شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

علم أو لا ثبوت للتكليف ، بل لأنّه لا حقّ للمولى على عبده في أن يطيعه في هذه الموارد ؛ لأنّها خارجة عن موضوع حقّ الطاعة تخصّصا ، وبالتالي لا تحتاج إلى هذا الاستدلال والتفصيلات السابقة.

ومن هنا يظهر أنّ الأساس في هذا البحث هو أنّ حقّ الطاعة هل دائرته واسعة فتشمل كلّ انكشاف وكلّ وصول للتكليف ، أم أنّ دائرته ضيّقة ومختصّة بالانكشاف والوصول القطعي فقط؟

وهذا يفترض أن ينصبّ البحث حول تحديد دائرة هذا الحقّ قبل الاستدلال المذكور ؛ لأنّ تحديده يغنينا عن كلّ هذه الاستدلالات.

وثانيا : أنّ التكليف الحقيقي الذي ادّعي كونه متقوّما بالوصول ، إن أراد به الجعل الشرعي للوجوب مثلا الناشئ من إرادة ملزمة للفعل ومصلحة ملزمة فيه ، فمن الواضح أنّ هذا محفوظ مع الشكّ أيضا حتّى لو قلنا بأنّه غير منجّز وأنّ المكلّف الشاكّ غير ملزم بامتثاله عقلا ؛ لأنّ شيئا من الجعل والإرادة والمصلحة لا يتوقّف على الوصول.

وإن أراد به ما كان مقرونا بداعي البعث والتحريك فلنفترض أنّ هذا غير معقول بدون وصول ، إلا أنّ ذلك لا ينهى البحث ؛ لأنّ الشك في وجود جعل بمبادئه من الإرادة والمصلحة الملزمتين موجود على أي حال ، حتّى ولو لم يكن مقرونا بداعي البعث والتحريك ، ولا بدّ أن يلاحظ أنّه هل يكفي احتمال ذلك في التنجيز أو لا؟

وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقي مجرّد اصطلاح ، ولا يغني عن بحث واقع الحال.

ويرد عليه ثانيا : أنّ التكليف الحقيقي الذي ذكر أنّه متقوّم بالوصول ما هو المراد به؟

فإن كان المقصود من التكليف الحقيقي هو ذاك الجعل الشرعي الذي ينشئه الشارع على الموضوع بعد وجود المبادئ والملاكات والإرادة ، أي الحكم الناشئ عن وجود مصلحة ملزمة في الفعل مثلا كما في الوجوب وعن وجود ملاك ملزم وعن وجود شوق مولوي له ، فهذا المعنى من الواضح عدم كونه متقوّما بالوصول ، بل هو

٦١

ثابت بحقّ العالم والجاهل ومن وصل إليه التكليف ومن لم يصل إليه ؛ وذلك لأنّ هذه المبادئ والمصالح والملاكات ثابتة في عالم التشريع والواقع.

فالتكليف إذا ثابت واقعا لثبوت مناشئه سواء كان منجّزا على المكلّف بأن وصل إليه أم لم يكن منجّزا عليه بأن لم يكن واصلا إليه ، بل كان جاهلا أو شاكّا فيه ؛ إذ الجعل والإرادة والملاك والمصلحة يكفي في ثبوتها واقعا لحاظها من الشارع ولا مدخليّة لوصولها إلى المكلّف في ذلك.

فعلى هذا التقدير لا يتمّ ما ذكر من انتفاء التكليف الحقيقي عند عدم وصوله ؛ لأنّ الوصول لا مدخليّة له في ثبوت هذا التكليف بالتفسير الذي ذكرناه.

وإن كان المقصود من التكليف الحقيقي ما يكون ناشئا من مصلحة وملاك وشوق ولكن مقرونا بداعي البعث والتحريك أيضا ، فهذا لو سلّم وفرض معقوليّته وكونه متوقّفا على الوصول كما ذكر المحقّق الأصفهاني في استدلاله ، ولكن لا نسلّم أنّه إذا لم يصل التكليف بهذا المعنى فلا يكون ثابتا كما أراده المستدلّ ، بل من الممكن أن يكون ثابتا حتّى مع عدم وصوله ؛ وذلك لأنّ عدم وصول التكليف إنّما يقتضي انتفاء التحريك والبعث ، فلا بعث ولا تحريك للمكلّف نحو الفعل المتعلّق لهذا الحكم ، إلا أنّ المكلّف في هذه الصورة لا يزال يحتمل ويشكّ في أنّ المصلحة والملاك والمبادئ والإرادة التي هي المنشأ للتكليف الحقيقي هل لا تزال موجودة أم لا؟

وبتعبير آخر : أنّ انتفاء البعث والتحريك لا يلزم منه انتفاء المصلحة والإرادة ، بل قد تنتفيان وقد تثبتان حتّى على تقدير عدم كون التكليف محرّكا وباعثا.

وحينئذ لا بدّ أن ينصبّ البحث مجدّدا حول إمكانيّة منجّزيّة هذا الاحتمال وعدم منجّزيّته ، فهل يكفي الاحتمال للمبادئ والإرادة في التنجيز أو لا يكفي؟ فإنّ هذا بحث آخر مستقلّ عن السابق.

فإن قيل بعدم كفايته ثبت المطلوب للمستدلّ ، وإن قيل بكفايته لم يتمّ ما ذكره حتّى وإن كان هذا التكليف الذي انتفى منه البعث والتحريك لا يطلق عليه عنوان التكليف الواقعي ، فإنّ إطلاق هذه التسمية وعدم إطلاقها مجرّد اصطلاحات وصياغات اعتباريّة ، فوجودها وانتفاؤها لا ينهى البحث الذي طرحناه والذي مرجعه في حقيقة الأمر إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة ، بمعنى أنّ الاحتمال هل يكفي لتنجيز

٦٢

التكليف أم لا بدّ من القطع به ليتنجّز؟ فيعود البحث إلى سعة أو ضيق حقّ الطاعة.

٢ ـ مسلك حقّ الطاعة :

وهكذا نصل إلى المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار ، ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولويّة الذاتيّة الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالا ، وهذا من مدركات العقل العملي وهي غير مبرهنة ، فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعة وضيقا.

وعليه فالقاعدة العمليّة الأوّليّة هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ على ما تقدّم في مباحث القطع ، فلا بدّ من الكلام عن هذا الترخيص وإمكان إثباته شرعا ، وهو ما يسمّى بالبراءة الشرعيّة.

المسلك الثاني : هو مسلك حقّ الطاعة.

وهذا المسلك مفاده أنّ الله تعالى بحكم كونه خالقا ومنعما ورازقا فله على عباده وجوب الشكر وأداء الطاعة لكلّ أوامره ونواهيه ، وهذا الحقّ يؤمن به العقل العملي القاضي بما ينبغي أن يكون.

وبناء على هذا المسلك نؤمن بأنّ حقّ الطاعة للمولى ثابت في مطلق الوصول والانكشاف للتكاليف سواء كان بنحو القطع أم الظنّ أم الشكّ أم الاحتمال ، فإنّ التكليف المحتمل يجب على المكلّف امتثاله ويكون مستحقّا للعقاب عقلا على مخالفته ، وهذا يعني أنّ القاعدة الأوّليّة عند الشكّ البدوي هي قاعدة الاحتياط العقلي وأصالة اشتغال الذمّة ما لم يحرز المكلّف الفراغ اليقيني.

وهذا الحقّ الثابت للمولى مدرك للعقل العملي من دون برهان عليه ؛ لأنّه من شئون الخالق والمنعم فلا يحتاج إلى الاستدلال والبرهنة ، بل بمجرّد الإيمان بوجود الخالق والمنعم يحكم العقل بأنّ للمولى حقّ الطاعة على عباده.

وأمّا أنّ هذا الحقّ واسع وليس ضيّقا ، بمعنى أنّه يشمل كلّ انكشاف ووصول للتكاليف ، فهذا أيضا لا برهان عليه ؛ لأنّه من شئون المولى أيضا ، بمعنى أنّه إذا ثبتت المولويّة فيثبت معها أنّ الدائرة واسعة أيضا ، هذا كلّه على أساس ما يدركه العقل ؛ إلا أنّ هذا الحكم العقلي ليس مطلقا بل هو معلّق ومقيّد على عدم صدور الترخيص الجادّ

٦٣

من المولى ؛ لوضوح أنّ المولى إذا رخّص جادّا في ترك ما يحتمل منجّزيّته فلا يحكم العقل بالمنجّزيّة ولزوم الإطاعة ؛ لأنّ العقل إنّما حكم بالمنجّزيّة حفاظا على حقّ الطاعة الثابت للمولى ، فإذا المولى نفسه أجاز وتنازل عن حقه فينتفي موضوع حكم العقل ، وحينئذ يتّجه البحث حول ما إذا صدر هذا الترخيص الشرعي الجادّ أم لا ، وهذا البحث يسمّى على مسلكنا بالبحث عن البراءة الشرعيّة ، خلافا للمشهور الذي آمن بالبراءة العقليّة والذي تقدّم عدم تماميّته.

* * *

٦٤

الوظيفة

الثانويّة في حالة الشكّ

٦٥
٦٦

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ

والقاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشكّ التي ترفع موضوع القاعدة الأولى هي البراءة الشرعيّة ، ويقع الكلام عن إثباتها في مبحثين :

أحدهما في أدلّتها ، والآخر في الاعتراضات العامّة التي قد توجّه إلى تلك الأدلّة بعد افتراض دلالتها.

بعد أن عرفنا القاعدة العمليّة الأوّليّة بحكم العقل هي أصالة الاشتغال والاحتياط العقلي ، والتي قلنا : إنّها معلّقة على عدم وجود الترخيص الجادّ من الشارع ، يقع الكلام في أنّ الشارع هل صدر منه ترخيص جادّ أم لا؟

والجواب : أنّ الترخيص الشرعي صدر منه ، وبالتالي يكون موضوع حكم العقل مرتفعا من باب رفع الموضوع حقيقة ، وبذلك نلتقي في النتيجة العمليّة مع ما ذهب إليه المشهور من البراءة.

والكلام في البراءة الشرعيّة يقع في بحثين :

الأوّل : حول الأدلّة التي ذكرت للاستدلال على البراءة الشرعيّة من الكتاب والسنّة.

الثاني : حول الاعتراضات العامّة التي تواجه هذه الأدلّة بعد الفراغ عن دلالتها.

أدلّة البراءة الشرعيّة

وقد استدلّ عليها بالكتاب الكريم والسنّة :

* * *

٦٧
٦٨

أدلّة

البراءة من الكتاب

٦٩
٧٠

أدلّة البراءة من الكتاب

أمّا من الكتاب الكريم فقد استدلّ بعدّة آيات :

منها : قوله سبحانه وتعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(١) ، بدعوى أنّ اسم الموصول يشمل التكليف بالإطلاق كما يشمل المال والفعل ، فيدلّ على أنّه لا يكلّف بتكليف إلا إذا آتاه ، وإيتاء التكليف معناه عرفا وصوله إلى المكلّف ، فتدلّ الآية على نفي الكلفة من ناحية التكاليف غير الواصلة.

استدلّ على البراءة الشرعيّة بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فآيات عديدة :

منها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ).

وتوضيح الاستدلال بها على البراءة أنّ الآية وردت بعد إيجاب الإنفاق على الزوج لزوجته ، فموردها المال ، إلا أنّ اسم الموصول عامّ وهو بعمومه وإطلاقه يكون شاملا لكلّ من المال والفعل والتكليف ، فيكون المراد منه هو الجامع لا خصوص أحدها.

وحينئذ يكون المراد هو : أنّ الله لا يكلّف نفسا بمال إلا بقدر ما آتاها ، أي ما رزقها وأعطاها ، ولا يكلّف نفسا بفعل إلا بقدر ما أعطاها من قدرة عليه ، ولا يكلّف بتكليف إلا بتكليف آتاها ، وإتيان التكليف للنفس هو إيصاله إليها ؛ لأنّ كلّ شيء يؤتى بحسبه.

وحينئذ فإذا أوصل التكليف للنفس فتكون مكلّفة وتستحقّ العقاب على المخالفة ، وأمّا إذا لم يوصل التكليف إليها فلا تستحقّ العقاب على المخالفة ، وهذا يعني أنّه مع عدم البيان لا يكون التكليف واصلا ، فلا يستحقّ العقاب على مخالفته بل يكون قبيحا عقابه على ذلك.

__________________

(١) الطلاق : ٧.

٧١

والتكليف الوارد في الآية هو الكلفة ، بمعنى إدخال الشيء في العهدة والذمّة واشتغالها به.

والمورد وإن كان هو المال إلا أنّه لا مبرّر لتخصيص اسم الموصول المطلق به ، إذ المورد لا يخصّص الوارد.

والإيتاء الوارد في الآية يتضمّن الإعطاء ، فبالنسبة للمال يكون الإعطاء معناه الرزق ، وبالنسبة للفعل يكون القدرة ، وبالنسبة للتكليف يكون الوصول والإيصال ؛ لأنّ معنى الإيتاء لغة هو إعطاؤه الشيء وفيضه أيضا ، وهذا يعني الوصول بالنسبة للتكليف.

وقد اعترض الشيخ الأنصاري رحمه‌الله (١) على دعوى إطلاق اسم الموصول باستلزامه استعمال الهيئة القائمة بالفعل والمفعول في معنيين ؛ لأنّ التكليف بمثابة المفعول المطلق ، والمال والفعل بمثابة المفعول به ، ونسبة الفعل إلى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته إلى المفعول به ، فكيف يمكن الجمع بين النسبتين في استعمال واحد؟

اعتراض الشيخ الأنصاري رحمه‌الله على هذا الاستدلال بما حاصله : أنّ إرادة الجامع بين المال والفعل والتكليف من اسم الموصول ، بحيث يكون مطلقا وشاملا لكلّ هذه المعاني يلزم منه محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وبيانه : أنّ النسبة بين الفعل ( يكلّف ) واسم الموصول ( ما ) بناء على كون المراد المال أو الفعل هي نسبة المفعول به ، أي نسبة الفعل إلى ما تعلّق به وانصبّ عليه ، بينما النسبة بين الفعل واسم الموصول بناء على إرادة التكليف هي نسبة المفعول المطلق ، أي نسبة الفعل إلى الحالة أو النوع التي صدر فيها الفعل من دون نظر إلى المتعلّق الذي انصبّ عليه الفعل.

وحينئذ نقول : إنّ نسبة المفعول به تختلف عن نسبة المفعول المطلق ، فإنّ الأولى نسبة شيء إلى شيء آخر يغايره ، حيث إنّ الكلفة المستفادة من الفعل ( يكلّف ) تغاير المال أو الفعل ، بينما الثانية نسبة الشيء إلى بعض حالاته وأنواعه أو كيفيّته فهي من نسبة الشيء إلى نفسه ؛ لأنّ التكليف واحد في الفعل وفي اسم الموصول.

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٢١ ـ ٢٢.

٧٢

ومن الواضح أنّ الجمع بين هاتين النسبتين في استعمال واحد غير معقول ؛ لأنّه يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين في آن واحد ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ اللفظ عبارة عن آلة ومرآة للمعنى ، بحيث يفنى في المعنى ، فإن كان مرآة وفانيا في هذا المعنى فكيف يمكن إفناؤه مجدّدا أو كونه مرآة أخرى لمعنى آخر في آن واحد؟

وبهذا يظهر أنّ إرادة الجامع بين هذه المعاني يلزم منها محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى في آن واحد وهو غير معقول ، وعليه فلا بدّ أن يكون المراد من اسم الموصول أحد هذه المعاني ، وحيث إنّ المال هو مورد الآية فهو القدر المتيقّن وغيره مشكوك فيقتصر عليه ، فلا يتمّ حينئذ الاستدلال بالآية على البراءة.

وهناك جوابان على هذا الاعتراض :

الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي رحمه‌الله (١) من أخذ الجامع بين النسبتين.

ويرد عليه : أنّه إن أريد الجامع الحقيقي بينهما فهو مستحيل ؛ لما تقدّم في مبحث المعاني الحرفيّة (٢) من امتناع انتزاع الجامع الحقيقي بين النسب ، وإن أريد بذلك افتراض نسبة ثالثة مباينة للنسبتين إلا أنّها تلائم المفعول المطلق والمفعول به معا ، فلا معيّن لإرادتها من الكلام على تقدير تصوّر نسبة من هذا القبيل.

الجواب الأوّل عن هذا الاعتراض ما ذكره المحقّق العراقي ، من كون اسم الموصول مستعملا في الجامع بين النسبتين أي المفعول به والمفعول المطلق كعنوان المفعول مثلا ، فإنّه ينطبق على كلا النسبتين ، فتكون إرادة المال والفعل والتكليف باعتبارها مصاديق وتعيّنات لهذا الجامع ، وبالتالي لا يكون اللفظ مستعملا إلا في معنى واحد لا أكثر وهو الجامع.

إلا أنّ هذا الجواب غير تامّ ؛ وذلك لأنّ هذا الجامع المراد استعمال اسم الموصول فيه ما هو المقصود منه؟

فإن أريد الجامع الحقيقي المنتزع من الأنواع المتغايرة ولكن يوجد بينها حيثيّة مشتركة ذاتيّة كما هو الحال في انتزاع الإنسان والحيوان من زيد وعمرو أو هما مع

__________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ١٥٣.

(٢) من مباحث تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة.

٧٣

الحصان والفرس ، فهذا الجامع لا يمكن تصويره في النسب ، وذلك لما تقدّم في بحث المعاني الحرفيّة من كون كلّ نسبة متقوّمة بطرفيها ولا تنفكّ عنهما ، وإلا لم تتحقّق النسبة ، ولذلك لا يمكن تصوّر الجامع ؛ لأنّه يكون بعد إلغاء ما به الامتياز والإبقاء على ما به الاشتراك ، وفي عالم النسب كلّ نسبة تمتاز عن الأخرى بطرفيها وكلّ نسبة متقوّمة بطرفيها فما به الامتياز هو عين ما به الاشتراك ، فإذا ألغينا الطرفين يعني إلغاء النسبة نفسها فالجامع الحقيقي غير معقول.

وكذا الحال بالنسبة للجامع العرضي فإنّه أيضا يحافظ على الحيثيّة المشتركة العرضيّة لا الذاتيّة ، كالبياض المنتزع من الثلج والحليب ونحوهما.

وإن أريد من الجامع افتراض وجود نسبة ثالثة مغايرة للنسبتين السابقتين ومباينة لهما ، ولكنّها في نفس الوقت تلائم كلا الأمرين من المفعول المطلق والمفعول به ، فهذه النسبة غير معقولة في نفسها ؛ لأنّها لمّا كانت مباينة ومغايرة للنسبتين كما هو المفروض فكيف تكون في نفس الوقت ملائمة لهما بحيث تنطبق عليهما أيضا؟!

ولو سلّم ذلك وفرض إمكان تصوّر هكذا نسبة في عالم الثبوت إلا أنّه لا دليل على إرادتها من اسم الموصول إثباتا ، إذ كما أنّ اسم الموصول يصلح للمفعول به والمفعول المطلق يصلح لهذه النسبة أيضا بحسب الفرض ، لكن ما هو الدليل والمعيّن الذي من خلاله يمكننا الجزم بأنّ اسم الموصول هنا مستعمل في هذه النسبة الثالثة ، مع أنّ المتيقّن هو استعماله في المال أي المفعول به ؛ لأنّه مورد الآية ، وهذا يجعل الآية ظاهرة فيه أو على الأقلّ ليس خارجا عن موردها ، فكيف يمكن الجمع بين إرادة هذه النسب كلّها من اسم الموصول؟

الثاني : وهو الجواب الصحيح وحاصله : أنّ مادّة الفعل في الآية هي الكلفة بمعنى الإدانة ، ولا يراد بإطلاق اسم الموصول شموله لذلك ، بل لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للإدانة ، فهو إذا مفعول به ، فلا إشكال.

والجواب الثاني ما هو الصحيح ، وحاصله : أنّ الاعتراض نشأ من تفسير مادّة الفعل الوارد في الآية بمعنى الحكم ، فإنّ مادّة الفعل هي التكليف حيث هو المصدر لفعل ( كلّف يكلّف ) ، والأصوليّون اعتادوا على التعبير عن الحكم الشرعي بالتكليف ، ومن هنا نشأ الاعتراض حيث فسّر اسم الموصول بما يشمل التكليف والمادّة هي

٧٤

التكليف أيضا ، فصارت النسبة بين اسم الموصول والفعل نفسه نسبة الفعل إلى المفعول المطلق ، أي إلى طور أو نوع أو حالة أو كيفيّة من الفعل ، بينما شمول اسم الموصول للمال أو الفعل من باب المفعول به أي نسبة الفعل إلى المغاير.

وحينئذ وقع الإشكال بأنّه كيف يجمع بين النسبتين في استعمال واحد؟

ولكنّ الصحيح أنّ مادّة الفعل الوارد في الآية والتي هي التكليف ليست بمعنى الحكم بل بمعنى الإدانة والتحميل ، والتكليف الوارد في اسم الموصول بمعنى الحكم ، وعليه فيكون اسم الموصول مستعملا في معنى واحد وهو نسبة المفعول به ، وبإطلاقه وعمومه يشمل المال والفعل والتكليف بمعنى الحكم.

ويكون المعنى حينئذ : أنّ الله لا يكلّف نفسا أي لا يدينها ولا يحمّلها إلا تكليفا أي حكما آتاها أي أوصله لها ، فليس المراد من مادّة الفعل واسم الموصول شيئا واحدا ليقال : إنّ النسبة بينهما هي المفعول المطلق ، بل المراد من أحدهما معنى يغاير المعنى المراد من الآخر ، فالنسبة هي المفعول به ؛ لأنّ المفعول المطلق نسبة الشيء إلى حالته أو نوعه ، بينما نسبة الفعل إلى المفعول به نسبة المغاير إلى المغاير.

ثمّ إنّ البراءة التي تستفاد من هذه الآية الكريمة : إن كانت بمعنى نفي الكلفة بسبب التكليف غير المأتي فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياط إذا تمّ الدليل عليه ، فلا تنفع في معارضة أدلّة وجوب الاحتياط. وإن كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد التكليف غير المأتي فهي تنفي وجوب الاحتياط وتعارض مع ما يدّعى من أدلّته. والظاهر هو الحمل على المورديّة لا السببيّة ؛ لأنّ هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضا ، فالاستدلال بالآية جيّد.

ثمّ بعد الفراغ عن استفادة البراءة من الآية الكريمة توجد عدّة بحوث لا بدّ من التعرّض لها :

البحث الأوّل : في النسبة بين البراءة والاحتياط.

وهنا لا بدّ من تحديد المعنى المستفاد من الآية الدالّ على البراءة ، فإنّه يوجد معنيان لاستفادة البراءة من نفي الكلفة في الآية هما :

الأوّل : أن يكون المراد من نفي الكلفة الذي هو معنى البراءة نفيها بسبب التكليف غير المأتي ، أي أنّه بسبب عدم إتيان التكليف للمكلّف فلا كلفة عليه ، بل يكون بريئا ،

٧٥

فهذا المعنى لا يتنافى مع ثبوت الكلفة بسبب آخر كوجوب الاحتياط فيما لو تمّت أدلّته متنا وسندا ؛ لأنّه يكون سببا مستقلاّ لإثبات الكلفة غير السبب الأوّل المنتفي ، فيكون ثبوت الاحتياط غير معارض بالبراءة المستفادة من الآية ؛ لأنّها ثابتة بسبب عدم إتيان التكليف لا أكثر ، والكلفة الثابتة بالاحتياط كلفة مستقلّة ناشئة من سبب آخر غير الكلفة المنفية بالبراءة ، ولذلك لا تعارض بين البراءة والاحتياط ؛ لأنّ كلاّ منهما ينظر إلى جهة مغايرة للآخر.

الثاني : أن يكون المراد من نفي الكلفة أنّه في مورد عدم إيتاء التكليف لا كلفة ولا إدانة ، فهذا المعنى بنفسه ينفي وجوب الاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط يثبت الكلفة في مورد عدم إيتاء التكليف والبراءة تنفيها ، فكلاهما ناظران إلى موضوع واحد ، وهو أنّه في فرض عدم إيتاء التكليف ما هو الحكم؟

فالبراءة تقول : إنّه لا كلفة ولا إدانة بينما الاحتياط يقول : إنّه يوجد كلفة وإدانة ، فيقع التعارض بينهما حينئذ.

والحاصل : أنّنا إذا حملنا البراءة المستفادة من الآية على السببيّة كان الاحتياط ثابتا بلا معارض ، وإن حملناها على المورديّة كان الاحتياط والبراءة متعارضين.

والظاهر هو حمل البراءة ونفي الكلفة على المورديّة لا السببيّة.

ووجهه : أنّ الآية موردها المال والتكليف لا يكون بسبب المال وإنّما يكون في مورده ، فوجوب النفقة على الزوج ثابت في مورد المال لا بسبب المال ، أي أنّ المال ليس هو السبب في جعل التكليف على الزوج بالإنفاق وإنّما هو المورد لهذا الجعل ، وكذا الحال بالنسبة للفعل الذي يشمله اسم الموصول بإطلاقه ، فإنّ التكليف لا يكون بسبب الفعل وإنّما في مورده ، فيقال : إنّ فلانا مكلّف بالقيام بالعمل الفلاني فيما إذا كان قادرا على فعله أي في مورد قدرته لا في حال عجزه ، لا أنّ تكليفه بالقيام يكون بسبب الفعل.

وهكذا الحال بالنسبة للتكليف فإنّ الشارع لا يكلّف العبد ولا يدينه في مورد الجهل وعدم إيتاء التكليف ، وإن كان معنى السببيّة معقولا في نفسه ، إلا أنّ وحدة المراد والسياق في الجميع تقتضي الحمل على المورديّة.

وبهذا يظهر أنّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة بمعنى التأمين ونفي العقاب في

٧٦

مورد عدم العلم بالحكم الواقعي جيّد ولا غبار عليه ، ولا يكون الاحتياط على تقدير تماميّة أدلّته رافعا للبراءة ، بل يكون معارضا لها ، وسيأتي في محلّه.

وبالنسبة إلى مدى الشمول فيها لا شكّ في شمولها للشبهات الوجوبيّة والتحريميّة معا.

البحث الثاني : في كون البراءة جارية في الشبهات الوجوبيّة والتحريميّة معا.

وهنا لا شكّ في أنّ الآية تشمل كلا الموردين ؛ لأنّ المأخوذ في لسانها إنّما هو نفي الكلفة عند عدم إيتاء الحكم والحكم ينطبق على الوجوب والحرمة معا ، فلا مبرّر لتخصيصها بالوجوب أو الحرمة ؛ لأنّ لسانها عامّ ومطلق.

نعم ، بعض الأدلّة الأخرى للبراءة يختصّ بإحدى الشبهتين كما سيأتي ، حيث إنّ موردها ذلك ، وأمّا هذه الآية فهي ابتداء تثبت البراءة عند الجهل وعدم وصول التكليف ، وهذا يشمل كلا الشبهتين أي الوجوبيّة والتحريميّة.

بل للشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا ؛ لأنّ الإيتاء ليس بمعنى إيتاء الشارع بما هو شارع ليختصّ بالشبهات الحكميّة ، بل بمعنى الإيتاء التكويني ؛ لأنّه المناسب للمال والفعل.

البحث الثالث : في شمول البراءة للشبهات الموضوعيّة والحكميّة.

لمّا كانت هذه الآية تفيد جريان البراءة عند الشكّ في التكليف فقد يتصوّر اختصاصها بالشبهات الحكميّة فقط ؛ لأنّه فيها يشكّ بالتكليف ، دون الشبهات الموضوعيّة ، إلا أنّ الصحيح أنّ الشبهات الموضوعيّة أيضا يشكّ فيها بالتكليف. وبيان ذلك : تارة يشكّ المكلّف في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وعدمه ، فهنا يشكّ في الحكم والتكليف ، فيصدق عدم الإيتاء والوصول فتجري البراءة جزما.

وأخرى يشكّ في أنّ هذا المائع خمر أو لا ، فهذا شكّ في الموضوع ابتداء ولكنّه عمليّا ينتج منه الشكّ في الحكم ؛ لأنّه إن كان خمرا فهو حرام وإن كان ماء فهو حلال ، فيعود الشكّ إلى الحكم فتجري البراءة أيضا.

والحاصل : أنّه لا فرق بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة في جريان البراءة فيهما عند الشكّ ، بل لا معنى للقول باختصاصها في الشبهات الحكميّة ؛ لأنّ الشبهة الموضوعيّة يعود الشكّ فيها إلى الشكّ في الحكم.

٧٧

مضافا إلى أنّ لسان الآية هنا هو أنّه مع عدم الإيتاء فلا كلفة ولا إدانة ، والإيتاء هنا ليس بمعنى الإتيان من الشارع بما هو شارع ليقال باختصاصه بالحكم ؛ لأنّه هو الذي يأتي من الشارع.

بل الإيتاء هنا هو الإيتاء التكويني ؛ لأنّ مورد الآية هو المال وإيتاء المال يعني رزقه للعبد في الخارج ، فلا يمكن أن يكون الإيتاء التكويني خارجا ؛ لأنّه القدر المتيقّن من الإيتاء في الآية.

وعليه ، فإمّا أن يكون المراد مطلق الإيتاء الشامل للتكويني والتشريعي ، وإمّا أن يكون خصوص الإيتاء التكويني ، ولا يمكن تخصيصها بالإيتاء التشريعي فقط ؛ لأنّ هذا بخلاف ظاهر الآية وموردها.

كما أنّ الظاهر عدم الإطلاق في الآية لحالة عدم الفحص ؛ لأنّ إيتاء التكليف تكفي فيه عرفا مرتبة من الوصول ، وهي الوصول إلى مظانّ العثور بالفحص.

البحث الرابع : في اختصاص جريان البراءة بعد الفحص.

قد يقال : إنّ الآية مطلقة فهي تنفي الكلفة عند عدم إيتاء التكليف ، وهذا شامل لما إذا فحص المكلّف ولم يعثر على الحكم ولما إذا لم يفحص عنه.

إلا أنّ هذا الإطلاق يجب رفع اليد عنه ؛ وذلك لأنّ الإيتاء ليس معناه الإيصال المباشر للحكم ، بل معناه تشريع الحكم وإيصاله للمكلّف بنحو من أنحاء الوصول ، بأن يجعل في مظانّ العثور عليه كالكتاب والسنّة.

وهذا يعني أنّ المكلّف مطالب بالبحث عن التكليف في مظانّه من الكتاب والسنّة ، فإذا وجده كان التكليف قد أتاه من الشارع ، وإن لم يجده فيتحقّق عدم الإيتاء.

وبتعبير آخر : أنّ العرف يرى أنّ الإيتاء الذي هو الوصول يكفي فيه مرتبة من مراتب الوصول والتي منها إيتاء التكليف في مصادره ومظانّه ، فتختصّ البراءة بعد الفحص.

ومنها : قوله سبحانه وتعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(١).

وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة ( رسول ) على المثال للبيان.

الآية الثانية قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) فإنّ مفادها نفي

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

٧٨

العذاب مع عدم بعث الرسول ، إلا أنّ الاستدلال بها على البراءة لا يتمّ إذا اقتصرنا على موردها وهو الرسول ؛ لأنّنا نريد أن نثبت البراءة بعد بعث الرسول لا قبله ، ولذلك يحمل الرسول فيها على مطلق البيان للتكليف ، إذ التكليف كما يأتي من الرسول كذلك يأتي من الإمام أيضا ومن الاحتياط ؛ لأنّه يصدق في مورد الاحتياط أنّه بعث وبيان التكليف.

وعليه فمع عدم بيان التكليف بأي نحو من أنحاء البيان ولو بالاحتياط ظاهرا تثبت البراءة وإلا فلا.

والبيان هنا كما يتمّ من الشرع يتمّ من العقل أيضا كما في الملازمات العقليّة ، كوجوب السورة أو حرمة الضدّ ونحو ذلك.

وقد يعترض على ذلك تارة بأنّ الآية الكريمة إنّما تنفي العقاب لا استحقاقه ، وهذا لا ينافي تنجّز التكليف المشكوك ، إذ لعلّه من باب العفو.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وغيره من أنّ الآية إنّما يتمّ الاستدلال بها لو كان المراد من نفي العذاب قبل بعث الرسول ومطلق البيان هو نفي الاستحقاق للعذاب ، فيكون المراد أنّه من عدم بعث البيان فلا يستحقّ المكلّف العذاب.

إلا أنّ الآية يحتمل كونها ناظرة إلى نفي فعليّة العذاب لا نفي الاستحقاق ، بمعنى أنّه قبل بعث البيان يكون المكلّف مستحقّا للعذاب على المخالفة ، ولكنّ الله تعالى تفضّلا منه على عباده عفا عنهم العذاب فعلا ، وهذا يستلزم أن يكون التكليف المشكوك الذي لم يقم عليه البيان منجّزا بمنجّز سابق على أساس حكم العقل مثلا.

وحينئذ لا يتمّ الاستدلال ؛ إذ لعلّه لا يعفو عنهم بعد بعث الرسول ومطلق البيان ، وعلى الأقلّ يدور الأمر بين الاحتمالين ، فتكون مجملة وقدرها المتيقّن بعث الرسول خاصّة دون غيره ؛ لأنّه مورد الآية ، فلعلّه يعاقبهم بعد تماميّة البيان من حكم العقل أو بعد بيان الاحتياط مثلا.

وأخرى بأنّها ناظرة إلى العقاب الربّاني في الدنيا للأمم السالفة ، وهذا غير محلّ البحث.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الشيخ الأنصاري من أنّ الآية ناظرة إلى نفي العذاب

٧٩

الدنيوي عن الأمم السابقة قبل بعث الرسل ، بمعنى أنّ الله لا يعذّب في الدنيا الناس قبل أن يبعث الرسل كما هو حال فرعون مثلا.

وهذا المعنى أجنبي عن محلّ الكلام ؛ لأنّ كلامنا في العذاب الأخروي عند مخالفة التكليف المشكوك ، وهذا لا نظر للآية فيه لا نفيا ولا إثباتا ، فلا يتمّ الاستدلال بالآية على البراءة ؛ لأنّ المراد من البراءة التأمين ونفي العقاب في الآخرة لا في الدنيا.

هذا هو الظاهر من الآية بحسب سياقها ومقتضاها ، ولا أقلّ من الإجمال وهو يمنع من تماميّة الاستدلال أيضا.

والجواب على الأوّل : أنّ ظاهر النفي في الآية أنّه هو الطريقة العامّة للشارع التي لا يناسبه غيرها ، كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا ، وهذا معناه عدم الاستحقاق.

والجواب عن الاعتراض الأوّل أن يقال : إنّ ظاهر الآية نفي استحقاق العقاب لا مجرّد الفعليّة فقط ؛ وذلك لأنّ هذا التركيب : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ... ) ظاهره أنّه ليس من طريقة الشارع ولا يتناسب وشأنه أن يعذّب الناس قبل إرسال الرسل إليهم ، أي أنّ التعذيب لا يتناسب وشأن الشارع ؛ لأنّه ليس من عادته وطريقته أن يعذّب قبل إرسال الرسل ، وإنّما عادته وطريقته والذي يتناسب وشأنه هو التعذيب بعد إتمام الحجّة وبعث الرسل ، وهذا يدلّ على أنّ الناس لا تستحقّ العقاب قبل البعث ؛ لأنّ استحقاقهم للعذاب والحال هذه يتنافى مع شأن ومسلكيّة الشارع.

ولو فرض أنّ الآية ناظرة إلى نفي فعليّة العذاب لم يكن هذا التعبير صحيحا ؛ لأنّه مع نفي الفعليّة فقط يكون الاستحقاق ثابتا أي أنّهم يستحقّون العذاب ، وهذا معناه أنّ من شأن الشارع ومن المناسب له أن يعذّبهم ولكنّه لم يفعل ذلك تفضّلا منه ورحمة ، وحينئذ ينبغي التعبير عن ذلك بنحو يدلّ على أنّهم يستحقّون وأنّ الشارع عفا عنهم ، وأمّا نفي العذاب بنحو مطلق فهو يدلّ عرفا على نفي العذاب من أساسه ، وأنّه لا يوجد ما يوجب العذاب حتّى يعذّبهم (١).

__________________

(١) وممّا ينبّه على ذلك أنّ أمثال هذا التركيب يدلّ عرفا على نفي الشأنيّة والمناسبة كقولك : ما كنت لأعذّب عبدي على مخالفة فعل لم يصل إليه ، فهذا يدلّ على أنّه لا يستحقّ العذاب على المخالفة مع عدم وصول التكليف إليه لا أنّه يستحقّه إلا أنّ سيّده عفا عنه فقط.

٨٠