شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

أنّه لا يلزم المكلّف عقلا بفعل ولا ترك ولا يدخل شيء في عهدته فهذا عين البراءة.

وسيأتي (١) تفصيل الكلام حول ذلك في بحث دوران الأمر بين المحذورين إن شاء الله تعالى.

إشكال وجوابه : إلا أنّ هذا الأصل العملي الثالث وجّه إليه اعتراضات منها هذا الاعتراض وحاصله : أنّ التخيير المفترض في موارد دوران الأمر بين المحذورين ما ذا يراد به؟

فإن أريد به كون التكليف داخلا في العهدة والذمّة على نحو التخيير ـ بمعنى أنّ المكلّف يجب عليه تكليف ما في هذه الواقعة التي يدور أمرها بين الوجوب والحرمة ، فجامع التكليف داخل في العهدة ، والذمّة مشتغلة به إلا أنّ المكلّف مخيّر بينهما في مقام الامتثال فله أن يختار الحرمة أو الوجوب ـ فهذا غير معقول ؛ وذلك لأنّ الجامع بين الفعل والترك والذي يدخل في العهدة ضروري الوقوع ؛ وذلك لأنّ المورد يدور بين المحذورين فالمكلّف إمّا فاعل أو تارك لا محالة ، وحينئذ لا نحتاج إلى الحكم بالتخيير ؛ إذ لا فائدة منه عمليّا فيكون مثل هذا الأصل العقلي لغوا ؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

وإن أريد به كون المكلّف غير ملزم بشيء من هذين التكليفين أي أنّه لا يدخل في عهدته ولا تشتغل ذمّته بشيء منهما لا بنحو التفصيل ولا بنحو الجامع ، فهذا عين البراءة ؛ لأنّ البراءة معناها التأمين عن التكليف المشكوك ، وحينئذ يلغي جعل التخيير ؛ لأنّ البراءة تفي بالمقصود منه.

وبهذا يتّضح أنّه لا يوجد معنى محصّل للتخيير العقلي في هذا المورد.

والجواب عنه سيأتي مفصّلا عند الكلام عن دوران الأمر بين المحذورين ، وحاصله : أنّ المراد من البراءة التأمين عن التكليف المشكوك في موارد الشبهات البدويّة ، وأمّا الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فلا تجري فيها البراءة للعلم بأصل التكليف والذي يعتبر بيانا إجماليّا ، ولذلك لا يمكن إجراء البراءة هنا ما دام العلم الإجمالي بالجامع موجودا ، وإنّما تجري أصالة التخيير العقلي والتي نتيجتها عمليّا كالبراءة.

__________________

(١) في البحث الثالث من أبحاث الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ ، تحت عنوان الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا.

٢١

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فلا حصر عقلي لها في البراءة أو الاشتغال ، بل هي تابعة لطريقة جعلها ، فقد تكون استصحابا مثلا.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فلا يمكن حصرها عقلا ، وذلك لما تقدّم من أنّها أحكام شرعيّة يجعلها الشارع في موارد الشكّ في التكليف أو المكلّف به ، ولهذا تكون تابعة لكيفيّة جعلها شرعا وللصياغة والأسلوب التي تصاغ به هذه الأصول العمليّة ، وعليه فقد يجعل الشارع البراءة أو الاحتياط والاشتغال وقد يجعل الاستصحاب أو التخيير ونحو ذلك.

هذا كلّه بحسب الموضوعات الخارجيّة أي بلحاظ النظر إلى عالم الخارج ، وأمّا بلحاظ عالم الجعل والتشريع فالشارع عند تصوّره الحكم المشكوك إمّا أن يؤمّن عنه ، أو يجعله منجّزا فهي محصورة من هذه الناحية عقلا.

إلا أنّه بلحاظ الوقائع الخارجيّة فقد تكون في الواقعة خصوصيّة معيّنة يلاحظها الشارع فلا يجعل البراءة أو الاحتياط ، بل يجعل بل يجعل الاستصحاب أو التخيير ، إلا أنّ النتيجة عمليّا بالنسبة للمكلّف واحدة ؛ لأنّه إمّا أن يفعل أو يترك.

رابعا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة لا يعقل التعارض بينها لا ثبوتا ـ كما هو واضح ـ ولا إثباتا ؛ لأنّ مقام إثباتها هو عين إدراك العقل لها ، ولا تناقض بين إدراكين عقليّين.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فيعقل التعارض بينها إثباتا بحسب لسان أدلّتها ، ولا بدّ من علاج ذلك وفقا لقواعد باب التعارض بين الأدلّة.

رابعا : أنّ الأصول العمليّة العقليّة لا يعقل فيها التعارض لا ثبوتا ولا إثباتا.

أما ثبوتا فلأنّ الأصول العمليّة العقليّة مرجعها إلى مدركات العقل العملي بما ينبغي أن يكون في حال الشكّ في التكليف الواقعي ، فالعقل تارة يدرك أنّ ما ينبغي أن يكون هو الاحتياط وشغل الذمّة على أساس سعة دائرة حقّ الطاعة وشمولها للمورد كما في حالات الشكّ في المكلّف به والعلم الإجمالي ، وأخرى يدرك بأنّ ما ينبغي أن يكون هو البراءة والتأمين عن الواقعة المشكوكة على أساس عدم شمول حقّ الطاعة للمورد كما في حالات الشبهات البدويّة ، وحينئذ لا يقع التعارض بين هذين الإدراكين ؛ لأنّ لكلّ منهما موضوعا يختلف عن الآخر فيستحيل اجتماعهما معا.

٢٢

وأمّا إثباتا فلأنّ الأصول العقليّة لا فرق فيها بين مقام الإثبات والثبوت ، بمعنى أنّ مقام إثباتها هو نفسه عين مقام ثبوتها وإدراكها ، والوجه في هذا الاتّحاد بين المقامين هو : أنّ المدركات العقليّة لا تصدر من العقل ولا يحكم بها إلا بعد تحقّق موضوعها مع كلّ الخصوصيّات والقيود ؛ لأنّ الموضوع بمثابة العلّة للحكم العقلي ، فإذا أدرك العقل تمام الموضوع بجميع خصوصيّاته وحيثيّاته أصدر حكمه ، وإن لم يلاحظ ذلك فإنّه لا يصدر حكما ، وما دام الأمر كذلك فإذا صدر الحكم العقلي إثباتا فهو ناشئ عن ملاحظة الموضوع ثبوتا ، وقد قلنا : إنّ ملاحظة الموضوع وإدراكه عقلا يختلف حاله بين البراءة والاحتياط ؛ لأنّ موضوع كلّ منهما يختلف عن الآخر ثبوتا فكذلك إثباتا.

من هنا يقال : إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص ؛ لأنّها إمّا أن توجد أو لا ، فإذا وجدت لا ترتفع إلا إذا ارتفع موضوعها حقيقة ولا وجه للاستثناء أو التخصيص أو التقييد لها بعد تحقّق موضوعها ؛ لأنّه بمثابة العلّة وهي إذا تحقّقت تحقّق معلولها.

وأمّا الأصول العمليّة الشرعيّة فالتعارض يمكن تصوّره إثباتا لا ثبوتا ، فهنا دعويان :

الأولى : أنّ التعارض مستحيل ثبوتا ؛ وذلك لأنّ الشارع الحكيم الملتفت عند ما يريد تشريع هذه الأحكام الشرعيّة لا بدّ أن يتصوّر موضوعها ، فلكلّ واحد منها موضوع يختلف عن الآخر ، ولذلك يستحيل أن يجعل حكمين ظاهريّين مختلفين على موضوع واحد ؛ لأنّه تناقض يستحيل افتراضه بحقّ الشارع الحكيم.

الثانية : أنّ التعارض معقول إثباتا أي بلحاظ مرحلة صياغة دليل الحكم الظاهري ، فهنا يمكن أن يفرض التعارض بلحاظ ألسنة هذه الأدلّة ؛ لأنّ التعارض كما سيأتي من شئون عالم اللفظ ، فقد يكون الدليل الذي يدلّ على الاحتياط يفترض موضوعا هو نفسه موضوع البراءة أو الاستصحاب ؛ لأنّ كلاّ منهما موضوعه الشكّ فيمكن تصوّر التعارض بينها ، وهذا التعارض لا بدّ من عرضه على القواعد المقرّرة في باب التعارض لنرى أنّه من التعارض المستقرّ أو غير المستقرّ وكيفيّة علاجه.

خامسا : أنّه لا يعقل التصادم بين الأصول العمليّة الشرعيّة والأصول العمليّة العقليّة ، فإذا كانا مختلفين في التنجيز والتعذير ، فإن كان الأصل العقلي معلّقا على

٢٣

عدم ورود أصل شرعي على الخلاف كان هذا واردا ، وإلا امتنع ثبوت الأصل العملي الشرعي في مورده.

خامسا : أنّه يستحيل تعقّل التصادم والتعارض بين الأصول العمليّة العقليّة والأصول العمليّة الشرعيّة ، ومن هنا يقال : إنّ ما حكم به العقل يحكم به الشرع أيضا هذا واقعا ، وأمّا إذا فرض ظاهرا وجود تعارض بين أصلين أحدهما عقلي والآخر شرعي على موضوع واحد فهنا صور :

١ ـ أن يكون كلّ من الحكمين ينجّز الواقعة فهنا لا إشكال ولا تصادم أصلا.

٢ ـ أن يكونا معذّرين عن الواقعة فكذلك لا تصادم.

٣ ـ أن يكون الأصل العقلي منجّزا ، والأصل الشرعي معذّرا.

٤ ـ أن يكون الأصل العقلي معذّرا ، والأصل الشرعي منجّزا.

ففي الصورتين الثالثة والرابعة تارة يفرض أنّ حكم العقل معلّق على عدم ورود أصل شرعي عملي ، وأخرى يفرض كونه مطلقا من هذه الناحية.

فإن كان الأصل العقلي معلّقا على عدم ورود أصل شرعي كان ورود الأصل الشرعي على نفس موضوع الأصل العقلي رافعا للحكم العقلي لارتفاع قيده ، فيكون واردا عليه.

وإن لم يكن الأصل العقلي معلّقا على ذلك ، بل كان مطلقا فهنا إمّا أن نلتزم بأنّ هناك خطأ في مدركات العقل العملي أو نلتزم بعدم صحّة هذا الأصل الشرعي.

هذا كلّه في غير الحكمين القطعيّين كما هو واضح.

* * *

٢٤

الأصول

التنزيليّة والمحرزة

٢٥
٢٦

الأصول التنزيليّة والمحرزة

الأصول العمليّة الشرعيّة : تارة تكون مجرّد وظائف عمليّة بلسان إنشاء حكم تكليفي ترخيصي أو إلزامي بدون نظر بوجه إلى الأحكام الواقعيّة ، وهذه أصول عمليّة بحتة.

وأخرى تبذل فيها عناية إضافيّة إذ تطعّم بالنظر إلى الأحكام الواقعيّة ، وهذه العناية يمكن تصويرها بوجهين :

تقسّم الأصول العمليّة الشرعيّة إلى قسمين :

أحدهما : الأصول العمليّة الشرعيّة التي تحدّد الوظيفة العمليّة والموقف اتّجاه الواقعة المشكوكة ، من دون النظر إلى الأحكام الواقعيّة ، أي لا يوجد فيها شيء من الكاشفيّة والطريقيّة أصلا ، وإنّما تجعل لأجل التنجيز أو التعذير فقط ، كما هو الحال في البراءة والاحتياط فإنّ المنظور في البراءة التأمين والتعذير عن الواقعة المشكوكة ، والمنظور في الاحتياط تنجيزها ، ولا نظر فيهما إلى الحكم الواقعي بوجه من الوجوه ، لا بنحو إجمالي ولا بنحو تفصيلي ، وهذه تسمّى بالأصول العمليّة المحضة أو البحتة.

ثانيهما : الأصول العمليّة الشرعيّة التي ـ مضافا إلى أنّها تحدّد الوظيفة والموقف تجاه الواقعة المشكوكة ـ يوجد فيها عناية زائدة على ذلك وهي كونها ناظرة إلى الواقع بنحو من الأنحاء ، كما هو الحال في قاعدة الاستصحاب والفراغ ، فإنّ الاستصحاب كما أنّه يحدّد موقف الشاكّ كذلك فيه نظر إلى الواقع ؛ لأنّه يعتمد على أنّ الغالب فيما يوجد أن يبقى ، فينزّل المستصحب منزلة المتيقّن من حيث الآثار المترتّبة عليه.

والمنظور في قاعدة الفراغ مثلا أنّ الغالب الإتيان بالفعل على وجهه الصحيح استنادا إلى غلبة الانتباه والتذكّر أثناء العمل ، ومن هنا لا تجري القاعدة إذا ثبت الغفلة والنسيان.

٢٧

فهذه الأصول تسمّى بالأصول التنزيليّة أو المحرزة ؛ لأنّه يوجد فيها عناية إضافية وهي النظر إلى الأحكام الواقعيّة.

وهذه العناية يمكن تصويرها بأحد وجهين :

أحدهما : أن يجعل الحكم الظاهري بلسان تنزيله منزلة الحكم الواقعي ، كما قد يقال في أصالة الحلّ وأصالة الطهارة ، إذ يستظهر أن قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال » أو « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم ... » يتكفّل تنزيل مشكوك الحليّة ومشكوك الطهارة منزلة الحلال الواقعي ومنزلة الطاهر الواقعي ، خلافا لمن يقول : إنّ دليل هذين الأصلين ليس ناظرا إلى الواقع ، بل ينشئ بنفسه حليّة أو طهارة بصورة مستقلّة ، ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية التنزيليّة بالأصل التنزيلي.

الوجه الأوّل : أنّ هذه العناية هي تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، فينزّل الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي ، فالوجوب الظاهري كالوجوب الواقعي ، وكذا الطهارة الظاهريّة كالطهارة الواقعيّة.

وتوضيحه : أنّ دليل أصالة الطهارة أو أصالة الحلّيّة أي « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » و « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام » مفاده تنزيل مشكوك الحلّيّة والطهارة منزلة معلومهما.

فمشكوك الطهارة محكوم ظاهرا بالطهارة أي نفس الطهارة الواقعيّة وليست طهارة أخرى مستقلّة في نفسها ، وهذا المعنى يستظهر من دليلهما بناء على كون الجملة إخباريّة عن كون كلّ شيء طاهرا بما في ذلك المشكوك ، فيكون مفادها أنّ معلوم الطهارة ومظنونها ومشكوكها ومحتملها على حدّ سواء ، ولا يخرج إلا ما كان معلوم القذارة والنجاسة فقط ، فيكون المشكوك كالمعلوم محكوم ظاهرا بالطهارة الواقعيّة ، كما أنّ معلوم الطهارة محكوم واقعا بالطهارة الواقعيّة ، فصار الظاهر كالواقع من حيث كونهما معا طاهرين واقعا.

وأمّا إذا قلنا : إنّ دليل أصالة الطهارة أو الحلّيّة مفاده الإنشاء لا الإخبار فهذا يعني أنّ هذا الدليل يجعل وينشئ طهارة ظاهريّة مستقلّة على مشكوك الطهارة ، وكذلك يجعل وينشئ حلّيّة ظاهريّة مستقلّة على مشكوك الحلّيّة ، وهذا يعني أنّه لا نظر في

٢٨

هاتين الأصالتين إلى الحكم الواقعي ، ولسانهما لا يستفاد منه التنزيل لمشكوك الحلّيّة أو الطهارة منزلة معلومهما ، فيكونان على هذا أصلين عمليّين بحتين.

ويسمّى الأصل العملي على القول الأوّل بالأصل التنزيلي بناء على هذه العناية.

وقد تترتّب على هذه التنزيليّة فوائد ، فمثلا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة تنزيلي ترتّب عليه حين تطبيقه على الحيوان مثلا طهارة مدفوعه ظاهرا ؛ لأنّها مترتّبة على الحلّيّة الواقعيّة ، وهي ثابتة تنزيلا فكذلك حكمها ، وأمّا إذا قيل بأنّ أصل الإباحة ليس تنزيليّا ، بل إنشاء لحلّيّة مستقلّة فلا يمكن أن ننقّح بها طهارة المدفوع ، وهكذا.

وأمّا الثمرة العمليّة بين القولين فهي :

إذا قيل بأنّ أصالة الحلّيّة أصل تنزيلي بالنحو المتقدّم أي أنّها تثبت الحلّيّة الواقعيّة ظاهرا فعند ما نطبّقها على حيوان مشكوك الحلّيّة سوف نثبت الحلّيّة الواقعيّة ظاهرا ، وحينئذ سوف يتنقّح موضوع طهارة مدفوع هذا الحيوان ؛ لأنّ طهارة مدفوعه موضوعها الحيوان المحلل الأكل ، والمفروض أنّ هذا الحيوان المشكوك قد ثبتت حلّيّته الواقعيّة ظاهرا ببركة أصالة الحلّيّة ، فالموضوع متحقّق فيترتّب الحكم بطهارة مدفوع هذا الحيوان.

فلا فرق بين كون هذا الحيوان حلالا واقعا لقيام الدليل المحرز على حلّيّته ، وبين كونه حلالا ظاهرا استنادا على أصالة الحلّيّة ؛ لأنّه في كلا الحالين سوف نثبت الحلّيّة الواقعيّة إلا أنّها في الأوّل ثابتة وجدانا وفي الثاني ثابتة تعبّدا وتنزيلا ، وحينئذ يترتّب الحكم الشرعي ؛ لأنّ موضوعه محرز فيحكم بطهارة مدفوعه ؛ لأنّ الحلّيّة الواقعيّة ثابتة.

وأمّا إذا قيل بأنّ أصالة الحلّيّة أصل علمي بحث وليس فيها أي نحو من التنزيل ، فسوف يثبت بها حلّيّة ظاهريّة مجعولة بنحو الاستقلال على عنوان مشكوك الحلّيّة ، وهذه الحلّيّة الظاهريّة تختلف عن الحلّيّة الواقعيّة ، وحينئذ لا يتنقّح موضوع طهارة المدفوع ؛ لأنّ موضوعها هو الطهارة الواقعيّة وهي ليست ثابتة لا وجدانا ، ولا تعبّدا وتنزيلا.

وهكذا الحال بالنسبة لأصالة الطهارة.

٢٩

والآخر : أن ينزّل الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين ، بأن تجعل الطريقيّة في مورد الأصل ، كما ادعي ذلك في الاستصحاب من قبل المحقّق النائيني (١) والسيّد الأستاذ (٢) على فرق بينهما ، حيث إنّ الأوّل اختار أنّ المجعول هو العلم بلحاظ مرحلة الجري العملي فقط ، والثاني اختار أنّ المجعول هو العلم بلحاظ الكاشفيّة ، فلم يبق على مسلك جعل الطريقيّة فرق بين الاستصحاب والأمارات في المجعول على رأي السيّد الأستاذ.

ويسمّى الأصل في حالة بذل هذه العناية بالأصل المحرز.

الوجه الثاني : أنّ هذه العناية هي تنزيل الأصل أو الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين ، ومثاله المعروف الاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب أصل مركّب من أركان أربعة : اليقين السابق ، والشكّ اللاحق ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، والأثر العملي ، وفيه أيضا احتمال كاشف وهو غلبة ما يوجد يبقى.

وحينئذ يقال : إنّ دليل التنزيل تارة ينزّل الأصل نفسه أي الاستصحاب بأركانه منزلة اليقين.

وأخرى ينزّل الاحتمال المقوّم لهذا الأصل والذي على أساسه كان كاشفا منزلة اليقين.

وفي كلا الموردين يكون التنزيل منزلة العلم بلحاظ الطريقيّة ؛ لأنّ للعلم أربع جهات ، هي :

١ ـ الصفتيّة ، وهي كونه نورا يبعث على الإذعان واستقرار النفس.

٢ ـ الكاشفيّة عن متعلّقه بحيث يكون منيرا وكاشفا عما انصبّ عليه.

٣ ـ الجري العملي أي الباعثيّة والمحرّكيّة فعلا أو تركا.

٤ ـ المنجّزيّة والمعذّريّة وهو معنى الحجّيّة.

والاستصحاب المنزّل منزلة العلم ـ إمّا في نفسه أو للاحتمال المقوّم له ـ يوجد فيه قولان :

أحدهما : للمحقّق النائيني حيث ذهب إلى أنّ المجعول في الاستصحاب هو تنزيله

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٤٨٦.

(٢) مصباح الأصول ٢ : ٣٨ ، و ٣ : ١٥٤.

٣٠

منزلة العلم بلحاظ الجري العملي فقط ، بخلاف الأصل العملي المحض فإنّ المجعول فيه المنجّزيّة والمعذّريّة فقط ، وبخلاف الأمارة فإنّها مجعولة بلحاظ الطريقيّة والكاشفيّة.

والآخر : للسيّد الخوئي حيث ذهب إلى أنّ المجعول في الاستصحاب هو الطريقيّة والكاشفيّة لا مجرّد الجري العملي.

فعلى القول الثاني لا يبقى فرق بين الاستصحاب وسائر الأمارات ، ولذلك ذهب السيّد الخوئي إلى أنّ الاستصحاب أمارة ، إلا أنّه يختلف عن سائر الأمارات في أنّ الشكّ أخذ في لسان دليله ، بينما لم يؤخذ في لسانها مع وحدة المجعول فيهما ، ولذلك تتقدّم سائر الأمارات عليه بالحكومة ، فإذا قامت الأمارة ارتفع الشكّ فيرتفع موضوع الاستصحاب.

وهذا الأصل المأخوذ فيه هذه العناية يسمّى بالأصل المحرز.

وهذه المحرزيّة قد يترتّب عليها بعض الفوائد في تقديم الأصل المحرز على غيره ، باعتباره علما وحاكما على دليل الأصل العملي البحت ، على ما يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

والثمرة هي : أنّ الأصل المحرز يتقدّم على الأصل البحت وذلك على أساس الحكومة ، وتوضيحه : أنّ الاستصحاب لمّا كان المجعول فيه تنزيله منزلة العلم ، إمّا بلحاظ الجري العملي وإمّا بلحاظ الكاشفيّة كما تقدّم ، فإذا قام الاستصحاب في مورد فهو يحقّق العلم تعبّدا وتنزيلا ، وحينئذ يرتفع الشكّ فلا يجري الأصل العملي المحض ؛ لأنّ موضوعه وهو الشكّ ارتفع بتحقّق العلم (١).

وهناك معنى آخر للأصول العمليّة المحرزة ينسجم مع طريقتنا في التمييز بين الأمارات والأصول ، وهو أنّه كلّما لوحظ في جعل الحكم الظاهري ثبوتا أهمّيّة المحتمل فهو أصل عملي ، فإن لوحظ منضمّا إليه قوّة الاحتمال أيضا فهو أصل عملي محرز ، كما في قاعدة الفراغ وإلا فلا.

والمحرزيّة بهذا المعنى في قاعدة الفراغ لا تجعلها حجّة في مثبتاتها ، إلا أنّ

__________________

(١) وهذا النحو يسمّى بالحكومة الميرزائيّة ، وإلا فلا يوجد حكومة بالدقّة ؛ لأنّها من شئون عالم الألفاظ كما سيأتي ، والحال أنّ دليل الاستصحاب كغيره من أدلّة الأصول العمليّة قد أخذ في لسانه الشكّ وعدم العلم ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

٣١

استظهارها من دليل القاعدة يترتّب عليه بعض الآثار أيضا ، من قبيل عدم شمول دليل القاعدة لموارد انعدام الأماريّة والكشف نهائيّا ، ومن هنا يقال بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد العلم بعدم التذكّر حين العمل.

الوجه الثالث : ما اختاره السيّد الشهيد من تفسير لحقيقة الحكم الظاهري ، وتوضيحه : أنّ الشارع عند ما يجعل الحكم الظاهري في عالم التشريع والواقع عند الشكّ والاشتباه ، تارة يلاحظ أهمّيّة الاحتمال الكاشف فيجعل الحجّيّة لهذه الكاشفيّة ، كما هو الحال في الأمارات كخبر الثقة وحجّيّة الظهور.

وأخرى يلاحظ أهمّيّة المحتمل أي نوع الحكم كالتسهيل أو التنجيز فيجعل الحجّيّة للحكم الظاهري على أساس أهمّيّة المحتمل ، وهذا ما يسمّى بالأصل العملي ؛ لأنّه يحدّد الموقف والوظيفة العمليّة للشاكّ من تنجيز أو تعذير ، فإذا لم يلاحظ شيئا آخر مع أهمّيّة المحتمل سمّي بالأصل العملي البحت.

وثالثة يلاحظ أهمّيّة المحتمل منضمّا إليها شيئا آخر وهو قوّة الاحتمال الكاشف أيضا ، كما هو الحال في الاستصحاب وقاعدة الفراغ ، وهذا ما يسمّى بالأصل العملي التنزيلي أو المحرز.

فالفرق بين الأصل العملي المحض والأصل المحرز والتنزيلي هو كون الأوّل لوحظ فيه ثبوتا أهمّيّة المحتمل فقط ، بينما الثاني لوحظ فيه أهمّيّة المحتمل والاحتمال أيضا.

فقاعدة الاستصحاب لوحظ فيها نوع المحتمل أي نفس القضيّة المستصحبة المتواجد فيها الأركان الأربعة للاستصحاب ، ولوحظ فيها قوّة الاحتمال الكاشف أي غلبة أنّ ما يوجد يبقى.

وقاعدة الفراغ لوحظ فيها نوع المحتمل وهو العمل الذي تمّ الفراغ منه ، وقوّة الاحتمال الكاشف وهو غلبة التذكّر والالتفات إلى الإتيان بالعمل على وجهه الصحيح.

إلا أنّ المحرزيّة الثابتة لقاعدة الفراغ لا تجعل مثبتات القاعدة حجّة ، ولذلك إذا حكم بصحّة الوضوء الذي صلّى بعده الظهر استنادا إلى قاعدة الفراغ لا يعني ذلك أنّ الوضوء ثابت الآن ليجوز له الدخول بصلاة العصر بهذا الوضوء ؛ وذلك لأنّ

٣٢

القاعدة غايتها التسهيل عن العمل الذي فرغ منه وهو صلاة الظهر في المثال لا أكثر ، وأمّا العصر فلم يبدأ بها فيختلّ أحد ركني القاعدة فلا تجري.

نعم ، ثبوت المحرزيّة لقاعدة الفراغ واستظهارها من أدلّتها يترتّب عليه بعض الآثار :

منها : أنّ قاعدة الفراغ لا تجري إذا انهدم ركنها الثاني ؛ لأنّه ينهدم به الكاشف الذي لوحظ عند جعل هذه القاعدة ، فإذا فرغ من العمل وشكّ في صحّته ولكنّه مع ذلك علم بأنّه لم يكن منتبها أثناء العمل ، بل كان غافلا وساهيا فهنا أماريّة الكشف تسقط فيزول الاحتمال الكاشف فلا تجري القاعدة ، وهذا يعني أنّه لا بدّ من توفّر كلا الركنين في القاعدة لتجري ، فإذا انتفى أحدهما ارتفعت.

* * *

٣٣
٣٤

مورد

جريان الأصول العمليّة

٣٥
٣٦

مورد جريان الأصول العمليّة

لا شكّ في جريان الأصول العمليّة الشرعيّة عند الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي لتنجيزه كما في أصالة الاحتياط ، أو للتعذير عنه كما في أصالة البراءة. ولكن قد يشكّ في التكليف الواقعي ويشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة عليه بنحو الشبهة الموضوعيّة كالشكّ في صدور الحديث ، أو بنحو الشبهة الحكميّة كالشكّ في حجّيّة الامارة المعلوم وجودها.

ذكرنا أنّ الأصول العمليّة الشرعيّة أحكام ظاهريّة يجعلها الشارع عند الشكّ في التكليف الواقعي ، وهي على قسمين : أصول تنزيليّة وأصول محضة ، ويكون جعلها إمّا بداعي تنجيز الواقع على المكلّف وهذا هو الاحتياط ، وإمّا بداعي التعذير عنه كما في البراءة ونحوها.

فموضوع الأصل ومورد جريانه إذا هو الشكّ في التكليف الواقعي.

ولكن قد يفرض نحو آخر من الشكّ وهو أنّ يشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة وعدم قيامها عند الشكّ في الحكم الواقعي ، وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف إذا شكّ في التكليف الواقعي فقد يقوم عنده حجّة ظاهريّة تعالج له الموقف والوظيفة أمام هذا الواقع المشكوك ، وقد لا يقوم عنده حجّة ظاهريّة على ذلك ، وقد يشكّ في قيام مثل هذه الحجّة الظاهريّة وعدم قيامها.

والشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة يتصوّر بأحد نحوين :

الأوّل : أن يكون الشكّ فيها بنحو الشبهة الموضوعيّة ، فهو يعلم بالحكم ولكنّه اشتبه عليه مصداقه ، فمثلا يعلم أنّ الشارع قد جعل الحجّيّة لخبر الثقة فهو يعلم بالحكم ، ولكنّه يشكّ في أنّ هذا الخبر الذي يعالج الواقعة المشكوكة هل هو خبر ثقة أو لا؟ فهذا شكّ في تحقّق المصداق ، أو كأن يشكّ في صدور الخبر من

٣٧

الشارع في هذه الواقعة وعدم صدوره بعد العلم بأنّ هناك أخبارا قد صدرت تعالج الشكّ.

الثاني : أن يكون الشكّ فيها بنحو الشبهة الحكميّة ، أي أنّ هذه الأمارة الموجودة هل جعل الشارع الحجّيّة لها أو لا؟ فهو يعلم بأنّ الموضوع متحقّق في الخارج ، ولكنّه لا يدري ما هو حكمه هل هو حجّة أو لا؟ كالشهرة مثلا فإنّها أمارة تكوينيّة تفيد الظنّ ، وتعالج الشكّ في الواقعة المشكوكة ولكن لا يعلم هل جعل الشارع الحجّيّة لها أم لا؟

فتحصّل من ذلك أنّ هناك نحوين من الشكّ : أحدهما : الشكّ في الحكم الواقعي ، والثاني : الشكّ في قيام الحجّة الظاهريّة الشرعيّة في هذه الواقعة المشكوكة.

والسؤال هنا هو :

فهل يوجد في هذه الحالة موردان للأصل العملي ، فنجري البراءة عن التكليف الواقعي المشكوك ، ونجري براءة أخرى عن الحجّيّة أي الحكم الظاهري المشكوك ، أو تكفي البراءة الأولى؟

وبكلمة أخرى : أنّ الأصول العمليّة هل يختصّ موردها بالشكّ في الأحكام الواقعيّة ، أو يشمل مورد الشكّ في الأحكام الظاهريّة نفسها؟

فهل يوجد موردان للأصل العملي؟

أحدهما الأصل العملي الذي مورده الشكّ في الحكم الواقعي ، فنجري البراءة مثلا للتأمين عن الواقع والآخر الأصل العملي الذي مورده الشكّ في الحكم الظاهري ، فنجري البراءة للتأمين عن هذه الحجّيّة المشكوكة والتي هي حكم ظاهري.

وبتعبير آخر : هل مورد الأصل العملي هو الشكّ في الحكم التكليفي الواقعي فقط ، أو يشمل الشكّ في الحكم الظاهري أيضا؟

قد يقال بأنّنا في المثال المذكور نحتاج إلى براءتين ، إذ يوجد احتمالان صالحان للتنجيز ، فنحتاج إلى مؤمّن عن كلّ منهما :

أحدهما : احتمال التكليف الواقعي ولنسمّه بالاحتمال البسيط.

والآخر : احتمال قيام الحجّة عليه ، وحيث إنّ الحجّيّة معناها إبراز شدّة اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك ـ كما عرفنا سابقا عند البحث عن حقيقة

٣٨

الأحكام الظاهريّة (١) ـ فاحتمال الحجّة على الواقع المشكوك يعني احتمال تكليف واقعي متعلّق لاهتمام المولى الشديد وعدم رضائه بتفويته ، ولنسمّ هذا بالاحتمال المركّب.

وعليه فالبراءة عن الاحتمال البسيط لا تكفي ، بل لا بدّ من التأمين من ناحية الاحتمال المركّب أيضا ببراءة ثانية.

قد يجاب على ذلك : قال بأنّنا في المثال المذكور أي عند ما نشكّ في قيام الحجّيّة الشرعيّة سواء بنحو الشبهة الموضوعيّة أم بنحو الشبهة الحكميّة ، نحتاج إلى إجراء براءتين ، ولا تكفي البراءة الواحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه في المثال يوجد احتمالان يصلحان للتنجيز ، فلا بدّ من إجراء البراءة في كلّ منهما لتحقّق موضوعها فيهما :

الأوّل : احتمال التكليف الواقعي ، فإنّ هذه الواقعة المشكوكة يحتمل وجود حكم إلزامي منجّز فيها ، وهذا يسمّى بالاحتمال البسيط.

الثاني : احتمال التكليف الظاهري ، فإنّه يشكّ في قيام الحجّة الشرعيّة في هذه الواقعة المشكوكة ، وهذا يعني أنّه يحتمل صدور ما يكون منجّزا ظاهرا لهذه الواقعة ، بناء على ما تقدّم في تفسير حقيقة الحكم الظاهري من أنّه يجعل من أجل الحفاظ على ما هو الأهمّ بنظر الشارع من الملاكات والأحكام الواقعيّة ، وهذا معناه أنّه مع احتمال وجود مثل هذه الحجّة الظاهريّة فيحتمل وجود المنجّز للملاك الواقعي ، فيكون هذا الاحتمال مساويا لاحتمال التكليف أيضا ، إذ لا فرق بين المنجّزيّة الواقعيّة والظاهريّة من حيث دخول التكليف في العهدة والذمّة ، وهذا الاحتمال يسمّى بالاحتمال المركّب.

وحينئذ نقول : إنّ جريان البراءة في الاحتمال البسيط يكفي للتأمين عن احتمال التكليف الواقعي الذي يحتمل كونه منجّزا ، ولكنّها لا تكفي لإثبات التأمين عن احتمال التكليف والمنجّز الظاهري الذي يحتمل قيام الحجّة الشرعيّة عليه ، ولذلك نحتاج إلى إجراء براءة ثانية لنفي هذا الاحتمال المركّب.

وقد يعترض على ذلك : بأنّ الأحكام الظاهريّة كما تقدّم في الجزء

__________________

(١) في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الحكم الواقعي والظاهري.

٣٩

السابق (١) ـ متنافية بوجوداتها الواقعيّة ، فإذا جرت البراءة عن الحجّيّة المشكوكة وفرض أنّها كانت ثابتة يلزم اجتماع حكمين ظاهريّين متنافيين.

اعتراض على إجراء براءة ثانية عند الشكّ في الحجّة الظاهريّة ، بأنّه تقدّم سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة متنافية.

فكما أنّ الوجوب والحرمة الواقعيّين متنافيان بلحاظ الملاكات والمبادئ ، كذلك الأحكام الظاهريّة فإنّه لا يمكن اجتماع البراءة مع الاحتياط ؛ وذلك لما عرفنا في حقيقة الحكم الظاهري من أنّها خطابات لتعيين ما هو الأهمّ من الملاكات الواقعيّة عند الشكّ والاشتباه.

وهذا يعني أنّ البراءة تكشف عن كون ملاكات الترخيص هي الأهمّ ، بينما الاحتياط يكشف عن كون ملاكات الإلزام هي الأهمّ ، وحيث لا يمكن الجمع بين هذين النحوين من الملاكات لتنافيهما فيكون اجتماع البراءة والاحتياط مستحيلا ؛ لأنّه يؤدّي إلى التكاذب بلحاظ الواقع الذي يحكيان عنه.

ومن هنا يشكل على إجراء البراءة الثانية ؛ وذلك لأنّ الحجّيّة المشكوكة المحتمل كونها منجّزة للواقعة المشكوكة إذا كانت ثابتة شرعا فهذا يعني أنّ الملاكات الإلزاميّة هي الأهمّ بنظر الشارع ، بينما البراءة تحكي عن كون ملاكات الترخيص هي الأهمّ فيقع التكاذب والتنافي بينهما ، فجريان البراءة عن الحجّة المشكوكة يلزم منه اجتماع المتنافيين.

نعم ، إذا لم تكن الحجّيّة المشكوكة ثابتة فلا تثبت إلا ملاكات الترخيص ، إلا أنّنا حيث لا نقطع بعدم الحجّيّة وإنّما نحتملها فنحن نحتمل التكاذب والتنافي ، واحتمال اجتماع المتنافيين ، كالقطع باجتماعهما مستحيل.

وجواب الاعتراض : أنّ البراءة هنا نسبتها إلى الحجّيّة المشكوكة نسبة الحكم الظاهري إلى الحكم الواقعي ؛ لأنّها مترتّبة على الشكّ فيها ، فكما لا منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي كذلك لا منافاة بين حكمين ظاهريّين طوليّين من هذا القبيل.

وما تقدّم سابقا من التنافي بين الأحكام الظاهريّة بوجوداتها الواقعيّة ينبغي أن

__________________

(١) في مباحث التمهيد أيضا تحت عنوان : التنافي بين الأحكام الظاهريّة.

٤٠