شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

وهذا التعارض لا بدّ من حلّه وفقا لقوانين التعارض التي سوف تأتي.

والصحيح في حلّ التعارض هو تقديم دليل الأمارة وطرح دليل الأصل ، لا للحكومة ولا لكونها علما ، وإنّما لأجل أنّ دليل الأمارة نصّ في مورده بينما دليل الأصل يشمل المورد المذكور بإطلاقه ، فيكون دليل الأمارة أخصّ نصّا بينما دليل الأصل عامّ ومطلق ، وفي مثل ذلك يحكم العرف بتقديم الدليل الأخصّ والذي يكون نصّا في مورده ويرفع اليد عن إطلاق دليل الأصل في هذا المورد.

فتكون النتيجة تقديم الأمارة وبالتالي تكون منجّزة للجامع والذي بدوره يتطلّب الاجتناب عن كلا الإناءين.

فإن قيل : أليس دليل حجّيّة الأمارة حاكما على دليل الأصل؟

كان الجواب : أنّ هذه الحكومة إنّما هي فيما إذا اتّحد موردهما ، لا في مثل المقام ، إذ تلغي الأمارة تعبّدا الشكّ بلحاظ الجامع ، وموضوع الأصل في كلّ من الطرفين الشكّ فيه بالخصوص فلا حكومة ، بل لا بدّ من الاستناد إلى ميزان آخر لتقديم دليل الحجّيّة على دليل الأصل من قبيل الأخصّيّة أو نحو ذلك ، وبعد افتراض التقديم نرتّب عليه آثار العلم الإجمالي.

وهنا قد يقال : إنّ التعارض بين دليل حجّيّة الأمارة ودليل الأصل من التعارض غير المستقرّ ؛ لأنّ دليل حجّيّة الأمارة حيث إنّ مفاد الحجّيّة جعل العمليّة فهو يرفع موضوع الأصل والذي هو الشكّ فيكون حاكما عليه ، ومن الواضح أنّ الدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم.

إلا أنّ الصحيح : أنّه لا حكومة بين دليل حجّيّة الأمارة وبين دليل الأصل ؛ لأنّه يشترط في الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم ، والنظر لا يتحقّق إلا إذا كان موضوعهما واحدا ، كما في قوله ، ( لا ربا بين الوالد والولد ) ، فإنّه حاكم على أدلّة حرمة الربا ؛ لأنّه شامل بعمومه وإطلاقه للربا بين الوالد والولد ، فيكون الدليل الأوّل حاكما ؛ لأنّه ناظر إلى موضوع الآخر على أساس وحدة الموضوع بينهما.

وهنا الموضوع مختلف ، فإنّ موضوع الأمارة هو الجامع ، أي أنّها تفيد التعبّد بإلغاء الشكّ عن الجامع فقط ؛ لأنّ هذا هو المقدار الذي قامت عليه الأمارة لا أكثر ، فيخرج

٢٨١

الجامع عن كونه مشكوكا ، فلا تجري الأصول الترخيصيّة بلحاظ الجامع ، بينما موضوع الأصل هو كلّ طرف بخصوصه ؛ لأنّ كلّ واحد من الإناءين في نفسه مشكوك ، إذ لا يعلم بأنّه النجس فيكون مشمولا للأصل بلحاظ كونه مشكوكا لا بلحاظ كونه مصداقا للجامع الذي ارتفع الشكّ بلحاظ.

وحيث إنّه لم يتّحد الموضوع فيهما فلا يكون أحدهما حاكما على الآخر ، إذ لا يحرز النظر حينئذ ، بل يمكن الأخذ بكلا الدليلين لو لا وجود مرجّح آخر.

فلو قطعنا النظر عن وجود المرجّح كانت البيّنة منجّزة للجامع ، وهذا يستلزم حرمة المخالفة القطعيّة بارتكاب كلا الإناءين ، ولكنّه لا يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ الجامع يتحقّق بفرد واحد فقط ، ويكون دليل الأصل شاملا لكلّ من الفردين في نفسه ولكن لا يشمله بلحاظ كونه مصداقا للجامع ، أي أنّه يوجد مانع عرضي لا ذاتي.

إلا أنّه هنا يوجد ميزان آخر للترجيح وهو الأخصّيّة والأنصّيّة للأمارة في موردها فتقدّم على دليل الأصل المطلق أو العامّ ؛ لأنّه يشمل المورد بإطلاقه وعمومه ، وهنا يلغى دليل الأصل في هذا المورد لتقديم النصّ والأخصّ عليه.

كما هو الحال في كلّ دليلين أحدهما عامّ أو مطلق والآخر خاصّ أو مقيّد ، كقولنا : ( أكرم العالم ولا تكرم الفاسق ).

وبعد تقديم دليل حجّيّة الأمارة سوف تترتّب آثار العلم الإجمالي من حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة بالتقريب الصحيح المتقدّم سابقا.

وأمّا في الحالة الثانية : فالأصل ساقط في مورد الأمارة ؛ للتنافي بينهما وحكومة الأمارة عليه.

ولمّا كان موردها غير معيّن ومرددا بين طرفين فلا يمكن إجراء الأصل في كل من الطرفين ؛ للعلم بوجود الحاكم المسقط للأصل في أحدهما ، ولا مسوّغ لإجرائه في أحدهما خاصّة ، وبهذا يتنجّز الطرفان معا.

وأمّا الحالة الثانية فهي أن تقوم البيّنة على نجاسة أحد الإناءين بعينه ثمّ يشتبه حاله ويتردّد أمره بين إناءين ، فهنا حينما قامت البيّنة على نجاسة الفرد بعينه فقد نجّزته وأخرجته عن دائرة الشكّ وعن مورد جريان أصالة الطهارة ونحوها من الأصول

٢٨٢

الترخيصيّة ؛ لأنّها في هذا الفرض تكون حاكمة على الأصل المفترض جريانه في هذا الإناء المعيّن ؛ لأنّهما حكمان ظاهريّان متنافيان وموضوعهما واحد فتكون الأمارة حاكمة ؛ لأنّها ناظرة إلى موضوع دليل الأصل وتنفي جريانه في هذا المورد بمدلولها الالتزامي ، وهذا واضح.

ثمّ إنّ هذا الإناء الذي سقط فيه الأصل المؤمّن وثبتت فيه الأمارة المنجّزة قد تردّد أمره بين إناءين ، وهنا لا يمكننا إجراء الأصل المؤمّن لا في كلا الطرفين ولا في أحدهما فقط.

أمّا الأوّل فلأنّنا نعلم أنّ الأصل ساقط عن الحجّيّة في أحد الإناءين ؛ لكونه محكوما للأمارة فيكون جريانه فيهما معا تقديما للمحكوم على الحاكم ، وهو غير معقول.

وأمّا الثاني فلأنّ شموله لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن سقوطه ، ولذلك يكون كلا الطرفين متنجّزا من باب أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وبهذا نصل إلى نفس النتيجة التي تقال بناء على مسلك جعل العمليّة ولكن التقريب مختلف.

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع وعدم سرايته إلى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوما ضمن فرد معيّن لكان علما تفصيليّا لا إجماليّا ، ولما كان منجّزا إلا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص ، وحيثما يحصل علم بالجامع ثمّ يسري العلم إلى الفرد يسمّى ذلك بانحلال العلم الإجمالي بالعلم بالفرد.

الركن الثاني : أن يكون العلم الإجمالي واقفا على الجامع ولا يسري منه إلى الفرد ؛ إذ لو سرى العلم من الجامع إلى الفرد سوف ينقلب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالفرد وشكّ بدوي بسائر الأفراد الأخرى.

وبذلك لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لسائر الأطراف بسبب انحلاله وصيرورته علما تفصيليّا بهذا ، وشكّا بدويّا بسائر الأفراد والتي تكون مجرى للبراءة ، وهذا ما يسمّى بالانحلال.

فالانحلال معناه أنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع والمنجّز للفردين ينحلّ إلى

٢٨٣

جزءين ، أحدهما علم تفصيلي بهذا الفرد وشكّ بدوي في الفرد الآخر ، فينجّز ما تعلّق به العلم فقط ، وتجري الأصول الترخيصيّة في الفرد المشكوك بدوا.

وهذا المقدار واضح ؛ لأنّ تنجيز العلم الإجمالي لكلا الفردين إنّما كان لأجل أنّ نسبة العلم بالجامع إلى كلّ من الفردين على حدّ واحد ، فتطبيقه على أحدهما فقط بخصوصه ترجيح بلا مرجّح ، وتركه فيهما مخالفة قطعيّة فيجب فعلهما معا أو تركهما معا.

وتعلّق العلم بالفرد له عدّة أنحاء :

أحدها : أن يكون العلم المتعلّق بالفرد معيّنا لنفس المعلوم بالإجمال ، بمعنى العلم بأنّ هذا الفرد هو نفس المعلوم الإجمالي المردّد ، ولا شكّ حينئذ في سراية العلم من الجامع إلى الفرد وفي حصول الانحلال.

ثمّ إنّ حالات تعلّق العلم بالفرد تختلف في تحقيق الانحلال وعدمه ، ولذلك نذكر أنحاء تعلّق العلم بالفرد :

النحو الأوّل : أن يكون العلم بالفرد معيّنا ومشخّصا لمتعلّق المعلوم بالإجمال ، كما إذا علمنا إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ هذا الإناء بعينه فيه قطرة دم ، وكانت هذه القطرة هي تلك القطرة المعلومة سابقا بحيث لا يوجد لدينا علمان مستقلاّن عن بعضهما ، ولم نحتمل أنّها غير تلك ، بل كانت القطرة المعلومة تفصيلا هي نفس المعلومة إجمالا.

وكما إذا علمنا بوجود زيد أو عمرو في المسجد ثمّ علمنا بوجود زيد في المسجد تفصيلا ، وكان زيد هذا هو نفس زيد المعلوم إجمالا وليس شخصا آخر ، فهنا يكون العلم الإجمالي منحلا بهذا العلم التفصيلي المعيّن لمورده ومتعلّقه.

وهذا من أوضح مصاديق الانحلال الحقيقي ، فيسري العلم من الجامع إلى الفرد وبالتالي تبطل منجّزيّة العلم الإجمالي لسائر الأفراد.

ثانيها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا على تعيين المعلوم الإجمالي مباشرة ، غير أنّ المعلوم الإجمالي ليس له أي علامة أو خصوصيّة يحتمل أن تحول دون انطباقه على هذا الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ثمّ علم بوجود زيد.

٢٨٤

والصحيح هنا : سراية العلم من الجامع إلى الفرد وحصول الانحلال أيضا ، إذ يعود العلمان معا إلى علم تفصيلي بزيد وشكّ بدويّ في إنسان آخر.

النحو الثاني : ألاّ يكون العلم التفصيلي بالفرد ناظرا إلى نفس ما تعلّق به العلم الإجمالي ، غير أنّه لا توجد أيّة خصوصيّة أو ميزة في المعلوم بالعلم الإجمالي عن المعلوم تفصيلا ، بحيث إنّه يمكن تطبيقه على المعلوم تفصيلا بلا أي إشكال.

مثاله : ما إذا علم بوجود إنسان في المسجد ، فهنا العلم الإجمالي متعلّق بالجامع ابتداء لا أنّه علم مردّد بين فردين كالعلم بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، ثمّ علمنا تفصيلا بوجود زيد في المسجد ، والمفروض أنّ الإنسان المعلوم إجمالا ليس فيه أيّة ميزة معلومة ، فحينئذ لن يكون هناك مانع من انطباق هذا المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ، فإذا انطبق عليه سوف يكون الشكّ في بقاء الإنسان في المسجد لأجل الشكّ في وجود فرد آخر له هناك وحيث إنّه مشكوك ابتداء فتجري فيه البراءة.

وبهذا يتحقّق الانحلال الحقيقي ؛ لأنّنا إذا جمعنا هذين العلمين العلم الإجمالي بوجود الإنسان في المسجد والعلم التفصيلي بوجود زيد فيه سوف ينتج علم تفصيلي بوجود زيد في المسجد وشكّ بدوي في وجود فرد آخر من أفراد الإنسان في المسجد ؛ لأنّ المعلوم من أفراد الإنسان هو زيد فقط وغيره مشكوك ابتداء ، فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

ومثاله أيضا : ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين الموجودين لدى الكافر ، وكان منشأ العلم بنجاسة أحدهما هو مساورته له ثمّ علمنا تفصيلا بأنّه ساور هذا الإناء بخصوصه ، فهذا الإناء نجس على كلّ تقدير ، بينما الآخر لا يعلم بنجاسته كذلك فتجري فيه الأصول الترخيصيّة وينحلّ العلم الإجمالي.

ثالثها : أن لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي ، ويكون للمعلوم الإجمالي علامة في نظر العالم غير محرزة التواجد في ذلك الفرد ، كما إذا علم بوجود إنسان طويل في المسجد ثمّ علم بوجود زيد وهو لا يعلم أنّه طويل أو لا.

والصحيح هنا عدم الانحلال لعدم إحراز كون المعلوم بالعلم الثاني مصداقا للمعلوم بالعلم الأوّل ، بحيث يصحّ أن ينطبق عليه ، فلا يسري العلم من الجامع إلى تحصّصه ضمن الفرد.

٢٨٥

النحو الثالث : أن لا يكون المعلوم بالتفصيل ناظرا إلى تعيين وتشخيص متعلّق العلم الإجمالي ، وأن يكون في متعلّق العلم الإجمالي ميزة وخصوصيّة يحتمل أنّها غير موجودة في متعلّق العلم التفصيلي بالفرد.

كما إذا علم بوجود إنسان طويل في المسجد ، فهذا علم إجمالي متعلّقه الإنسان الذي يوجد فيه ميزة وخصوصيّة معيّنة وهي كونه طويلا ، ثمّ علم بوجود زيد في المسجد إلا أنّه لا يعلم هل هو طويل أم لا؟ بحيث إنّه لو كان طويلا لأمكن تطبيق المعلوم بالإجمال عليه إذ لن يكون هناك مانع من ذلك ، ولو لم يكن طويلا فلن يمكن تطبيق المعلوم بالإجمال عليه ؛ لأنّه يعلم أنّه ليس هو بل هو فرد آخر غير الفرد الموجود فيه الجامع.

فهنا المتعلّق في كلّ منهما مختلف ؛ لأنّ أحدهما متعلّقه الجامع والآخر الفرد ، ويوجد في أحد المتعلّقين ميزة لا يعلم بوجودها في الآخر ، بل يحتمل ذلك.

والصحيح هنا أن يقال : إنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ بالعلم التفصيلي بالفرد المذكور ؛ لأنّه ليس ناظرا إلى تعيين معلومه ؛ ولأنّه يحتمل عدم انطباقه عليه بحيث يمكن ألاّ يكون مصداقا له ، فيكون العلم الإجمالي واقفا على الجامع ولا يسري من الجامع إلى الفرد والحصّة ؛ لأنّها غير معلومة كونها حصّة لهذا الجامع.

وبتعبير آخر : أنّ زيدا المعلوم وجوده في المسجد تفصيلا من المحتمل أن يكون هو الإنسان الطويل المعلوم إجمالا ، ومن المحتمل أن يكون مصداقا لإنسان آخر غير الطويل ، فتعيينه مصداقا للطويل دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيتعذّر الانحلال.

رابعها : أن يكون العلم الساري إلى الفرد تعبّديّا ، بأن قامت أمارة على ذلك بنحو لو كانت علما وجدانيّا لحصل الانحلال.

النحو الرابع : أن يكون العلم المتعلّق بالفرد علما تعبّديّا ، ويكون ناظرا إلى نفس متعلّق العلم الإجمالي كما هو الحال في الصورة الأولى أو الثانية ، أي أنّ نفس الفرضيّتين اللتين تستوجبان الانحلال الحقيقي ، يفترض وجودهما هنا لكن مع العلم التعبّدي بالفرد.

مثاله : أن يعلم إجمالا بدخول زيد أو عمرو إلى المسجد ، ثمّ تقوم البيّنة على دخول زيد إلى المسجد ويكون زيد هذا هو نفس زيد المعلوم بالإجمال وليس شخصا

٢٨٦

آخر. ومثاله أيضا : أن يعلم بدخول الإنسان إلى المسجد ثمّ تقوم البيّنة على دخول زيد ولكن لا يحتمل وجود ميزة في الجامع ، بمعنى أنّ هذا الفرد يصلح لأن يكون مصداقا له.

وقد يتوهّم في مثل ذلك الانحلال التعبّدي بدعوى أنّ دليل الحجّيّة يرتّب كلّ آثار العلم على الأمارة تعبّدا ، ومن جملتها الانحلال.

قد يقال هنا : إنّ الأمارة المذكورة توجب الانحلال الحقيقي تعبّدا لا وجدانا ، فكما أنّ العلم الوجداني كان يوجب الانحلال الحقيقي في الصورتين المذكورتين ، فكذلك الأمارة توجب الانحلال الحقيقي ، غايته أنّ الانحلال الحقيقي على الأوّل وجداني بينما على الثاني تعبّدي.

وهذا الانحلال الحقيقي التعبّدي يستفاد من دليل حجّيّة الأمارة ، فإنّه يرتّب كلّ آثار العلم الوجداني على الأمارة تعبّدا ، ومن جملة آثار العلم الوجداني هو الانحلال الحقيقي ، فيكون هذا الأثر مترتّبا على الأمارة أيضا.

والوجه في ذلك : إمّا دعوى تنزيل الأمارة منزلة العلم كما هي مقالة الشيخ الأنصاري ، وإمّا دعوى حكومة الأمارات ؛ لأنّ دليل حجّيّتها مفاده اعتبار الأمارة علما كما هي مقالة المحقّق النائيني ، وإمّا دعوى الورود على أساس المجاز العقلي كما هي مقالة السكّاكي في مثل هذا المورد.

ولكنّه توهّم باطل ؛ لأنّ مفاد دليل الحجّيّة إن كان هو تنزيل الأمارة منزلة العلم ، فمن الواضح أنّ التنزيل لا يمكن أن يكون ناظرا إلى الانحلال ؛ لأنّه أثر تكويني للعلم ، وليس بيد المولى توسيعه.

إلا أنّ هذا التوهّم غير صحيح ؛ لأنّ ترتّب آثار العلم على الأمارة إن كان بنحو تنزيل الأمارة منزلة العلم ـ كما هو الحال في تنزيل الطواف منزلة الصلاة ـ فهذا إنّما يتمّ فيما إذا كانت الآثار التي يراد التنزيل بلحاظها بيد المنزّل ، ففي المثال المذكور يراد ترتيب الطهارة والستر ونحوهما من الآثار الشرعيّة على المنزّل أي الطواف ، وهذا أمر ممكن ؛ لأنّ الطهارة والستر من الآثار الشرعيّة التي بيد الشرع إيجابها وعدم إيجابها.

وأمّا في مقامنا فإنّ الأمارة المنزّلة منزلة العلم إنّما تكون بلحاظ الآثار الشرعيّة للعلم أو الآثار المطلوبة شرعا من العلم. ومن الواضح هنا أنّه لا يوجد سوى المنجّزيّة

٢٨٧

والمعذّريّة فإنّهما ليسا من الأحكام الشرعيّة فلا يمكن التنزيل بلحاظهما ، فضلا من سائر خصوصيّات العلم فإنّها تكوينيّة أو عقليّة.

والانحلال من اللوازم التكوينيّة للعلم بالفرد ، فلا يمكن أن يكون دليل التنزيل ناظرا إليه أيضا ؛ لأنّه ينظر إلى الآثار الشرعيّة فقط.

وبتعبير آخر : أنّ عمليّة التنزيل يشترط فيها أن يكون المنزّل ناظرا إلى الآثار التي يراد تنزيلها ، وفي مقامنا حيث إنّ المنزّل هو الشارع فيشترط أن تكون الآثار المنزّلة شرعيّة دون غيرها ؛ لأنّ الآثار العقليّة أو التكوينيّة لا تطالها يد الشارع رفعا ووضعا بما هو شارع ، ولذلك لا يعقل التنزيل الشرعي بلحاظها.

وإن كان مفاد دليل الحجّيّة اعتبار الأمارة علما على طريقة المجاز العقلي ، فمن المعلوم أنّ هذا الاعتبار لا يترتّب عليه آثار العلم الحقيقي التي منها الانحلال ، وإنّما يترتّب عليه آثار العلم الاعتباري.

وأمّا إذا كان ترتّب آثار العلم على الأمارة على أساس الورود واعتبار ما ليس بعلم علما ، كما هو الحال في المجاز العقلي السكّاكي ، فالانحلال لا يمكن إثباته بالأمارة أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ الادّعاء العقلي أو الورود لا يثبت إلا الآثار المطلوبة من الادّعاء المذكور ، فمثلا إذا قيل : زيد أسد ، أي أنّه فرد من أفراد الأسد على أساس أنّه مصداق للشجاع الذي يدّعي العقل أنّه من أنواع الأسد ، كان معناه أنّ الآثار المطلوبة من الأسد تترتّب على زيد ، من قبيل الشجاعة والقوّة والهيبة والعزّة.

وأمّا الآثار التكوينيّة الخاصّة بالأسد أي الحيوان المفترس من قبيل رائحة الفم الكريهة أو من قبيل أكل الحيوانات الأخرى بالافتراس ، فهذا ممّا لا يترتّب ولا يثبت حتّى بالورود ، لأنّ الادّعاء العقلي ليس مطلقا وبلحاظ تمام الآثار ، وإنّما يتحدّد بحدود الآثار التي يمكن الادّعاء فيها والتي تتحقّق فيها المشابهة والمناسبة ، ولذلك يستهجن العرف والعقل لو قيل : بأنّ زيدا أسد ، وكان المقصود من ذلك أنّ رائحة فمه كريهة.

وفي مقامنا إذا كانت الأمارة علما على نحو الادّعاء العقلي بمعنى أنّها فرد من أفراد العلم ادّعاء ، فهذا لا يعني أنّ تمام الآثار المترتّبة على العلم تترتّب على الأمارة ، فإنّ الاستقرار النفسي والاطمئنان والإذعان والاعتقاد لا توجد إلا في العلم الحقيقي

٢٨٨

دون الأمارة ، حتّى لو كانت علما ، فهي إذا علم بلحاظ الطريقيّة والمنجّزيّة والمحركيّة فقط.

وهذا يعني أنّ الآثار المترتّبة تكوينا على العلم الحقيقي كالانحلال مثلا لا يمكن ترتيبها على الامارة ، بل يترتّب عليها الآثار التي نشأ الادّعاء منها فقط ، والتي هي الطريقيّة والمنجّزيّة والمحرّكيّة فقط.

وأمّا سائر الآثار حتّى التي تختصّ بالعلم الحقيقي الوجداني قهرا بحيث لا توجد إلا معه ؛ لأنّها من لوازمه التي لا تنفكّ فهذه لم ينظر إليها في الادّعاء العقلي.

وبتعبير دقيق : إنّ دليل الأمارة على أساس المجاز العقلي يترتّب عليه آثار العلم التعبّدي من كاشفيّة ومحرّكيّة ومنجّزيّة ، وأمّا آثار العلم الحقيقي الوجداني من استقرار نفس مثلا وتصديق راسخ وقاطع وانحلال ، فهذا لا يترتّب على دليل الأمارة ؛ لأنّ الادّعاء لم يكن بلحاظها ؛ إذ المناسبة والمشابهة لا تتمّ بين الأمارة والعلم بلحاظها ، وإنّما المناسبة المصحّحة لهذا الادّعاء هي ترتيب الآثار الشرعيّة فقط.

فإن قيل : نحن لا نريد بدليل الحجّيّة أن نثبت الانحلال الحقيقي بالتعبّد لكي يقال بأنّه أثر تكويني تابع لعلّته ، ولا يحصل بالتعبّد تنزيلا أو اعتبارا ، بل نريد استفادة التعبّد بالانحلال من دليل الحجّيّة ؛ لأنّ مفاده التعبّد بإلغاء الشكّ والعلم بمؤدّى الأمارة ، وهذا بنفسه تعبّد بالانحلال ، فهو انحلال تعبّدي.

قد يقال هنا : إنّنا لو سلّمنا بأنّ التنزيل أو الاعتبار لا يحقّقان الانحلال الحقيقي ؛ لما ذكر من كون الانحلال أثرا ولازما تكوينيّا للعلم الحقيقي ، أي هو معلول للعلم الحقيقي فلا يتحقّق إلا مع وجود علّته حقيقة وتكوينا ، والتنزيل والاعتبار قاصران عن إثبات العلّة الحقيقيّة ؛ لأنّهما يتحدّدان بالمقدار المنزّل أو المدّعى وهو الآثار الشرعيّة فقط دون غيرها ، فالتعبّد بحجّيّة الأمارة تنزيلا أو اعتبارا لا يفيد التعبّد بحصول الانحلال الحقيقي ؛ لأنّه تابع لعلّته الواقعيّة الحقيقيّة التكوينيّة وهي العلم الوجداني.

وبتعبير آخر : أنّ الملازمة بين العلم الحقيقي والانحلال تكوينيّة وواقعيّة ، وليست اعتباريّة أو تنزيليّة أو شرعيّة ليكون التعبّد بوجودها مفيدا في ترتيب الأثر واللازم.

٢٨٩

إلا أنّنا نقول شيئا آخر وهو : إنّ دليل حجّيّة الأمارة معناه جعل العلميّة وإلغاء الشكّ ، ولذلك يكون دليل حجّيّة الأمارة حاكما على الأدلّة التي أخذ فيها العلم وجودا وعدما ؛ لأنّه يثبت العلم ويلغي الشك.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على شيء فهي تلغي الشكّ فيه وتثبت العلم ، وإذا ثبت العلم فإنّ آثاره ولوازمه تثبت ؛ والتي من جملتها الانحلال ، غاية الأمر أنّ ثبوت العلم كان تعبّدا ، إلا أنّه بعد فرض ثبوته فجميع الآثار تترتّب عليه.

وبكلمة أخرى : إنّ دليل الأمارة بعد ثبوت حجّيّته يثبت لنا العلم ، وهذا معناه أنّه يوجد طريقان لثبوت العلم أحدهما الطريق الوجداني وهو القطع ، والآخر الطريق التعبّدي وهو قيام الأمارة ، والثابت بهذين الطريقين واحد وهو العلم ، فتترتّب جميع آثار العلم ، والتي منها الملازمة المذكورة بين العلم وبين الانحلال.

ففرق بين القول السابق بأنّه يوجد انحلال حقيقي بالتعبّد ، وبين قولنا هذا وهو وجود تعبّد بالانحلال الحقيقي ، فإنّ الأوّل لازمه وجود المعلول وهو الانحلال الحقيقي من دون وجود علّته وهي العلم الحقيقي.

بينما الثاني معناه أنّه يوجد انحلال حقيقي لوجود علّته الحقيقيّة وهي العلم ، غاية الأمر أنّ ثبوت هذا العلم لم يكن عن طريق القطع الوجداني ، وإنّما كان عن طريق التعبّد الشرعي ، فهناك تعبّد بالانحلال على أساس الملازمة بين إلغاء الشكّ وثبوت العلم من دليل حجّيّة الأمارة ، وبين زوال العلم الإجمالي على أساس اختلال ركنيه الأوّل والثاني ؛ إذ لا علم بالجامع ولا شكّ في الفرد وإنّما هناك علم بالفرد ولكنّه علم تعبّدي.

كان الجواب على ذلك : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّدا بالانحلال ، بل بما هو علّة للانحلال ، والتعبّد بالعلّة لا يساوق التعبّد بالمعلول.

والجواب على ذلك :

أوّلا : أنّ التعبّد المذكور ليس تعبّدا بالانحلال الحقيقي ؛ لأنّ دليل الحجّيّة ليس مفاده ومدلوله المطابقي الانحلال ، وإنّما العلم وإلغاء الشكّ ، وهذا يعني أنّ مفاد دليل الحجّيّة التعبّد بوجود علّة الانحلال أي العلم الذي هو علّة للانحلال لا التعبّد بالانحلال مباشرة.

٢٩٠

وعليه ، فلا ملازمة بين التعبّد بالعلّة وبين التعبّد بالمعلول ، بل يمكن التعبّد بأحدهما دون الآخر ؛ لأنّ التعبّد يتحدّد بالمقدار المدلول عليه بالدليل لا أزيد.

وفي مقامنا الدليل يعبّدنا بثبوت العلّة أي العلم ، وأمّا المعلول فلا يعبّدنا بوجوده ، فلا يوجد دليل على وجوده لا حقيقة ـ كما هو واضح إذ لا علم وجداني ـ ولا تعبّدا ؛ لأنّه غير مأخوذ في الدليل.

وأمّا الملازمة بين العلّة والمعلول فهي ملازمة تكوينيّة واقعيّة حقيقيّة ، فيحكم العقل بها عند وجود العلّة تكوينا واقعا ، وأمّا إذا لم توجد العلّة واقعا وتكوينا فالعقل لا يحكم بها.

مضافا إلى إمكان التفكيك بين العلّة والمعلول في باب التعبّد في غير الآثار الشرعيّة كما في الآثار التكوينيّة أو العقليّة ، فثبوت حياة زيد تعبّدا لازمها التكويني نبات لحيته إلا أنّه لا يثبت ، بينما يثبت لازمها الشرعي من قبيل عدم بينونة زوجته وعدم جواز تقسيم تركته ، وكذا الحكم بصحّة الوضوء على أساس الفراغ فإنّه تصحيح للصلاة التي أتمّها ، وأمّا الصلاة الآتية فلا يكفي فيها هذا الوضوء بل لا بدّ من تجديده.

أضف إلى ذلك : أنّ التعبّد بالانحلال لا معنى له ولا أثر ؛ لأنّه إن أريد به التأمين بالنسبة إلى الفرد الآخر بلا حاجة إلى إجراء أصل مؤمّن فيه فهذا غير صحيح ؛ لأنّ التأمين عن كلّ شبهة بحاجة إلى أصل مؤمّن حتّى ولو كانت بدوية.

ويرد عليه ثانيا : أنّ التعبّد بالانحلال في مقامنا لغو لا فائدة ولا أثر له ؛ وذلك لأنّه : إن أريد بالتعبّد بالانحلال ثبوت التأمين بالنسبة للفرد الآخر من دون إجراء أصل مؤمّن فيه ، اكتفاء بقيام الأمارة على ثبوت التكليف في الطرف الأوّل ، على أساس الملازمة بين ثبوت التكليف في هذا الطرف وارتفاعه عن ذاك ؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بثبوت تكليف بين هذين الطرفين لا أكثر ، فهذه الملازمة عقليّة فيكون المورد من الأصل المثبت وهو ليس حجّة.

مضافا إلى أنّ إثبات التأمين لا يكون بالملازمة لو سلّم جريانها هنا ؛ لأنّه يشترط في كلّ شبهة حتّى لو كانت الشبهة بدوية أن يكون هناك أصل مؤمّن ثابت في مورد الشبهة بالمطابقة ، وإلا لكانت منجّزة باحتمال التكليف فيها.

وحينئذ تقع المعارضة بين حكم العقل بتنجّز التكليف بالاحتمال وبين حكم العقل

٢٩١

بالتأمين على أساس الملازمة ، والأحكام العقليّة لا يعقل التعارض بينها ؛ لأنّ لكلّ منها موضوعا يختلف عن الآخر ، وحيث إنّ موضوع حكم العقل بالتنجيز هو الشبهة التي لا مؤمّن فيها فيكون التنجيز هو الثابت دون الملازمة.

نعم ، لو قام الأصل المؤمّن على مورد الشبهة فهنا لا تصادم بل يرتفع موضوع حكم العقل ؛ لأنّه معلّق على عدم ورود الترخيص وقد ورد فعلا.

وإن أريد بذلك التمكين من إجراء ذلك الأصل في الفرد الآخر ، فهذا يحصل بدون حاجة إلى التعبّد بالانحلال.

وإن أريد بالتعبّد بالانحلال أنّ المكلّف يمكنه إجراء الأصل في الفرد الآخر ، فإذا جرى الأصل فيه انحلّ العلم الإجمالي ، فهذا الأمر حاصل سواء كان هناك تعبّد بالانحلال أم لا ، فلا أثر للتعبّد بالانحلال في جريان الأصل في الطرف الآخر ؛ لأنّ الأصل يجري في الطرف الآخر لعلّة أخرى وملاك آخر غير الانحلال وهو :

وملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الأمارة عن كونه موردا للأصل المؤمّن ، سواء أنشئ التعبّد بعنوان الانحلال أم لا.

وأمّا الملاك والعلّة لجريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر من دون حاجة إلى الانحلال فهو زوال المعارضة ؛ لأنّنا قلنا : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لوجوب الموافقة القطعيّة على أساس أنّ جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف مخالفة قطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وجريانها في البعض فقط ترجيح بلا مرجّح لتعارض هذا البعض مع البعض الآخر.

وأمّا إذا لم يكن لهذا البعض معارض فلا مانع من جريان الأصل المؤمّن فيه ، وذلك بأن يكون هناك منجّز شرعي أو عقلي في الطرف الآخر ، وموردنا من هذا القبيل فإنّه يوجد في أحد الطرفين منجّز شرعي وهو الأمارة المثبتة للتكليف فلا يجري فيه الأصل الترخيصي ؛ لأنّ الأمارة حاكمة عليه ، وأمّا الطرف الآخر فيجري فيه الأصل الترخيصي بلا محذور إذ لا معارض له.

فسواء كان هناك تعبّد بالانحلال أم لا فالأصل سوف يجري في الطرف الآخر ؛ لأنّه لا معارض له. وبهذا ظهر أنّه لا معنى للتعبّد بالانحلال فيكون لغوا.

نعم هناك انحلال حكمي في المقام وليس انحلالا حقيقيّا كما سيأتي في محلّه.

٢٩٢

الركن الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين مشمولا في نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجمالي لدليل الأصل المؤمّن ، إذ لو كان أحدهما مثلا غير مشمول لدليل الأصل المؤمّن لسبب آخر لجرى الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بدون محذور.

الركن الثالث : أن يكون كلّ من الطرفين أو الأطراف مشمولا للأصل المؤمّن في نفسه وبقطع النظر عن التعارض المسبّب عن العلم الإجمالي ، بمعنى أنّ كلّ طرف يكون موردا لجريان الأصل بأن تكون أركان الأصل فيه تامّة ، أو موضوع الأصل فيه متحقّق ، هذا بحسب نفس الدليل وبقطع النظر عن العلم الإجمالي الذي يسبّب وقوع التعارض في دليل الأصل في الطرفين.

وأمّا إذا لم يكن أحد الطرفين مشمولا للأصل الترخيصي بأن كان مشمولا لأصل منجّز مثلا ، وكان الطرف الآخر مشمولا للأصل الترخيصي ، فهنا لا محذور في جريان الأصل الترخيصي في أحدهما إذ لا معارض له في الآخر.

وهذه الصياغة إنّما تلائم إنكار القول بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، إذ بناء على هذا الإنكار يتوقّف تنجّز وجوب الموافقة على التعارض بين الأصول المؤمّنة.

وصياغة هذا الركن بهذا النحو إنّما يتلاءم مع إنكار القول بالعلّيّة ـ كما هو الصحيح ـ لأنّه على غير هذا المسلك لا يكون العلم الإجمالي مستدعيا لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه لا ينجّز إلا مقدار الجامع المعلوم ، وهو لا يستدعي إلا الإتيان بأحدهما في نفسه.

وأمّا الإتيان بكلا الطرفين معا فكان بسبب تعارض الأصول الترخيصيّة وتساقطها في كلا الطرفين ، وعليه فلا بدّ أن يكون كلّ منهما مشمولا في نفسه للأصل الترخيصي ليعقل المعارضة مع الطرف الآخر المشمول للأصل الترخيصي في نفسه أيضا.

وأمّا على القول بالعلّيّة كما هو مذهب المحقّق العراقي (١) فلا تصحّ الصياغة المذكورة ؛ لأنّ مجرّد كون الأصل في أحد الطرفين لا معارض له لا يكفي لجريانه ؛

__________________

(١) وقد مضى تحت عنوان : جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه.

٢٩٣

لأنّه ينافي علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، فلا بدّ من افتراض نكتة في الرتبة السابقة تعطّل العلم الإجمالي عن التنجيز ليتاح للأصل المؤمّن أن يجري.

ومن هنا صاغ المحقّق المذكور الركن الثالث صياغة أخرى ، وحاصلها :

وأمّا على مسلك العلّيّة الذي ذهب إليه المحقّق العراقي ، فلا تكون هذه الصياغة صحيحة ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك يكون العلم الإجمالي بنفسه علّة لوجوب الموافقة القطعيّة.

ومعنى العلّيّة أنّه إذا ثبتت العلّة ثبت المعلول ولا يمكن أن يتخلّف عنها.

ولذلك يكون كلّ من الطرفين منجّزا في نفسه ؛ لأنّه مصداق لوجوب الموافقة القطعيّة المعلولة للعلم الإجمالي ، ولا فرق في منجّزيّة كلّ الطرف بين أن يكون الطرف الآخر مشمولا للأصل الترخيصي أو للأصل المنجّز ؛ لأنّ التعارض بين الأصلين الترخيصيّين ليس هو السبب في وجوب الموافقة القطعيّة ، بل هي واجبة وثابتة سواء كان هناك تعارض أم لا ، ولذلك يكون جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين دون الآخر ـ على مسلك العلّيّة ـ مخالفا لعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه يفكّك بين العلّة ومعلولها وهو محال.

وحينئذ نقول : إنّه إذا ثبت الأصل الترخيصي في مورد من دون معارض بأن كان الطرف الآخر مشمولا لأصل منجّز ، فلا بدّ من إسقاط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وتعطيله على أساس وجود نكتة تقتضي إبطال علّيّته في مثل هذا الفرض ، لا أنّنا نبقي العلم الإجمالي على حاله وتنجيزه ونقول : إنّه لا تجب الموافقة القطعيّة ، إذ لازمه التفكيك بين العلّة ومعلولها وهو محال.

وعلى هذا الأساس لا بدّ من صياغة الركن الثالث صياغة جديدة تبرز مثل هذه النكتة التي من شأنها تعطيل العلم الإجمالي وإسقاطه ، وحاصل هذه الصياغة أن يقال :

أنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقّف على صلاحيّته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره ، فإذا لم يكن صالحا لذلك فلا يكون منجّزا ، وعلى هذا فكلّما كان المعلوم الإجمالي على أحد التقديرين غير صالح للتنجّز بالعلم الإجمالي لم يكن العلم

٢٩٤

الإجمالي منجّزا ؛ لأنّه لا يصلح للتنجيز إلا على بعض تقادير معلومه ، وهذا التقدير غير معلوم ، فلا أثر عقلا لمثل هذا العلم الإجمالي.

ذكر المحقّق العراقي أنّه يشترط في العلم الإجمالي أن يكون منجّزا لمعلومه على جميع التقادير ، وهذا الشرط يعتبر بديلا عن الركن الثالث ؛ لأنّه يصل إلى نفس النتيجة.

بتوضيح : أنّنا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين ، فهذا العلم الإجمالي ينجّز معلومه على جميع التقادير ، إذ كلّ طرف في نفسه يحتمل أن يكون هو النجس فيكون منجّزا.

وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي قد نجّز معلومه وهو النجاسة على جميع تقادير وجودها سواء في هذا أم في ذاك ، وأمّا إذا كان أحدهما منجّزا بمنجّز آخر كقيام الأمارة على نجاسة هذا الإناء بعينه أو استصحاب النجاسة السابقة في هذا الإناء ، فهنا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على جميع التقادير بل على بعض التقادير فقط.

بمعنى أنّه لو لا العلم الإجمالي لم يكن منجّزا ، وأمّا إذا كان منجّزا بقطع النظر عن العلم الإجمالي فلا يؤثّر فيه العلم الإجمالي شيئا.

وبهذا يختلّ شرط منجّزيّة العلم الإجمالي لمعلومه على كلّ تقدير ؛ لأنّ الثابت هو منجّزيّته على بعض التقادير فقط.

وهذا التقدير غير معلوم بل مشكوك فتنتفي مؤثّريّة العلم الإجمالي في التنجيز واشتغال الذمّة بكلا الطرفين ، ويعود الشكّ بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

وبتعبير آخر : يجب أن يكون كلّ طرف قابلا لأن يكون منجّزا بالعلم الإجمالي ، وإلا فلا يكون العلم الإجمالي مؤثّرا في المنجّزيّة.

فالعلم الإجمالي إنّما يكون علّة لوجوب الموافقة القطعيّة للطرفين فيما إذا كان كلّ منهما منجّزا بالعلم الإجمالي ، وهذا لا يكون إلا إذا كان كلّ من الطرفين مشكوكا في نفسه وقابلا لانطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فمع خروج أحد الطرفين عن ذلك بقيام المنجّز عليه سوف يخرج عن قابليّة التنجيز بالعلم الإجمالي.

ويترتّب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزا إذا كان أحد طرفيه منجّزا بمنجّز آخر غير العلم الإجمالي من أمارة أو أصل منجّز ؛ وذلك لأنّ العلم

٢٩٥

الإجمالي في هذه الحالة لا يصلح لتنجيز معلومه على تقدير انطباقه على مورد الأمارة أو الأصل ؛ لأنّ هذا المورد منجّز في نفسه ، والمنجّز يستحيل أن يتنجّز بمنجّز آخر ؛ لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على أثر واحد ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي غير صالح لتنجيز معلومه على كلّ حال ، فلا يكون له أثر.

وعلى أساس هذا الشرط سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا فيما إذا كان أحد طرفيه منجّزا بمنجّز آخر من أمارة مثبتة للتكليف أو استصحاب مثبت للتكليف أيضا.

فإنّه في هذه الحالة سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، بل على بعض التقادير ؛ وذلك لأنّ الطرف الذي فيه أمارة أو أصل منجّز لن يكون صالحا للتنجيز بالعلم الإجمالي ؛ لأنّه على تقدير انطباق مورد العلم الإجمالي على مورد الأمارة أو الأصل لن يكون هذا العلم منجّزا له ؛ لأنّه منجّز في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي.

فيكون تنجيز العلم الإجمالي له من باب اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد وهو مستحيل ، إذ في هذا الطرف الذي فيه الأمارة أو الأصل سوف يكون الأمارة أو الأصل علّة لتنجيزه ، وسيكون العلم الإجمالي علّة لتنجيزه أيضا ، واجتماع علّتين على معلول واحد جائز بمعنى صيرورة كلّ منهما جزء العلّة ، وأمّا كون كلّ منهما علّة مستقلّة فهذا مستحيل.

وبهذا ظهر أنّ العلم الإجمالي هنا معطّل عن التنجز لاختلال شرطه المذكور ، فلا يكون مؤثّرا في وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه في هذا الطرف لا ينجّز لأنّه منجّز ، وفي ذلك الطرف سوف يشكّ في كونه المعلوم بالإجمال ابتداء ، فيجري فيه الأصل المؤمّن لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وصيرورة الشكّ فيه بدويّا.

وبهذا نعرف أنّه يشترط أن يكون كلا الطرفين يقبلان التنجيز بالعلم الإجمالي ، وهذا يفترض أنّهما معا غير منجّزين بمنجّز آخر أو أحدهما أيضا.

والفرق العملي بين هاتين الصياغتين يظهر في حالة عدم تواجد أصل مؤمّن في أحد الطرفين ، وعدم ثبوت منجّز فيه أيضا سوى العلم الإجمالي ، فإنّ الركن الثالث حسب الصياغة الأولى لا يكون ثابتا ، ولكنّه حسب الصياغة الثانية ثابت ، والصحيح هو الصياغة الأولى.

٢٩٦

والفارق العملي بين الصياغتين يظهر فيما إذا فرضنا العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ولم تكن حالتهما السابقة معلومة ، ولم يكن هناك أصل منجّز لا فيهما ولا في أحدهما ، إلا أنّه يوجد أصل مؤمّن في أحدهما فقط.

مثاله : ما إذا علمنا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، وكان السائل في أحدهما ماء والسائل في الآخر مشكوكا ومردّدا بين الخلّ والخمر ، فهنا لا توجد حالة سابقة معلومة لتستصحب ، ولا يوجد أصل منجّز فيهما أو في أحدهما ، إلا أنّ السائل الذي فيه ماء تجري فيه أصالة الطهارة بخلاف السائل الآخر ، فإنّ أصالة الطهارة لا تجري في النجاسة الذاتيّة المشكوكة على أحد القولين.

فعلى صياغة المشهور سوف لا يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة لا تتعارض إذ لا يوجد إلا أصل ترخيصي واحد فيجري بلا معارض.

بينما على صياغة المحقّق العراقي يكون العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ العلم الإجمالي صالح للتنجيز على كلّ تقدير ، إذ كلّ واحد من الطرفين قابل للتنجيز بالعلم الإجمالي ، وليس أحدهما منجّز بمنجّز آخر.

والصحيح هو الصياغة الأولى دون الثانية ؛ لأنّ صياغة المحقّق العراقي يرد عليها أنّ المنجّز بمنجّز آخر يقبل التنجيز مجدّدا بالعلم الإجمالي أيضا ولا استحالة في ذلك ، وإنّما الاستحالة تكون فيما إذا اجتمعت علّتان مستقلّتان على معلول واحد ، وهذا مختص في العلل الحقيقية الواقعيّة دون العلل الاعتباريّة ، ومقامنا من العلل الاعتباريّة ؛ لأنّ التنجيز وثبوت التكليف علّته اعتباريّة أي تابعة لما يجعله الشارع من أسباب وعلل (١).

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة في كلّ من الطرفين مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وإمكان وقوعها خارجا على وجه مأذون فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعيّة ممتنعة على المكلّف حتّى مع الإذن والترخيص لقصور في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة في كلّ من الطرفين.

__________________

(١) مضافا إلى وقوع ذلك عمليّا كما إذا نذر أن يصلّي الصبح فتكون منجّزة بمنجّزين معا ، الأوّل الوجوب الثابت لها على فرض تحقّق شرطه وهو طلوع الفجر ، والآخر النذر ، وعليه فإذا لم يصلّ الصبح يكون مخالفا لشيئين للوجوب وللنذر أيضا.

٢٩٧

الركن الرابع : أن يكون جريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، ومؤدّيا إلى إمكان وقوع هذه المخالفة من المكلّف ، بحيث يكون مأذونا في المخالفة ، وتكون المخالفة ممكنة الوقوع منه خارجا.

ففي مثل هذه الحالة يكون العلم الإجمالي منجّزا ، كما إذا علم بنجاسة أحد هذين الإناءين ، وكان كلّ منهما مجرى لأصالة الطهارة في نفسه باعتبار الشكّ في النجاسة العرضيّة الطارئة عليه ، وكان كلّ من الطرفين تحت اختيار وقدرة المكلّف بحيث يمكنه ارتكابهما معا ، فهنا يكون جريان أصالة الطهارة فيهما معا ترخيصا في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال وهو محال ، ولذلك يقع التعارض بين الأصلين الترخيصيّين ويحكم بتساقطهما معا ؛ لاستحالة ترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجّح.

وأمّا إذا لم يكن جريان الأصل الترخيصي في كلّ منهما مؤدّيا إلى الترخيص في المخالفة عمليّا ، فلا محذور في جريانها فيهما حتّى لو كان هناك التزام بالترخيص والإذن في المخالفة ؛ لأنّ المهمّ هو حصول المخالفة فعلا ، وعدم أداء الأصل إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة إمّا لأجل قصور في قدرة المكلّف على ارتكابهما معا.

كما لو علم بنجاسة أحد إناءين أحدهما عنده والآخر عند السلطان بحيث كان ممتنعا عرفا الوصول إليه ، وإمّا لأجل محذور عقلي بأن كان أحد الإناءين ممّا لا يمكن الوصول إليه أصلا.

فهنا تجري أصالة البراءة في كلا الطرفين ولا محذور في ذلك ؛ لأنّ ملاك العلم الإجمالي لمنجّزيّة الموافقة القطعيّة كان محذور تعارض الأصول المؤدّية إلى الترخيص في المخالفة ، وهذا مستند إلى المحذور العقلائي ، وهو مختصّ فيما إذا كان بإمكان المكلّف المخالفة القطعيّة.

وأمّا إذا لم يمكنه ذلك فالعقلاء لا يرون محذورا في الترخيص في الطرفين ما دام لن يحصل منه مخالفة عمليّة.

وركنيّة هذا الركن مبنيّة على إنكار علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، وأمّا بناء على العلّيّة فلا دخل لذلك في التنجيز ، إذ يكفي في امتناع جريان الأصول حينئذ كونها مؤدّية للترخيص ولو في بعض الأطراف.

وهذا الركن واضح بناء على مسلك المشهور من اقتضاء العلم الإجمالي لمنجّزيّة

٢٩٨

الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ منجّزيّته لذلك كانت فرع جريان الأصول وتعارضها وتساقطها ؛ لأنّ جريانها في الطرفين يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة ، وأمّا إذا لم تجر في الطرفين أو جرت فيهما ولم تؤدّ إلى المخالفة القطعيّة فلا محذور في جريانها عندهم.

وهكذا الحال بناء على ما هو الصحيح عندنا من كون منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة مستندة إلى منجّزيّة الاحتمال في كلّ طرف بعد سقوط الأصل المؤمّن فيه بسبب التعارض.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة فلا وجه لهذا الركن ؛ لأنّ العلم الإجمالي منجّز لوجوب الموافقة القطعيّة سواء جرت الأصول الترخيصيّة أم لا ، وسواء جرت في الطرفين أم في أحدهما ، فإنّ كلّ ذلك لا مدخليّة له في التنجيز كما تقدّم ، فما دام العلم الإجمالي ثابتا فهو علّة لتنجيز كلّ واحد من الطرفين سواء كانا عنده وتحت قدرته أم لا ؛ لأنّ جريان الأصول ولو في بعض الأطراف لازمه التفكيك بين العلّة والمعلول على هذا المسلك وهو ممتنع عقلا ، فيجب الاجتناب عن الطرف الواحد أيضا كما يجب الاجتناب عن الطرفين معا.

وهناك صياغة أخرى لهذا الركن تبنّاها السيّد الأستاذ ، وهي أن يكون جريان الأصول مؤدّيا إلى الترخيص القطعي في المخالفة الواقعيّة ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وقد تقدّم الحديث عن ذلك بالقدر المناسب (١) ، كما أنّ الصياغة المطروحة فعلا لهذا الركن سيأتي مزيد تحقيق وتعديل بالنسبة إليها في مبحث الشبهة غير المحصورة ، إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله قد صاغ هذا الركن بنحو آخر فقال :

يشترط أن لا يكون جريان الأصول الترخيصيّة مؤدّيا إلى الالتزام والاعتقاد في الترخيص القطعي في المخالفة ، سواء حصل من ذلك مخالفة عمليّة أم لا ، أي أنّ المحذور عنده ليس هو المخالفة العمليّة فحسب ، بل الأعمّ منها ومن المخالفة القطعيّة العمليّة والالتزاميّة.

__________________

(١) ضمن الردّ على شبهة جريان الترخيصات المشروطة في أطراف العلم الإجمالي ، تحت عنوان : جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه.

٢٩٩

فإذا كان هناك علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين وكانا تحت قدرته ، فالترخيص فيهما معا مخالفة قطعيّة عمليّة ومخالفة قطعيّة علميّة والتزاميّة ؛ لأنّه سوف يعتقد بصدور الترخيص في المخالفة وهو قبيح ؛ لأنّه ترخيص في المعصية القبيحة.

وهكذا الحال لو كان هناك علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين وكان أحدهما خارجا عن قدرته عقلا أو عادة وعرفا ، بأن كان لدى السلطان مثلا ، فهنا وإن لم يلزم المخالفة العمليّة للمعلوم بالإجمال إلا أنّه سوف يلزم الاعتقاد بصدور ترخيص قطعي في المخالفة وهو مستحيل أيضا.

وهذه الصياغة تقدّم بعض الحديث عنها ، وأنّه لا معنى لاستحالة الترخيص القطعي لا من حيث الجعل والاعتبار ولا من حيث المبادئ والملاكات ، ولا من حيث الامتثال.

إلا أنّ هذا الركن الرابع بصياغته المشهورة سوف يأتي مزيد تحقيق وتعديل له عند الحديث عن الشبهة المحصورة.

* * *

٣٠٠