شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

ونستخلص من ذلك : أنّ مبادئ النهي يمكن أن تكون منوطة بعدم الاضطرار إلى الفعل ، ولكن لا يمكن أن تكون منوطة بعدم العجز عن الفعل.

وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ كما في الحالة الثانية المتقدّمة ـ يمكن القول بأنّه لا علم إجمالي بالتكليف ، لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه.

وأمّا في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ كما في المقام ـ فالنهي وإن لم يكن ثابتا على كلّ تقدير ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت إجمالا على كلّ حال ، فالركن الأوّل ثابت ؛ لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف يشمل العلم الإجمالي بمبادئه.

والحاصل ممّا تقدّم : أنّ مبادئ النهي من مفسدة ومبغوضيّة يمكن أن تكون مقيّدة وجودا وعدما بالاضطرار إلى الفعل وعدمه ، فمع الاضطرار إلى الفعل لا مبادئ ، ومع عدم الاضطرار توجد المبادئ.

بينما هذه المبادئ لا يمكن أن تكون مقيّدة بعدم العجز عن الفعل أو بالاضطرار إلى الترك ، إذ لا يمكن أن يقال إنّه مع الاضطرار إلى الترك لا مبادئ وإنّما المبادئ في صورة إمكان الترك فقط.

والوجه فيه ما ذكرناه من احتمال سقوط المبادئ عند الاضطرار إلى الفعل ، ومن بقاء المبادئ جزما عند الاضطرار إلى الترك ؛ لأنّ المفسدة والمبغوضيّة محفوظة حتّى في الطرف البعيد.

وعلى هذا اتّضح بطلان تقريب المشهور وقياس مقامنا على المقام السابق ، ببيان أنّه في المقام السابق أي الاضطرار إلى الفعل كما لا يتشكّل العلم الإجمالي بالتكليف ، كذلك لا يتشكّل العلم الإجمالي بالمبادئ ، فكما أنّه لا يعلم بالتكليف على كلّ تقدير فكذلك لا يعلم بالمبادئ على كلّ تقدير ؛ لأنّ التكليف ساقط على بعض التقادير ، والمبادئ يحتمل سقوطها على بعض التقادير أيضا ، واحتمال سقوطها كالقطع بذلك.

بينما في مقامنا هذا أي الاضطرار إلى الترك وإن كان لا يتشكّل علم إجمالي بجامع التكليف ؛ لأنّه ساقط على بعض التقادير ، إلاّ أنّ العلم الإجمالي يتشكّل بجامع المبادئ ؛ لأنّها محفوظة على جميع التقادير.

٣٨١

والعلم الإجمالي كما يكون منجّزا بلحاظ العلم بالتكليف ، كذلك يكون منجّزا بلحاظ العلم بالمبادئ وإن كان التكليف ساقطا ؛ لأنّ الأساس هو المبادئ لا مجرّد الخطاب والنهي والزجر ، إذ هذه ليست إلا مجرّد كاشف عن المبادئ ، فالمنجّزيّة تابعة لوصول المبادئ ، غاية الأمر أنّ هذه المبادئ تارة تصل بنفسها بأن اطّلع المكلّف على ما في نفس المولى ، وأخرى تصل عن طريق إبراز خطاب يكشف عنها كما هو الغالب ، إلا أنّ غالبيّة هذا القسم لا يعني انتفاء القسم الآخر وعدم منجّزيّته.

وبهذا نصل إلى أنّ الركن الأوّل محفوظ في مقامنا.

ويجب أن يفسّر عدم التنجيز على أساس اختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الأولى حيث إنّ الأصل المؤمّن في الطرف المقدور يجري بلا معارض ، إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور ؛ لأنّ إطلاق العنان تشريعا في مورد تقيّد العنان تكوينا لا محصّل له. وإمّا بصيغته الثانية حيث إنّ العلم الإجمالي ليس صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّ التنجيز هو الدخول في العهدة عقلا ، والطرف غير المقدور لا يعقل دخوله في العهدة.

والتقريب الصحيح لعدم منجّزيّة العلم الإجمالي في المقام أن يقال : إنّ الركن الثالث من أركان المنجّزيّة سواء بصياغة المشهور أم بصياغة المحقّق العراقي ساقط ومنهدم.

أمّا بناء على صياغة المشهور للركن الثالث من لزوم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ، فهذا الركن غير تامّ ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء الخارج عن قدرة المكلّف لبعده ، وعدم تمكّنه من الوصول إليه ؛ إذ لا فائدة من جريان الأصل فيه ولا أثر له ؛ لأنّ الأصل الترخيصي عبارة عن إطلاق العنان وجعل المكلّف طليقا غير مقيّد ، وهذا المعنى حاصل بلا حاجة إلى الأصل ؛ لأنّ المكلّف لمّا لم يتمكّن من الوصول إليه فهو طليق من ناحيته ، فيكون جريان الأصل لغوا وتحصيلا للحاصل.

وبتعبير آخر أدقّ : أنّ المكلّف أمام الإناء غير المقدور مقيّد تكوينا ، بمعنى أنّه غير متمكّن من ارتكابه فعلا ، فلا معنى لتوجيه الخطاب إليه شرعا بأنّه ( يجوز لك تركه ) ، فتجري البراءة في الإناء الموجود بلا محذور.

وأمّا بناء على صياغة المحقّق العراقي لهذا الركن من كون الأطراف غير منجّزة

٣٨٢

بمنجّز سابق على العلم الإجمالي ، فهذا الركن أيضا منهدم ؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس صالحا لتنجيز الإناء غير المقدور على ارتكابه ، إذ معنى المنجّزيّة إدخال الشيء في عهدة المكلّف واشتغال ذمّته به وكونه مسئولا ومطالبا به ، وهذا المعنى لا يمكن تحقّقه هنا ؛ لأنّه لا يمكن دخول الإناء غير المقدور على ارتكابه في الذمّة والعهدة ؛ لأنّه لا يمكن توجيه خطاب شرعي للمكلّف به كما تقدّم ، ومع عدم الخطاب الشرعي لا تكون الذمّة مشتغلة.

وعليه ، فلا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على جميع التقادير ، لأنّه على تقدير ثبوته في الإناء غير المقدور على ارتكابه لا تكليف. نعم ، على تقدير ثبوته في الإناء الموجود أمامه يوجد تكليف ، وحيث إنّه لا يعلم بثبوته فيكون المورد مشكوكا بدوا فتجري فيه البراءة بلا محذور.

بل يمكن القول هنا بناء على مسلك العلّيّة أنّ الركن الأوّل منهدم أيضا ؛ لأنّ العلم بجامع التكليف هو العلم بما يكون دخيلا في العهدة والذمّة ، وحيث إنّ الإناء غير المقدور عليه لا يمكن دخوله في الذمّة والعهدة ، فلا تكليف فيه ، إذن فلا يكون هنالك علم بجامع التكليف ، فيختلّ الركن الأوّل ويبطل العلم الإجمالي من أساسه ، أي أنّه ينحلّ حقيقة لا حكما فقط.

هذا كلّه فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدور.

وأمّا إذا كان خارجا عن محلّ الابتلاء ، فقد ذهب المشهور إلى عدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الحالة ، واستندوا إلى أنّ الدخول في محلّ الابتلاء شرط في التكليف ، فلا علم إجمالي بالتكليف في الحالة المذكورة ، فالعجز العقلي عن ارتكاب الطرف وخروجه عن محلّ الابتلاء يمنعان معا عن تنجيز العلم الإجمالي بملاك واحد عندهم.

الصورة الثانية : الخروج عن محلّ الابتلاء ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين أحدهما أمامه والآخر عند السلطان ، فهنا أيضا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، وأمّا الوجه في ذلك : فقد ذهب المشهور إلى أنّ سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة كالصورة السابقة بسبب اختلال الركن الأوّل ، أي أنّه لا يعلم بجامع التكليف على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّهم يجعلون الدخول في محلّ الابتلاء شرطا في

٣٨٣

التكليف ، فالتكليف مقيّد بكون متعلّقه داخلا في محلّ الابتلاء ، فمع خروجه عن محلّ الابتلاء يسقط التكليف ، فإذا سقط التكليف بلحاظ هذا الطرف يكون التكليف في الطرف الآخر مشكوك الحدوث ، فتجري فيه الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّه شكّ بدوي في التكليف.

فكما يقال في الحالة السابقة بأنّ الاضطرار إلى الفعل والاضطرار إلى الترك وعدم الارتكاب شرطان في التكليف ؛ لاشتراكهما بعنوان غير المقدور والعجز العقلي ، فكذلك يقال في الخروج عن محلّ الابتلاء فإنّه عجز عرفي وغير مقدور عقلائيّا.

فظهر بهذا أنّ هذه العناوين كلّها تمنع من تحقّق أصل العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا علم بالتكليف على كلّ تقدير فيها ، بسبب أنّها مسقطة للتكليف في متعلّقها.

وقد عرفت أنّ التقريب المذكور غير صحيح في العجز العقلي ، فبطلانه في الخروج عن محلّ الابتلاء أوضح.

بل الصحيح أنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطا في التكليف بمعنى الزجر ، فضلا عن المبادئ ، إذ ما دام الفعل ممكن الصدور من الفاعل المختار فالزجر عنه معقول.

والصحيح : أنّ ما ذكره المشهور غير تامّ ؛ لما تقدّم آنفا من أنّ العجز العقلي عن ارتكاب أحد الطرفين لا يوجب سقوط العلم بجامع التكليف بمعنى المبادئ ، وإن كان يوجب سقوط التكليف خطابا ، فعدم سقوط العلم بجامع التكليف بمعنى المبادئ هنا أوضح ؛ لأنّ العجز هنا ليس عقليّا ، بل هو عجز عرفي ، أي أنّ الوصول غير مألوف فقط ، وإلا فالمكلّف قادر على الوصول إلى الطرف عقلا وتكوينا.

بل العلم بجامع التكليف بمعنى الخطاب بالزجر والنهي ممكن هنا أيضا ؛ لأنّ الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطا في التكليف ، إذ الشرط هو القدرة على صدور الفعل من المكلّف القادر عقلا والمختار غير المضطرّ ، وفي مقامنا هذا المكلّف قادر عقلا ومختار على صدور الفعل منه فيكون مخاطبا بالتكليف خطابا وملاكا ، فالركن الأوّل محفوظ.

فإن قيل : ما فائدة هذا الزجر مع أنّ عدم صدوره مضمون لبعده وصعوبته؟

كان الجواب : أنّه يكفي فائدة للزجر تمكين المكلّف من التعبّد بتركه.

٣٨٤

قد يشكل على ما ذكرناه من صحّة توجيه الخطاب بالزجر والنهي فضلا عن ثبوت المبادئ من مفسدة ومبغوضيّة ، بأنّ مثل هذا الخطاب لغو وتحصيل للحاصل ؛ لأنّ المقصود من النهي والزجر إبعاد المكلّف عن الارتكاب وهذا واقع منه لا محالة ؛ لأنّه خارج عن محلّ ابتلائه ولن يتمكّن من الوصول إليه عرفا ، فيكون الخطاب مستهجنا عرفا.

والجواب على ذلك : أنّ فائدة النهي والزجر ليست محصورة في إبعاد المكلّف عن الارتكاب والفعل مطلقا ولو بأي داع ، بل إبعاده عن ذلك بقصد التوصّل إلى الطاعة والقرب من الله عزّ وجلّ ؛ لأنّ الغاية النهائيّة من أفعال وتروك المكلّفين هي كونها موصلة لهم لله عزّ وجلّ ، وهذا يشترط فيه قصد القربة والإطاعة وامتثال الأمر والنهي.

وهنا يمكن للمكلّف بعد صدور خطاب النهي أنّه ينوي القربة لله عزّ وجلّ بالترك وعدم الارتكاب ، سواء كان في مقدوره عرفا الوصول إليه وارتكابه أم كان بعيدا عنه ولا يتمكّن عرفا من ارتكابه.

وبتعبير آخر : يكون الخروج عن محلّ الابتلاء محقّقا لأحد جزأي الفائدة والمقصود والغاية من الخطاب ، وليس محقّقا لتمام المقصود ، أي أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يحقّق الترك ، وأمّا الجزء الآخر وهو قصد القربة فلم يكن محقّقا به ، وإنّما يتحقّق بعد صدور الخطاب بالنهي عن الفعل والارتكاب ؛ لأنّه بهذا الخطاب سوف يعلم بأنّ الترك وعدم الارتكاب مطلوب للمولى عزّ وجلّ.

فالأفضل أن يفسّر عدم تنجيز العلم الإجمالي مع خروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء باختلال الركن الثالث ؛ لأنّ أصل البراءة لا يجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه ؛ لأنّ الأصل العملي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة ، والعقلاء لا يرون تزاحما من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، بل يرون الغرض اللزومي المحتمل مضمونا بحكم الخروج عن محلّ الابتلاء بدون تفريط بالغرض الترخيصي ، فالأصل المؤمّن في الطرف الآخر يجري بلا معارض.

والصحيح في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أن يقال : إنّ الركن الثالث

٣٨٥

منهدم ؛ وذلك لأنّ الأصول الترخيصيّة في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء تجري بلا معارض ؛ لأنّها لا تجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، والوجه في ذلك هو : أنّ الأصل الترخيصي كالبراءة ونحوها حكم ظاهري مجعول في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات اللزوميّة والترخيصيّة ، وهذا يعني أنّه إذا لم يكن هناك تزاحم حفظي بين الملاكات فلا مورد للأصل.

وعليه ، فالطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ليس مشمولا لدليل الأصل رأسا ؛ لأنّه لن يحصل هناك تزاحم حفظي بين الطرف الداخل في محلّ الابتلاء والطرف الخارج عن محلّ الابتلاء.

وأمّا كيف لا يحصل التزاحم الحفظي بينهما؟ فهذا مرجعه إلى نظر العرف والعقلاء ، أي أنّ تشخيص المورد راجع إلى العرف ، فالعقلاء إذا رأوا وجود تزاحم حفظي أجروا الأصل وإذا لم يروا هذا التزاحم موجودا فلا يجرون الأصل.

وفي مقامنا لا يرى العقلاء أنّ هناك تزاحما حفظيّا بين ملاكات اللزوم والترخيص فيما إذا كان أحد الطرفين خارجا عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ خروجه كذلك يعني ضمان الحفاظ على الغرض اللزومي المعلوم إجمالا فيه ، فلا يبقى إلا الغرض الترخيصي المعلوم وجوده ، وهذا ما يضمنه الطرف الداخل في محلّ الابتلاء ، ولذلك يجمع بين الغرضين اللزومي والترخيصي.

أمّا اللزومي ففي الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، وأمّا الترخيصي ففي الطرف الداخل في محلّ الابتلاء ، وهذا يعني جريان الأصل الترخيصي في الطرف الموجود أمامه وعدم جريانه في الطرف الآخر الخارج عن محلّ ابتلائه.

وبتعبير آخر : إنّ جريان الأصول الترخيصيّة مشروطة بدخول الطرف في محلّ الابتلاء ؛ لأنّ خروجه عن محلّ الابتلاء يعني أنّ الملاكات المحتمل وجودها فيه لن تزاحم الملاكات المحتمل وجودها في الطرف الموجود في محلّ الابتلاء.

وأمّا تقديم ملاكات الإلزام على ملاكات الترخيص في موارد العلم الإجمالي ، فهذا فيما إذا كان التزاحم الحفظي بين النحوين من الملاكات يقتضي الحفاظ عليه تفويت الآخر والوقوع في مخالفة الواقع قطعا ، ففي هذه الحالة قلنا : إنّ العقل لا يرى فرقا بين تقديم ملاكات الإلزام أو تقديم ملاكات الترخيص ؛ لأنّ تقديم أي منهما

٣٨٦

سوف يفوّت الآخر حتما ، إلا أنّ العقلاء لا يرون وصول أهمّيّة ملاكات الترخيص إلى هذا المستوى.

بينما يرى العرف أنّه إذا لم يكن هناك تزاحم حفظي بهذه المرتبة ، بل كان من الممكن الجمع بين النحوين من الملاكات من دون محذور ، فإنّه حينئذ لن يرى مانعا من الجمع بينهما وعدم تقديم أحدهما على الآخر ؛ لأنّ تقديم أحدهما على الآخر فيه تفويت للآخر ومخالفته القطعيّة ، بينما الجمع بينهما فيه احتمال المخالفة فقط.

ولذلك إذا كان أحدهما خارجا عن محلّ الابتلاء فلا يرى العرف محذورا في جريان الأصول الترخيصيّة في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء حفاظا على ملاكات الترخيص احتمالا ، حيث إنّ ملاكات الإلزام سوف يكون محافظا عليها احتمالا أيضا ، وذلك في الطرف الآخر الخارج ؛ لأنّه متروك ، فيكون المكلّف قد ضمن الحفاظ على النحوين من الملاكات ، إمّا قطعا وإمّا احتمالا ولكنّه لم يفوّت أحدهما قطعا ، ولم يرتكب المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ التزاحم لم يكن بهذه المرتبة.

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيّات :

إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي تكليفا فعليّا والطرف الآخر تكليفا منوطا بزمان متأخّر سمّي هذا العلم بالعلم الإجمالي بالتدريجيّات.

ومثاله : علم المرأة إجمالا ـ إذا ضاعت عليها أيّام العادة ـ بحرمة المكث في المسجد في بعض الأيّام من الشهر.

وقد استشكل بعض (١) الأصوليّين في تنجيز هذا العلم الإجمالي ، ويستفاد من كلماتهم إمكان تقريب الاستشكال بوجهين :

الحالة التاسعة : العلم الإجمالي بالتدريجيّات :

والمقصود بالبحث هنا أن يكون أحد الطرفين فعليّا من حيث الزمان ، والطرف الآخر استقبالي من حيث الزمان بلحاظ نفس الخطاب وبلحاظ المبادئ أيضا ، بمعنى أنّه يدور الأمر بين تكليف في الآن الفعلي أو تكليف سوف يحدث في الآن الاستقبالي أي بعد انقضاء الآن الفعلي ، وهذا يعني عدم إمكان اجتماع الطرفين.

__________________

(١) منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٣٨٧

مثاله : المرأة التي ضاعت عليها أيّام عادتها ، فإنّها تعلم إجمالا بحرمة المكث في المسجد في بعض أيّام الشهر إجمالا ، إلا أنّ هذه الأيّام يمكن أن تكون هذه الأيّام الآن أو الأيّام الآتية ، فهي تعلم بتكليف إمّا الآن فعلا وإمّا في المستقبل.

أي أنّه على تقدير كون الأيّام هي هذه الأيام فالحرمة فعليّة ، وأمّا على تقدير كونها الأيّام الآتية فالحرمة ليست فعليّة الآن ، ولكنّها سوف تكون فعليّة في المستقبل الآتي ، هذا مع فرض كون الدم يسيل منها أثناء الشهر ، وكون عادتها بالعدد.

والسؤال هنا : هل مثل هذا العلم الإجمالي منجّز أم لا؟

أمّا المشهور فقد استشكل في منجّزيّة مثل هذا العلم الإجمالي بإشكالين :

الأوّل : أنّ الركن الأوّل مختلّ ؛ لأنّ المرأة في بداية الشهر لا علم إجمالي لها بالتكليف الفعلي ؛ لأنّها إمّا حائض فعلا فالتكليف فعلي ، وإمّا ستكون حائضا في منتصف الشهر مثلا فلا تكليف فعلا ، فلا علم بالتكليف فعلا على كلّ تقدير ، وبذلك يختلّ الركن الأوّل.

الإشكال الأوّل : أنّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو العلم بجامع التكليف ، أو العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير غير موجود في مثل المقام ؛ وذلك لأنّ المرأة المذكورة في المثال إذا التفتت إلى حالها في أوّل الشهر فهي لا تعلم إجمالا بجامع التكليف الفعلي على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّها إن كانت حائضا الآن فالتكليف فعلي بشأنها ، ويحرم عليها المكث في المسجد من الآن ، وإن لم تكن حائضا الآن فلا تكليف عليها ولا حرمة ، بل الحرمة سوف تحدث فيما بعد أي في الأيّام اللاحقة ، وحيث إنّه في كلّ يوم من أيّام الشهر سوف يجري هذا الكلام في حقّها فهي لن تعلم بالحرمة وبالتكليف إلا بعد انتهاء الشهر ، ومثل هذا العلم غير منجّز.

والحاصل : أنّه في بداية الشهر لن يتكوّن لها علم إجمالي بجامع التكليف الفعلي على كلّ تقدير ، وإنّما على بعض التقادير ، وحيث إنّ هذا البعض غير معلوم فتجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

الثاني : أنّ الركن الثالث مختلّ ، أمّا اختلاله بصيغته الأولى فتقريبه : أنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل حرمة المكث فعلا ، وتحتمل حرمة المكث في منتصف الشهر

٣٨٨

مثلا ، ولمّا كانت الحرمة الأولى محتملة فعلا ومشكوكة فهي مورد للأصل المؤمّن ، وأمّا الحرمة الثانية فهي وإن كانت مشكوكة ولكنّها ليست موردا للأصل المؤمّن فعلا في بداية الشهر ، إذ لا يحتمل وجود الحرمة الثانية في أوّل الشهر ، وإنّما يحتمل وجودها في منتصفه فلا تقع موردا للأصل المؤمّن إلا في منتصف الشهر ، وهذا يعني أنّ المرأة في بداية الشهر تجد الأصل المؤمّن عن حرمة المكث فعلا جاريا بلا معارض ، وهو معنى عدم التنجيز.

وأمّا اختلاله بصيغته الثانية فلأنّ الحرمة المتأخّرة لا تصلح أن تكون منجّزة في بداية الشهر ؛ لأنّ تنجيز كلّ تكليف فرع ثبوته وفعليّته ، ففي بداية الشهر لا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير.

الإشكال الثاني : أنّ الركن الثالث من أركان المنجّزيّة منهدم بكلتا صيغتيه :

أمّا انهدامه بحسب صياغة المشهور فلأنّ الأصول الترخيصيّة تجري في الطرف الآتي دون الطرف الاستقبالي ؛ وذلك لأنّ المرأة في بداية الشهر تحتمل ثبوت التكليف الآن إذا كانت حائض ، ولكنّها لا تعلم بثبوته فعلا بل هو مشكوك ، ولذلك تجري فيه الأصول الترخيصيّة ، وهذه الأصول لا معارض لها ؛ لأنّ ما يتصوّر كونه معارضا لها هو الأصول الترخيصيّة في الطرف الاستقبالي أي في الأيّام القادمة ، إلا أنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري من الآن في ذلك الطرف ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة غايتها والمقصود منها إثبات التأمين والسعة ، والآن لا يوجد شكّ في الحرمة الآتية بل هي مقطوعة العدم الآن ، فلا مورد لجريان الأصول من الآن إذ لا موضوع لها ولا أثر لجريانها ؛ لأنّها تثبت شيئا حاصلا.

نعم ، عند حلول الطرف الآخر سوف تحتمل المرأة ثبوت الحرمة فعلا ، فتجري فيها الأصول الترخيصيّة ، ولا معارض لهذه الأصول في طرف جريانها ؛ لأنّ الطرف الذي قبلها قد انتهى وسقطت معه الأصول الترخيصيّة ، والطرف الآخر لم يأت زمانه بعد فلا حرمة فيه الآن لتجري الأصول الترخيصيّة فيها من الآن وإنّما موردها منوط في ظرف ثبوت التكليف.

والحاصل : أنّ هذه المرأة في بداية الشهر يمكن في حقّها جريان الأصول الترخيصيّة بلحاظ الطرف الأوّل ، أي احتمال الحرمة في هذا اليوم فعلا ، وأمّا بلحاظ الطرف

٣٨٩

الآخر أي الحرمة في الأيّام اللاحقة فلا يمكن جريان الأصول الترخيصيّة فيها ؛ لأنّه لا مورد ولا موضوع للأصل بلحاظها ؛ لأنّ الأصل إنّما يجري بلحاظ التأمين عن حرمة محتملة الثبوت ، والآن فعلا لا يحتمل ثبوت الحرمة اللاحقة وإنّما يحتمل ثبوتها فيما بعد ، ولذلك تجري الأصول في هذا الطرف بلا معارض ، وهكذا تفعل في كلّ يوم من أيّام الشهر ، فتكون النتيجة عدم منجّزيّة هذا العلم الإجمالي.

وأمّا انهدامه بحسب صياغة المحقّق العراقي ، فلأنّ العلم الإجمالي لا يصلح لتنجيز معلومه فعلا على كلّ تقدير.

والوجه في ذلك : أنّه في بداية الشهر يحتمل ثبوت الحرمة والتكليف فهذا طرف ، وفي غيره من الأيّام يحتمل ثبوت الحرمة والتكليف وهذا طرف آخر ، وعليه فالمرأة من أوّل الشهر تعلم إمّا بثبوت التكليف في هذا الطرف أي في بداية الشهر ، وإمّا بثبوته في الطرف الآخر أي في آخر الشهر أو وسطه مثلا.

ولكن إذا كان المعلوم في الطرف الأوّل فهو منجّز فعلا فيكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على هذا التقدير ، وأمّا إذا كان المعلوم في الطرف الآخر فهو غير منجّز فعلا فلا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على هذا التقدير.

وعليه ، فيكون العلم الإجمالي دائرا بين تكليفين أحدهما ثابت فعلا والآخر غير ثابت فعلا ، ولذلك لا يكون منجّزا لمعلومه فعلا على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير ، أي على تقدير كون المعلوم في بداية الشهر لا في وسطه أو آخره ؛ لأنّه في هذه الحالة لا يكون صالحا لتنجيزه فعلا ؛ لأنّ ثبوت التكليف فرع فعليّته ، والتكليف ليس فعليّا الآن لو كان المعلوم ثابتا في آخر الشهر أو وسطه ؛ لأنّ الفعليّة فرع تحقّق القيود والشروط ومنها مجيء الزمان فإنّه قيد.

ولذلك سوف تجري الأصول في بداية الشهر بلا محذور ، وهكذا في كلّ يوم من أيّام الشهر.

والصحيح : أنّ الركن الأوّل والثالث كلاهما محفوظان في المقام.

أمّا الركن الأوّل فلأنّ المقصود بالفعليّة في قولنا : ( العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ) ليس وجود التكليف في هذا الآن ، بل وجوده فعلا في عمود الزمان ؛ احترازا عمّا إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر ، فإنّه في مثل

٣٩٠

ذلك لا علم بتكليف فعليّ ولو في عمود الزمان ، فالجامع بين تكليف في هذا الآن وتكليف يصبح فعليّا في آن متأخّر لا يقصر ـ عقلا ـ وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن ؛ لأنّ مولويّة المولى لا تختصّ بهذا الآن كما هو واضح.

والصحيح أنّ هذا العلم الإجمالي منجّز لتماميّة أركانه وعدم اختلال شيء منها لا الأوّل ولا الثالث.

أمّا الركن الأوّل فهو موجود في مقامنا ؛ وذلك لأنّ المقصود من الركن الأوّل أي العلم بجامع التكليف الفعلي هو أن يكون هناك تكليف معلوم إجمالا في عمود الزمان ، لا في خصوص هذا الآن من الزمان ليشكل بأنّه في هذا الآن لا علم بالتكليف على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير.

بل المقصود أن يكون هناك تكليف معلوم أو موضوع بتمامه معلوم كذلك ، في مقابل ما إذا لم يكن التكليف معلوما ، وفي مقابل ما إذا كان المعلوم جزء الموضوع لا تمامه ، فإنّه في هذه الحالة لن يكون هناك علم إجمالي بالتكليف الفعلي ؛ لأنّ العلم بجزء الموضوع لا يكفي لثبوت التكليف ما دام الجزء الآخر من موضوعه مجهولا وغير معلوم.

فإذا علم بنجاسة الثوب أو قطعة الحديد فلا علم تكليفي فعلي على كلّ تقدير ؛ لأنّه على تقدير نجاسة الحديدة فلا تكليف فعلا ؛ لأنّها جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو ملاقاة اليد الرطبة لهذه الحديدة.

وأمّا في مقامنا فالتكليف فعلي ، بمعنى أنّ المعلوم إجمالا هو تمام الموضوع للتكليف لا جزؤه فقط ، فالمرأة التي يسيل منها الدم هي نفسها الموجودة في بداية الشهر وفي وسطه وفي آخره ، وهذا الدم هو نفسه مستمرّ من بداية الشهر إلى آخره ، غاية الأمر أنّها تعلم بكون بعض هذا الدم حيضا لا كلّه ، إلا أنّ هذه الأيّام غير مشخّصة فقط ، ولذلك فالتكليف بحرمة المكث في المسجد واحدة في جميع أيّام الشهر ، بمعنى أنّ كلّ يوم يحتمل فيه ثبوت التكليف والحرمة فعلا لكون المعلوم تمام الموضوع لا جزأه ، فالفعليّة بهذا المعنى متحقّقة في مقامنا ، وهي المقصودة من الركن الأوّل لا أكثر.

وعليه ، فكما أنّ العلم الإجمالي بجامع التكليف الفعلي في الآن الواحد من الزمان

٣٩١

منجّز ، فكذلك العلم الإجمالي بجامع التكليف الفعلي في هذا الآن أو في الآن اللاحق منجّز أيضا ، ولا فرق بينهما عقلا في المنجّزيّة ؛ لأنّ العلم فيهما على حدّ واحد ، ووصوله فيهما على نسق واحد أيضا.

إذن الملاك الذي من أجله كان العلم الإجمالي منجّزا موجود فيهما أيضا وهو حقّ الطاعة ، فإنّ حقّ الطاعة يشمل كلّ تكليف وكلّ انكشاف للتكليف سواء كان في هذا الآن أم في الآن الآخر ، بمعنى أنّ حقّ الطاعة ومولويّة المولى لا تختصّ بالتكليف في هذا الآن ، بل تشمل التكليف الثابت في الآن الآتي أيضا ، إذ لا دليل على هذا الاختصاص بعد أن كان حقّ الطاعة عامّا وشاملا لكلّ احتمال وانكشاف للتكليف.

وبهذا يظهر أنّ الركن الأوّل تامّ ؛ لأنّ هذه المرأة تعلم بجامع التكليف الفعلي الدائر بين هذا الآن أو الآن اللاحق ، فهو فعلي على كلّ التقديرين ؛ لأنّ تمام القيود والشروط وأجزاء الموضوع تامة في التقديرين ، غاية الأمر الفرق بينهما من جهة الزمان فقط ، فأحدهما متقدّم والآخر متأخّر ، وهذا لا يؤثّر في الفعليّة بلحاظ عمود الزمان ككلّ واحد.

وأمّا الركن الثالث بصيغته الأولى فلأنّ الأصل المؤمّن الذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي معارض بالأصل الجاري في الطرف الآخر المتأخّر في ظرفه ؛ إذ ليس التعارض بين أصلين من قبيل التضادّ بين لونين يشترط في حصوله وحدة الزمان ، بل مردّه إلى العلم بعدم إمكان شمول دليل الأصل لكلّ من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زمانا ، وحيث لا مرجّح للأخذ بدليل الأصل في طرف دون طرف فيتعارض الأصلان.

وأمّا الصيغة الثانية للركن الثالث فلأنّ المقصود من كون العلم الإجمالي صالحا لمنجّزيّة معلومه على كلّ تقدير ، كونه صالحا لذلك ولو على امتداد الزمان لا في خصوص هذا الآن.

وأمّا الركن الثالث فهو محفوظ أيضا بكلتا صيغتيه :

أمّا بناء على صياغة المشهور ، فلأنّ الأصل الترخيصي يجري في كلّ الأطراف الآنيّة والاستقباليّة على حدّ واحد ، وجريانه كذلك يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة

٣٩٢

القطعيّة للمعلوم إجمالا ، ولذلك يقع التعارض بين الأصول لعدم إمكان الأخذ بها جميعا ، ولعدم إمكان ترجيح بعضها على بعض من دون مرجّح.

وما قيل من أنّ الأصل الترخيصي الجاري في الطرف الفعلي لا يعارض الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ـ لأنّه ليس فعليّا الآن في ظرف جريان الأصل الأوّل ـ غير تامّ ؛ لأنّه مبني على ملاحظة التعارض بين الأصلين بلحاظ نفس الآن الزماني ، مع أنّ التعارض بين الأصلين لا يقصد به ذلك.

بل المراد من التعارض بين الأصلين أنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، وهذا مصطلح للتعارض في باب الأصول يختلف عن مصطلح التعارض في باب المنطق والفلسفة ، فهناك يراد بالتعارض أنّه لا يمكن اجتماع شيئين على موضوع واحد من جهة واحدة في زمان واحد كالسواد والبياض ، والعلم والجهل ، والموت والحياة ، ولذلك يشترط ملاحظة الآن الزماني وكونه واحدا ليحصل التعارض.

وأمّا هنا فالمراد من التعارض بين الأصلين العمليّين الترخيصيّين أنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ، ولا يمكن للدليل أن يشمل كلا الموردين معا ، سواء كانا في زمان واحد أم كان أحدهما متقدّما والآخر متأخّرا ؛ لأنّ عدم الإمكان واستحالة شمول الدليل لهما لا يفرّق فيها بين أنحاء وجودهما وزمانهما.

فإذا كان دليل البراءة مثلا غير شامل للطرف الآني والطرف الاستقبالي لاستلزامه المخالفة القطعيّة ، فلا يضرّ في ذلك كون أحدهما فعليّا والآخر منوطا بزمان مستقبل ؛ لأنّ الملاك موجود على كلّ تقدير.

وحينئذ لا يشترط وحدة الآن الزماني في الأصلين ، بل المناط على أنّه هل يشملهما الدليل أم لا؟ والمفروض أنّ شموله لهما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، فلا يشملهما إذن.

وعليه ، فيجري الأصل في هذا الطرف الآني الفعلي ، ويتعارض مع الأصل الجاري في الطرف الاستقبالي والذي يكون فعليّا بمجيء زمانه ، ومقتضى التعارض التساقط ، فيكون العلم منجّزا للطرفين.

وأمّا بناء على صياغة المحقّق العراقي فلأنّ المقصود من الركن الثالث عنده ـ والذي

٣٩٣

مفاده أن يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ـ هو أن يكون العلم قادرا على تنجيز المعلوم في الطرفين بلحاظ عمود الزمان ، ولا يشترط أن يكون منجّزا لمعلومه في الطرفين بلحاظ نفس الآن الزماني.

وعليه ، ففي مقامنا يكون العلم الإجمالي بوجود أيّام حيض ضمن أيّام الشهر صالحا لتنجيز الأيّام في بداية الشهر وفي وسطه وفي آخره ، كلّ طرف منها بحسب خصوصيّاته الزمانيّة ، فهو ينجّز الجميع من الآن ، غاية الأمر أنّ هذا الطرف زمانه الآن وذاك زمانه وسط الشهر والآخر زمانه آخر الشهر ، فالزمان ليس قيدا لمنجّزيّة العلم بل هو شرط لفعليّة المنجّز ، وهذا يفترض كون الشيء منجّزا قبل مجيء زمانه ، ومنجّزه هنا ليس إلا العلم الإجمالي.

والحاصل : أنّه على تقدير كون الأيّام الأولى هي الحيض فالحرمة ثابتة ، وعلى تقدير كون الأيّام في الوسط أو في الآخر هي الحيض فالتكليف ثابت ، فالعلم الإجمالي بوجود أيّام حيض صالح لتنجيز معلومه على جميع التقادير فيجب الاجتناب عن الجميع.

وهكذا يتّضح أنّ الشبهات التي حامت حول تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات موهونة جدّا ، غير أنّ جماعة من الأصوليّين وقعوا تحت تأثيرها ، فذهب بعضهم (١) إلى عدم التنجيز ورخّص في ارتكاب الطرف الفعلي ما دام الطرف الآخر متأخّرا.

وبهذا ظهر أنّ الإشكالين المذكورين لمنع منجّزيّة العلم الإجمالي وسقوطه رأسا أو عن المنجّزيّة لا يتمّ شيء منهما ، فالصحيح أنّ العلم الإجمالي في التدريجيّات منجّز للطرف الآني الفعلي وللاستقبالي المتأخّر زمانا.

إلا أنّ بعض الأصوليين تأثّروا بهذه الشبهات والإشكالات ، ممّا أدّى بهم الأمر إلى إنكار وجود علم إجمالي أصلا أو إلى سقوطه عن المنجّزيّة ، وبالتالي جوّزوا ارتكاب الطرفين الفعلي الآني والطرف الآخر حين حلول زمانه ، وهذا ما حصل للشيخ الأنصاري مثلا في خصوص المقام ، وكذلك صاحب ( الكفاية ) الذي ذهب إلى عدم المنجّزيّة مطلقا لا في خصوص المرأة الحائض.

__________________

(١) منهم الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

٣٩٤

وذهب البعض الآخر إلى عدم الترخيص بإبراز علم إجمالي بالجامع بين طرفين فعليّين ، كالمحقّق العراقي (١) ، إذ أجاب على شبهات عدم التنجيز بوجود علم إجمالي آخر غير تدريجي الأطراف.

وتوضيحه : أنّ التكليف إذا كان في القطعة الزمانيّة المعاصرة فهو تكليف فعلي ، وإذا كان في قطعة زمانيّة متأخّرة فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلي ؛ لما يعرف من مسألة وجوب المقدّمات المفوّتة من عدم جواز تضييع الإنسان لقدرته قبل مجيء ظرف الواجب ، وهكذا يعلم إجمالا بالجامع بين تكليفين فعليّين فيكون منجّزا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي ذهب إلى التنجيز في المقام من باب آخر ، أي أنّه اعترف بأنّ نفس هذا العلم الإجمالي الدائر بين طرفين أحدهما فعلي والآخر استقبالي لا يكون منجّزا ؛ لما تقدّم من الإشكالين.

إلا أنّه أبرز هنا وجود علم إجمالي آخر دائر بين طرفين يكون التكليف فيهما فعليّا ، ويكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه فيه على كلا التقديرين.

وحاصله أن يقال : إنّ المرأة المذكورة في المثال في بداية الشهر تعلم إمّا بثبوت التكليف فعلا ؛ بأن كانت هذه الأيّام هي أيّام العادة ، وإمّا بوجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الثابت في الأيّام الأخرى على تقدير كون أيّام العادة في تلك الأيّام لا هذه ، ووجوب حفظ القدرة وجوب نفسي فعلي ، فيكون العلم دائرا بين تكليفين فعليّين أحدهما حرمة المكث في المسجد فعلا على تقدير كون هذه الأيّام هي أيّام الحيض ، والآخر وجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي على تقدير كون الأيّام الآتية هي أيّام العادة ، وهذا العلم منجّز إذ العلم بجامع التكليف موجود ، وهذا العلم قادر على تنجيز معلومه على كلّ تقدير.

وهذا مبني على المبنى القائل بوجوب المقدّمة المفوّتة ولزوم حفظ القدرة وعدم التعجيز إلى حين مجيء زمان الواجب ، كالسفر للوقوف في عرفة ، وكالاغتسال من الجنابة قبل الفجر لصحّة الصوم.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٣٩٥

ونلاحظ على هذا :

أوّلا : أنّ التنجيز ليس بحاجة إلى إبراز هذا العلم الإجمالي ؛ لما عرفت من تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات.

ويلاحظ على هذا التقريب ثلاثة أمور :

الأوّل : أنّ هذا العلم الإجمالي لا حاجة له مع كون العلم الإجمالي السابق الدائر بين التكليفين الفعلي والاستقبالي منجّزا للطرفين لتماميّة أركانه الأربعة ، وعدم صحّة شيء من الإشكالات الواردة عليه كما تقدّم سابقا ، فيكون هذا العلم منجّزا لما هو منجّز وتحصيلا للحاصل.

هذا على فرض التسليم بوجود مثل هذا العلم الإجمالي وعلى فرض كونه منجّزا لأطرافه.

وثانيا : أنّ وجوب حفظ القدرة إنّما هو بحكم العقل كما تقدّم في مباحث المقدّمة المفوّتة ، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليف فرع تنجّز ذلك التكليف ، فلا بدّ في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجّز للتكليف الآخر ، ولا منجّز له كذلك إلا العلم الإجمالي في التدريجيّات.

الإيراد الثاني : أنّ وجوب حفظ القدرة من أجل امتثال التكليف حكم عقلي لا شرعي ، بمعنى أنّ العقل يحكم بذلك فيما إذا كان هناك تكليف واجب الامتثال والإطاعة ، وأمّا إذا لم يكن لدينا تكليف ثابت وواجب الإطاعة فلا يحكم العقل بوجوب حفظ القدرة له.

فمثلا وجوب السفر إلى مكّة والذي هو مقدّمة لحفظ القدرة الواجبة من أجل الوقوف في عرفة في زمانه المعيّن ، إنّما يحكم به العقل بعد اشتغال ذمّة المكلّف بالحجّ ، وكونه مستطيعا لذلك ، وأمّا إذا لم تشتغل ذمّته بذلك فلا معنى لحكم العقل المذكور.

ووجوب الاغتسال قبل الفجر إنّما يجب من باب وجوب حفظ القدرة لأجل اشتغال الذمّة بالصوم ، وأمّا إذا لم تشتغل الذمّة بالصوم كالمسافر والمريض فلا يجب عليهما الاغتسال.

وعلى هذا ففي مقامنا وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف الذي سوف

٣٩٦

يحدث فيما بعد فرع كون هذا التكليف ثابتا وفعليّا ومنجّزا على المكلّف ، إذ لو لم يكن منجّزا فلا معنى لحكم العقل بوجوب حفظ القدرة على امتثاله.

وهذا يعني أنّه في المرتبة السابقة على حكم العقل المذكور لا بدّ أن يكون التكليف الاستقبالي منجّزا ، وحينئذ نسأل عن المنجّز لهذا التكليف.

والجواب واضح : وهو أنّه لا يوجد منجّز لهذا التكليف إلا العلم الإجمالي السابق الدائر بين التكليفين الفعلي والاستقبالي ، فإن كان هو المنجّز كفى ذلك عن العلم الإجمالي الجديد ، إذ لا فائدة له ؛ لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو لغو ، وإن لم يكن هو المنجّز كان التكليف الاستقبالي غير منجّز على المكلّف ، إذن فما هو الداعي لوجوب حفظ القدرة على امثاله ما دام غير منجّز؟!

والحاصل : أنّه إن كان هناك تكليف منجّز كان وجوب حفظ القدرة ثابتا ، وإن لم يكن التكليف منجّزا لم يكن وجوب حفظ القدرة ثابتا ، فعلى الأوّل يكفي المنجّز السابق وهو العلم الإجمالي بين التكليفين الفعلي والاستقبالي ، وعلى الثاني لا داعي للعلم الإجمالي اللاحق إذ لا أثر له.

وثالثا : أنّ المنجّز إذا كان هو العلم الإجمالي بالجامع بين التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة لامتثال التكليف المتأخّر ، فهو لا يفرض سوى عدم تفويت القدرة ، وأمّا تفويت ما يكلّف به في ظرفه المتأخّر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الإجمالي ، وإنّما يتعيّن تنجّز المنع عنه بنفس العلم الإجمالي في التدريجيّات ، وهو إن كان منجّزا لذلك ثبت تنجيزه لكلا طرفيه.

الإيراد الثالث : أنّ العلم الإجمالي المذكور لو سلّم فهو إنّما ينجّز طرفيه فقط ، وهما وجوب التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة ، بينما المطلوب لنا تنجيز التكليف الفعلي والتكليف الاستقبالي أيضا ، ولذلك لم يكن هذا العلم الإجمالي مفيدا ؛ لأنّه لا يحقّق الغرض المطلوب.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي المذكور ينجّز لنا حرمة المكث في المسجد فعلا ووجوب حفظ القدرة للتكليف الاستقبالي ، وأمّا نفس التكليف الاستقبالي فهو ليس منجّزا بنفس هذا العلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس طرفا له ؛ لأنّ طرفه هو وجوب حفظ القدرة ، ولذلك إمّا أن يكون منجّزا أو ليس منجّزا ، فإن لم يكن منجّزا فلا يفيدنا

٣٩٧

وجوب حفظ القدرة حتّى على القول بوجوبها في هذا الفرض ؛ لأنّه يجوز للمكلّف عدم امتثاله ؛ إذ ذمّته بحسب الفرض ليست مشتغلة به ، وإن كان منجّزا فنسأل عمّا هو المنجّز له؟

والجواب : أنّه لا منجّز له إلا العلم الإجمالي بالتدريجيّات ؛ إذ لا يوجد غيره بعد عدم كون العلم الإجمالي الجديد منجّزا له.

وحينئذ لا داعي لهذا العلم الجديد ما دام التكليف الاستقبالي قد تنجّز بنفس العلم الإجمالي السابق ؛ لأنّه لن يكون له فائدة ولا أثر.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي بالتدريجيّات منجّز لطرفيه (١).

١٠ ـ الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي :

قد يكون الطرفان للعلم الإجمالي طوليّين ، بأن كان أحد التكليفين مترتّبا على عدم الآخر ، من قبيل أن نفرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب وفاء الدين ، وعلم إجمالا بأحد الأمرين. وهذا له صورتان :

الأولى : أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على مطلق التأمين عن وجوب وفاء الدين ولو بالأصل.

الثانية : أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا.

الحالة العاشرة : الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي.

إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي في طول الآخر ، أي مترتّب على عدم الآخر ، فهذا العلم الإجمالي يكون دائرا بين تكليفين طوليّين لا عرضيّين.

فمثلا إذا علم بنجاسة أحد الإناءين كان كلّ منهما في عرض الآخر وثابتا على

__________________

(١) إلا أنّ هذا الردّ يمكن الإجابة عنه ؛ وذلك لأنّ وجوب حفظ القدرة معناه عدم جواز الإتيان بالمقدّمات التي تؤدّي إلى تفويت الامتثال ، وهذا لازمه أنّ المرأة ممنوعة عن إيجاد أي عمل من هذا القبيل ، فحين مجيء زمان التكليف ويصبح فعليّا في وقته تكون ممنوعة لا عن مخالفته ابتداء ليقال : ما هو المنجّز لذلك؟ بل تكون ممنوعة عن إيجاد سائر المقدّمات المؤدّية إلى ذلك بحكم وجوب حفظ القدرة.

فالصحيح في الإشكال هو ما تقدّم ثانيا ؛ لأنّ الأوّل مبني على عدم تماميّة شيء من الإشكالات ، وفرض الكلام هنا بعد التسليم بتماميّتها.

٣٩٨

فرض ثبوت الآخر ، وعلى فرض عدمه ، وهذا هو العلم الإجمالي الدائر بين تكليفين عرضيّين.

وأمّا إذا علم إمّا بوجوب الحجّ وإمّا بوجوب الوفاء بالدين ، فمثل هذا العلم الإجمالي دائر بين تكليفين طوليّين ؛ وذلك لأنّ وجوب الحجّ مختصّ بالمستطيع ومن شروط الاستطاعة ألاّ يكون مدينا بدين حالّ ومستحقّ المطالبة به ، فإذا حصل له مال يفي بالاستطاعة فسوف يكون وجوب الحجّ فعليّا عليه ، ولكن نفرض هنا أنّ عليه دينا بهذا المقدار من المال وهو حالّ ويستحق المطالبة به ، وحيث إنّه لا يعلم بثبوت الدين قطعا ولا بعدمه فهو سوف يحتمل وجوب الحجّ وعدمه أيضا ، ولذلك يتكوّن لديه علم إجمالي إمّا بوجوب الوفاء بالدين فعلا لو كان مدينا ، وإمّا بوجوب الحجّ فعلا لو لم يكن مدينا والمفروض أنّ وجوب الحجّ في طول الوفاء بالدين ثبوتا ونفيا.

فهل مثل هذا العلم الإجمالي منجّز أيضا أم لا؟

والجواب : أنّه يوجد لدينا صورتان لطوليّة وجوب الحجّ على وجوب الوفاء بالدين :

الصورة الأولى : أن يكون وجوب الحجّ في طول التأمين عن وجوب وفاء الدين ، أي أنّه إذا ثبت عدم وجوب الوفاء بالدين بأي نحو من الأنحاء سواء بالأصل العملي أم بالأمارة أم بالقطع ، فسوف يثبت وجوب الحجّ ، فيكون وجوب الحجّ مترتّبا على مطلق التأمين عن وجوب الوفاء بالدين الأعمّ من التأمين الواقعي أو التأمين الظاهري الثابت بالأمارة أو الأصل.

الصورة الثانية : أن يكون وجوب الحجّ في طول انتفاء وجوب الوفاء بالدين واقعا ، أي أنّه في طول القطع بعدم وجوب الوفاء بالدين ، فلا تكفي الأمارة أو الأصل ومطلق التأمين ، بل لا بدّ من التأمين الواقعي الملازم للقطع بعدم وجوب الوفاء بالدين.

أمّا الصورة الأولى : فليس العلم الإجمالي منجّزا فيها بلا ريب ؛ لانهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل المؤمّن عن وجوب وفاء الدين يجري ولا يعارضه الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ وجوب الحجّ يصبح معلوما بمجرّد إجراء البراءة عن وجوب الوفاء ، فلا موضوع للأصل فيه.

أمّا الصورة الأولى : وهي أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا وفي طول التأمين عن وجوب وفاء الدين بأي نحو من أنحاء التأمين الأعمّ من الواقعي والظاهري ، فهنا لا

٣٩٩

يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ وذلك لانهدام الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة الجارية عن وجوب وفاء الدين لن تتعارض مع الأصول الترخيصيّة عن وجوب الحجّ ؛ لأنّها لا مورد لجريانها للتأمين عن وجوب الحجّ أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّه إذا جرى الأصل الترخيصي عن وجوب وفاء الدين سوف يثبت لنا التأمين الظاهري من ناحية وجوب الوفاء بالدين ، وحينئذ سوف يتنقّح موضوع وجوب الحجّ ؛ لأنّه مركّب من الاستطاعة وهي حاصلة وجدانا ، ومن عدم وجوب الدين وهو حاصل تعبّدا ، فإذا ثبت الموضوع صار وجوب الحجّ معلوما ومقطوعا به ، ولا شكّ فيه لكي يجري الأصل الترخيصي للتأمين عنه ؛ إذ لا مورد ولا موضوع للأصل ؛ لأنّ المورد مورد العلم لا الشكّ.

وبهذا يتّضح أنّ الأصول تجري بلا معارض للتأمين عن وجوب وفاء الدين فلا يجب الوفاء به ، وإنّما يجب الحجّ فعلا ، وهذا معناه الانحلال الحقيقي وسريان العلم من الجامع إلى الفرد ؛ لأنّ الأصل يحقّق الموضوع وجدانا.

ولا يقال : لما ذا لا تجري الأصل الترخيصي عن وجوب الحجّ أوّلا؟ فإنّ جريانه يتعارض مع جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بالدين ، ومقتضى التعارض التساقط وبقاء المنجّزيّة.

لأنّه يقال : إنّ الأصل الترخيصي عن وجوب الحجّ لا أثر شرعي له ؛ لأنّ الأصل إنّما يجري للتأمين عن التكليف الثابت والمنجّز ، والمفروض أنّ وجوب الحجّ ليس ثابتا إلا بعد انتفاء وجوب الوفاء بالدين ، وهذا الوجوب لا يمكن نفيه بالأصل الجاري في وجوب الحجّ ؛ لأنّه متقدّم على وجوب الحجّ ومطلق من ناحيته ، ولذلك لا يكون للأصل مورد بلحاظه.

فإن قيل : هذا يتمّ بناء على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، واستناد عدم جريان الأصل في بعض الأطراف إلى التعارض. فما هو الموقف بناء على علّيّة العلم الإجمالي واستحالة جريان الأصل المؤمّن في بعض الأطراف ولو لم يكن له معارض؟

قد يقال : إنّ عدم منجّزيّة العلم الإجمالي وانهدام الركن الثالث إنّما يتمّ بناء على مسلك المشهور القائل باقتضاء العلم الإجمالي لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ، فإنّه

٤٠٠