أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٣٦

الوقت لأنّها عبادة بني أميّة وعبادة المجوس ، فيكون المطلوب هو ترك العبادة ، لا ترك مطلق الفعل وإن لم يكن عبادة.

وخامسا : أنّ ما ذكره من حمل النهي في ذلك على الارشاد خلاف الفرض أيضا ، لأنّ الكلام في توجيه النهي المولوي لا الارشادي فتأمّل.

ثمّ إنّه ربما يورد على ما أفاداه في التقريرات (١) والكفاية (٢) من كون الفعل بنفسه مطلوبا مستقلا كما أنّ الترك أيضا مطلوب مستقلّ بأنّ الأمر الاستحبابي بالفعل يقتضي المنع عن ضدّه العام أعني الترك ولو استحبابا ، فيكون الترك منهيا عنه من جهة الأمر بضدّه الذي هو الفعل ومأمورا به من جهة أنّه بنفسه مطلوب ، فيجتمع الأمر والنهي في ذلك الترك ، وهكذا الحال في الفعل نفسه فإنّه مأمور به بنفسه ومنهي عنه من جهة كونه ضدّا عاما للترك المفروض كونه مطلوبا بنفسه. ويمكن الجواب عنه بما حقّق في محلّه من عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه العام ولو بمعنى النقيض ، فراجع وتأمّل.

واعلم أنّ شيخنا قدس‌سره على ما نقله بعض المحرّرين عنه في الدورات السابقة كان يشكل على ما في التقريرات والكفاية باشكالات أخر ، مضافا إلى الإشكال السابق الذي محصّله عدم معقولية تعلّق الارادة بكلّ من الفعل والترك وعدم معقولية كون الفعل أرجح من الترك والترك أرجح من الفعل ، إذ لا يعقل أن يكون مجرّد المصلحة في الفعل موجبة لتعلّق الطلب به ما لم تكن تلك المصلحة موجبة لرجحانه على الترك ، وهكذا الحال في الترك نفسه.

فمن تلك الإشكالات أنّ ما أفاداه هو خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ ظاهرها أنّ

__________________

(١) مطارح الأنظار ١ : ٦٤٤.

(٢) كفاية الأصول : ١٦٣.

٦١

نفس الفعل مكروه لا أنّ تركه يكون راجحا.

ومنها : أنّ كون الترك علّة لترتّب أمر ذي مصلحة عليه ممنوع ، نعم إنّ العدم يمكن أن يكون شرطا لتأثير المقتضي ، بأن يكون وجوده مانعا وأمّا كونه مؤثّرا فلا.

لكنّه قدس‌سره أعرض في هذه الدورة الأخيرة عن هذين الإشكالين ، ولعلّ وجه الاعراض هو وضوح الجواب عنهما ، أمّا عن الأوّل فلوضوح أنّ هذا التوجيه وإن كان خلاف ظاهر الأدلّة إلاّ أنّه بعد فرض كون الظاهر غير معقول يتعيّن الخروج عنه بذلك أو نحوه ، وأمّا الثاني فلإمكان أن تكون المصلحة مترتّبة على مباينة بني أميّة والمجوس والظهور بخلاف مظاهرهم ، وهذا العنوان يترتّب على ترك العبادة في ذلك الوقت فيكون ذلك الترك مطلوبا. ولعلّ قوله ـ فيما حكيناه ـ (١) من قوله قدس‌سره بعد حكايته عن الشيخ قدس‌سره من قوله : وفيه بعد إصلاحه الخ إشارة إلى ذلك فتأمّل.

قوله : وأمّا المتعلّق للنهي التنزيهي فليس هو ذات العبادة لعدم مفسدة فيها ولا مصلحة في تركها ، بل المتعلّق له هو التعبّد بهذه العبادة لما فيه من المشابهة ... الخ (٢).

قد تقدّم (٣) أنّه لا بدّ من الكسر والانكسار في المتلازمين في الوجود فيما لو كان أحدهما راجحا والآخر مرجوحا ، ومن الواضح أنّ الأمر التعبّدي بصوم يوم عاشوراء مثلا من هذا القبيل ، لكون الفعل ملازما لجهة التعبّد ، إذ لا ينفكّ الصوم

__________________

(١) في الصفحة ٥٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٧٦ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) في الصفحة ٥٦ و٥٨.

٦٢

المأمور به في يوم عاشوراء عن جهة التعبّد. وبالجملة : لا معنى لتشريع الأمر بما يكون وجوده في الخارج على جهة المأمورية ملازما لما هو مرجوح.

ونظير هذا الإشكال إشكال آخر وهو أنّ نفس التعبّد والامتثال يكون مأمورا به ولو بمتمّم الجعل فلا يمكن أن يكون مكروها ، لما أفاده قدس‌سره من التنافي بين الحكمين لوحدة متعلّقهما وإن لم يكن شيء منهما إلزاميا.

وهذا الأخير ذكره في الحاشية (١) والظاهر أنّه متوجّه بناء على ظاهره من تعلّق الأمر بذات الصوم وتعلّق النهي بالاتيان به بداعي الأمر الذي هو عبارة أخرى عن التعبّد الذي يكون معتبرا في العبادة ولو بنحو متمّم الجعل. لكن لعلّ المراد هو تعلّق الأمر بذات الصوم على ما هو عليه من اعتبار كونه بداعي الأمر ، ولكن هذه العبادة في هذا اليوم تشتمل على التشبّه وهو مكروه. نعم يرد عليه أنّ التشبّه إن كان فعلا توليديا لتلك العبادة كان متّحدا معها خارجا ، وإن كان ملازما لها خارجا مع التزام المباينة بينهما كان حاله حال استحباب استقبال القبلة وكراهة ملازمه الذي هو استدبار الجدي ، فيخرج عمّا نحن فيه كما شرحناه فيما تقدّم (٢).

وحينئذ لا محيص من الالتزام بالحاق القسم الثالث بالقسم الثاني ، وذلك بارجاع النهي إلى تشخيص المأمور به بالايجاد في الزمان الخاص ، فإن كان تحريميا كان موجبا للتخصيص ، وإن كان تنزيهيا لم يكن منافيا للامتثال وصحّة المأمور به في ذلك الزمان ، كما التزمنا بصحّته وعدم منافاته للأمر ، إذ كان النهي التنزيهي متوجّها إلى تشخّصه بالمكان. ولا فرق في الموردين إلاّ بكون العموم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٧٦.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة ٥٤ وما بعدها.

٦٣

في القسم الثاني بدليا وفي هذا القسم شموليا ، نعم الظاهر أنّه لو كان الأمر وجوبيا لم يتأت فيه التوجيه المزبور ، بخلاف ما لو كان بدليا فإنّه يمكن اجتماعه مع الكراهة الشخصية ، ولعلّ السرّ في ذلك هو اشتمال العموم البدلي على الترخيص في الجملة بخلاف عموم الأمر الشمولي. لكن الظاهر أنّ ذلك لا يخلو عن الإشكال ، إذ لا يجتمع الأمر الشمولي ولو ندبيا مع النهي ولو كان تنزيها ، إذ مرجعه إلى تعلّق الارادة بذلك الشخص وبتركه ، وهو عين الإشكال الذي أردنا دفعه.

وهل يمكن تنزيل الكراهة في جميع هذه الأقسام على التركّب الانضمامي والقول بالجواز؟ أمّا القسم الأوّل وهو الكون في مواضع التهمة فواضح.

وأمّا القسم الثاني وهو مثل الصلاة في الحمّام فبدعوى عدم توجّه النهي إلى نفس الصلاة ، بل إنّه إنّما يتوجّه إلى أينها الخاص ، غايته أنّ هذا الأين يكون أخصّ من متعلّق الأمر ، ومن الممكن تحقّق العموم المطلق في التركّب الانضمامي ، إذ ليس المراد منه هو صدق أحد العنوانين على الآخر وإلاّ لكان التركّب اتّحاديا حتّى في العامين من وجه ، بل المراد منه هو الاجتماع في الوجود مع الآخر والانضمام إليه ، فإن كان العنوانان ممّا ينضمّ أحدهما إلى الآخر في الوجود وينفرد كلّ منهما عن مقارنة الآخر والانضمام إليه كان بينهما العموم من وجه ، وإن كان الانفراد من أحدهما فقط كان بينهما العموم المطلق.

وبالجملة : أنّه يجوز أن يكون أحد العنوانين مجتمعا مع الآخر ومنفكّا عنه ولكن الآخر لا يوجد إلاّ مقارنا له ومجتمعا معه في الوجود.

نعم لو كان النهي المتعلّق بذلك الأخصّ تحريميا لكان موجبا لتخصيص الأمر ، فإنّه بناء على الجواز تكون المسألة من التزاحم ، وحيث إنّه دائمي يكون

٦٤

من التزاحم الآمري فيجمع بينهما في مقام الاثبات بتقديم الخاص على العام ، سواء كان الأمر وجوبيا أو كان استحبابيا ، وسواء كان عمومه بدليا أو كان شموليا.

وأمّا القسم الثالث وهو النافلة المبتدأة في الأوقات المكروهة فبعين ما تقدّم ، غير أنّ السابق كان متعلّق النهي هو أين الفعل وفي هذا القسم يكون المنهي عنه هو زمانه المعبّر عنه بمقولة متى ، وغاية الفرق بينهما أنّ العموم هناك بدلي وهنا شمولي ، فلو كان النهي تحريميا لزم تخصيص الأمر بما عدا مورد النهي لما شرحناه فيما تقدّم ، وإن كان النهي تنزيهيا لم يكن مزاحما للأمر لعدم كونه مانعا لزوميا من امتثاله. نعم لا يتأتّى ذلك فيما لو كان الأمر وجوبيا ، لكونه مانعا لزوميا عن امتثال النهي.

هذا ما أمكنني تقريبه فيما تخيّلته من ابتناء مسألة الكراهة في العبادة على التركّب الانضمامي.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ النهي لم يكن متعلّقا بنفس مقولة الأين أو متى بالنسبة إلى الشخص ، بمعنى أنّ وجود نفس شخص المكلّف في ذلك المكان أو الزمان كان مكروها ، بل إنّما المكروه هو وجود الفعل أعني تلك العبادة في ذلك المكان ، بمعنى أنّ المكروه هو إيجاد المكلف تلك العبادة في المكان أو الزمان المذكورين ، فيكون المنهي عنه هو العبادة الموجودة في ذلك الظرف لا نفس الكون فيه.

وهذا وإن أمكن الجواب عنه بأنّ المنهي عنه ليس هو نفس العبادة بل إنّ المنهي عنه هو نفس الأين المتعلّق بها ، إلاّ أنّ فيه إشكالا آخر وهو مختصّ بالقسم الثالث ، أعني ما يكون عموم الأمر فيه شموليا مثل النوافل المبتدأة ومثل قراءة الجنب ، فإنّ الخصوصية الزمانية تكون فيه عين الفرد أو من لوازمه الدائمة ، ولا

٦٥

يمكن تعلّق الطلب بفعل الشيء مع تعلّق الطلب بلازمه (١) ، فلا بدّ فيه من الالتزام بالكسر والانكسار في مقام الجعل والتشريع.

ولا يخفى أنّ عمدة الإشكال في العبادات المكروهة إنّما هو هذا القسم الأخير ، أمّا غيره فالأمر فيه سهل حيث إنّ الكثير من العبادات المكروهة يكون من باب الاجتماع كالصلاة في مواضع التهمة ، فإنّ الكون في مواضع التهمة مكروه وإن لم يكن في حال الصلاة ، وتصحّ الصلاة على القول بالجواز من جهة أنّ ما اجتمع معها من الكون المذكور الذي قد تركّب معها تركّبا انضماميا لم يكن تركه الزاميا.

أمّا ما يكون أخصّ من الصلاة مثل الصلاة في الحمّام فإن صحّ لنا إلحاقه بما يكون أعمّ من وجه في دخوله في محلّ النزاع ، وقلنا بالجواز ارتفع الإشكال فيه أيضا ، وإلاّ كان المتعيّن فيه حمل النهي فيه على الارشاد إلى ما هو خال من هذه المنقصة ممّا يكون أكثر ثوابا.

أمّا الصلاة في معابد اليهود والنصارى وفي مواضع النيران فيمكن إلحاقه بالأوّل إن قلنا بكراهة مطلق الكون في هذه الأمكنة ، وإن كان المنهي عنه هو خصوص الصلاة فيها كانت من قبيل القسم الثاني الذي يكون متعلّق الأمر فيه أعمّ مطلقا من متعلّق النهي مع كون التركّب انضماميا ، وإن لم يكن التركّب فيه انضماميا بل كان اتّحاديا تعيّن حمل النهي فيه على الارشاد إمّا إلى مسألة طبّية ، كما في مثل الوضوء بماء أسخن بالشمس كما علّله عليه‌السلام بأنّه يورث البرص (٢) ، وإمّا

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ الصحيح : تعلّق النهي بلازمه ، أو تعلّق الطلب بترك لازمه ].

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٠٧ / أبواب الماء المضاف والمستعمل ب ٦ ح ٢.

٦٦

أن يكون إرشادا إلى دفع احتمال الخوف مثل الصلاة في مواطن الخوف ومواقع السيل مضافا إلى ما فيها من تشويش البال عند الالتفات إلى ذلك الاحتمال ، وإمّا إلى ما يكون أفضل منه وأكثر ثوابا مثل تغسيل الميت بماء أسخن بالنار ، وإمّا أن يكون إرشادا إلى مستحبّ آخر اتّفق مزاحمته له وكان ذلك أفضل وأكثر ثوابا ، مثل إرضاء الضيف لصاحب المنزل في ترك صومه بدون رضاه ، فالصوم وإن كان راجحا في حدّ نفسه وكان عبادة مأمورا بها استحبابا ويترتّب الثواب عليها ، لكن لما اتّفق مزاحمتها بما هو أرجح منها وهو إرضاء صاحب المنزل تعلّق النهي الارشادي بها ارشادا إلى ما هو الأكثر ثوابا وأولى بالرعاية.

وهذا المعنى جار حتّى في الواجبات كما لو زوحمت الصلاة الواجبة بانقاذ الغريق ، بل لو زوحم إنقاذ غريق بما هو أهمّ منه مثل غريق آخر أو إطفاء حريق يكون مؤدّيا إلى تلف كثير من النفوس.

ووجه اجتماع تشريع هذين الأمرين هو عدم التدافع الدائمي بين متعلّقيهما ، فيكون التزاحم بينهما مأموريا لا آمريا ، وهذا بخلاف النافلة المبتدأة في الأوقات المكروهة فإنّه وإن زوحم بما هو أهمّ إلاّ أنّ ذلك التزاحم دائمي فيكون آمريا ، ولأجل ذلك وقع الإشكال فيه دون ما نحن فيه ممّا يتّفق له المزاحمة بارضاء صاحب المنزل أو الزوج أو الوالد ممّا قد عدّ الصوم في مورده مكروها ، فإنّه يحمل النهي فيه على الارشاد إلى ما هو الأقوى ملاكا عند اتّفاق المزاحمة ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية علي بن حديد : « افطر فإنّه أفضل » (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر داود : « لافطارك في منزل أخيك أفضل من الصيام سبعين

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٥٤ / أبواب آداب الصائم ب ٨ ح ٧.

٦٧

صيفا أو تسعين » (١).

ومن ذلك ما يكون إرشادا إلى أفضل الأفراد ، كالنهي عن الصلاة في موضع العابرين والمارّة وإلى باب مفتوح وإلى إنسان مواجه ، فإنه إرشاد إلى الصلاة الخالية ممّا يوجب انشغال بال المصلّي ، ولعلّ منه ما تقدّمت الاشارة إليه من الصلاة في مواطن الخوف ، ومن ذلك الصلاة في المقابر فإنّه كاشف عن كونها في غيرها أكثر ثوابا ، فيكون النهي عنها ارشادا إليه.

والحاصل : أنّ الأمر سهل فيما يكون بين المتعلّقين عموم من وجه ، أو كان بينهما عموم مطلق وكان التركّب انضماميا بعد البناء على جواز الاجتماع. أمّا لو كان التركّب اتّحاديا فالأمر فيه سهل أيضا ، بحمل النهي فيه على الارشاد على نحو ما عرفت التفصيل في ذلك الارشاد من كونه ارشادا إلى جهة طبّية أو عقلية ، أو إلى مزاحم اتّفاقي يكون بالرعاية أولى ، أو إلى ما يكون من أفراد الطبيعة أكثر ثوابا.

وبقي الكلام فيما لا بدل له ولم يكن كراهته لأجل اتّفاق طرو ما هو الأرجح لكي يلحق بالتزاحم المأموري ، والظاهر انحصاره في المستحبّات دون الواجبات ، وذلك مثل قراءة الجنب ما زاد على سبع آيات مثلا ، ومثل النافلة المبتدأة في الأوقات الخاصّة والصوم المستحبّ في السفر ، فإنّه لا بدّ فيه من الالتزام بكون الترك بذاته ذا مصلحة أرجح من مصلحة الفعل ، أو أنّه ينطبق عليه عنوان كذلك أو أنّه يلازمه العنوان المذكور ، فيكون المطلوب في الحقيقة هو ذلك العنوان.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٥٣ / أبواب آداب الصائم ب ٨ ح ٦ [ وفيه : « ... سبعين ضعفا أو تسعين ضعفا » مع اختلاف يسير أيضا في صدر الحديث ].

٦٨

وحيث إنّ التزاحم في ذلك لا يكون إلاّ آمريا لكون التدافع دائميا ولم يتمّ الالتزام بما في الكفاية (١) من مطلوبية كلّ من الفعل والترك ، كما أنّ ما أفاده (٢) شيخنا قدس‌سره (٣) من كون متعلّق الأمر هو ذات الفعل ومتعلّق النهي هو عنوان التعبّد ، لم يكن لنا بدّ من الالتزام بمطلوبية الترك أو ذلك العنوان ، وعدم معقولية تشريع الأمر المتعلّق بالفعل ، وحينئذ لا بدّ لنا من الالتزام بما عرفت من مشروعية الأمر بالترك فقط ولازمه عدم صحّة الفعل عبادة ، فلو دلّ دليل قطعي على صحّة الفعل عبادة في مثل ذلك لم يكن أيضا بدّ من الالتزام بصحّته من جهة الاكتفاء بالملاك.

أمّا الترتّب فلا يتأتّى في أمثال ذلك من موارد التزاحم الآمري ، فضلا عمّا أفاده شيخنا قدس‌سره (٤) من عدم معقولية الترتّب بين النقيضين أو الضدّين اللذين لا ثالث لهما. ويمكن القول بإنكار صحّته عبادة في هذه الموارد ، وأقصى ما في البين هو أنّه لو قرأ الجنب ما زاد على السبع لم يكن حراما ، أمّا أنّه فعل ما هو عبادة فلا ، وكذلك الحال في النوافل المبتدأة والصوم المستحبّ في السفر. نعم قد يقال بحرمة ذلك تشريعا إذا قصد الاتيان بها بداعي الأمر فتأمّل.

ويمكن اجراء هذه الطريقة في الصوم المستحبّ من الضيف بدون إذن صاحب المنزل ، بل يمكن إجراؤها في جميع ما تقدّم ممّا له البدل سواء كان من قبيل القسم الأوّل أو كان من قبيل القسم الثاني ، غايته أن يلتزم فيما يكون منه واجبا كصلاة الظهر في الحمّام مثلا ممّا دلّ الدليل القطعي على صحّته وكفايته عن

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٣.

(٢) [ هكذا في الأصل ، ولعلّ المناسب : كما لم يتمّ الالتزام بما أفاده ... ].

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٧٦.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٩٢.

٦٩

الاعادة بأنّ صحّته من ناحية الملاك لا من ناحية الأمر. وهكذا في المستحبّ الراتب ونحوه ممّا تدخله الاعادة والقضاء فتدبّر.

أمّا التمثيل للقسم الثالث بصوم يوم عاشوراء فلم يثبت ، لأنّ الظاهر من الأخبار (١) هو حرمة صومه بعنوان التبرّك والشكر ، وأنّه يصحّ صومه بعنوان الحزن (٢). نعم في بعض الأخبار (٣) ما يدلّ على عدم مشروعية الصوم فيه بتاتا ، وفي بعضها (٤) ما يدلّ على استحباب الامساك فيه إلى ما بعد الزوال ، فكونه من قبيل النوافل المبتدأة غير معلوم ، فينبغي التأمّل والتتبّع لأقوال الفقهاء ولأخبار المسألة. وعلى كلّ حال ، لو ثبت أنّه من هذا القبيل جرى فيه ما تقدّم في مثل النوافل المبتدأة وقراءة الجنب ما زاد على سبع آيات ونحو ذلك ، هذا.

ولكن لا يخفى على من راجع كتب الأخبار والفقه في هاتين المسألتين أعني كراهة الصوم في يوم عاشوراء وكراهة النافلة المبتدأة في الأوقات الخاصّة ما في ذلك من التعارض والإجمال في بعضها ، والخلاف بين الفقهاء في الكراهة أو الحرمة وفي الصحّة والفساد إلى غير ذلك ، وحينئذ فيمكن القول بأنّ المسألة من باب الكسر والانكسار وتقديم جانب النهي وسقوط الأمر وعدم صحّة العبادة ، إذ لا أثر يترتّب على صحّتها وفسادها ، إذ لا بدل لها كي يكون فسادها فاتحا لباب الاعادة وصحّتها موجبة لعدم الاعادة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٤٥٩ / أبواب الصوم المندوب ب ٢١ ح ٢.

(٢) ربما أشار بذلك إلى ما روي في وسائل الشيعة ١٠ : ٤٥٧ / أبواب الصوم المندوب ب ٢٠ ح ١ ـ ٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٠ : ٤٦١ / أبواب الصوم المندوب ب ٢١ ح ٤ ـ ٦.

(٤) وسائل الشيعة ١٠ : ٤٥٨ / أبواب الصوم المندوب ب ٢٠ ح ٧.

٧٠

وقد يقال : إنّ الأثر يظهر في النذر كما لو نذر صوم يوم عاشوراء ، فلا يصحّ النذر على الثاني بخلاف الأوّل. وفيه : أنّه لا يصحّ حتّى على الأوّل بناء على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر. نعم على الأوّل أعني تقديم جانب لا يمكنه بها بداعي الأمر إلاّ تشريعا ، بخلافه على الثاني أعني تقديم النهي ، لكن ذلك أعني صحّة الاتيان بها بداعي الأمر قابل للمنع ، إذ لا إجماع على الجمع بين الكراهة وبين صحّة الاتيان بها بداعي الأمر (١).

وحينئذ تكون الخلاصة في كراهة العبادات هو تنزيل القسم الأوّل والثاني منها على اجتماع الأمر والنهي والقول بالجواز ، وامتناع ذلك على القول بالامتناع. وأمّا القسم الثالث فهو وإن أمكن تخريجه على مسألة الاجتماع ، بأن نقول إنّ نفس الحصّة من الصوم الموجود في يوم عاشوراء مثلا هو مستحبّ ، وكونه في اليوم المذكور مكروه ، ولا مانع من ذلك لأنّ النهي التنزيهي لا يسدّ باب الامتثال.

ولكن لا يخفى أنّ في المقام مانعا آخر وهو عدم القدرة على امتثال التكليفين ولو لم يكونا إلزاميين ، وقد حقّق أنّ عدم القدرة لو كان دائميا تدخل المسألة في التزاحم الآمري وفي باب التعارض وتخرج عمّا نحن فيه ، وهذا هو السبب في عدم إمكان استحباب كلّ من النقيضين وكلّ من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وفي استحباب أحد المتلازمين وكراهة الآخر ، وتخريج استحباب كلّ من الضدّين اللذين لهما ثالث على التخيير الشرعي. وما وجّهنا به (٢) ما أفاده شيخنا قدس‌سره من كون المانع هو أنّ رجحان الفعل يوجب مرجوحية الترك الخ لا

__________________

(١) [ لا يخفى ما في هذه العبارات من التشويش وسهو القلم ، وقد آثرنا إيرادها هنا كما هي في الأصل ].

(٢) في الصفحة : ٥٧.

٧١

يخلو عن تأمّل ، لأنّ رجحان الفعل لا يوجب إلاّ سلب الرجحان عن الترك ولا يوجب مرجوحيته ، وإلاّ لكان ترك المستحبّ مكروها.

وبناء على ذلك نقول فيما نحن فيه إنّ المسألة تدخل في التزاحم الآمري ، والمرجع في مقام الاثبات هو التعارض ، فلو كان المقدّم هو النهي لم يمكن القول بالصحّة. وما أفاده بعض مقرّري بحث المرحوم السيّد البروجردي (١) من إمكان تصحيحه بالملاك ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ ذلك أعني التصحيح بالملاك إنّما يتأتّى في التزاحم المأموري دون التزاحم الآمري ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في الحاشية : التحقيق ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ كلام شيخنا قدس‌سره مبني على أنّ الأمر الاستحبابي إنّما هو المتوجّه إلى المنوب عنه ، وأنّ مركب الأمر الاجاري إنّما هو النيابة عنه في امتثال ذلك الأمر ، ومركب الأمر الأوّل هو الفعل نفسه ، وأمّا كيفية امتثال الأجير الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه وأنّه كيف يمتثل الشخص أمرا متوجّها إلى غيره فذلك إشكال في المبنى ، وقد تعرّض شيخنا قدس‌سره (٣) لدفعه وشرحناه فيما حرّرناه عنه قدس‌سره في مبحث الاجارة والنيابة في العبادات من المكاسب ، وأنّه بعد قيام الدليل على النيابة يكون محصّل الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه هو تعلّق الفعل بذمّته ، وأنّه مراد منه على نحو الأعمّ من المباشرة بأن يفعله هو بنفسه أو يفعله بنائبه ، وأنّ النائب لو أتى بالفعل بعنوان النيابة يكون قصد النيابة عبارة عن فعل النائب ذلك الفعل عن

__________________

(١) في نهاية الأصول ١ : ٢٦٧ ، ٢٦٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ١٧٤.

(٣) المكاسب والبيع ١ : ٤٦ ، منية الطالب ١ : ٥٢ وما بعدها.

٧٢

المنوب عنه ، ومحصّله أنّه يمتثل له الأمر المتوجّه إليه.

أمّا ما في الحاشية من كون الأمر الاستحبابي هو الأمر المتوجّه إلى النائب (١) في نيابته عن الميت تبرّعا ، فذلك لا يدفع الإشكال في كيفية تحقّق النيابة التي هي متعلّق هذا الأمر الندبي ، وأنّه كيف ينوب الأجير عن المنوب عنه في الفعل الذي توجّه أمره إلى نفس المنوب عنه ، وأنّه كيف تكون تلك النيابة ، فراجع ما حرّرناه عنه قدس‌سره في تمام توضيح دفع الإشكال المزبور ، هذا.

مضافا إلى أنّ هذا الأمر أعني الأمر المتوجّه إلى الأجير في نيابته التبرعية عن الميت لا يكون إلاّ توصّليا كما أنّ الأمر الاجاري توصّلي أيضا ، وحينئذ كيف يكون ذلك العمل الذي يوقعه الأجير عباديا ، والمفروض أنّ هذا النائب سواء كان تبرّعيا أو كان مأجورا إنّما ينوب عنه في فعل العبادة ، لا في مجرّد الامساك أو پيكرة عمل الصلاة ، فتأمّل.

وملخّص النيابة هو أنّ الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه وإن كان مقتضاه هو انبعاث المأمور بنفسه إلاّ أنّ دليل النيابة يكون مقتضاه الاكتفاء بانبعاث النائب ، بحيث يكون ذلك الانبعاث الصادر بعنوان النيابة كافيا ، بمعنى أنّ النائب يقصد أنّه ينبعث عن ذلك الأمر نيابة عن المنوب عنه ، فدليل النيابة يقول إنّه إذا انبعث غيرك نيابة عنك في ذلك الانبعاث كان ذلك كافيا عنك ، فمحصّله التوسعة في الانبعاث الذي اقتضاه الأمر بصرف طبعه وأنّه أعمّ من الانبعاث بنفسك أو بنائبك ، فإنّ النيابة في ذلك الانبعاث موجبة لانتساب ذلك الانبعاث إلى نفس المنوب عنه ، كما ينسب العقد الصادر من الوكيل بعنوان الوكالة إلى الموكل ، لأنّه محصّل قول

__________________

(١) [ في الأصل : المنوب عنه ، والصحيح ما أثبتناه ].

٧٣

الوكيل أعقد عن الموكل ، فكذلك قول النائب في ذلك الانبعاث إنّي أنبعث عن المنوب عنه ، وحاصل ذلك هو قابلية الانبعاث للوكالة والنيابة ، وليست التعبّدية إلاّ الانبعاث عن الأمر كما شرحناه في بيان ما بنينا عليه من أصالة التعبّدية (١) ، وحاصل النيابة فيه هو أنّ الغير ينبعث نيابة عن المأمور وبانبعاثه عن المأمور يكون النائب قد حصّل ذلك الانبعاث للمأمور.

والحاصل : أنّه لا يعتبر في العبادي إلاّ أن يأتي به المكلّف لذلك الأمر الذي تعلّق بذلك ، ومن الواضح أنّ النائب يمكنه أن يأتي بالفعل لأجل ذلك الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه نيابة عن المنوب عنه ، فيكون الفعل عباديا لأنّه أتى به لأجل الأمر ، ويكون بما أنّه عبادة منسوبا إلى المنوب عنه لكونه قد أتى به بعنوان النيابة عنه ، ويكون مسقطا لأمره المتعلّق به ومبرئا لذمّته لأنّ دليل النيابة متكفّل بذلك.

قوله قدس‌سره في الكفاية : كما يظهر من مداومة الأئمّة عليهم‌السلام على الترك ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ مداومتهم عليهم‌السلام على الترك إنّما تكشف عن نقصان في الفعل لا عن مجرّد كون الترك أرجح منه ، وإلاّ لكانوا ملازمين على ما هو الأرجح من المستحبّات المتزاحمة.

__________________

(١) [ عند التعرّض لكلام المحقّق الكلباسي قدس‌سره ، فراجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٦٦ وما بعدها. ولا يخفى أنّه قدس‌سره قد أبطل هذا القول فيما بعد فراجع الصفحة : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ من المجلّد الأوّل ].

(٢) كفاية الأصول : ١٦٣.

٧٤

قوله قدس‌سره : فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبّين المتزاحمين ـ إلى قوله : ـ كما هو الحال في سائر المستحبّات المتزاحمات بل الواجبات ... الخ (١).

إنّما يكون الأمر كذلك فيما لو كان التزاحم مأموريا ، أمّا لو كان آمريا كما فيما نحن فيه حيث إنّ التعاند دائمي فلا وجه للطلب التخييري في صورة التساوي للغويته ، كما أنّه لو كان أحدهما أهمّ كان هو المأمور به وسقط الآخر عن الأمر بالمرّة ، نعم في الأضداد التي لها ثالث يكون الحكم بالتخيير شرعا ممكنا لكن يكون الأهمّ أفضل الأفراد.

قوله قدس‌سره : نعم يمكن أن يحمل النهي في كلا القسمين على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ حمل النهي على الارشاد إلى ما هو الأرجح والأكثر ثوابا إنّما يتمّ بعد كون ذلك الأرجح مطلوبا شرعا ، وإلاّ فلا يكون ممّا يترتّب عليه الثواب فضلا عن أكثريته.

قوله : ومورد كلامه قدس‌سره وإن كان في الأفراد الطولية إلاّ أنّ ملاك الكلام وجهة الجواز والامتناع تجري في الأفراد العرضية ـ إلى قوله : ـ وأمّا إذا قلنا بالثاني فلا مزاحمة بينهما أصلا ، لكفاية مقدورية الطبيعة في الامتثال بهذا الفرد ، فإنّ الانطباق قهري والاجزاء عقلي ... الخ (٣).

بل قد يقال : إنّ ذلك المسلك أعني المسلك المنسوب إلى المحقّق

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٣.

(٢) كفاية الأصول : ١٦٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ١٧٧ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

٧٥

الثاني قدس‌سره (١) لا يجري في الأفراد الطولية كما في مزاحمة الأمر بالصلاة مع الازالة ، وإنّما يجري في الافراد العرضية كما فيما نحن فيه من مزاحمة الأمر بالصلاة مع النهي عن الغصب بناء على الجواز من الجهة الأولى.

وبيان ذلك : أنّ ملخّص مسلك المحقّق لمّا كان مبنيا على كون المانع من التكليف بغير المقدور ليس هو محالية التكليف الذي هو عبارة عن عدم صدور الارادة وتعلّقها بما لا يكون ، بل كان مبنيا على أنّ المانع منه هو قبح التكليف وإيجاب غير المقدور ، لكونه مستدعيا للعقاب على تركه مع فرض كون فعله غير مقدور فيكون العقاب على تركه ظلما ، وحينئذ نقول : إنّ الفرد المزاحم بتكليف آخر ليس هو بنفسه محطّ التكليف والعقاب على تركه ، بل إنّ محطّ التكليف إنّما هو نفس الطبيعة ، وهي في حدّ نفسها مقدورة ولو في ضمن الافراد الأخر السالمة من تلك المزاحمة فلا يكون مانع من الأمر بالطبيعة ، وبعد فرض تعلّق الأمر بها لو أتى المكلّف بها في ضمن ذلك الفرد المبتلى بالمزاحم يكون انطباقها على ذلك الفرد انطباقا قهريا ، إلى آخر الجمل الثلاث أعني كون الانطباق قهريا والامتثال وجدانيا والاجزاء عقليا.

والسرّ في ذلك : هو أنّ ذلك الفرد لم يكن قد تعلّق به الايجاب الحتمي ، ولم يترتّب العقاب على ترك ذلك الفرد بخصوصه ، وإنّما كان مركز ذلك جميعه هو الطبيعة نفسها ، غايته أنّ المكلّف بسوء اختياره جاء بها في ضمن ذلك الفرد غير المقدور شرعا ، فلا مانع من شمول الطبيعة له ، إذ ليس في ذلك تحتيما لما هو غير المقدور ولا ترتّب عقاب على ترك ذلك الفرد بخصوصه ، وإنّما التحتّم والعقاب على أصل الطبيعة والمفروض أنّها في حدّ ذاتها مقدورة ولو في الافراد

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ١٣ ـ ١٤.

٧٦

الأخر.

ومن الواضح أنّ هذه الجملة لا تتأتّى في مورد التزاحم في الافراد الطولية ، لأنّ الطبيعة المزاحمة بازالة النجاسة تكون في الزمان الذي يسع إزالة النجاسة غير مقدورة برمّتها ، وإنّما المقدور منها هو الافراد التي تكون فيما بعد ذلك الزمان ففي حال الأمر بالازالة لا تكون الطبيعة برمّتها مقدورة ، فلا يصحّ توجّه الأمر بها في ذلك الحال إلاّ بنحو الوجوب المعلّق ، لأنّ الأمر بتلك الطبيعة حينئذ ينحاز إلى ما بعد زمان الازالة ، فلو فرضنا وجود الأمر بها في ذلك الحال كان من قبيل الوجوب التعليقي ، لكون الوجوب حينئذ حاليا والواجب وهو الطبيعة المقدورة استقبالي وهو محصّل الواجب المعلّق.

وحيث قد حقّقنا في محلّه بطلانه فلا يمكننا القول بوجود الأمر بالطبيعة في حال الأمر بالازالة ، وهذا بخلاف الافراد العرضية كما فيما نحن فيه ، حيث إنّ النهي عن الغصب وإن كان موجودا في هذا الحال ، إلاّ أنّه لا ينافي وجود الأمر بالصلاة ، لكفاية القدرة عليها ولو في ضمن الافراد الأخر التي تكون في الدار المباحة أو في المسجد ونحو ذلك ، وحينئذ فلو قلنا : إنّ المانع من التكليف بغير المقدور هو مجرّد قبح تحتيم غير المقدور وقبح العقاب على تركه ، لم يكن ذلك المانع متأتّيا فيه ، لأنّ الطبيعة في حدّ نفسها مقدورة ولو في الافراد الأخر التي هي في عرض هذا الفرد المزاحم بالنهي عن الغصب ، لأنّ تلك الأفراد لكونها عرضية لا تكون متأخرة في الزمان عن هذا الفرد المبتلى بالمزاحمة ، ففي مثل ذلك ينحصر التخلّص من هذه الشبهة بالتعلّق بما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ محالية التكليف بغير المقدور ليست هي مجرّد تحتيم غير المقدور وقبح العقاب على تركه ، وإلاّ لصحّ الأمر الاستحبابي بغير المقدور ، إذ لا تحتيم فيه ولا عقاب على

٧٧

تركه كي يكون ذلك قبيحا على الشارع لكونه منتهيا إلى الظلم وهو قبيح عليه ، بل إنّ محاليّته هي قبح إرادة ما لا يكون وإن لم يكن فيه تحتيم ولا عقاب ، بل إنّ نفس إرادة ما لا يكون الذي هو غير المقدور لا يعقل صدورها من العاقل فضلا عن الشارع الحكيم.

وحينئذ نقول : إنّ هذا الفرد المبتلى بمزاحمة الغصب لا يعقل أن يكون مشمولا للطبيعة المأمور بها ، وإن لم يكن شمولها له مشتملا على التحتيم والعقاب على الترك بالنسبة إلى خصوص ذلك الفرد ، إلاّ أنّ كونه متعلّقا للارادة ولو باعتبار شمول الطبيعة له يكون محالا ، لأنّ إرادة ما لا يكون لا يعقل صدورها من العاقل وإن لم يكن في البين وجوب إلزامي وعقاب على الترك بالنسبة إلى خصوص ذلك الفرد ، وحينئذ لا بدّ من الحكم العقلي بتقييد الطبيعة المأمور بها بغير ذلك الفرد المبتلى بالمزاحم ، سواء كان الفرد طوليا كما في باب المزاحمة بالازالة ، أو كان عرضيا كما فيما نحن فيه

والإنصاف أنّه لم يتّضح الفرق بين الوجهين لاعتبار القدرة ، فسواء قلنا إنّ التكليف بغير المقدور تكليف غير معقول أو قلنا إنّه مناف للعدل نقول إنّ ذلك إن اقتضى التقييد اقتضاه على كلا الوجهين ، وامتنعت طريقة المحقّق الثاني القائلة بأنّ الانطباق قهري على كلا الوجهين ، وإن لم يقتض التقييد صحّت طريقته على كلا الوجهين أيضا ، هذا في عدم القدرة عقلا.

وأمّا ما كان من ناحية التزاحم فكذلك ، وقد تقدّم (١) الكلام على أنّه لا تقييد في البين ، وأنّه ليس في البين إلاّ حكم العقل بلزوم تأخير امتثال الأمر بالصلاة عن امتثال الأمر بالازالة ، هذا في الطوليات. وكذلك الحال في العرضيات كما لو

__________________

(١) في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٤٠ وما بعدها.

٧٨

زوحمت الصلاة في هذا المكان بالنظر إلى الأجنبية ، إذ ليس في البين إلاّ حكم العقل بإيقاع الصلاة في المكان الخالي من هذه المزاحمة ، وعلى ذلك يمكننا أن نقول إنّه لو صلّى مع ابتلائه بالازالة أو مع ابتلائه بالنظر إلى الأجنبية يكون الانطباق قهريا والامتثال وجدانيا ، فيكون الاجزاء عقليا. ولكن هذه الطريقة لا يمكننا إجراؤها في الصلاة في الدار المغصوبة لجهات أخر ، وهي ما أفاده شيخنا قدس‌سره في جواب إن قلت المذكورة أوّلا (١) ، فلاحظ.

وهذه الجهة الأخرى هي المعبّر عنها في كلامه قدس‌سره بالقبح الفاعلي ، وبعد تماميتها تكون عنده مانعة من التصحيح بطريقة الملاك بعد فرض أنّه أبطل طريقة المحقّق القائلة بالانطباق القهري الخ ، لكن نحن بعد أن صحّحنا هذه الطريقة وجعلنا حكومة العقل مقصورة على التصرّف في مقام الامتثال لا بدّ لنا من الالتزام بالقضية الأولى وهي الانطباق القهري ، ويكون الممنوع عندنا هو القضية الثانية وهي كون الامتثال وجدانيا ، لما عرفت من تحقّق القبح الفاعلي ، وهو مانع من الامتثال كما يمنع من طريقة شيخنا قدس‌سره أعني طريقة الملاك.

ثمّ إنّ هذا المانع المعبّر عنه بالقبح الفاعلي ليس هو عبارة عن وحدة الايجاد وتعدّد الوجود ، لما يرد عليه من أنّه لا فرق بين الايجاد والوجود إلاّ بالاعتبار ، مضافا إلى أنّ محصّل الايجاد هو المعنى المصدري ومحصّل الوجود هو المعنى الاسم المصدري ، وقد حقّق في محلّه أنّ ما هو متعلّق التكاليف هو المعاني المصدرية لا الاسم المصدرية ، وحينئذ يعود محذور الاجتماع في شيء واحد ، فليس المانع هو وحدة الايجاد وتعدّد الوجود ، ولا هو وحدة المعنى المصدري وتعدّد المعنى الاسم المصدري. كما أنّه ليس المانع المذكور هو وحدة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٧٩ ـ ١٨١.

٧٩

الإرادة وتعدّد المراد ، لما يرد عليه من أنّه مع فرض تعدّد المراد الاختياري لا بدّ من تعدّد الارادة.

بل إنّ المانع هو عدم إمكان التقرّب بالفعل المأمور به المشتمل على خصوصية مبغوضة من المكان والمقارن واللون والصفة ونحو ذلك من الخصوصيات ، وهذه الموانع إنّما تؤثّر في المبغوضية لو كانت معلومة موضوعا وتكليفا دون ما لو كانت مجهولة ، وحينئذ تصحّ العبادة الخاصّة ، وليس ذلك براجع إلى مسألة التزاحم ، وأنّ المزاحم إنّما يسلب القدرة على فعل المأمور به عند تنجّزه ، إذ ليس المقام مقام القدرة على فعل المأمور به ، بل المقام إنّما هو مقام إمكان التقرّب بهذا المأمور به الخاصّ الذي كانت خصوصيته مبغوضة فلاحظ وتأمّل.

قال قدس‌سره : إنّ اعتبار القيود العدمية إمّا أن يكون مدلولا للنهي الغيري فيكون التقييد هو المستفاد من الدليل ابتداء ، وإمّا أن يكون مستفادا بالدلالة الالتزامية من النهي النفسي الدالّ على الحرمة كما في موارد النهي عن العبادة أو موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع من الجهة الأولى ، وإمّا أن يكون لأجل مزاحمة المأمور به للمنهي عنه مع فرض تقديم جهة الحرمة على الوجوب (١).

مثال الأوّل : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه.

مثال الثاني : لا تصلّ في الحرير ، ومسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأولى.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٢ [ ستأتي في صفحة : ١١١ تعليقة أخرى للمصنّف قدس‌سره على هذا المتن ولكن بصياغته الموجودة في النسخة القديمة من الأجود ].

٨٠