ، مثل النكاح وما يتبعه ممّا لا يكون تصرّفا في الأموال ، فتأمّل.

وهنا مطلب لا بأس بالاشارة إليه ، وهو أنّ الشيخ قدس‌سره (١) منع من جريان حديث السلطنة في مقام الشكّ في السبب ، كما لو شككنا في نفوذ المعاطاة في البيع ، وحصر موارد التمسّك به بما لو كان الشكّ في المسبّب. وهذه إن كانت من قبيل المعاملات المبتدأة ، مثل الاباحة بالعوض ومثل الإعراض المدّعى كونه موجبا لانسلاخ الملكية ، يكون الشكّ فيها راجعا إلى مقام السبب ، وحينئذ ينحصر مورد التمسّك بالحديث المزبور بما لو حصل الشكّ في الحجر.

وكنّا قد أشكلنا على ذلك بأنّ الشبهة في الحجر إن كانت موضوعية كان التمسّك بالحديث من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية ، وإن كانت الشبهة حكمية كما في مثل معاملة المريض رجع الأمر فيها إلى السبب ، للشكّ حينئذ في اشتراط عدم مرض الموت في المعاملة المالية ، فيرجع الأمر إلى الاشتراط في ناحية أحد المتعاقدين ، فيرجع الأمر إلى الشكّ في ناحية السبب ، فينبغي أن لا يتمسّك فيه بحديث السلطنة.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ احتمال اشتراط عدم المرض الموتى في المعاملة ليس لجهة استقلالية مثل الاختيار ونحوه ، بل هو على تقديره لا يكون ناشئا إلاّ عن احتمال كون المريض محجورا عليه ، فإذا نفينا ذلك بحديث السلطنة ارتفع الشك في اشتراطه في العاقد ، وحينئذ يكون حديث

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٤١.

٣٤٠