شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

تطبيقات

منجّزيّة العلم الإجمالي

٣٠١
٣٠٢

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي

عرفنا في ضوء ما تقدّم الأركان الأربعة لتنجيز العلم الإجمالي ، فكلّما انهدم واحد منها بطلت منجّزيّته ، وكلّ الحالات التي قد يدّعى سقوط العلم الإجمالي فيها عن المنجّزيّة لا بدّ من افتراض انهدام أحد الأركان فيها ، وإلا فلا مبرّر للسقوط.

وفيما يلي نستعرض عددا مهمّا من هذه الحالات لدراستها من خلال ذلك :

بعد أن عرفنا أركان العلم الإجمالي الأربعة ، نقول : إنّه لكي يكون العلم الإجمالي منجّزا فلا بدّ من توفّر هذه الأركان معا ، فإذا اختلّ ركن منها سقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وهذا يعني أنّ كلّ الحالات التي يقال فيها بسقوط العلم الإجمالي مرجعها في الحقيقة إلى ادّعاء اختلال أحد أركان هذه القاعدة ، وإلا فلا معنى للسقوط مع توفّر الأركان الأربعة.

وهنا سوف نستعرض أهمّ هذه الحالات التي يدّعى فيها سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وسوف ندرسها لنرى ما هو الصحيح منها.

١ ـ زوال العلم بالجامع :

الحالة الأولى : أن يزول العلم بالجامع رأسا ولذلك صور :

الصورة الأولى : أن يظهر للعالم خطؤه في علمه ، وأنّ الإناءين اللذين اعتقد بنجاسة أحدهما مثلا طاهران ، ولا شكّ هنا في السقوط عن المنجّزيّة ؛ لانعدام الركن الأوّل من الأركان المتقدّمة.

الحالة الأولى : أن يزول العلم بالجامع رأسا فيختلّ الركن الأوّل من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهو العلم بالجامع واختلال هذا الركن له ثلاثة صور :

٣٠٣

الصورة الأولى : أن يكتشف من كان عالما بالإجمال الخطأ في علمه ، بمعنى أنّ من علم بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ظهر له الخطأ في هذا العلم الإجمالي ، وتبيّن له واقع الحال وأنّ الإناءين معا طاهران ، ولا يوجد نجاسة في أحدهما أصلا ، أو يعلم بالنجاسة ضمن أحد الإناءين فاعتقد أنّ هذين الإناءين هما اللذان يوجد فيهما نجاسة ، ثمّ تبيّن له أنّ هذين الإناءين طاهران وأنّ النجاسة المعلومة بالإجمال موجودة ضمن إناءين آخرين غيرهما.

وبتعبير آخر : يكون قد أخطأ في التشخيص والتطبيق.

وهنا لا شكّ في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّه لا يوجد علم بالجامع بل هناك علم تفصيلي بطهارة كلا الإناءين.

الصورة الثانية : أن يتشكّك العالم فيما كان قد علم به ، فيتحوّل علمه بالجامع إلى الشكّ البدوي والأمر فيه كذلك أيضا.

الصورة الثانية : أن يحصل لمن علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين تشكيك في علمه الإجمالي هذا ، بمعنى أنّه بعد أن علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين يشكّ في أنّ علمه هذا صحيح أم لا ، فيكون الشكّ هنا في أصل حدوث العلم الإجمالي ، وهذا ما يسمّى بالشكّ الساري الذي سوف يأتي الحديث عنه في الاستصحاب.

مثاله : أن يشكّ في أنّ القطرة الحمراء التي وقعت في أحد الإناءين هل هي قطرة دم أم قطرة من صبغ أحمر؟ وفي هذه الصورة لا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أيضا لزوال العلم الإجمالي بالجامع ، فإنّ هذا الشكّ سوف يسري إلى العلم الإجمالي ويزيله ؛ إذ ما دام مصبّهما واحدا فيستحيل اجتماعهما معا ، بل يكون هذا الشكّ هادما للعلم بالجامع ؛ لأنّ مورد الشكّ هو نفس مورد العلم الإجمالي.

فيتحوّل الأمر بعد الجمع بينهما إلى الشكّ البدوي في الطرفين معا ، فتجري فيهما الأصول الترخيصيّة بلا محذور ، إذ المحذور من جريانها ليس إلا العلم بالجامع ، والمفروض أنّ العلم بالجامع غير ثابت بل مشكوك فصار يشكّ الآن في وجود هذا الجامع وعدم وجوده ، وما دام أصل الجامع مشكوكا فهذا معناه أنّه لا يعلم بالمخالفة القطعيّة في حال جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين.

ولكن قد يتوهّم بقاء الأطراف على منجّزيّتها ؛ لأنّ الأصول المؤمّنة تعارضت

٣٠٤

فيها في حال وجود العلم الإجمالي ، وهو وإن زال ولكنّها بعد تعارضها وتساقطها لا موجب لعودها ، فتظلّ الشبهة في كلّ طرف بلا أصل مؤمّن فتتنجّز.

قد يقال هنا : إنّ الأطراف لا تزال منجّزة حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة باختلال ركنه الأوّل بدعوى : أنّ العلم الإجمالي قبل طروء التشكيك فيه كان منجّزا لكلا الطرفين ، ومنجّزيّته كانت تمنع الأصول الترخيصيّة من الجريان في كلا الطرفين ؛ لأنّ جريانها كذلك يوجب المخالفة القطعيّة ، ولا يمكن أيضا جريانها في أحدهما ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، وعليه فيحكم بسقوط الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين.

ثمّ بعد زوال العلم الإجمالي بطروء التشكيك فيه والذي يزيل العلم بالجامع ، تصبح الشبهة في كلا الطرفين بدويّة ، إلا أنّ حكم هذه الشبهة البدويّة هو التنجيز ؛ لأنّ كلّ شبهة لا يوجد فيها أصل مؤمّن فتكون منجّزة على أساس حكم العقل بلزوم دفع الضرر أو العقاب المحتمل ، والمفروض أنّه بعد سقوط الأصول الترخيصيّة في الطرفين لم يبق أصل مؤمّن في الطرفين ؛ لأنّها قد سقطت بالمعارضة فلا يمكن أن تعود مجدّدا.

وقد يجاب على هذا التوهّم بأنّ الشكّ الذي سقط أصله بالمعارضة هو الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال ، وهذا الشكّ زال بزوال العلم الإجمالي ، ووجد بدلا عنه الشكّ البدوي ، وهو فرد جديد من موضوع دليل الأصل ، ولم يقع الأصل المؤمّن عنه طرفا للمعارضة ، فيجري بدون إشكال.

وفي كلّ من هاتين الصورتين يزول العلم بحدوث الجامع رأسا.

ويجاب عن ذلك : أنّه يوجد لدينا شكّان متغايران :

أحدهما : الشكّ في كون كلّ واحد من الطرفين هو المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يحتمل فيه أن ينطبق عليه المعلوم بالإجمال فيكون هو النجس ، فإنّ هذا الشكّ موجود في كلا الطرفين على حدّ واحد ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة كالبراءة الشرعيّة أو أصالة الطهارة ونحوهما ، إلا أنّ هذه الأصول قد سقطت بسبب التعارض الناشئ من وجود العلم الإجمالي.

والآخر : الشكّ في كلّ واحد من الطرفين في نفسه وبقطع النظر عن العلم الإجمالي ، وهو المسمّى بالشكّ البدوي ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة بلحاظ كلّ أطرافه من دون أي محذور.

٣٠٥

بعد ذلك نقول : إنّ الأصول الترخيصيّة التي سقطت بسبب التعارض هي الأصول الترخيصيّة التي موضوعها الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ، أي الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحد من الطرفين.

وأمّا الأصول الترخيصيّة الأخرى التي موضوعها الشكّ البدوي فهذه ثابتة ؛ لأنّ موضوعها وهو الشكّ البدوي موجود في كلّ طرف في نفسه بقطع النظر عن العلم الإجمالي.

فبعد زوال العلم الإجمالي سوف يزول معه الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين ، وبالتالي سوف تزول الأصول الترخيصيّة بلحاظ هذا الموضوع والمورد ، وأمّا المورد الآخر وهو الشكّ البدوي فهو ثابت حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي ؛ لأنّ هذا الشكّ ثابت في نفس الطرف سواء كان هناك علم إجمالي أم لا.

وأدلّة الأصول الترخيصيّة من قبيل ( رفع ما لا يعلمون ) تشمل كلّ شكّ سواء الشكّ البدوي أو الشكّ في التطبيق ، فإذا زال أحد هذين الموضوعين لا يعني سقوط الأصول الترخيصيّة رأسا ، بل تبقى ثابتة في الموضوع الآخر.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الأصول الترخيصيّة التي سقطت هي الأصول التي كانت جارية بسبب الشكّ في انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ من الطرفين ، وحيث إنّ هذا الشكّ قد سقط وزال بسبب زوال العلم الإجمالي ، فتسقط الأصول من هذه الناحية لا مطلقا ، أي أنّها تبقى ثابتة مع موضوعها الآخر ، وهو الشكّ البدوي الثابت في كلّ طرف في نفسه بعد زوال العلم الإجمالي (١).

__________________

(١) ولعلّ السيّد الشهيد لا يرتضي مثل هذا الجواب ، إذ أصل الإشكال كان توهّما ؛ لأنّ الصحيح هو أنّ الأصول الترخيصيّة لم تسقط ، بل كان هناك مانع من جريانها وهو وجود العلم الإجمالي ، فإذا زال هذا المانع وسقط العلم الإجمالي جرت الأصول بلا محذور ، لا أنّها لم تكن ثابتة أصلا عند وجود العلم الإجمالي ويراد إثباتها من جديد ، ليقال بوجود موضوع آخر لها وهو الشكّ البدوي ، بل موضوعها ثابت حتّى مع وجود العلم الإجمالي ؛ لأنّ كلّ طرف مشكوك في نفسه ، غاية الأمر كان هذا الشكّ مقترنا بالعلم الإجمالي ، وهذا الاقتران من شأنه المنع من جريان الأصول بالفعل ، فبعد زواله تجري فعلا ، فالذي سقط بالدقّة ليس نفس الأصل ، بل فعليّة الأصل ، وأمّا المقتضي لجريانه فهو ثابت على كلّ حال ولم يسقط.

٣٠٦

الصورة الثالثة : أن يزول العلم بالجامع بقاء وإن كان العلم بحدوثه لا يزال مستمرّا ، وهذه الصورة تتحقّق على أنحاء :

الصورة الثالثة : أن يفرض أنّ العلم بالجامع موجود حدوثا ولكنّه ساقط بقاء ، أي أنّ أصل حدوث العلم الإجمالي ثابت ولا شكّ فيه ، غير أنّ العلم الإجمالي في مرحلة البقاء والاستمرار ساقط ؛ لأنّ الجامع قد زال ، وهذه الصورة لها أنحاء أربعة :

النحو الأوّل : أن يكون للجامع المعلوم أمد محدّد بحيث يرتفع متى ما استوفاه ، فإذا استوفى أمده لم يعد هناك علم بالجامع بقاء ، بل يعلم بارتفاعه وإن كان العلم بحدوثه ثابتا.

النحو الأوّل : أن يفرض أنّ للجامع المعلوم إجمالا أمدا ينتهي إليه بحيث يقطع بزواله وارتفاعه بعد أن يستوفي هذا الأمد ، فهنا إذا استوفى الجامع الأمد فهو معلوم الارتفاع بقاء ، ولكنّه معلوم الثبوت حدوثا ، وحيث إنّه معلوم الارتفاع بقاء فيزول العلم الإجمالي بزوال العلم بالجامع.

ومثاله ما إذا علم إجمالا بخروج بول أم مني منه ثمّ اغتسل غسل الجمعة ، فإنّه على كلّ تقدير سوف يعلم بارتفاع الجامع ؛ لأنّ الغسل كما يرفع الحدث بالبول كذلك يرفع الحدث بالمني ، هذا على القول بذلك.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بوجوب أحد أمرين كلاهما إلى الظهر ، فهنا إذا زالت الشمس سوف يزول علمه بالجامع بلا شكّ ، وبزواله ينحلّ العلم الإجمالي فلا يكون منجّزا.

النحو الثاني : أن يكون الجامع على كلّ تقدير متيقّنا إلى فترة ومشكوك البقاء بعد ذلك ، وفي مثل ذلك يزول أيضا العلم بالجامع بقاء ، ولكن يجري استصحاب الجامع المعلوم ، ويكون الاستصحاب حينئذ بمثابة العلم الإجمالي.

النحو الثاني : أن يفرض أنّ الجامع معلوم إلى فترة معيّنة ولكنّه مشكوك البقاء بعد هذه الفترة ، فهنا إذا انتهت الفترة المعلومة وحلّت الفترة المشكوكة سوف يزول العلم الإجمالي بالجامع ، إذ سوف يكون مشكوك البقاء ، فلا يكون منجّزا ، نعم يمكن التعويض عنه بالاستصحاب فإنّ المورد سوف يكون من استصحاب الكلّي.

ومثال ذلك : ما إذا علم إجمالا بخروج البول أو المني منه ثمّ اغتسل غسل الجمعة ،

٣٠٧

وفرضنا الشكّ في كون غسل الجمعة يجزي عن الوضوء وعن الغسل ، فهنا قبل الاغتسال يعلم ببقاء الجامع وهو الحدث إمّا الأصغر وإمّا الأكبر ، ولكن بعد الاغتسال سوف يشكّ في بقاء الحدث وزواله باعتبار الشكّ في إجزاء غسل الجمعة عنهما أو عدم إجزائه ، فهنا يزول العلم بالجامع ويحلّ مكانه الشكّ ، وبالتالي تزول منجّزيّة العلم الإجمالي لاختلال أحد الأركان.

إلا أنّه في هذا المورد حيث يكون للجامع على تقدير التعبّد ببقائه أثر شرعي فيمكن جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ الجامع وهو الحدث كان معلوما قبل الاغتسال ثمّ بعد الاغتسال يشكّ في ارتفاعه وببقائه فيجري استصحاب بقائه ، وهذا من القسم الثاني من استصحاب الكلّي والذي يجري بلا إشكال.

ويترتّب عليه نفس ما كان يترتّب على العلم الإجمالي ، لأنّه ما دام كلّي وطبيعي الحدث ثابتا بقاء بالتعبّد ، فكلّ الأعمال التي يشترط فيها الطهارة لا يمكن الإتيان بها إلا بالإتيان بالوضوء والغسل معا ، إذ الأمر دائر بينهما والاكتفاء بأحدهما لا يعني فراغ الذمّة يقينا من ذاك العمل المشروط بالطهارة ، وبهذا نصل إلى نفس النتيجة مع منجّزيّة العلم الإجمالي.

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مردّدا بين تكليفين ، غير أنّ أحدهما على تقدير تحقّقه يكون أطول مكثا في عمود الزمان من الآخر ، كما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو بحرمة الشرب من الإناء الآخر إلى الغروب ، فبعد الظهر لا علم بحرمة أحد الإناءين فعلا ، فهل يجوز الشرب من الإناء الآخر حينئذ لزوال العلم الإجمالي؟

النحو الثالث : أن يكون الجامع المعلوم مردّدا بين أمرين أحدهما أطول من الآخر في عمود الزمان ، فهنا إذا حلّ زمان أحدهما وانتهى سوف يشكّ في بقاء الجامع ؛ لأنّه إذا كان قد حدث من أول الأمر مع الفرد القصير فهو قد زال حتما ، وإن كان قد حدث مع الفرد الطويل فهو ثابت بقاء قطعا ، فيكون الجامع مردّدا أيضا في مرحلة البقاء غير معلوم الارتفاع وغير معلوم البقاء.

ومثاله : أن يعلم إجمالا بحرمة شرب أحد الإناءين ، ولكن أحدهما يعلم بحرمة شربه إلى الظهر والآخر إلى المغرب ، فهنا إذا حلّ وقت الظهر سوف يكون الإناء

٣٠٨

المقيّدة حرمته بالظهر حلالا بخلاف الآخر ، ولكن حيث لا يدري من هو المحرّم شربه من أوّل الأمر فسوف يشكّ في مرحلة البقاء بأنّ الشرب هل لا يزال حراما أم لا؟ إلا أنّه لا علم له بالفعل بحرمة أحد الإناءين بعد الظهر.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بخروج البول أو المني منه ، وقلنا : إنّ غسل الجمعة لا يجزي عن الغسل ويشكّ في إجزائه عن الوضوء ، فهنا إذا اغتسل فسوف يحتمل ارتفاع الحدث من البول على تقدير كونه هو المعلوم بالإجمال ، وأمّا الحدث بالمني فهو باق على تقدير حدوثه ، إلا أنّه بعد الاغتسال لا يعلم ببقاء جامع الحدث ؛ لأنّه يعلم بارتفاعه ضمن الفرد القصير ويعلم ببقائه ضمن الفرد الطويل ، ولكنّه لا يدري بأي الفردين كان قد حدث ووجد؟

فهنا هل يبطل العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أم لا؟

والجواب بالنفي ؛ وذلك لعدم زوال العلم الإجمالي وعدم خروج الطرف الآخر عن كونه طرفا له ، فإنّ الجامع المردّد بين التكليف القصير والتكليف الطويل الأمد لا يزال معلوما حتّى الآن كما كان ، فالتكليف الطويل في الإناء الآخر بكلّ ما يضمّ من تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى المغرب طرف للعلم الإجمالي.

ونسمّي مثل ذلك بالعلم الإجمالي المردّد بين القصير والطويل ، وحكمه أنّه ينجّز الطويل على امتداده.

قد يقال في الجواب : إنّه تجري الأصول الترخيصيّة عن الفرد الطويل بعد انتهاء أمد الفرد القصير ، إذ لا معارض لهذه الأصول ، فإنّه بعد حلول الظهر سوف نعلم بعدم حرمة الشرب من الإناء الأوّل ؛ لأنّ حرمته مقيّدة إلى الظهر فترتفع عند حلول الغاية والقيد.

وأمّا حرمة الإناء الآخر المقيّد بالمغرب فتصبح مشكوكة ابتداء ، والأصول الترخيصيّة التي تجري فيه لا معارض لها ؛ لأنّ الطرف الآخر قد ارتفع بارتفاع موضوعه ، وبالتالي سقطت معه الأصول الترخيصيّة.

والصحيح في الجواب أن يقال بعدم زوال العلم الإجمالي وعدم سقوطه عن المنجّزيّة وعدم جريان الأصول الترخيصيّة فيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي بين الفردين الطويل والقصير متعلّق بالجامع كما

٣٠٩

هو واضح ، وهذا الجامع يدور أمره بين هذا الفرد القصير في كلّ الآنات وبين الفرد الطويل بكلّ الآنات أيضا ، بمعنى أنّ الفرد القصير ينحلّ إلى تكاليف ضمنيّة بحرمة الشرب من الإناء في كلّ الأوقات الواقعة إلى فترة الظهر ، فإنّ هذه الفترة يوجد فيها أفراد عديدة للشرب بعدد الآنات التي يقع فيها الشرب فتكون كلّ هذه الآنات داخلة مع الطرف في العلم الإجمالي.

وهكذا الحال في الفرد الطويل فإنّه يضمّ تكاليف انحلاليّة بعدد الآنات إلى حين الغروب بعدد الآنات التي يقع فيها الشرب ، وتكون كلّ هذه الآنات داخلة في العلم الإجمالي ، وحينئذ يكون العلم الإجمالي ابتداء ومن أوّل الأمر أي من حين حدوثه دائرا بين حرمة الشرب المنحلّة إلى آنات عديدة إلى حين الظهر أو حرمة الشرب المنحلّة إلى آنات عديدة إلى حين المغرب ، وهذا معناه أنّ كلّ الآنات الواقعة بين فترة ما بعد الظهر إلى المغرب داخلة في العلم الإجمالي وقد تنجّزت بهذا العلم.

ومجرّد حلول الظهر لا يعني زوال العلم الإجمالي بحرمة الشرب بعدد الآنات الواقعة بين الظهر والمغرب ، وإنّما يعني أنّ الطرف الأوّل وهو الفرد القصير قد تحقّق ؛ لأنّ آناته قد انتهت ، وأمّا الطرف الآخر فلم تنته آناته بعد مع كونه طرفا للعلم الإجمالي بكلّ ما يحتويه من آنات.

ومن الواضح أنّ تحقّق أحد طرفي العلم الإجمالي لا يعني أنّه يجوز جريان الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر الذي لم يتحقّق بعد ، وإلا لم يكن هناك علم إجمالي منجّز أصلا.

فمثلا إذا علمنا بوجوب الظهر أو الجمعة ، فالعلم ينجّز كلتا الصلاتين ، فإذا شرع في صلاة الظهر وأتمّها فهل تجري الأصول الترخيصيّة في الجمعة؟

والجواب بالنفي قطعا ؛ لأنّ صلاة الجمعة قد تنجّزت من أوّل الأمر والأصول الترخيصيّة قد سقطت من أوّل الأمر قبل الشروع بإحداهما.

ومقامنا من هذا القبيل فإنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في الفرد الطويل بكلّ آناته قد سقطت من أوّل الأمر وقبل انتهاء أمد الفرد القصير لمعارضتها بالأصول الترخيصيّة في الفرد القصير بكلّ آناته.

٣١٠

وهكذا يتّضح أنّ العلم الإجمالي في هذا النحو يكون منجزا ولا يزول عن المنجّزيّة بانتهاء أمد أحد الطرفين.

ويسمّى هذا العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي المردّد بين الفردين الطويل والقصير ، وحكمه هو المنجّزيّة لكلا الطرفين القصير إلى الظهر والطويل إلى المغرب ؛ لأنّ كلاّ منهما يدخل طرفا مع كلّ تكاليفه الانحلاليّة بعدد الآنات المتصوّرة.

النحو الرابع : أن يكون التكليف في أحد طرفي العلم الإجمالي مشكوك البقاء على تقدير حدوثه.

النحو الرابع : أن يكون الجامع المعلوم إجمالا مردّدا بين طرفين : أحدهما مشكوك البقاء على تقدير حدوثه ، والآخر مقطوع الارتفاع على تقدير حدوثه ، بأن علم إجمالا بخروج المني أو البول منه ويعلم بأنّ غسل الجمعة يجزي عن الوضوء ويشكّ في إجزائه عن الغسل ، فهنا على تقدير ثبوت الحدث بالبول فهو معلوم الارتفاع بعد الاغتسال ، وأمّا على تقدير ثبوت الحدث بالمني فهو مشكوك البقاء بسبب الشكّ في إجزاء غسل الجمعة عنه وعدم إجزائه.

ومثاله أيضا : ما إذا علم بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى الظهر أو حرمة الشرب من ذاك الإناء إمّا إلى الظهر أو إلى المغرب ، فهنا بعد حلول الظهر سوف يقطع بارتفاع حرمة الشرب عن ذاك الإناء ، ولكنّه سوف يشكّ في بقاء الحرمة في الإناء الآخر بسبب الشكّ في أنّه محرّم للظهر فقط أو للمغرب أيضا.

وقد يقال في مثل ذلك بسقوط المنجّزيّة ؛ لأنّ فترة البقاء المشكوكة من ذلك التكليف لا موجب لتنجّزها بالعلم الإجمالي ؛ لأنّها ليست طرفا للعلم الإجمالي ، ولا بالاستصحاب إذ لا يقين بالحدوث ليجري الاستصحاب.

قد يقال هنا بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بعد ارتفاع الطرف الأوّل وهو الفرد القصير بحلول الظهر في مثال الإناءين أو بالغسل في مثال الحدث المردّد.

والوجه في السقوط أنّه لا يوجد مبرّر لتنجيز الطرف الآخر المشكوك بقاء التكليف فيه على تقدير حدوثه ، وهو الإناء الآخر المشكوك الحرمة إلى الظهر أو المغرب أو الحدث الأكبر المشكوك ارتفاعه بالغسل ؛ وذلك لأنّ المنجّز له أحد أمرين وكلاهما منتف وهما :

٣١١

الأمر الأوّل : العلم الإجمالي ، وهو إنّما ينجّز الفرد الطويل فيما إذا كان طرفا للعلم الإجمالي ، والمفروض أنّه بعد حلول الظهر أو بعد الاغتسال حيث يعلم بارتفاع الفرد القصير لا يوجد علم إجمالي مردّد بين فردين ، وإنّما يوجد شكّ في بقاء التكليف في الفرد الطويل فقط ، وهذا الشكّ تجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا معارض.

والأمر الثاني : هو الاستصحاب ، حيث إنّ الفرد الطويل قبل حلول الظهر أو قبل الاغتسال كان منجّزا ، وبعد حلول الظهر أو الاغتسال يشكّ في بقاء تنجيزه وارتفاعه فيستصحب ، إلا أنّ هذا الاستصحاب غير جار ؛ لعدم تماميّة أركانه ، إذ لا علم بثبوت التكليف في الفرد الطويل بذاته ، لأنّه بذاته مشكوك من أوّل الأمر ، وحيث لا يقين بالحدوث فلا يستصحب بقاؤه عند الشكّ ، فظهر أنّه لا يوجد ما ينجّز التكليف في الفرد الطويل بقاء فتجري فيه الأصول المؤمّنة.

وقد يجاب على ذلك بأنّ الاستصحاب يجري على تقدير الحدوث بناء على أنّه متقوّم بالحالة السابقة لا باليقين بها ، ومعه يحصل العلم الإجمالي إمّا بثبوت الاستصحاب في هذا الطرف ، أو ثبوت التكليف الواقعي في الطرف الآخر ، وهو كاف للتنجيز.

وقد يجاب على ذلك بأنّنا لو سلّمنا بأنّ الفرد الطويل لا يقع طرفا للعلم الإجمالي ؛ لأنّه ليس موجودا بعد ارتفاع الفرد القصير ، إلا أنّ استصحاب الفرد الطويل يجري وذلك بتقريب آخر ، وحاصله : أنّه لا يشترط في الاستصحاب أكثر من الحدوث لا اليقين بالحدوث ، وهذا يعني أنّ الشكّ في البقاء على تقدير الحدوث يكفي لجريان الاستصحاب إذا كان هناك أثر شرعي ؛ لأنّ الشكّ متعلّق بنفس ما تعلّق به الحدوث.

وفي مقامنا نقول : إنّ الفرد الطويل على تقدير حدوثه وثبوته فهو مشكوك البقاء إلى ما بعد الظهر أو الاغتسال ، وعليه فيجري استصحابه لترتّب الأثر الشرعي عليه وهو حرمة الشرب من الإناء إلى المغرب ، أو بقاء الحدث الأكبر الذي لا يرتفع إلا بغسل الجنابة.

وحينئذ سوف يتشكّل لدينا علم إجمالي آخر مردّد بين طرفين أحدهما الفرد القصير إلى الظهر والآخر الفرد الطويل إلى المغرب بالاستصحاب ، وهذا العلم الإجمالي موجود من أوّل الأمر إلى جانب العلم الإجمالي السابق وهو العلم الإجمالي بثبوت أحد الأمرين.

٣١٢

وبتعبير آخر : إنّه يوجد لدينا علمان إجماليّان :

الأوّل : العلم الإجمالي الدائر بين الفردين القصير والطويل ، أي أنّه يعلم بثبوت أحدهما على سبيل الإجمال ، أحدهما على تقدير ثبوته فأمده إلى الظهر أو إلى الاغتسال بغسل الجمعة ، والآخر أمده إلى المغرب أو إلى الاغتسال بغسل الجنابة.

الثاني : العلم الإجمالي الدائر بين تكليفين أحدهما واقعي وهو حرمة الشرب إلى الظهر ، فإنّها متيقّنة من أوّل الأمر سواء كانت ضمن الفرد القصير أو الفرد الطويل ، والآخر ظاهري وهو حرمة الشرب ما بعد الظهر الثابتة باستصحاب الفرد الطويل على تقدير حدوثه إلى المغرب. والعلم الإجمالي الأوّل هو الذي يسقط عن المنجّزيّة بعد حلول الظهر ؛ لأنّ الفرد الطويل لا علم بثبوت التكليف فيه والفرد القصير قد علم بارتفاع التكليف عنه.

وأمّا العلم الإجمالي الثاني فهو باق على منجّزيّته حتّى بعد حلول الظهر ؛ لأنّ فترة ما بعد الظهر داخلة في أحد الطرفين بالاستصحاب ، والحال أنّها قد تنجّزت من أوّل الأمر بالعلم الإجمالي وهو لا يزول بارتفاع أحد الطرفين كما هو واضح (١).

__________________

(١) لعلّ السيّد الشهيد لا يرتضي مثل هذا الجواب ؛ وذلك لأنّه من أوّل الأمر يجري استصحاب الجامع ، فإنّه معلوم الحدوث ما قبل الظهر ومشكوك البقاء بعد الظهر ، فيجري استصحابه حتّى على القول بأنّ اليقين بالحدوث شرط في الاستصحاب لا خصوص الحدوث.

ومع جريان استصحاب الجامع وهو كلّي الحدث أو كلّي حرمة الشرب يترتّب الأثر المطلوب ترتّبه على الفرد الطويل ؛ لأنّ الفرد القصير قد علم ارتفاعه فيرتفع الأثر المترتّب عليه ، وأمّا الفرد الطويل فلم يرتفع فيبقى الأثر مترتّبا عليه ؛ لأنّه هو الذي يمثّل المصداق للجامع المستصحب.

وهذا يسمّى باستصحاب الكلّي من القسم الثاني كما سيأتي توضيحه في أقسام استصحاب الكلّي.

نعم لا يجري استصحاب الفرد بخصوصه ، أي في الفرد الطويل بعنوانه الخاص لا يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّه غير متيقّن الحدوث ، هذا على اشتراط اليقين بالحدوث.

وحينئذ لا حاجة لافتراض علم إجمالي آخر متعلّق بالتكليف الواقعي في أحد الطرفين أو بالتكليف الظاهري في الطرف الآخر.

٣١٣

٢ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف

الحالة الثانية : أن يعلم إجمالا بنجاسة أحد الطعامين ويكون مضطرّا فعلا إلى تناول أحدهما ، ولا شكّ في أنّ المكلّف يسمح له بتناول ما يضطرّ إليه ، وإنّما نريد أن نعرف أنّ العلم الإجمالي هل يكون منجّزا لوجوب الاجتناب عن الطعام الآخر أو لا؟

الحالة الثانية : أن يكون مضطرّا إلى ارتكاب أو ترك بعض أطراف العلم الإجمالي ، كما إذا علم بنجاسة أحد إناءين وكان مضطرّا للشرب من أحدهما لانحصار الماء فيهما مثلا.

وهنا لا إشكال في أنّ المكلّف يجوز له الشرب من الإناء المضطرّ إلى الشرب منه ؛ لأنّ حرمة الشرب ترتفع عند الاضطرار استنادا إلى مثل قوله : « رفع ما اضطروا إليه » ، ولقوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ )(١).

وإنّما الكلام في أنّ العلم الإجمالي هل لا يزال منجّزا لوجوب الاجتناب عن الإناء الآخر ، أو أنّ منجّزيّته في هذه الحالة تسقط؟

وللجواب عن ذلك نقول :

وهذه الحالة لها صورتان : إحداهما أن يكون الاضطرار متعلّقا بطعام معيّن ، والأخرى أن يكون بالإمكان دفعه بأي واحد من الطعامين.

والتحقيق في المسألة أنّ حالة الاضطرار لها صورتان :

الأولى : أن يكون مضطرّا إلى تناول أحد الإناءين بعينه أي الإناء المعيّن ، كما إذا أكرهه شخص على الشرب من هذا الإناء الذي تحت يده مع علمه بأنّه أو الإناء الآخر نجس ، أو كان شفاؤه من المرض متوقّفا على الشرب من هذا الإناء المعيّن دون الآخر.

الثانية : أن يكون الاضطرار إلى أحدهما غير المعيّن بحيث كان دفع الاضطرار يتحقّق بهذا الإناء وبذاك أيضا ، بأن أكره على الشرب من أحدهما غير المعيّن أو كانا معا ممّا يمكن المعالجة فيه.

__________________

(١) البقرة : ١٧٣.

٣١٤

أمّا الصورة الأولى : فالعلم الإجمالي فيها يسقط عن المنجّزيّة لزوال الركن الأوّل ، حيث لا يوجد علم إجمالي بجامع التكليف.

والسبب في ذلك أنّ نجاسة الطعام المعلومة إجمالا جزء الموضوع للحرمة والجزء الآخر عدم الاضطرار ، وحيث إنّ المكلّف يحتمل أنّ النجس المعلوم هو الطعام المضطرّ إليه بالذات فلا علم له بالتكليف الفعلي ، فتجري البراءة عن حرمة الطعام غير المضطرّ إليه وغيرها من الأصول المؤمّنة بدون معارض ؛ لأنّ حرمة الطعام المضطرّ إليه غير محتملة ليحتاج إلى الأصل بشأنها ، ولكن هذا على شرط ألاّ يكون الاضطرار متأخّرا عن العلم الإجمالي.

أمّا الصورة الأولى : وهي فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد الإناءين بعينه فهذه على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين ثابتا قبل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وذلك بأن كان مضطرّا للشرب من أحد الإناءين ، ثمّ بعد ذلك علم إجمالا بنجاسة أحدهما ، فهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ وذلك لاختلال الركن الأوّل من أركانه وهو العلم بجامع التكليف ؛ لأنّه قبل العلم بنجاسة أحدهما كان أحد الإناءين مباحا للشرب بسبب طروّ الاضطرار الرافع للحرمة ، فهو جائز الشرب إمّا لأنّه طاهر واقعا وإمّا لأنّه مضطرّ إليه ، ولذلك فلا يوجد تكليف فيه حتّى على تقدير كونه هو المعلوم بالإجمال.

وهذا يعني أنّ العلم بنجاسة أحد الإناءين دائر بين طرفين أحدهما لا تكليف فيه على تقدير كونه المعلوم بالإجمال ، والآخر فيه تكليف على تقدير كونه المعلوم بالإجمال. فهو علم بالتكليف على أحد التقديرين لا على كلا التقديرين.

وقد قلنا فيما سبق : إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لمعلوم فيما إذا كان منجّزا له على جميع التقادير لا على بعض التقادير ؛ لأنّه في هذه الحالة سوف لا يكون هذا البعض معلوما ، وبالتالي تجري البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة لصيرورة المورد من الشبهة البدويّة.

ومرجع ذلك إلى أنّ النجاسة المعلومة إجمالا جزء الموضوع لحرمة الشرب وليست تمام الموضوع ؛ لأنّ الحرمة مقيّدة من أوّل الأمر بعدم الاضطرار إليها ،

٣١٥

فالجزء الآخر ألاّ يكون هناك اضطرار.

وحينئذ فالإناء المضطرّ إلى شربه ارتفع أحد جزئي موضوع حرمة الشرب فيه فكونه نجسا لا يؤثّر في ثبوت الحرمة ؛ لأنّه من الواضح أنّ ما يكون مضطرّا إليه فهو مباح واقعا ، ولا يحتاج إلى إجراء الأصول الترخيصيّة فيه إذ لا موضوع لها مع العلم بالحكم الواقعي ، ولذلك تجري الأصول الترخيصيّة في الإناء الآخر من دون معارض ، إذ لا يوجد أصول ترخيصيّة في الإناء المضطرّ إليه ؛ لأنّه مباح واقعا بسبب الاضطرار الذي هو عنوان ثانوي.

فظهر بذلك أنّ العلم الإجمالي المتأخّر عن الاضطرار لا يكون منجّزا لا للطرف المضطرّ إليه ؛ إذ لا إشكال في إباحته ، ولا للطرف الآخر ؛ لأنّ الأصول الترخيصيّة تجري فيه من دون معارض.

وإلا بقي على المنجّزيّة ؛ لأنّه يكون من حالات العلم الإجمالي المردّد بين الطويل والقصير ، إذ يعلم المكلّف بتكليف فعلي في هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار ، أو في الطرف الآخر حتّى الآن.

النحو الثاني : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد هذين الإناءين ثمّ اضطرّ للشرب من أحدهما المعيّن ، فهنا يبقى العلم الإجمالي على منجّزيّته بالنسبة للإناء الآخر ؛ وذلك لأنّ المورد يكون من موارد الدوران المردّد بين الفردين الطويل والقصير.

وتوضيحه : أنّ المكلّف يعلم من أوّل الأمر بحرمة الشرب من هذا الإناء إلى حين الاضطرار لشربه ، أو بحرمة الشرب من ذاك الإناء إلى الآن ، فهو يعلم بحرمة الشرب فعلا من أول الأمر ، فهو علم بجامع التكليف على كلا التقديرين.

غايته أنّ أحد الطرفين قصير والآخر طويل ، إلا أنّه يكون منجّزا لكلا الطرفين أحدهما إلى حين الاضطرار فعلا إلى شربه والآخر إلى الآن ، فبعد الاضطرار إلى شرب أحدهما المعيّن يكون الفرد القصير قد انتهى وارتفع ، إلا أنّ الفرد الطويل لا يزال ثابتا وهو منجّز بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ الفرد الطويل بكلّ آناته يكون فيه تكاليف انحلاليّة ، وكلّها تدخل طرفا في العلم الإجمالي ، والأصول الترخيصيّة الجارية فيها

٣١٦

معارضة بالأصول الترخيصيّة الجارية في الفرد القصير بكلّ آناته إلى حين الاضطرار (١).

وقد يفترض الاضطرار قبل العلم ولكنّه متأخّر عن زمان النجاسة المعلومة ، كما إذا اضطرّ ظهرا إلى تناول أحد الطعامين ثمّ علم ـ قبل أن يتناول ـ أنّ أحدهما تنجّس صباحا ، وهنا العلم بجامع التكليف الفعلي موجود فالركن الأوّل محفوظ ، ولكنّ الركن الثالث غير محفوظ ؛ لأنّ التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار فقد انتهى أمده ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلا ، فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.

النحو الثالث : أن يكون الاضطرار إلى أحد الإناءين حادثا قبل طروّ العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، إلا أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي متقدّم على الاضطرار ، فيكون الاضطرار قبل العلم إلا أنّ المعلوم قبل الاضطرار لا بعده.

مثاله : ما إذا اضطرّ إلى شرب أحد الإناءين بعينه ثمّ علم بعد الاضطرار إلى الشرب وقبل الشرب أنّ أحدهما نجس قبل أن يحدث الاضطرار ، بأن كان زمان الاضطرار الظهر وزمان العلم بعد الظهر إلا أنّ زمان المعلوم منذ الصباح.

وهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لاختلال الركن الثالث وهو شمول الأصول الترخيصيّة لكلا الطرفين ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي هنا نشأ بعد الاضطرار إلى أحدهما المعيّن ، وهذا يعني أنّه دائر بين طرفين أحدهما لا تكليف فيه أصلا حتّى على تقدير كونه نجسا ؛ لأنّ الاضطرار يرفع التكليف واقعا ، والآخر على تقدير كونه نجسا فهو حرام ، إلا أنّه لا يحرز انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي عليه.

وأمّا إذا لاحظنا كون المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحدهما ثابتا قبل الاضطرار ، فيكون العلم الإجمالي دائرا بين الفردين الطويل والقصير فيكون العلم بجامع الحرمة موجودا.

__________________

(١) إلا أنّ الشيخ الأنصاري ذهب هنا إلى انحلال العلم الإجمالي لزوال العلم بالجامع ؛ لأنّ الطرف المضطرّ إليه لا تكليف فيه فعلا ، فلا يبقى العلم بجامع التكليف معلوما على كلّ تقدير ، وفيه : إنّ سقوط التكليف عن المنجّزيّة الفعليّة لا يزيل العلم الإجمالي ولا يوجب انحلاله.

٣١٧

وحيث إنّ العلم الإجمالي نشأ متأخّرا عن الاضطرار ، فالعلم بجامع التكليف وإن كان ثابتا التفاتا إلى أنّ المعلوم بالإجمال موجود قبل الاضطرار إلا أنّه لا يكفي للمنجّزيّة ؛ لأنّ الركن الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين غير موجود ؛ لأنّ الإناء المضطرّ إليه فعلا لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّه مباح الشرب واقعا بسبب الاضطرار.

فعلى تقدير انطباق المعلوم بالإجمال على الإناء المضطرّ إليه فلا حرمة فعلا ؛ لأنّها قد انتهت بالأمد المحدّد لها واقعا وهو حدوث الاضطرار في موردها ، فالحرمة مرتفعة عنه واقعا لارتفاع موضوعها ولا معنى لجريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة فيه ، إذ لا أثر لها ولارتفاع الشكّ فلا موضوع لها أيضا ، وأمّا الإناء الآخر فموضوع الأصول الترخيصيّة فيه ثابت فتجري فيه بلا معارض ، وبالتالي ينحلّ العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : إنّ هذا النحو بلحاظ حدوث العلم الإجمالي يكون العلم بالجامع مختلاّ ؛ لأنّ العلم متأخّر عن الاضطرار كما هو في النحو الأوّل ، وبلحاظ المعلوم بالإجمال يكون العلم بالجامع ثابتا ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال وهو النجاسة متقدّم على الاضطرار كما هو في النحو الثاني.

ولذلك فمن ذهب إلى التنجيز التفت إلى ثبوت العلم بالجامع ، ومن ذهب إلى عدم التنجيز التفت إلى عدم العلم بالجامع ، إلا أنّ الصحيح أنّ العلم بالجامع وإن كان ثابتا لكنّه لا يفيد ؛ لأنّه إنّما كان ثابتا في فترة لا يوجد علم إجمالي فيها فلم يكن الجامع منجّزا من أوّل الأمر ، وفي الفترة التي وجد فيها العلم الإجمالي كان العلم بالجامع مفقودا بسبب حدوث الاضطرار قبل العلم ، والذي يمنع من جريان الأصول الترخيصيّة في الإناء المضطرّ إليه والذي ينبغي وجود التكليف فعلا في الإناء المضطرّ إليه.

ويطّرد ما ذكرناه في غير الاضطرار أيضا من مسقطات التكليف ، كتلف بعض الأطراف أو تطهيرها ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد إناءين ثمّ تلف أحدهما أو غسّل بالماء ، فإنّ العلم الإجمالي لا يسقط عن المنجّزيّة بطروّ المسقطات المذكورة بعده ، ويسقط عن المنجّزيّة بطروّها مقارنة للعلم الإجمالي أو قبله.

وهذا الكلام يجري أيضا في غير الاضطرار من مسقطات التكليف ، فإذا تلف

٣١٨

أحد الإناءين وأريق الماء أو طهّر الماء باتصاله بالجاري مثلا ، فهنا تأتي الانحاء الثلاثة المتقدّمة.

فإذا كان التلف أو التطهير قبل طروّ العلم الإجمالي فهنا يزول العلم بالجامع فيختلّ الركن الأوّل ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وإذا كان التلف أو التطهير بعد طروّ العلم الإجمالي فيبقى العلم الإجمالي على منجّزيّته ؛ لأنّه من الدوران المردّد بين الطويل والقصير.

وإذا كان التلف أو التطهير متقدّما على العلم الإجمالي ؛ ولكنّ المعلوم بالإجمال كان متقدّما على التلف أو التطهير ، فهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة أيضا لا لاختلال العلم بالجامع بل لاختلال الركن الثالث ، فإنّ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الإناء التالف أو الطاهر إذ لا أثر ولا موضوع لها ، فتجري في الإناء الموجود بلا معارض.

هذا كلّه في الصورة الأولى أي الاضطرار إلى أحدهما المعيّن.

وأمّا الصورة الثانية : فلا شكّ في سقوط وجوب الموافقة القطعيّة بسبب الاضطرار المفروض ، وإنّما الكلام في جواز المخالفة القطعيّة ، فقد يقال بجوازها كما هو ظاهر المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وبرهان ذلك يتكوّن ممّا يلي :

وأمّا الصورة الثانية وهي فيما إذا كان مضطرّا لارتكاب أحد الطرفين لا بعينه ، فهنا تارة يبحث عن وجوب الموافقة القطعيّة وأخرى يبحث عن حرمة المخالفة القطعيّة.

أمّا الموافقة القطعيّة فلا إشكال في سقوطها ؛ لأنّ الاضطرار رافع للتكليف التفصيلي فضلا عن الإجمالي ، بمعنى أنّه حتّى في صورة القطع بالتكليف فإنّ هذا التكليف يرتفع بطروّ الاضطرار عليه ؛ لأنّه عنوان واقعي ثانوي رافع للأحكام الواقعيّة الثانويّة ؛ لأنّها مقيّدة من أوّل الأمر بعدم الاضطرار كما أنّها مقيّدة بالقدرة وعدم العجز ، وهذا المقدار واضح ولا كلام فيه.

والنتيجة إلى الآن الموافقة الاحتماليّة المساوقة للمخالفة الاحتماليّة ، وأمّا المخالفة القطعيّة فهل لا تزال على حرمتها ، أو أنّ العلم الإجمالي يسقط بلحاظها أيضا؟

ذهب صاحب ( الكفاية ) إلى جواز المخالفة القطعيّة وسقوط حرمتها ، واستدلّ على

٣١٩

ذلك بدعوى أنّ الترخيص في ارتكاب أحدهما بلحاظ الاضطرار يوجب الترخيص التخييري ، أي أنّ المكلّف مخيّر بارتكاب أحدهما وهذا يتنافى مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ؛ لأنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تقتضي المنع عن الطرفين بينما الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه يقتضي تجويز ارتكاب أي الطرفين أراد.

وتوضيح هذا البرهان أن يقال :

أوّلا : أنّ العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة.

ثانيا : أنّ المعلول هنا ساقط.

ثالثا : يستحيل سقوط المعلول بدون سقوط العلّة.

فينتج : أنّه لا بدّ من الالتزام بسقوط العلم الإجمالي بالتكليف ، وذلك بارتفاع التكليف ، فلا تكليف مع الاضطرار المفروض ، وبعد ارتفاعه وإن كان التكليف محتملا في الطرف الآخر ولكنّه حينئذ احتمال بدويّ مؤمّن عنه بالأصل.

وهذا البرهان يتكوّن من ثلاث مقدّمات ونتيجة :

المقدّمة الأولى : أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة كالعلم التفصيلي ؛ لأنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة وحرمة المخالفة ، فلا بدّ من الاجتناب عن كلا الإناءين عند العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

المقدّمة الثانية : أنّ وجوب الموافقة القطعيّة ساقطة في المقام بسبب طروّ الاضطرار إلى أحدهما غير المعيّن المجوّز لارتكاب أحد الإناءين ، وهذا معناه رفع اليد عن الموافقة القطعيّة.

المقدّمة الثالثة : أنّ سقوط الموافقة القطعيّة يعني سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّها معلولة له ، وإذا سقط المعلول فيكشف ذلك عن سقوط علّته ؛ إذ يستحيل ثبوت المعلول من دون العلّة ، فسقوطه يكشف عن سقوطها.

والنتيجة : أنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة في مورد الاضطرار ، فلا تكليف معلوم في أحدهما بسبب الاضطرار إليه ، ولا تكليف في الآخر بعد ارتكاب الأوّل ؛ لأنّ التكليف فيه مشكوك ، وحيث لا منجّز لهذا الشكّ بسبب ارتفاع العلم الإجمالي وسقوطه ، فيكون شكّا بدويّا في التكليف وهو مجرى للأصول الترخيصيّة المؤمّنة عن احتمال التكليف في الطرف الآخر.

٣٢٠