شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

والجواب عن ذلك :

أوّلا بمنع علّيّة العلم الإجمالي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعيّة.

والجواب عن هذا الاستدلال :

أوّلا : أن ننكر كون العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، كما تقدّم سابقا ، حيث قلنا هناك : إنّ العلم الإجمالي يسبّب تعارض الأصول الترخيصيّة في الأطراف ، وحينئذ يكون احتمال التكليف في كلّ طرف منجّزا بناء على مسلك حقّ الطاعة ، أو يقال باقتضاء العلم الإجمالي للمنجّزيّة وهذا يتوقّف على عدم المانع ، فمع وجود المانع لا يؤثّر العلم الإجمالي في المنجزيّة.

وثانيا بأنّ ارتفاع وجوب الموافقة القطعيّة الناشئ من العجز والاضطرار لا ينافي العلّيّة المذكورة ؛ لأنّ المقصود منها عدم إمكان جعل الشكّ مؤمّنا ؛ لأنّ الوصول بالعلم تامّ ، ولا ينافي ذلك وجود مؤمّن آخر وهو العجز كما هو المفروض في حالة الاضطرار.

وثانيا : أنّنا لو سلّمنا بعلّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة فمع ذلك نقول : إنّ معنى العلّيّة هي كون وصول التكليف بالعلم تامّا ، فكما أنّ وصول التكليف بالعلم التفصيلي يحقّق تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة وحرمة المخالفة والعصيان ، فكذلك العلم الإجمالي يعتبر وصول التكليف بهذا المقدار محقّقا لموضوع حكم العقل المذكور ، والشكّ المفترض وجوده في الأطراف لا يكون مؤمّنا عن التكليف في هذه الحالة ، فمعنى العلّيّة إذا أنّ الشكّ الموجود ليس مؤمّنا عن التكليف.

وهذا المعنى لا يتنافى مع ثبوت التأمين عن التكليف لجهة أخرى ، كالعجز وعدم القدرة ، أو كالاضطرار كما هو مقامنا ، فإن انتفاء التكليف في الطرف المضطرّ إليه لا يتنافى مع علّيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة ، بل على القول بالعلّيّة فعليّته متحقّقة ، إلا أنّ سقوط وجوب الموافقة القطعيّة كان لجهة أخرى مانعة منها وهي الاضطرار ؛ نظير علّيّة النار للاحتراق ، فإنّ عدم الاحتراق بسبب وجود المانع منه لا يعني رفع اليد عن العلّيّة للنار.

وبتعبير آخر : إنّ العقلاء لا يرون المأمور مطالبا بالامتثال لتكليف لا يقدر عليه أو

٣٢١

يضطرّ إلى فعله أو تركه ، بل لا يرون للمولى حقّا في ذلك ، والشارع أيضا لا يطالب بحقّ في موارد عدم القدرة والاضطرار حتّى في العلم التفصيلي فضلا عن العلم الإجمالي.

وهذا يعني أنّ المكلّف مضطرّ إلى ترك الموافقة القطعيّة وغير قادر على امتثالها ، لا أنّ العلم الإجمالي ليس علّة أو سقط عن العلّيّة بلحاظها.

وبهذا ظهر أنّه يمكن رفع اليد عن المعلول وسقوطه حتّى مع بقاء علّته ، ولا تنافي في ذلك ، إذ ليس بابه باب التفكيك بين العلّة ومعلولها ، بل بابه باب إيجاد المانع من تحقّق المعلول مع ثبوت علّته.

وهذا ما يسمّى بالتوسّط في التنجيز أي أنّه ترتفع مرتبة من الامتثال ، وهي المرتبة العليا وتبقى سائر المراتب.

وثالثا : لو سلّمنا فقرات البرهان الثلاث فهي إنّما تنتج لزوم التصرّف في التكليف المعلوم على نحو لا يكون الترخيص في تناول أحد الطعامين لدفع الاضطرار إذنا في ترك الموافقة القطعيّة له ، وذلك يحصل برفع اليد عن إطلاق التكليف لحالة واحدة وهي حالة تناول الطعام المحرّم وحده من قبل المكلّف المضطرّ مع ثبوته في حالة تناول كلا الطعامين معا ، فمع هذا الافتراض إذا تناول المكلّف المضطرّ العالم إجمالا أحد الطعامين فقط لم يكن قد ارتكب مخالفة احتماليّة على الإطلاق ، وإذا تناول كلا الطعامين فقد ارتكب مخالفة قطعيّة للتكليف المعلوم فلا يجوز.

وثالثا : أنّنا لو سلّمنا بفقرات الاستدلال فلا ينتج سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة رأسا كما أفاده المحقّق الخراساني ؛ ليلزم عن ذلك جواز المخالفة القطعيّة ، بل ينتج شيئا آخر وهو أنّ التكليف المعلوم بالإجمال وهو نجاسة أحد الطعامين لا بدّ من التصرّف فيه بنحو يتناسب مع جواز ارتكاب أحدهما بسبب الاضطرار.

فلا نرفع اليد عن العلم الإجمالي رأسا ونقول : إنّه لا تكليف ، ولا نأخذ بدليل الاضطرار ونقول : إنّه يجوز ارتكاب كلا الإناءين ، بل نجمع بين الأمرين بنحو يتناسب مع ارتكاب أحد الطرفين بسبب الاضطرار ويتناسب مع بقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته ؛ لحرمة المخالفة القطعيّة وعدم جواز تركها ، بل مع بقائه أيضا لوجوب

٣٢٢

الموافقة القطعيّة ، وذلك بأن نقول : إنّ مقتضى الجمع بين الأمرين ينتج لنا التوسّط في التنجيز.

وتوضيحه : أنّ التنجيز إمّا أن يكون ثابتا بمرتبته العليا أو بمرتبته الدنيّة أو بمرتبة وسطيّة بين المرتبتين.

ففي موارد العلم الإجمالي مع فرض الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه نقول :

إمّا أن يبقى المعلوم بالإجمال منجّزا على مرتبته العليا أي وجوب ترك كلا الطرفين حتّى الطرف المضطرّ إليه.

وإمّا أن يزول التنجيز رأسا فيجوز ارتكاب الطعام المضطرّ إليه وغيره أيضا.

وإمّا أن يبقى التنجيز في بعض الأطراف ويزول عن البعض الآخر أي جواز ارتكاب ما يضطرّ إليه دون الآخر.

وحينئذ نقول : إنّ الجمع بين العلم الاجمالي ودليل الاضطرار يقتضي رفع اليد عن المرتبة العليا من كلّ منهما ، فلا يحرم كلا الإناءين ولا يجوز ارتكابهما معا ، فنرفع اليد عن إطلاق التنجيز في العلم الإجمالي للطرفين ، وعن إطلاق الجواز ونفي التكليف في دليل الاضطرار ، وتكون النتيجة هي أنّه يجوز ارتكاب أحد الطرفين ويجب ترك الآخر.

فإذا تناول المكلّف أحد الطعامين وترك الآخر فيكون قد حقّق الموافقة القطعيّة لكلا الدليلين ؛ لأنّه بتناوله لأحد الطعامين يكون قد امتثل لدليل الاضطرار ، وبتركه للآخر قد امتثل للعلم الإجمالي المنجّز بالمرحلة الوسطيّة ، ولا يتصوّر هنا المخالفة القطعيّة أصلا.

وأمّا إذا تناول كلا الطعامين فهنا تكون مخالفة قطعيّة للعلم الإجمالي ؛ لأنّ أحدهما موافق لدليل الاضطرار ، وأمّا الآخر فهو مخالف للعلم الإجمالي المنجّز لهذه المرحلة من التنجيز ، ولذلك يحرم تناول كلا الطعامين (١).

__________________

(١) ثمّ إنّ التوسط المذكور تارة يبرز بنحو مشروط كما أفاده الميرزا بأن يقال : إنّ المكلّف مخاطب بأن لا يختار الحرام الواقعي دفعا للاضطرار بل يختار الآخر ، فإذا ارتكبهما معا يكون قد اختار الحرام الواقعي. وأخرى يبرز بأنّ الحرمة تنقلب عن التعيين إلى التخيير كما أفاده المحقّق العراقي ، بأن يقال :

إنّه يجب الاجتناب عن الحرام مخيّرا في هذا الاجتناب بين أحد الفردين ، فإذا لم يجتنب عن أحدهما بل فعلهما معا يكون قد ارتكب الحرام.

إلا أنّ هذين التصوّرين مع أصل المبنى أي التوسّط في التكليف لا وجه له ، والصحيح ما ذكرناه من التوسّط في التنجيز.

٣٢٣

٣ ـ انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي :

لكل علم إجمالي سبب ، والسبب تارة يكون مختصّا في الواقع بطرف معيّن من أطراف العلم الإجمالي ، وأخرى تكون نسبته إلى الطرفين أو الأطراف على نحو واحد.

ومثال الأوّل : أن ترى قطرة دم تقع في أحد الإناءين ولا تميّز الإناء بالضبط ، فتعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، والسبب هو قطرة الدم وهي في الواقع مختصّة بأحد الطرفين.

ويمكن أن تؤخذ قيدا في المعلوم بأن تقول : ( إنّي أعلم إجمالا بنجاسة ناشئة من قطرة الدم التي رأيتها لا بنجاسة كيفما اتّفقت ).

الحالة الثالثة : انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.

إنّ لكلّ علم سببا ، والعلم الإجمالي له سبب ومنشأ ، وهذا السبب يتصوّر على نحوين :

النحو الأوّل : أن يكون السبب والمنشأ للعلم الإجمالي مختصّا بأحد الطرفين المعيّن في الواقع ، لكنّه مجمل ومردّد لدى المكلّف ، فنسبته إلى الأطراف ليست على حدّ واحد ؛ لأنّه لا ينتسب إلا إلى الطرف الواقعي المعيّن.

النحو الثاني : أن يكون السبب والمنشأ للعلم الإجمالي نسبته إلى تمام الأطراف على حدّ واحد ، بأن لا يكون معيّنا في أحد الأطراف واقعا بخصوصه ، بل كان من الممكن تعيّنه في الطرفين معا.

أمّا النحو الأوّل ، فمثاله ما إذا علم بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ولكن المكلّف لم يلتفت إلى أي الإناءين الذي وقعت فيه النجاسة ، فهنا يحصل له علم إجمالي بنجاسة أحدهما وسببه ومنشؤه وقوع قطرة الدم في أحدهما ، وعدم تعيينه للإناء

٣٢٤

النجس ، إلا أنّ قطرة الدم هذه قد وقعت في أحد الإناءين فقط ، فهي تنتسب إلى أحدهما فقط لا إلى الإناءين معا.

ومن أجل ذلك يمكنه أن يقيّد النجاسة المعلومة إجمالا بسببها فيقول : إنّه يوجد لديه علم إجمالي بنجاسة مسبّبة وناشئة عن قطرة الدم لا عن شيء آخر ، ولذلك ينفي نجاسة أحد الإناءين بالبول أو المسكر ونحوهما.

ويترتّب على ذلك : أنّه إذا حصل علم تفصيلي بنجاسة إناء معيّن من الإناءين ، فإن كان هذا العلم التفصيلي بنفس سبب العلم الإجمالي ، بأن علمت تفصيلا بأنّ القطرة قد سقطت هنا انحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي وانهدم الركن الثاني ، إذ يكون من النحو الأوّل من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن ذلك الركن.

ويترتّب على ذلك : أنّ العلم الإجمالي المذكور إذا حصل بعده علم تفصيلي ، فهنا ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يحصل للعالم بالإجمال علم تفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه ، ويكون سبب هذا العلم التفصيلي هو نفس سبب العلم الإجمالي بحيث لا يحتمل المكلّف شيئا آخر.

وذلك بأنّ يكون علمه التفصيلي ناشئا من وقوع قطرة الدم التي علم إجمالا بوقوعها في أحد الإناءين في هذا الإناء المعيّن ، بحيث كانت هذه القطرة هي نفس تلك القطرة وليست قطرة أخرى ، ففي هذه الحالة سوف ينحلّ العلم الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي المذكور ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي وهو سريان العلم من الجامع إلى الفرد بعينه ؛ لأنّ هذا العلم التفصيلي يعيّن ويشخّص المعلوم بالإجمال في هذا الإناء ، فيعود الشكّ في الإناء الآخر بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة بلا محذور.

وهذا هو النحو الأوّل من الأنحاء الأربعة لتعلّق العلم التفصيلي بالفرد كما تقدّم سابقا.

وهذا ممّا لا إشكال فيه على جميع المسالك والمباني في المقام.

وإن كان هذا العلم التفصيلي بسبب آخر ، كما إذا رأيت قطرة أخرى من الدم

٣٢٥

تسقط في الإناء المعيّن ، لم ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ؛ لأنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الإجمالي لينطبق عليه ويسري العلم من الجامع إلى الفرد بخصوصه.

الاحتمال الثاني : أن يكون العلم التفصيلي ناشئا ومسبّبا عن سبب آخر غير السبب الذي نشأ منه العلم الإجمالي ، كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ، ثمّ علم تفصيلا بوقوع قطرة خمرة في أحدهما المعيّن أو علم تفصيلا بوقوع قطرة دم في الإناء المعيّن ، وكانت هذه القطرة غير تلك القطرة التي علم إجمالا بوقوعها في أحدهما ، بأن أحرز أنّها قطرة ثانية ، فهنا لا إشكال في بقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته وعدم انحلاله بالعلم التفصيلي المذكور ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال لا ينطبق على المعلوم بالتفصيل للعلم بتغايرهما ، ولذلك لا يسري العلم بالجامع إلى الفرد ، فالأركان الأربعة لا تزال موجودة فالعلم الإجمالي على منجّزيّته.

وهذا ممّا لا إشكال فيه أيضا على جميع المباني والمسالك.

وكذلك الأمر إذا شكّ في أنّ سبب العلم التفصيلي هو نفس تلك القطرة أو غيرها ، حيث لا يحرز حينئذ كون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي ، ويدخل في النحو الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

الاحتمال الثالث : أن يشكّ في أنّ المعلوم بالعلم التفصيلي وهو نجاسة هذا الإناء بعينه هل سببه هو نفس سبب العلم الإجمالي أو هو سبب آخر؟

مثاله : أن يعلم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين ثمّ يعلم تفصيلا بنجاسة هذا الإناء بعينه ، ولكنّه لا يدري هل هو نجس بسبب تلك القطرة من الدم ، أو بسبب آخر كقطرة أخرى من الدم وقعت مرّة أخرى فيه ، أو قطرة من الخمر؟ فهاهنا لا انحلال أيضا ؛ وذلك لأنّه لا يحرز اختلال الركن الثاني إذ لا يعلم بسريان العلم من الجامع إلى الفرد.

فقد يكون العلم بالجامع متشخّصا في الفرد وقد لا يكون ذلك ، وهذا يعني الشكّ في انحلال العلم الإجمالي للشكّ في زوال ركنه الثاني ، فيدخل المورد في النحو الثالث من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

٣٢٦

وهناك قلنا بأنّ مثل هذا الشكّ لا يرفع منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّه يوجد احتمالان متكافئان :

أحدهما أن يكون السبب في العلم التفصيلي هو نفس السبب في العلم الإجمالي.

والآخر أن يكون سببه غير سبب العلم الإجمالي.

وحيث لا معيّن لأحد الاحتمالين على الآخر فيكون من الشكّ في تحقّق مصداق الانحلال والسريان من الجامع إلى الفرد ، فلا يمكن التمسّك بالانحلال ؛ لأنّه يكون من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ.

وهذا لا إشكال فيه أيضا.

ومثال الثاني : ـ أي ما كانت نسبة سبب العلم الإجمالي فيه إلى الأطراف متساوية ـ أن يحصل علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءات التي هي في معرض استعمال الكافر أو الكلب ، لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل بدون أن يستعمل بعضها ، فإنّ هذا الاستبعاد نسبته إلى الأطراف على نحو واحد.

ويترتّب على ذلك أنّه لا يصلح أن يكون قيدا مخصّصا للمعلوم الإجمالي.

وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان السبب في نشوء العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حدّ واحد ، فمثاله :

ما إذا علم بنجاسة أحد إناءي الكافر لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل من دون أن يستعمل أحدهما على الأقلّ ، أو علم بنجاسة أحد الإناءين الموضوعين أمام الكلب للشرب منهما لمجرّد استبعاد أن يمرّ زمان طويل ولا يشرب من أحدهما على الأقلّ ، أو علم بكذب أحد مدعي النبوّة لقيام البرهان على عدم اجتماع نبيّين معا في وقت واحد في مكان واحد لأمّة واحدة.

فهذا النحو من العلم الإجمالي كان منشؤه مجرّد الاستبعاد بالنسبة للأواني ، وهذا الاستبعاد نسبته إلى كلا الإناءين على حدّ واحد ، بمعنى كما أنّ الاستبعاد موجود في هذا الإناء فهو موجود في ذاك أيضا ، بحيث يكون إثبات النجاسة في أحدهما ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّ السبب فيهما متساو.

وممّا يترتّب على ذلك أنّ هذا السبب لا يمكن أن يخصّص أو يقيّد النجاسة

٣٢٧

المعلومة إجمالا ، فلا يمكن أن يقال بأنّه يعلم بنجاسة في أحد هذين الإناءين ناشئة من الاستبعاد ، إذ الاستبعاد نفسه ليس سببا للنجاسة وليس من النجاسات أصلا.

وهذا فارق بين هذا النحو والنحو السابق ، حيث هناك كان السبب يقيّد ويخصّص المعلوم بالإجمال.

وعليه ، فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة إناء معيّن انحلّ العلم الإجمالي حتما لانهدام الركن الثاني ؛ وذلك لأنّ المعلوم التفصيلي مصداق للمعلوم الإجمالي جزما حيث لم يتحصّص المعلوم الإجمالي بقيد زائد ، ومعه يسري العلم من الجامع إلى الفرد ، ويدخل في النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدّمة عند الحديث عن الركن الثاني.

وحينئذ نقول : إنّه إذا حصل لنا علم تفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه بسبب رؤية الكافر أو الكلب وهو يشرب منه ، فهل ينحلّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين الناشئ من استبعاد مساورة الكافر أو الكلب لأحدهما؟

والجواب : أنّه ينحلّ لانهدام الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ؛ لأنّ العلم بالجامع يسري إلى الفرد ؛ وذلك لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالي وهو نجاسة أحدهما منطبق جزما على المعلوم بالعلم التفصيلي ، وهو نجاسة هذا بعينه لأنّ الفرد مصداق حتما للجامع ، أي أنّ نجاسة هذا بعينه مصداق لنجاسة أحدهما.

ولا يوجد في الجامع المعلوم بالإجمال أيّة خصوصيّة أو ميزة أو قيد كما هو المفروض ، فيكون هذا الفرد صالحا لانطباق الجامع عليه وانحلاله به ، فيكون نظير النحو الثاني من الأنحاء الأربعة المتقدّمة لسريان العلم بالجامع إلى الفرد.

كما إذا علمنا بوجود إنسان في المسجد ثمّ علمنا بوجود زيد في المسجد ، فينحلّ العلم الإجمالي لسريان العلم بالجامع إلى الفرد ؛ إذ لا خصوصيّة ولا قيد زائد يمنع من هذا السريان ، وبالتالي يكون الشكّ في وجود فرد آخر في المسجد بدويّا فتجري فيه الأصول الترخيصيّة.

وبتعبير آخر : إنّه قبل العلم التفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه كان العلم الإجمالي متساوي النسبة إلى الإناءين ؛ لأنّ الاستبعاد فيهما على نحو واحد ، فيكون تعيينه في أحدهما ترجيحا بلا مرجّح ، إلا أنّه بعد العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما

٣٢٨

المعيّن يكون تعيين المعلوم بالعلم الإجمالي فيه ترجيحا مع وجود المرجّح ؛ لأنّ هذا الإناء نجس على كلّ حال ، وحيث لا يوجد ما يميّز نجاسته عن النجاسة المعلومة إجمالا لعدم تقييده بشيء زائد فيكون صالحا للانطباق والسريان.

وأمّا الإناء الآخر فتعيين كونه النجس فيه ترجيح على الآخر من دون مرجّح ؛ لأنّ النسبة بينهما واحدة ولا يمتاز على الآخر بشيء يجعله أرجح منه في انطباق المعلوم عليه.

والحاصل : أنّه بعد العلم التفصيلي يصبح العلمان معا علما واحدا بنجاسة هذا الإناء المعيّن وشكّا بدويّا في نجاسة الإناء الآخر ، فتجري فيه الأصول المؤمّنة بلا معارض.

وفي كلّ حالة يثبت فيها الانحلال يجب أن يكون المعلوم التفصيلي والمعلوم الإجمالي متّحدين في الزمان ، وأمّا إذا كان المعلوم التفصيلي متأخّرا زمانا فلا انحلال للعلم الإجمالي حقيقة ؛ لعدم كون المعلوم التفصيلي حينئذ مصداقا للمعلوم الاجمالي.

شرط الانحلال : ثمّ إنّه يشترط في تحقّق الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي أن يكون المعلوم تفصيلا والمعلوم إجمالا متّحدين في الزمان ، كأن يعلم بوقوع نجاسة في أحد الإناءين صباحا ، ثمّ يعلم تفصيلا بوقوع النجاسة في هذا الإناء بعينه صباحا أيضا ، فهنا يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي أي معيّنا ومشخّصا له ، أو يصلح لأن يكون هو نفس المعلوم إجمالا لكونه مصداقا له ولا ميزة بينهما.

وأمّا إذا كان المعلوم تفصيلا متأخّرا في الزمان عن المعلوم إجمالا فلا انحلال حقيقة ؛ إذ في هذه الحالة لن يكون المعلوم التفصيلي مصداقا للمعلوم الإجمالي لوجود الميزة بينهما.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين في الصباح ثمّ علم تفصيلا بنجاسة هذا الإناء بعينه عند الظهر ، أي أنّه تنجّس ظهرا لا صباحا ، فهنا لن يحصل الانحلال ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال فيه ميزة وهو حدوث النجاسة صباحا ، وهذه الميزة يحرز عدم تحقّقها في المعلوم التفصيلي ؛ لأنّ النجاسة فيه حدثت ظهرا ، فهي نجاسة أخرى غير النجاسة

٣٢٩

السابقة. وعليه ، فلا يكون مصداقا وصالحا لانطباق المعلوم الإجمالي عليه ، فالعلم بالجامع لم يسر إلى الفرد.

ولا يشترط في الانحلال الحقيقي وانهدام الركن الثاني التعاصر بين نفس العلمين ، فإنّ العلم التفصيلي المتأخّر زمانا يوجب الانحلال أيضا إذا أحرز كون معلومه مصداقا للمعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مجرّد تأخّر العلم التفصيلي مع إحراز المصداقيّة لا يمنع عن سراية العلم قهرا من الجامع إلى الخصوصيّة ، وهو معنى الانحلال.

نعم ، لا يشترط في الانحلال الحقيقي وسريان العلم من الجامع إلى الفرد أن يكون العلمان الإجمالي والتفصيلي متعاصرين حدوثا ، بل يكفي ما ذكرناه من تعاصر المعلومين فيهما حتّى ولو كان العلم التفصيلي متأخّرا في الحدوث عن العلم الإجمالي ، بشرط أن يحرز أنّ المعلوم بالعلم التفصيلي المتأخّر زمانا عن العلم الإجمالي مصداق للمعلوم بالعلم الإجمالي المتقدّم ، وهذا يحصل فيما إذا لم يكن في المعلوم بالإجمال ميزة وخصوصيّة زائدة عن المعلوم بالتفصيل.

ومثاله : ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين لوقوع قطرة دم فيه ثمّ علم تفصيلا بنجاسة أحد الإناءين بعينه بالدم أيضا ، وكان وقوع القطرة في العلم الإجمالي صباحا ، ووقوعها في العلم التفصيلي صباحا أيضا ، وكانت هذه القطرة هي نفس تلك أو يحتمل أنّها نفسها على الأقلّ ، فهنا يحصل الانحلال الحقيقي ويسري العلم من الجامع إلى الفرد ، إذ المعلوم تفصيلا يصلح مصداقا للمعلوم إجمالا وزمانهما واحد.

وأمّا مجرّد كون نفس العلم التفصيلي متأخّرا عن العلم الإجمالي فهو لا يمنع من الانحلال الحقيقي والسريان القهري للعلم من الجامع إلى الفرد ، فإنّ الغالب هو تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي ، فلو كان مانعا للزم عدم تحقّق الانحلال الحقيقي إلا نادرا جدّا ، وهو فرض حدوث العلمين الإجمالي والتفصيلي معا وفي آن واحد.

وبهذا ينتهي الكلام عن الانحلال الحقيقي.

٤ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول :

إذا جرت في حقّ المكلّف أمارات أو أصول شرعيّة منجّزة للتكليف في بعض

٣٣٠

أطراف العلم الإجمالي فلا انحلال حقيقي ولا تعبّدي كما تقدّم ، ولكن ينهدم الركن الثالث بإحدى صيغتيه المتقدّمتين إذا توفّرت شروط :

الحالة الرابعة : الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول.

فإذا كان لدى المكلّف علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، وفرض أنّ الأمارات أو الأصول قامت على تنجيز التكليف في أحد الإناءين ، فهنا هل يحصل الانحلال التعبّدي أو الانحلال الحكمي؟

والجواب : أمّا الانحلال الحقيقي فمن الواضح عدم تحقّقه في المقام ؛ لأنّه ناتج عن سريان العلم من الجامع إلى الفرد أي زوال الركن الثاني من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهنا الركن الثاني محفوظ وغير منحلّ إذ لا علم وجداني بالفرد ، فالعلم باق حقيقة.

وأمّا الانحلال التعبّدي أو التعبّد بالانحلال بناء على مسلك جعل الطريقيّة والعلميّة أو التنزيل أو المجاز السكّاكي أي الورود ، فقد تقدّم الحديث عنه سابقا ، وقلنا :

إنّ هذه المباني لو سلّمت فهي لا تنتج الانحلال الحقيقي تعبّدا.

يبقى الانحلال الحكمي وهو عبارة عن انهدام الركن الثالث من أركان منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف بناء على الصيغة المشهورة والصحيحة ، أو كون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف في الطرفين أو الأطراف على كلّ تقدير.

فإنّه إذا كان أحد الأطراف منجّزا بالأمارة أو بالأصل فسوف لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة ، أو لن يكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف على كلّ تقدير ، ولذلك تبطل منجّزيّته مع كون العلم الإجمالي موجودا حقيقة إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة ساقط ، إلا أنّ هذا الانحلال الحكمي يشترط فيه أمور :

أحدها : ألاّ يقلّ البعض المنجّز بالأمارة أو الأصل الشرعي عن عدد المعلوم بالإجمال من التكاليف.

ثانيها : ألاّ يكون المنجّز الشرعي من أمارة أو أصل ناظرا إلى تكليف مغاير لما هو المعلوم إجمالا ، كما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الإناءين بسبب نجاسته وقامت البيّنة على حرمة أحدهما المعيّن بسبب الغصب.

٣٣١

ثالثها : ألاّ يكون وجود المنجّز الشرعي متأخّرا عن حدوث العلم الإجمالي.

الشرط الأوّل : ألاّ يقلّ المتنجّز بالأمارة أو بالأصل عن المعلوم بالعلم الإجمالي ، بل يكون إمّا زائدا أو مساويا ، فإذا علمنا بنجاسة إناءين من عشرة وقامت الأمارة أو الأصل على نجاسة اثنين معيّنين منها تمّ الانحلال الحكمي.

وأمّا إذا قامت الأمارة أو الأصل على نجاسة واحد فقط ، فهنا يخرج الطرف عن العلم الإجمالي إلا أنّ الأطراف الأخرى لا تزال على طرفيّتها ؛ إذ العلم الإجمالي بلحاظها غير منحلّ لا حقيقة ولا حكما.

فكما اشترط في انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير أن يكون المعلوم إجمالا في الصغير أزيد أو مساويا للكبير فكذلك هنا ؛ لأنّ الانحلال نفسه يفترض مساواة الشيء المنحلّ مع المنحلّ فيه ، أو كونه أقلّ منه لا أزيد.

والشرط الثاني : أن يكون التكليف المعلوم إجمالا هو نفسه التكليف المنجّز بالأمارة أو بالأصل ، إذ لو كان التكليف فيهما متغايرا لما حصل الانحلال.

فمثلا إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا فلا بدّ أن تكون الأمارة أو الأصل المنجّزين لأحد الإناءين بعينه دالّة على نفس التكليف المعلوم إجمالا بأن تشهد البيّنة بنجاسة هذا الإناء ، أو يجري استصحاب نجاسة هذا الإناء. وأمّا إذا كانت الأمارة أو الأصل منجّزة للإناء بتكليف آخر غير النجاسة بأن قامت على كونه مغصوبا فهنا لا يتحقّق الانحلال.

وبتعبير آخر : يشترط في الأمارة أو الأصل أن يكون التكليف المتنجّز بهما في أحد الأطراف متّحدا في سببه مع التكليف المتنجّز في العلم الإجمالي ، أي أنّ سبب العلم الإجمالي هو نفسه ما قامت عليه الأمارة أو الأصل.

وأمّا لو كان السبب فيهما متغايرا فلا يتحقّق الانحلال إذ يوجد سببان مستقلاّن للتنجيز ، وموضوعهما مختلف.

والشرط الثالث : ألاّ يكون قيام الأمارة أو الأصل متأخّرا عن العلم الإجمالي ، بل إمّا أن يكونا قبله أو مقارنين له ، فإذا كان لدينا إناءان وكان أحدهما نجسا سابقا ، فهنا يجري استصحاب نجاسته فيكون منجّزا ، أو أخبرت البيّنة بنجاسته فيتنجّز بالأمارة.

فإذا علمنا إجمالا بعد ذلك بنجاسة أحدهما سوف لا يكون هذا العلم الإجمالي

٣٣٢

منجّزا لاختلال ركنه الثالث ، إذ الأصول الترخيصيّة لا تجري في الطرف الذي استصحبت نجاسته ، أو قامت الأمارة عليها ، فتجري الأصول الترخيصيّة في الإناء الآخر بلا معارض.

وهكذا لو كان قيام الأمارة أو الأصل مقارنا لحدوث العلم الإجمالي بأن حدثا معا ، فالانحلال الحكمي موجود.

وأمّا لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ بعد ذلك قامت الأمارة أو الأصل على نجاسة أحدها المعيّن ، فهنا لا يتحقّق الانحلال الحكمي كما سيأتي توضيحه.

فكلّما توفّرت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث لجريان الأصل المؤمّن في غير مورد المنجّز الشرعي بلا معارض وفقا للصيغة الأولى ، ولعدم صلاحيّة العلم الإجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على كلّ تقدير وفقا للصيغة الثانية ، ويسمّى السقوط عن المنجّزيّة في هذه الحالة بالانحلال الحكمي تمييزا له عن الانحلال الحقيقي والانحلال التعبّدي.

وهذه الشروط الثلاثة إذا توفّرت في مورد حصل الانهدام للركن الثالث وسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، ولا فرق في ذلك بين مسلك الاقتضاء ومسلك العلّيّة. وتوضيحه : أنّه على مسلك الاقتضاء كان الركن الثالث عبارة عن جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف ، فمع قيام المنجّز الشرعي من أمارة أو أصل سوف لا تجري الأصول الترخيصيّة في هذا الطرف الذي قامت فيه الأمارة أو الأصل ، فتجري الأصول الترخيصيّة في الطرف الآخر بلا معارض ، فيختلّ بذلك الركن الثالث ، ويسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

وعلى مسلك العلّيّة كان الركن الثالث عبارة عن أن يكون العلم الإجمالي منجّزا لمعلومه على جميع التقادير لا على بعضها ، فمع تنجّز أحد الطرفين بعينه بالأمارة أو بالأصل سوف لن يكون قابلا للتنجيز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز معلومه على جميع التقادير ؛ لأنّه على تقدير كون النجاسة المعلومة إجمالا في الإناء المنجّز بالأمارة أو بالأصل فلن يكون منجّزا بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ المنجّز لا يتنجّز من جديد ، إذ لا تجتمع علّتان مستقلّتان على معلول

٣٣٣

واحد ، وبعد اختلال الركن الثالث بهذه الصياغة يحصل الانحلال الحكمي (١).

وأمّا إذا اختلّ الشرط الأوّل فالعلم الإجمالي منجّز للعدد الزائد ، والأصول بلحاظه متعارضة.

ذكرنا أنّ الانحلال الحكمي فيه ثلاثة شروط فإذا اختلّ واحد منها فالعلم الإجمالي لا ينحلّ.

وعليه فنقول : إذا اختلّ الشرط الأوّل بأن كان العدد المعلوم بالإجمال أزيد من العدد الذي تنجّز بالأمارة أو بالأصل ، فمورد الأمارة يخرج عن دائرة العلم الإجمالي وكذا مورد الأصل ، وأمّا المقدار الزائد فهو لا يزال مرددا بين الأطراف الأخرى ، والعلم الإجمالي لا يزال منجّزا بلحاظه ؛ لعدم اختلال ركنه الثالث ، إذ الأصول الترخيصيّة في تلك الأطراف سوف تجري فيها جميعا ، وبالتالي تتعارض وتتساقط.

فإذا علمنا إجمالا بنجاسة إناءين من العشرة وقامت الأمارة أو الأصل على نجاسة أحد العشرة بعينه فهنا يخرج هذا الطرف عن دائرة العلم الإجمالي ، وأمّا سائر الأطراف فلا يزال العلم منجّزا لها للعلم بنجاسة أحدها ؛ ولأنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ طرف متعارضة فيما بينها.

وإذا اختلّ الشرط الثاني فالأمر كذلك ؛ لأنّ ما ينجّزه العلم في مورد الأمارة غير ما تنجّزه الأمارة نفسها.

وإذا اختلّ الشرط الثاني بأن كان التكليف المنجّز بالأمارة أو بالأصل مغايرا للتكليف المنجّز بالعلم الإجمالي فلا يتحقّق الانحلال أيضا ؛ لأنّ ما يتنجّز بالأمارة غير ما يتنجّز بالعلم ، أي أنّ السبب في كلّ منهما مغاير للسبب في الآخر ، فيكون

__________________

(١) وإنّما سمّيت هذه الموارد بالانحلال الحكمي من أجل تمييزها عن موارد الانحلال الحقيقي أو الانحلال التعبّدي على فرض وقوعه ، ووجه التسمية أنّ العلم الإجمالي رغم وجوده حقيقة إلا أنّ حكمه وهو المنجّزيّة لكلا الطرفين ساقط ، فمن أجل سقوط حكمه سمّي بالانحلال الحكمي.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ الانحلال الحكمي إنّما يحتاج فيه إلى هذه الشروط فيما إذا كان المنجّز أصلا عمليّا مطلقا ، أو أمارة غير معيّنة للمعلوم الإجمالي ، وأمّا إذا كان لدينا أمارة معيّنة ومشخّصة للمعلوم الإجمالي فهي توجب الانحلال الحكمي مطلقا سواء كانت قبل العلم الإجمالي أو بعده.

٣٣٤

مورد الأمارة منجّز من جهتين : الأولى بلحاظ الأمارة ، والثانية بلحاظ العلم الإجمالي ، وأمّا سائر الأطراف فهي منجّزة بالعلم الإجمالي فقط.

كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين وقامت الأمارة أو الأصل على غصبيّة أحدهما بعينه ، فهنا يكون مورد الأمارة منجّز من ناحيتين : من ناحية الغصبيّة ، ومن ناحية النجاسة ، وسائر الأطراف الأخرى منجّزة من ناحية النجاسة المعلومة إجمالا.

وكون مورد الأمارة متنجّزا لا يعني سقوط الأصول الترخيصيّة فيه رأسا ، بل تسقط الأصول الترخيصيّة فيه بلحاظ التكليف المنجّز بالأمارة ، وأمّا الأصول الترخيصيّة من ناحية العلم الإجمالي فهي لا تزال جارية فيه ، وهي معارضة بالأصول الترخيصيّة من ناحية العلم الإجمالي في الأطراف الأخرى ، فهي ساقطة من جهة ولكنّها ثابتة من جهة أخرى.

وإذا اختلّ الشرط الثالث كان العلم الإجمالي منجّزا والركن الثالث محفوظا ؛ لأنّ الأصول المؤمّنة في غير مورد الأمارة والأصل الشرعي المنجّز معارضة بالأصول الترخيصيّة المؤمّنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما.

وبكلمة أخرى : إذا أخذنا من مورد المنجّز الشرعي فترة ما قبل ثبوت هذا المنجّز ومن غيره الفترة الزمنيّة على امتدادها حصلنا على علم إجماليّ تامّ الأركان فينجّز.

وإذا اختلّ الركن الثالث بأن كان لدينا علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ قامت الأمارة أو الأصل الشرعي على نجاسة أحدهما المعيّن ، بنحو يمكن أن يكون ما تنجّز بالأمارة أو بالأصل مصداقا للمعلوم بالإجمال ، بأن كان المعلوم الإجمالي نجاسة ما ، وكان المتنجّز نجاسته بالدم أو كان المعلوم الإجمالي النجاسة بالدم وكان التنجّز النجاسة بالدم أيضا ، ولكن يحتمل أن تكون غير النجاسة الأولى ويحتمل أن يكون نفسها ، فلم يكن مورد الأمارة المتنجّز مشخّصا ومعيّنا للمعلوم بالإجمال بل يكون محتملا لذلك ولعدمه ، فهنا لا ينحلّ العلم الإجمالي لتماميّة أركانه.

أمّا الانحلال الحقيقي فلعدم سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، إذ لا علم وجداني ، وأمّا الانحلال التعبّدي أو التعبّد بالانحلال فلا واقع له بل هو مجرّد فرض فقط ، وأمّا الانحلال الحكمي فلأنّ الركن الثالث وهو جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين لا يزال على حاله.

٣٣٥

وتوضيحه : أنّ أحد الإناءين منجّز بالأمارة والآخر منجّز بالأمارة والعلم الإجمالي ، والأصول الترخيصيّة الجارية في الإناء المنجّز بالعلم الإجمالي تتعارض مع الأصول الترخيصيّة في الإناء المنجّز بالعلم الإجمالي وبالأمارة أو بالأصل قبل ثبوت الأمارة والأصل.

وهذه المعارضة تظلّ ثابتة حتّى بعد قيام الأمارة أو الأصل ، فيكون هناك منجّزان لأحد الإناءين ، وثبوت منجّزين على شيء واحد لا مانع فيه عقلا ؛ لأنّه ليس بابه باب العلل والأسباب الحقيقيّة ، بل بابه باب الاعتبار ، وبهذا اللحاظ يحقّ للشارع أن يعتبر ما يشاء منجّزا لأحكامه ، وحينئذ تكون مخالفة الإناء المنجّز بمنجّزين أشدّ وأقبح من مخالفة الإناء المنجّز بمنجّز واحد فقط.

وبتعبير آخر : أنّ العلم الإجمالي من أوّل الأمر ـ بعد قيام الأمارة أو الأصل ـ يكون دائرا بين طرفين أحدهما قصير والآخر طويل.

أمّا الفرد القصير فهو نجاسة هذا الإناء إلى حين قيام الأمارة أو الأصل على تنجيزه ، وأمّا الفرد الطويل فهو نجاسة الإناء الآخر إلى ما شاء الله.

والأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ آنات الفرد القصير تتعارض مع الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ آنات الفرد الطويل ، فيكون الفرد الطويل متنجّزا بالعلم الإجمالي من أوّل الأمر على امتداد آناته الزمنيّة.

وأمّا الفرد القصير فلا يكون منجّزا بالعلم الإجمالي بعد قيام الأمارة أو الأصل على تنجيزه لانتهاء أمده ، وهذا لا يضر بمنجّزيّة العلم الإجمالي كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ مجرّد تحقّق أحد الطرفين لا يعني جواز ارتكاب الآخر. نعم ، الإناء الذي تنجّز بالأمارة أو بالأصل يبقى منجّزا أيضا كالفرد الطويل إلا أنّه منجّز بالأمارة أو بالأصل لا بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ طرفيّته للعلم الإجمالي ترتفع وتنتهي بعد قيام الأمارة أو الأصل ، نظير الاضطرار أو التلف أو التطهير.

ومن هنا يعرف أنّ انهدام الركن الثالث بالمنجّز الشرعي مرهون بعدم تأخّر نفس المنجّز عن العلم ، ولا يكفي عدم تأخّر مؤدّى الأمارة مثلا مع تأخّر قيامها ؛ وذلك لأنّ سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجز الشرعي في بعض أطرافه إنّما هو بسبب المنجّزيّة الشرعيّة بإحدى الصيغتين السابقتين ، والمنجّزيّة

٣٣٦

لا تبدأ إلا من حين قيام الأمارة أو جريان الأصل ، سواء كان المؤدّى مقارنا لقيامها أو سابقا على ذلك.

قلنا : إنّ الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالأمارة أو الأصل المنجّزين لأحد الأطراف المعيّن فرع انهدام الركن الثالث ، وهذا إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأمارة أو الأصل متقدّمين على العلم الإجمالي لا متأخّرين عنه ، فلا بدّ أن يكون نفس المنجّز الشرعي متقدّما زمانا على العلم الإجمالي.

وأمّا إذا كان المنجّز الشرعي متأخّرا في الحدوث عن العلم الإجمالي فلا يتحقّق الانحلال ، سواء كان مؤدّى هذا المنجّز متأخّرا أيضا أم متقدّما أم مقارنا ، فلا عبرة بتقدّم المؤدّى أو تأخّره بل العبرة بتقدّم نفس المنجّز.

والوجه في ذلك هو : أنّ سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة هنا فرع عدم جريان الأصول الترخيصيّة في كلا الطرفين ، فعند ما يكون أحد الأطراف منجّزا بمنجّز آخر فإنّه لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة فينحلّ. ومن الواضح أنّ كون أحد الطرفين لا تجري فيه الأصول الترخيصيّة إنّما يكون فيما إذا كان منجّزا فينهدم الركن الثالث بكلتا صيغتيه.

أمّا الصيغة المشهورة فلأنّ الأصول الترخيصيّة لم تجر في هذا الطرف المنجّز فلا تعارض.

وأمّا الصيغة على مسلك المحقّق العراقي فلأنّ المنجّز لا يمكن أن يتنجّز مرّة أخرى بالعلم الإجمالي فهو غير منجّز لمعلومه على كلّ تقدير.

ثمّ إنّ هذه المنجّزيّة إنّما تثبت في أحد الطرفين بعد قيام الأمارة أو الأصل لا قبل ذلك ، فإذا كانت الأمارة أو الأصل متقدّمين على العلم الإجمالي كانت المنجّزيّة في أحد الطرفين ثابتة قبل طروّ العلم الإجمالي فلا يؤثّر في المنجّزيّة ، إمّا لأنّه لا ينجّز المنجّز ، وإمّا لأنّه لا تجر فيه الأصول الترخيصيّة.

وأمّا إذا كانت المنجّزيّة بعد طروّ العلم الإجمالي فالعلم الإجمالي منجّز لطرفيه قبل ثبوت الأمارة ؛ لجريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين معا قبل قيام المنجّز أو لكونه منجّزا لمعلومه على كلّ تقدير ، فبعد ثبوت الأمارة لا يزول العلم الإجمالي ولا تبطل منجّزيّته ، بل تتأكّد في أحدهما المعيّن.

٣٣٧

وأمّا تأخّر الأمارة أو الأصل مع كون مؤدّاهما متقدّما على العلم الإجمالي فلا يكفي للانحلال ، فلو علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثمّ قامت الأمارة أو الأصل على أنّ هذا الإناء كان نجسا قبل طروّ العلم الإجمالي فهذا لا يكفي ؛ لأنّ الإناء قبل طروّ العلم الإجمالي لم يكن منجّزا على المكلّف ؛ وذلك لعدم وصول المنجّزيّة إليه إذ لا يوجد في تلك الفترة منجّز فعلي ، فكان العلم الإجمالي منجّزا له لتماميّة أركانه فيه.

وهذا واضح بناء على أنّ المنجّزيّة متقوّمة بالوصول سواء كانت للعلم أم للظنّ المعتبر ، فإنّ مجرّد ثبوت التكليف في الواقع لا يكفي لكونه منجّزا على المكلّف حتّى لو لم يعلم به أو لم يقم عليه دليل معتبر شرعا ، بل يكون منجّزا من حين قيام العلم أو الدليل المعتبر ، فالمنجّزيّة فرع الوصول وهي تبدأ من حين ثبوتها وهو لا يكون إلا بوصولها.

وبالمقارنة بين الانحلال الحكمي كما شرحناه هنا والانحلال الحقيقي كما شرحناه آنفا (١) ، يظهر أنّهما يختلفان في هذه النقطة ، فبينما العبرة في الانحلال الحكمي بعدم تأخّر نفس المنجّز الشرعي عن العلم الإجمالي ، نلاحظ أنّ العبرة في الانحلال الحقيقي كانت بملاحظة جانب المعلوم التفصيلي وعدم تأخّره عن زمان المعلوم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ميزانه سراية العلم من الجامع إلى الفرد ، وهي لازم قهري لانطباق المعلوم الإجمالي على المعلوم التفصيلي ومصداقيّة هذا لذاك ، ولا دخل لتاريخ العلمين في ذلك ، فمتى ما اجتمع العلمان ولو بقاء وحصل الانطباق المذكور حصل الانحلال الحقيقي.

الفرق بين الانحلالين : يمكننا بيان الفرق بين الانحلالين الحقيقي والحكمي ضمن الأمور التالية :

أوّلا : أنّ الانحلال الحقيقي فرع سريان العلم من الجامع إلى الفرد ، بينما الانحلال الحكمي فهو فرع عدم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأفراد.

وثانيا : أنّ الانحلال الحقيقي معناه زوال العلم الإجمالي حقيقة وتبدّله إلى العلم التفصيلي بالفرد والشكّ البدوي في الآخر ، بينما الانحلال الحكمي معناه أنّ العلم الإجمالي لا يزال موجودا ، غاية الأمر أنّ حكمه أي المنجّزيّة قد سقطت.

__________________

(١) تحت عنوان انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي.

٣٣٨

وثالثا : أنّ الانحلال الحقيقي والذي هو سريان العلم من الجامع إلى الفرد قهرا إنّما يتحقّق فيما إذا كان المعلومان بالإجمال والتفصيل متّحدين في الزمان ولا يشترط اتّحاد نفس العلمين ، بينما الانحلال الحكمي والذي هو سقوط المنجّزيّة المسبّبة عن عدم جريان الأصول الترخيصيّة في أحد الطرفين مع جريانها في الطرف الآخر إنّما يتحقّق فيما إذا كان نفس المنجّز من أمارة أو أصل متقدّما على العلم الإجمالي ، ولا يشترط تقدّم مؤدّى الأمارة أو الأصل أو تأخّره أو مقارنته للمعلوم الإجمالي ؛ لأنّ المنجّزيّة متقوّمة بالوصول وهو لا يتمّ إلى بقيام الأمارة أو الأصل لدى المكلّف ولا عبرة بمؤدّاهما والواقع المحكي بها.

والسرّ في ذلك : ما ذكرناه من كون السراية القهريّة من الجامع إلى الفرد فرع الانطباق والمصداقيّة للفرد مع الجامع ، وهذا فرع اتّحادهما أي الفرد والجامع ، وهذا هو اتّحاد المعلوم الإجمالي أي الجامع مع المعلوم التفصيلي أي الفرد.

وأمّا المنجزيّة وعدم جريان الأصول الترخيصيّة في بعض الأطراف فهي فرع كون هذا البعض متنجّزا بمنجّز سابق على العلم الإجمالي ، وهذا المنجّز لا يثبت إلا مع قيام الأمارة أو الأصل ؛ لأنّها فرع الوصول كما ذكرناه ، ولهذا تكون الأمارة أو الأصل متقدّمة على العلم الإجمالي.

ولذلك لا يشترط اتّحاد العلمين في الانحلال الحقيقي ؛ لأنّ الانحلال وعدمه ليس مرتبطا بنفس العلمين ، وكذا لا يشترط تقدّم مؤدّى الأمارة أو الأصل على العلم الإجمالي ؛ لأنّ ملاك الانحلال ليس مرتبطا بالمؤدّى بل بنفس المنجّز.

ويترتّب على ذلك : أنّه لو فرض اجتماع العلمين الإجمالي والتفصيلي في مرحلة البقاء حصل الانحلال فيما إذا كانت المصداقيّة والمطابقة بين المعلومين متحقّقة ، بينما لو فرض تقدّم مؤدّى الأمارة مع تأخّر نفس الأمارة فلا يحصل الانحلال الحكمي ، بخلاف ما لو تقدّمت نفس الأمارة أو الأصل سواء كان مؤدّاهما متقدّما أم مقارنا فإنّه يحصل الانحلال.

٥ ـ اشتراك علمين إجماليّين في طرف :

قد يفترض أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي طرف في علم إجمالي آخر ، فإن كان العلمان متعاصرين فلا شكّ في تنجيزهما معا وتلقّي الطرف المشترك التنجيز

٣٣٩

منهما معا ؛ لأنّ مرجع العلمين إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين.

الحالة الخامسة : اشتراك علمين إجماليّين في طرف ، وهذه الحالة على قسمين :

الأوّل : أن يفترض حدوث العلمين الإجماليّين معا بنحو التقارن والتعاصر ، كما إذا علمنا إجمالا في الساعة الثانية عشر بنجاسة أحد الإناءين الأبيض أو الأسود ، وعلمنا أيضا في نفس الساعة بنجاسة أحد الإناءين الأسود أو الأحمر.

فهنا الإناء الأسود طرف مشترك للعلمين الإجماليّين بحيث يكون قابلا للتنجّز من كلا العلمين ، ولا شكّ في كونه منجّزا بهما معا ؛ إذ تنجّزه بأحدهما فقط ترجيح بلا مرجّح ، وعدم تنجّزه بشيء منهما مخالف لقانون منجّزيّة العلم الإجمالي التامّ الأركان فيلزم كونه منجّزا بهما معا.

ويمكننا إرجاع العلمين الإجماليّين إلى علم إجمالي واحد دائر بين ثبوت تكليف في الإناء المشترك أي الأسود ، أو ثبوت تكليفين أحدهما في الإناء الأبيض والآخر في الإناء الأحمر ؛ وذلك لأنّ العلمين الإجماليّين إن كان المعلوم فيهما معا في الإناء الأسود المشترك فلا يوجد إلا تكليف واحد وهو نجاسته فقط ، وإمّا إن كان المعلوم فيهما ثابتا في الطرف الآخر فهذا يعني ثبوت تكليفين أحدهما نجاسة الأبيض والآخر نجاسة الأحمر.

وأمّا إذا كان أحدهما سابقا على الآخر فقد يقال : إنّ العلم المتأخّر يسقط عن المنجّزيّة لاختلال الركن الثالث : إمّا بصيغته الأولى وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد سقط عنه الأصل المؤمّن سابقا بتعارض الأصول الناشئ من العلم الإجمالي السابق ، فالأصل في الطرف المختصّ بالعلم الإجمالي المتأخّر يجري بلا معارض.

وإمّا بصيغته الثانية وذلك بتقريب أنّ الطرف المشترك قد تنجّز بالعلم السابق ، فلا يكون العلم المتأخّر صالحا لمنجّزيّته ، فهو إذن لا يصلح لمنجّزيّة معلومه على كلّ تقدير.

الثاني : أن يفترض حدوث أحد العلمين الإجماليّين قبل الآخر ، أي أحدهما متقدّم والآخر متأخّر.

٣٤٠