شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

١

٢

٣
٤

خصائص

الأصول العمليّة

٥
٦

خصائص الأصول العمليّة

عرفنا فيما تقدّم (١) أنّ الأصول العمليّة نوع من الأحكام الظاهريّة الطريقيّة المجعولة بداعي تنجيز الأحكام الشرعيّة أو التعذير عنها ، وهو نوع متميّز عن الأحكام الظاهريّة في باب الأمارات ، وقد ميّز بينهما بعدّة وجوه :

تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة تصدر من الشارع عند التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة للأحكام ؛ لبيان ما هو الأهمّ من هذه الملاكات عند عدم تمييز المكلّف لها ، وقلنا : إنّها على قسمين : الأمارات والأصول.

وتقدّم أيضا أنّ الأحكام الظاهريّة كلّها أحكام طريقيّة يراد بها التوصّل للحكم الواقعي ، فهي لا تشتمل على مبادئ وملاكات زائدة عن ملاكات ومبادئ الأحكام الواقعيّة ، بل هي إبراز لما هو الأهمّ من ملاكات الواقع بداعي تنجيزها إذا كانت ملاكات الإلزام هي الأهمّ ، أو التعذير عنها إن كانت ملاكات الإباحة هي الأهمّ.

إلا أنّ الحكم الظاهري المجعول في باب الأمارات يختلف عنه في باب الأصول وإن اتّحدا في كونهما حكما ظاهريّا ، وأمّا حقيقة كلّ منهما وتمييز أحدهما عن الآخر فهذا ما سوف نبحث فيه الآن.

ولذلك نقول : اختلفت كلماتهم في الفرق بين الأمارات والأصول على أقوال :

الأوّل : أنّ الفرق بينهما ينشأ من اختلافهما في سنخ المجعول في دليل حجّيّة الأمارة ودليل الأصل ، فالمجعول في الأوّل الطريقيّة مثلا ، وفي الثاني الوظيفة العمليّة أو التنزيل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي بدون تضمّن لجعل الطريقيّة.

الاتّجاه الأوّل : ذكرت مدرسة الميرزا تبعا للشيخ الأنصاري أنّ الفارق بين الأمارات

__________________

(١) في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والأصول.

٧

والأصول ينشأ من نوعيّة وسنخ المجعول في كلّ منهما ، وذلك بأن يقال : إنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة والعمليّة والكاشفيّة ، أي أنّ الشارع نزّل الأمارة منزلة العلم في الكاشفيّة والطريقيّة ، فهي وإن كانت كاشفيّتها وطريقيّتها ناقصة تكوينا ، إلا أنّ الشارع بجعله الحجّيّة لها تمّم هذا الكشف ، كما هو الحال في خبر الثقة مثلا.

بينما المجعول في باب الأصول أحد أمرين :

١ ـ أن يكون المجعول تحديد الوظيفة العمليّة فقط في مقام الشكّ من دون أن يكون هناك أيّة كاشفيّة أو تنزيل ، وإنّما يلحظ الشكّ فقط ويعالجه ، كما هو الحال في الأصول العمليّة المحضة ، كالبراءة والاحتياط ، فإنّ المجعول في الأوّل المعذّريّة وفي الثاني المنجّزيّة عن المورد المشكوك من دون أن يكون فيهما كاشفيّة أو تنزيل أصلا.

٢ ـ أن يكون المجعول التنزيل أي أنّ الشارع ينزّل الأصل منزلة اليقين بلحاظ الجري العملي فقط الذي هو الخصوصيّة الثالثة لليقين ، بناء على تقسيمات الميرزا وتصوّراته ، فهذا النحو من الأصول العمليّة قد لوحظ فيه أن يكون باعثا ومحرّكا تماما كاليقين ، كما هو الحال في الاستصحاب حيث يقال : إنّ الشارع قد نزّل مؤدّى الاستصحاب أي الحكم المستصحب منزلة اليقين ، فكأنّ الحكم ثابت واقعا ، وهو يستدعي الجري العملي على طبقه.

وقد تقدّم الكلام عن ذلك ، ومرّ بنا أنّ هذا ليس هو الفرق الحقيقي.

وحاصل فذلكة الموقف : أنّه لم يرد عنوانا ( الأمارة ) و ( الأصل ) في دليل ليتكلّم عن تمييز أحدهما عن الآخر بأي نحو اتّفق ، وإنّما نعبّر بالأمارة عن تلك الحجّة التي لها آثارها المعهودة بما فيها إثباتها للأحكام الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة لمؤدّاها ، ونعبّر بالأصل عن ذلك الحكم الظاهري الذي ليس له تلك الآثار.

وقد عرفنا سابقا أنّ مجرّد كون المجعول في دليل الحجّيّة الطريقيّة لا يفي بإثبات تلك الآثار للأمارة.

ويرد عليه : أنّ هذا الفرق بينهما لا ينظر إلى حقيقة الأمارة والأصل ، وإنّما ينظر إلى كيفيّة صياغة الحكم الظاهري في موارد الأمارة والأصل فقط ، مع أنّه لا شكّ بوجود فارق جوهري وثبوتي يختلف على أساسه الأصل عن الأمارة ، سواء كان لسان جعله

٨

عنوان الجري العملي وتحديد الوظيفة العمليّة ، أم كان بلسان الطريقيّة والكاشفيّة ، فإنّ هذه مجرّد صياغات اعتباريّة.

والحاصل أنّ عنواني الأمارة والأصل لو كانا واردين في دليل شرعي ـ كالأخبار ـ كان لهذه التفرقة وجه ؛ لأنّ الشارع يكون على هذا الأساس قد فرّق بينهما في الواقع وأنّه يوجد ملاك واقعي للفرق بينهما ، فيكون ما ذكره الميرزا من الفارق الظاهري صحيحا ؛ لأنّه لا يطالب بالكشف عن الفارق الثبوتي ما دام الشارع قد قال بوجوده واقعا. إلا أنّهما لم يردا في الأخبار كذلك ، وعليه فلا مبرّر للتفرقة بينهما بأي نحو اتّفق.

وإنّما عنوانا الأمارة والأصل من المصطلحات الأصوليّة للتعبير عن نحوين من الحكم الظاهري فيقال : إنّ الحكم الظاهري الذي يثبت به المدلول الالتزامي بحيث تترتّب الأحكام الشرعيّة على لوازمه الشرعيّة والعقليّة يعبّر عنه بالأمارة ، بينما الحكم الظاهري الذي لا يثبت به إلا المدلول المطابقي فقط أو هو مع المدلول الالتزامي الشرعي دون العقلي يعبّر عنه بالأصل.

ومن هنا ارتكز عندهم أنّ مثبتات الأمارة حجّة سواء كانت هذه اللوازم شرعيّة أم عقليّة ، بينما مثبتات الأصل ليست حجّة إلا إذا كانت اللوازم شرعيّة فقط.

وحينئذ يبحث عن حقيقة المجعول في الأمارة والأصل من أجل بيان النكتة الثبوتيّة في كلّ منهما والتي على أساسها حصل هذا الاختلاف ، فالبحث ينبغي أن ينصبّ حول هذا الفارق الثبوتي والذي هو من المخترعات الأصوليّة.

وقد تقدّم أنّ مجرّد كون المجعول في الأمارة الطريقيّة والكاشفيّة والعمليّة دون الأصل لا يكفي لتبرير حجّيّة مثبتات الأمارة دون الأصل ؛ وذلك لأنّ هذه التفرقة لا تنظر إلى النكتة الثبوتيّة ، وإنّما هي مجرّد صياغة إثباتيّة فقط.

وعليه فلو كان الأصل مجعولا بلسان الطريقيّة والكاشفيّة أيضا لم تكن مثبتاته حجّة ، بينما تكون مثبتات الأمارة حجّة حتّى لو كانت مجعولة بلسان الجري العملي وتحديد الوظيفة العمليّة ، وهذا يعني أنّ الفارق أعمق من ذلك.

الثاني : أنّ الفرق بينهما ينشأ من أخذ الشكّ موضوعا للأصل العملي ، وعدم أخذه كذلك في موضوع الحجّيّة المجعولة للأمارة.

٩

وهذا الفرق مضافا إلى أنّه لا يفي بالمقصود غير معقول في نفسه ؛ لأنّ الحجّيّة حكم ظاهري ، فإن لم يكن الشكّ مأخوذا في موضوعها عند جعلها لزم إطلاقها لحالة العلم ، وجعل الأمارة حجّة على العالم غير معقول.

ومن هنا قيل بأنّ الشكّ مأخوذ في حجّيّة الأمارة موردا لا موضوعا ، غير أنّنا لا نتعقّل بحسب عالم الجعل ومقام الثبوت نحوين من الأخذ.

الاتّجاه الثاني : في بيان الفرق بين الأمارة والأصل ما يقال : من أنّ الشكّ قد أخذ في موضوع الأصل ، بينما لم يؤخذ في موضوع الأمارة ، فالفرق نشأ من هذه الجهة.

فمثلا البراءة والاحتياط أخذ في موضوعهما الشكّ في التكليف أو الشكّ في المكلّف به ، بينما خبر الثقة مثلا لم يؤخذ في موضوعه الشكّ.

وفيه أوّلا : أنّه لا يفي بالمقصود من التفرقة بين الأمارة والأصل من حيث حجّيّة مثبتات الأمارة ولوازمها الشرعيّة والعقليّة وعدم حجّيّة اللوازم العقليّة للأصل ؛ وذلك لأنّه لا يكشف عن النكتة الثبوتيّة التي على أساسها حصل هذا الاختلاف ، إذ مجرّد كون الشكّ مأخوذا في الأصل دون الأمارة ليس إلا صياغة اعتباريّة فقط ؛ لأنّه لو فرض عدم أخذ الشكّ في موضوع الأصل مع ذلك لم تكن لوازمه العقليّة حجّة ، ولو فرض أخذ الشكّ في موضوع الأمارة كانت لوازمها حجّة أيضا.

وثانيا : أنّ أخذ الشكّ وعدمه غير معقول في نفسه ؛ وذلك لأنّ الحجّيّة المجعولة في الأمارات والأصول حكم ظاهري ، غايته إثبات التنجيز أو التعذير عن الحكم الواقعي ، فلو لم يؤخذ الشكّ في موضوعه كما هو المدّعى في الأمارات لزم إطلاقها.

وهذا يعني أنّ الأمارة حجّة حتّى على العالم بالحكم الشرعي الواقعي ، ومن الواضح أنّ جعل الأمارة حجّة على العالم بالحكم غير معقول في نفسه ؛ لأنّ هذه الأمارة إن كانت موافقة بحسب مؤدّاها للمعلوم كانت الحجّيّة للعلم فجعلها كذلك للأمارة لغو ؛ لأنّه تحصيل للحاصل ؛ لأنّ معناها أنّ من تنجّز عليه التكليف فهو منجّز عليه ، وإن كانت مخالفة للمعلوم ومع ذلك كانت حجّة فلازمه كون الأمارة رادعة عن العمل بالعلم ، والردع عن العمل بالعلم مستحيل ؛ لأنّ حجّيّة العلم يستحيل جعلها ويستحيل رفعها ، كما تقدّم.

١٠

ومن هنا لم يكن هناك معنى للتفرقة بين الأمارة والأصل بأخذ الشكّ وعدمه ، إذ لا يمكن تعقّل ذلك في نفسه.

فإن قيل : بأنّ الشكّ مأخوذ في الأصل موضوعا بينما الشكّ مأخوذ في الأمارة موردا لا موضوعا ، بمعنى أنّ الشكّ مأخوذ في الأمارات والأصول من حيث المورد والظرف ؛ لأنّهما حكم ظاهري وهو مجعول في مقام الشكّ في الحكم الواقعي غير أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع الأصل أيضا دون الأمارة.

كان الجواب : أنّ هذا ـ لو سلّم ـ فهو يتخلّص من الاعتراض السابق ، إلا أنّه مع ذلك ليس صحيحا ؛ لأنّ الحكم الظاهري الذي يجعله الشارع إمّا أن يكون قد لوحظ فيه الشكّ أو لا.

فإن كان الشكّ ملحوظا فيه كان معناه أنّ الشكّ موضوع للحكم الظاهري سواء في ذلك الأمارة والأصل ؛ لأنّ معنى لحاظه كونه قيدا.

وإن لم يكن الشكّ ملحوظا من قبل الشارع كان الحكم الظاهري مطلقا سواء في ذلك الأمارة والأصل ، وإطلاقه يعني شموله لحالة العلم فيأتي الإشكال السابق.

وبتعبير آخر : أنّ الحكم الظاهري نوع واحد في عالم الجعل والثبوت الذي هو عالم التشريع ولحاظ الحكم والموضوع ، وهذا النوع الواحد إمّا أن يلاحظ فيه الشكّ أو لا ، فإن لوحظ كان مقيّدا وإن لم يلاحظ كان مطلقا ، ولا يمكن فرض نوعين من الحكم الظاهري في مقام الجعل والثبوت أحدهما أخذ ولوحظ فيه الشكّ دون الآخر.

نعم ، يمكن فرض ذلك في عالم الإثبات والصياغة الاعتباريّة كما هو مفاد الاتّجاه الثالث ، فيأتي فيه الإشكال الذي سنورده عليه.

الثالث : أنّ الفرق بينهما ينشأ من ناحية أخذ الشكّ في لسان دليل الأصل ، وعدم أخذه في لسان دليل حجّيّة الأمارة ، بعد الفراغ عن كونه مأخوذا في موضوعهما ثبوتا معا.

وهذا الفرق لا يفي أيضا بالمقصود. نعم ، قد يثمر في تقديم دليل الأمارة على دليل الأصل بالحكومة.

هذا ، مضافا إلى كونه اتّفاقيا ، فقد يتّفق أخذ عدم العلم في موضوع دليل

١١

الحجّيّة كما لو بني على ثبوت حجيّة الخبر بقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فهل يقال بأنّ الخبر يكون أصلا حينئذ؟!

الاتّجاه الثالث : يذهب إلى التفرقة بين الأمارة والأصل على أساس ما هو المأخوذ في دليل حجّيّة كلّ منهما.

فإن كان المأخوذ في لسان الدليل الشكّ كان الحكم الظاهري أصلا ، وإن لم يكن الشكّ مأخوذا في لسان الدليل كان أمارة ، فالأصل هو ما أخذ الشكّ موضوعا في لسان دليله بينما الأمارة لم يكن الشكّ مأخوذا في لسان دليلها ، هذا في مرحلة الإثبات والصياغة.

وأمّا في مرحلة الثبوت ومقام الجعل والتشريع فلا فرق بين الأمارة والأصل في كون الشكّ مأخوذا في موضوعهما معا ؛ لأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

ويرد على هذا الاتّجاه ، أوّلا : أنّه لا يفي بما تقدّم من كون مثبتات الأمارة ولوازمها العقليّة حجّة دون الأصل ؛ لأنّه مجرّد صياغة إثباتيّة ولا يبرز النكتة الثبوتيّة التي على أساسها حصل هذا الاختلاف.

نعم ، لعلّ هذه التفرقة تنفع في حلّ مشكلة تقدّم الأمارات على الأصول بالحكومة ، وذلك بأن يقال : إنّ الحكومة التي هي نوع من التخصيص والتقييد ولكن بلسان رفع الموضوع إنّما تجري بين الدليلين اللفظيّين ؛ لأنّ القرينة من شئون الألفاظ ، وحيث إنّ هذا الاتّجاه يفرّق بين الأمارة والأصل بلحاظ عالم الصياغة والدليل ، فهو ناظر إلى كيفيّة صياغة الدليل لفظا من كون الشكّ موجودا في موضوع دليل الأصل دون الأمارة.

وعلى هذا يقال : إنّ الأمارة حيث لم يؤخذ في موضوع دليلها الشكّ فهي مطلقة من هذه الناحية إثباتا لا ثبوتا ، ومفادها جعل العمليّة والطريقيّة والكاشفيّة لكلّ ما ليس بعلم ، فتشمل موارد الأصل أيضا ، فإذا كان هناك أمارة في مورد الأصل تقدّمت عليه ؛ لأنّها ترفع موضوعه بجعل العمليّة للمورد الذي قامت عليه ، وبالتالي يرتفع الشكّ تعبّدا فلا يجري الأصل.

وثانيا : أنّ هذه التفرقة ليست تامّة في تمام الموارد ، بل هي مجرّد اتّفاق محض ؛

١٢

وذلك لأنّه إذا اتّفق وجعل الدليل خاليا من الشكّ كان أمارة ، وأمّا إذا كان الشكّ مأخوذا في الدليل كان أصلا ، وهذا قد يتّفق في بعض الحجج والأمارات كخبر الثقة حيث إنّ بعض أدلّته كآية : ( النبأ ) و ( النفر ) لم يؤخذ في لسانها الشكّ فيكون الخبر أمارة ، بينما بعض أدلّته الأخرى كآية : ( السؤال ) أخذ في لسانها الشكّ فيكون من ناحيتها أصلا ، فهل يلتزم بكونه أصلا مع ذلك أو كونه أصلا وأمارة في آن واحد؟!

الرابع : ما حقّقناه في الجزء السابق (١) من أنّ الأصل العملي حكم ظاهري لوحظت فيه أهمّيّة المحتمل عند التزاحم بين الملاكات الواقعيّة في مقام الحفظ التشريعي عند الاختلاط والاشتباه ، بينما لوحظت في أدلّة الحجّيّة الأهمّيّة الناشئة من قوّة الاحتمال محضا.

وقد عرفنا سابقا أنّ هذه النكتة تفي بتفسير ما تتميّز به الأمارة على الأصل من حجّيّة مثبتاتها.

الاتّجاه الرابع : ما هو الصحيح والمختار من أنّ الشارع عند ما يجعل الحكم الظاهري في مقام الشكّ والاشتباه بين التكاليف لدى المكلّف ، تارة يجعله بلحاظ أهمّيّة المحتمل ، وأخرى بلحاظ أهمّيّة الاحتمال ، وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا.

فإذا لوحظت في الحكم الظاهري أهمّيّة المحتمل أي نوعيّة الحكم المنكشف في هذا الحكم كان أصلا عمليّا ، فمثلا البراءة والاحتياط لوحظت فيهما قوّة المحتمل من نفي التكليف والمعذّريّة في البراءة ، ومن أهمّيّة الإلزام في الاحتياط وذلك عند الاختلاط والاشتباه والتزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة وعدم تمييز المكلّف لها.

وإذا لوحظت أهمّيّة الاحتمال أي قوّة الكاشف كان الحكم الظاهري أمارة ، كخبر الثقة مثلا فإنّ الملاحظ فيه قوّة الكاشفيّة في الخبر الذي يأتي به الثقة بقطع النظر عن نوعيّة المحتمل والحكم الذي يحكي عنه.

وإذا لوحظت قوّة الاحتمال والمحتمل معا كان أصلا تنزيليّا أو أصلا محرزا ، كما هو الحال في الاستصحاب حيث لوحظ فيه قوّة الكاشفيّة الناشئة من غلبة أنّ ما يوجد يبقى ، ولوحظ فيه قوّة المحتمل أيضا من توفّر أركان الاستصحاب في القضيّة المستصحبة.

__________________

(١) في بحث الحكم الواقعي والظاهري من أبحاث التمهيد تحت عنوان : الأمارات والأصول.

١٣

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نفسّر ما هو المرتكز عند الأصوليّين من تقديم الأمارات على الأصول ، ومن كون مثبتات الأمارة ولوازمها حجّة دون الأصل ، وذلك على أساس أنّ الكاشفيّة الموجودة في الأمارة نسبتها إلى المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي على حدّ واحد ، فهي كما تكشف عن المؤدّى تكشف عن كلّ لوازمها بنسبة واحدة ، فحينما تجعل الحجّيّة لها على أساس قوّة الكاشفيّة فهذا يعني أنّ الحجّيّة ثابتة للمدلولين معا.

بينما في الأصل لم يلحظ إلا أنّ هذا الحكم الذي يحكي عنه الأصل ثابت ، وأمّا لوازمه ومثبتاته فلم تجعل لها الحجّيّة ؛ لعدم نظر دليل الحجّيّة ؛ إليها ، ومعه يمكن للشارع أن يتعبّد بالمدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي ظاهرا وإن كانا متلازمين واقعا.

وعلى هذا الأساس أيضا تتقدّم الأمارة على الأصل ؛ لأنّها أخصّ من الأصل ونصّ في موردها ، فتقدّم بنكتة الأخصّيّة والنصّيّة على ما سوف يأتي تحقيقه في بحث التعارض.

* * *

١٤

الأصول العمليّة

الشرعيّة والعقليّة

١٥
١٦

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة

وتنقسم الأصول العمليّة إلى شرعيّة وعقليّة.

فالشرعيّة هي ما كنّا نقصده آنفا ، ومردّها إلى أحكام ظاهريّة شرعيّة نشأت من ملاحظة أهمّيّة المحتمل.

والعقليّة وظائف عمليّة عقليّة ، ومردّها في الحقيقة إلى حقّ الطاعة إثباتا ونفيا ، فحكم العقل مثلا بأنّ ( الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ) مرجعه إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى الذي يستقلّ به العقل إنّما هو حقّ الطاعة القطعيّة ، فلا تفي الطاعة الاحتماليّة بحقّ المولى. وحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ على مسلك المشهور ـ مرجعه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة في التكاليف المعلومة خاصّة ، بينما يرجع حكم العقل بمنجّزيّة التكاليف المحتملة عندنا إلى توسعة دائرة حقّ الطاعة ، وهكذا.

تنقسم الأصول العمليّة إلى قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة الشرعيّة وهي الأحكام الظاهريّة المجعولة بلحاظ أهمّيّة المحتمل ونوعيّة الحكم كالاحتياط والبراءة ، فإنّها أصول عمليّة جعلها الشارع لتحديد الموقف العملي والوظيفة عند الشكّ والاشتباه أو المجعولة بلحاظ أهمّيّة الاحتمال والمحتمل معا ، من قبيل الاستصحاب فإنّه أصل عملي محرز أو تنزيلي مجعول شرعا ، فهذه الأصول كلّها تعبّدات محضة أنشأها الشارع.

الثاني : الأصول العمليّة العقليّة وهي الأحكام التي يدركها العقل العملي ، فيحكم بأنّ هذا ما ينبغي أن يكون عند الشكّ البدوي في الحكم الشرعي ، أو عند الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي ، فالعقل هو الذي يحدّد وظيفة المكلّف العمليّة في مثل هذه الموارد.

١٧

والملاك الكلّي في هذه الأصول العقليّة واحد ، وهو تحديد دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى عقلا ، وأنّ حقّ الطاعة هل يثبت في هذا المورد أم لا؟

ومن أمثلة هذه الأصول العقليّة :

أوّلا : قاعدة الاشتغال اليقيني التي تجري في الشبهات الموضوعيّة عند الشكّ في المكلّف به ، فهذه القاعدة مرجعها في الحقيقة إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة ، وأنّ هذه الدائرة هل تختصّ بالامتثال اليقيني فقط أو تشمل الامتثال الاحتمالي أيضا؟ فيقال : إنّ حقّ الطاعة الثابت للمولى لا يكفي فيه الامتثال والطاعة الاحتماليّة ، بل لا بدّ من الامتثال اليقيني ؛ لكي يعلم بفراغ الذمّة وخروجها عن عهدة حقّ الطاعة ، وأمّا الطاعة الاحتماليّة فلا تفي بفراغ الذمّة وخروجها يقينا عن العهدة وحقّ الطاعة.

وثانيا : قاعدة البراءة العقليّة على مسلك المشهور ، حيث ذهبوا إلى أنّ العقل يحكم في موارد الشبهات الحكميّة البدويّة بالبراءة والتأمين ، فإنّ هذه القاعدة مرجعها في الحقيقة إلى أنّ دائرة حقّ الطاعة لا تشمل إلا التكاليف المقطوعة أي المعلومة يقينا ، وأمّا التكاليف المظنونة والمشكوكة والمحتملة فهي ليست موردا لحقّ الطاعة.

وثالثا : قاعدة الاحتياط العقلي في موارد الشبهات الحكميّة على المسلك المختار ، فإنّها حكم عقلي مرجعها إلى أنّ دائرة حقّ الطاعة الثابتة للمولى تشمل كلّ انكشاف للتكليف ، سواء كان بنحو قطعي أم ظنّي أم كان احتمالا فقط.

وهكذا البحث في سائر الأصول العمليّة العقليّة كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فإنّ العقل يحكم بلزوم الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة فيها ، وليس ذلك إلا لأنّ دائرة حقّ الطاعة تشمل كلّ انكشاف للتكليف الأعمّ من القطعي وغيره.

وكذا قاعدة التنجيز العقلي في موارد التعارض أو الدوران بين المتباينين ، فإنّ مردّها إلى دائرة حقّ الطاعة أيضا.

وبهذا يظهر أنّ الأصول العمليّة العقليّة من المدركات العقليّة التي يستقلّ العقل بها في موارد الشكّ في الحكم الشرعيّ ، والتي مرجعها إلى حقّ الطاعة سعة وضيقا.

وللقسمين مميّزات يمكن ذكر جملة منها فيما يلي :

أوّلا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة أحكام شرعيّة ، والأصول العمليّة العقليّة

١٨

ترجع إلى مدركات العقل العملي فيما يرتبط بحقّ الطاعة.

ثمّ إنّه توجد فوارق نظريّة وعمليّة بين الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة ، نذكر منها ما يلي :

أوّلا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة مرجعها إلى حكم الشارع فلا بدّ أن تكون صادرة من الشارع ؛ لأنّه هو الذي يحدّد هذه الوظائف التي يرجع إليها المكلّف عند الشكّ في التكليف ، فمدركها الآيات والروايات أو الإجماع أو السيرة.

بينما الأصول العمليّة العقليّة مرجعها إلى حكم العقل العملي بأنّ هذا ما ينبغي أن يوجد ويكون ، أي أنّ العقل يستقلّ بالحكم في تحديد الوظيفة العمليّة للمكلّف الشاكّ في التكليف ، وهذا الحكم العقلي أساسه الذي يستند عليه هو دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا وإثباتا ونفيا.

وهذا فارق نظري بين القسمين.

ثانيا : أنه ليس من الضروري أن يوجد أصل عملي شرعي في كلّ مورد ، وإنّما هو تابع لدليله ، فقد يوكل الشارع أمر تحديد الوظيفة العمليّة للشاكّ إلى عقله العملي ، وهذا خلافا للأصل العملي العقلي ، فإنّه لا بدّ من افتراضه بوجه في كلّ واقعة من وقائع الشكّ في حدّ نفسها.

ثانيا : أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة ليس من الضروري وجودها في كلّ مورد مشكوك ؛ وذلك لأنّها أحكام شرعيّة مجعولة من قبل الشارع ، وعليه فيمكن للشارع أن يجعل حكما شرعيّا فيحدّد على أساسه الوظيفة العمليّة للشاكّ في هذه الواقعة ، ويمكنه ألاّ يتدخّل مباشرة وذلك بأن يوكل أمر تحديد الوظيفة العمليّة إلى حكم العقل ، فلذلك يكون جعلها ممكنا كعدم جعلها أيضا.

وأمّا الأصول العمليّة العقليّة فمن الضروري أن تكون موجودة في كلّ واقعة من الوقائع المشكوكة سواء منها البدويّة أم المقرونة بالعلم الاجمالي ؛ وذلك لأنّها من مدركات العقل العملي المستقلّ بأنّ هذا ما ينبغي أن يوجد ويكون ، ففي كلّ واقعة يحكم العقل إمّا بلزوم الامتثال والإطاعة وإمّا بالتأمين والمعذّريّة ، وإمّا بالتخيير ولا تخلو واقعة من أحد هذه الأحكام العقليّة.

ثمّ إنّ هذا الحكم العقلي قد يبقى بأن يصدر من الشارع حكما مؤيّدا ومرشدا

١٩

لحكم العقل ، أو يسكت عنه كذلك ، أو يصدر من الشارع ما يخالف حكم العقل هذا ، وفي هذه الحالة يستحيل أن يكون حكم العقل قطعيّا ؛ لأنّه لا يمكن أن يصدر من الشارع ما يخالف أحكام العقل القطعيّة ، بل يكون ظنّيّا ، وحينئذ يكون صدور الحكم الشرعي متقدّما على حكم العقل الظنّي ؛ لأنّه يكون إرشادا إلى عدم حجّيّة مثل هذا الحكم.

ثالثا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة قد تردّ إلى أصلين ؛ لأنّ العقل إن أدرك شمول حقّ الطاعة للواقعة المشكوكة حكم بأصالة الاشتغال ، وإن أدرك عدم الشمول حكم بالبراءة ، ولكن قد يفرض أصل عملي عقلي ثالث وهو أصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

ثالثا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة يمكن إرجاعها إلى أصلين فقط ، وذلك بأن يقال : إنّ الأصول العقليّة مرجعها إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة سعة وضيقا أو إثباتا ونفيا ، وحينئذ نقول : إنّ العقل تارة يدرك أنّ حقّ الطاعة منتف في هذه الواقعة المشكوكة فيحكم بالبراءة والتأمين ، وليس هناك شيء آخر ، فمثلا إذا كانت الشبهة بدويّة حكم العقل بالتأمين بناء على مسلك المشهور باعتبار أنّ حقّ الطاعة مختصّ بالتكاليف الثابتة بالقطع فقط ، وأخرى يدرك ثبوت حقّ الطاعة فيحكم بالتنجيز كما إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي ، فإنّه يحكم بالاحتياط ووجوب الموافقة القطعيّة فيكون حقّ الطاعة أوسع من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي.

ثمّ إنّه قد يفرض وجود أصل عملي عقلي ثالث ، وهو أصالة التخيير وذلك فيما إذا كانت الواقعة المشكوكة يدور أمرها بين محذورين كالوجوب والحرمة ، فإنّ العقل لا يحكم بالاحتياط إذ يستحيل الجمع بين المحذورين معا ؛ لأنّه من اجتماع الضدّين معا على موضوع واحد ، ولا يحكم بالبراءة ؛ لأنّ المكلّف عمليّا إمّا أن يفعل أو يترك ، فلا يمكن التأمين عنهما معا لثبوت أحدهما واقعا فيلزم الوقوع في المخالفة القطعيّة ولو التزاما كما سيأتي في محلّه ، فحينئذ يحكم بالتخيير.

وقد يعترض على افتراض هذا الأصل : بأنّ التخيير إن أريد به دخول التكليف في العهدة واشتغال الذمّة ولكن على وجه التخيير فهو غير معقول ؛ لأنّ الجامع بين الفعل والترك في موارد الدوران بين المحذورين ضروري الوقوع ، وإن أريد به

٢٠