شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

على هذا المسلك يكون التنجيز فرع تعارض الأصول الترخيصيّة ، وأمّا إذا لم تتعارض فلا منجّزيّة ، ولذلك يكون جريانها في بعض الأطراف دون البعض الآخر مانعا من منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة القائل بأنّ العلم الإجمالي نفسه علّة تامّة لتنجيز وجوب الموافقة القطعيّة ، ولا علاقة لذلك بتعارض الأصول وعدم تعارضها ، فهنا حتّى لو جرت الأصول في بعض الأطراف من دون تعارض ، فهذا لن يؤثّر على علّيّة العلم الإجمالي ، بل إنّ علّيّته تمنع حتّى من جريان الأصل في الطرف الواحد. فعلى هذا المبنى لا مبرّر لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة لوجوب الموافقة القطعيّة حتّى لو لم تتعارض الأصول ، فهل يلتزم ببقاء المنجّزيّة على هذا المسلك أو يقال بسقوطها؟ وما هو ملاك السقوط حينئذ؟

والجواب : أنّ هذه الاستحالة إنّما هي باعتبار العلم الإجمالي ، ويستحيل في المقام أن يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الاصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ؛ لأنّه متوقّف على عدم جريانه ، إذ بجريانه يحصل العلم التفصيلي بوجوب الحجّ ، وينحلّ العلم الإجمالي ، وما يتوقّف على عدم شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه ، فالأصل يجري إذن حتّى على القول بالعلّيّة.

والجواب عن ذلك : أنّ استحالة جريان الأصل الترخيصي حتّى في الطرف الواحد بناء على مسلك العلّيّة إنّما هي لأجل وجود العلم الإجمالي ، أي أنّه إذا ثبت العلم الإجمالي كان علّة لوجوب الموافقة القطعيّة ، فيستحيل جريان الأصل سواء في الطرفين أم في أحدهما.

والوجه في ذلك : أنّه يلزم التناقض والتفكيك بين العلّة والمعلول ، أو يلزم رفع اليد عن حكم العقل مع وجود موضوعه ، وهو غير ممكن ؛ لأنّ الأحكام العقليّة لا تخصّص ولا تقيّد ، بل هي تابعة وجودا وعدما لثبوت موضوعها وعدمه.

وفي مقامنا نقول : إنّ ثبوت العلم الإجمالي متوقّف على عدم جريان الأصل الترخيصي للتأمين عن وجوب وفاء الدين ، أي أنّ الأصل إذا جرى فسوف يتنقّح موضوع وجوب الحجّ ، ويحصل الانحلال الحقيقي إلى علم تفصيلي قطعي بوجوب الحجّ وشكّ بدوي في وجوب الوفاء بالدين ، وإذا لم يجر الأصل الترخيصي كذلك

٤٠١

كان كلّ واحد من التكليفين محتملا ، فيكون العلم الإجمالي ثابتا وعلّة لوجوب الموافقة القطعيّة لكلا التكليفين.

ولذلك يستحيل أن يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريان الأصل الترخيصي للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين ؛ لأنّ المفروض أنّ ثبوت العلم الإجمالي متوقّف على عدم جريانه ؛ لأنّه إذا جرى الأصل انحلّ العلم الإجمالي كما ذكرنا.

وهنا نطبّق القاعدة القائلة بأنّ ما يتوقّف على عدم شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه ؛ لأنّ مانعيّته عنه فرع ثبوته أوّلا ، والمفروض أنّ ثبوته متوقّف على عدم ذلك الشيء.

فهناك طوليّة بين ثبوت العلم الإجمالي ، وبين عدم جريان الأصل للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين ، فالأوّل في طول الثاني ، فإذا كان كذلك فلا يثبت العلم الإجمالي مع جريان الأصل ، بل يثبت بعد فرض سقوط الأصل ، إلا أنّ العلم الإجمالي نفسه لا يمكنه إسقاط الأصل ؛ لأنّ ثبوت هذا العلم موقوف على عدم الأصل في رتبة سابقة ، ومانعيّته عنه تقتضي ثبوته أوّلا ثمّ إسقاطه للأصل والذي يعني أنّ الأصل كان موجودا ، وهذا لازمه اجتماع العلم الإجمالي والأصل ، وهذا خلف الطوليّة بينهما وخلف توقّف العلم الإجمالي على عدم الأصل.

وأمّا الصورة الثانية : فيجري فيها أيضا الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ، ولا يعارض بالأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ؛ لأنّ ذلك ينقّح بالتعبّد موضوع وجوب الحجّ فيعتبر أصلا سببيّا بالنسبة إلى الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي.

وأمّا الصورة الثانية : أي أن يكون وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب وفاء الدين واقعا ، فهو في طول انتفائه الواقعي لا الظاهري فقط ، فهنا أيضا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لاختلال ركنه الثالث.

وتوضيحه : أنّ الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين يجري بلا معارض ؛ لأنّ الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الحجّ لا يجري.

والوجه في ذلك : أنّ الأوّل حاكم على الثاني ؛ لأنّ الأصل الأوّل سببي والأصل الثاني مسبّبي ، وقد تقدّم سابقا وسيأتي في باب التعارض ، أنّ الأصل السببي يتقدّم

٤٠٢

على الأصل المسبّبي إمّا للحكومة كما هي مقالة المشهور ، وإمّا للقرينيّة العرفيّة كما هو المختار.

وأمّا كون الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين سببيّا ومقدّما على الأصل الجاري عن وجوب الحجّ ؛ فلأنّه إذا جرى هذا الأصل سوف يتنقح به موضوع وجوب الحجّ تعبّدا لا وجدانا ؛ لأنّ موضوع وجوب الحجّ أخذ فيه عدم وجوب وفاء الدين واقعا ، فإذا جرى الأصل لنفي وجوبه ثبت بالملازمة عدم وجوبه واقعا ، إلا أنّ هذا الثبوت تعبّدي كما هو واضح لا وجداني وحقيقي ، ولذلك يكون حاكما ومقدّما ؛ لأنّه ينظر إلى موضوع الأصل الثاني ويثبته بالملازمة ، ومع ثبوته كذلك يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ؛ لأنّ الأصل السببي يجري فقط دون أن يجري الأصل المسبّبي كما تقدّم في مبحث جريان الأصل في الطرف الواحد بلا معارض.

هذا إذا كان الأصل أصلا تنزيليّا أو محرزا كالاستصحاب ، لا أصلا عمليّا بحتا كالبراءة ؛ إذ لو كان أصلا عمليّا بحتا لكان التعارض ثابتا بين الأصلين ولكان العلم منجّزا.

وهكذا نعرف أنّ حكم الصورتين عمليّا واحد ، ولكنّهما يختلفان في أنّ الأصل في الصورة الأولى بجريانه في وجوب الوفاء يحقّق موضوع وجوب الحجّ وجدانا ويوجب انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.

ومن هنا كان وجود العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريانه كما عرفت.

وهكذا يتّضح لنا أنّ العلم الإجمالي الدائر بين طرفين طوليّين ساقط عن المنجّزيّة في كلتا الصورتين ، أي سواء كان الترتّب والطوليّة بينهما بلحاظ الواقع أم بلحاظ الأعمّ من الواقع والظاهر ، فالنتيجة العمليّة فيهما واحدة وهي عدم التنجيز.

إلا أنّ الصورتين تختلفان عن بعضهما في تصوير سقوط هذا العلم الإجمالي عن المنجّزيّة ، فالصورة الأولى لا منجّزيّة ؛ لأنّ العلم الإجمالي منحلّ حقيقة بالعلم التفصيلي ، بينما في الصورة الثانية لا منجّزيّة من أجل انهدام الركن الثالث ، وتوضيح ذلك أن يقال :

أمّا في الصورة الأولى حيث كان أحدهما مترتّبا على عدم الآخر ولو ظاهرا ، فكان جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء بالدين محقّقا وجدانا وحقيقة لموضوع

٤٠٣

وجوب الحجّ المأخوذ فيه عدم وجوب الوفاء بالدين ولو ظاهرا ، أي أنّ هذا الأصل يوجد الموضوع حقيقة فيكون واردا ، والورود ينظر إلى الفرد الواقعي ، ومع ثبوت الموضوع يثبت لنا وجوب الحجّ قطعا ، فيعلم تفصيلا بوجوب الحجّ ، وحينئذ يتحقّق الانحلال الحقيقي للعلم التفصيلي بوجوب الحجّ والشكّ البدوي في وجوب الوفاء بالدين والذي كان مجرى للأصل المؤمّن.

ولهذا قلنا : إنّ العلم الإجمالي هنا لا يمكنه المنع عن جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء بالدين حتّى على مسلك العلّيّة ؛ لأنّ مانعيّته كذلك فرع ثبوته وثبوته فرع سقوط الأصل في مرتبة سابقة بمسقط آخر ، هذا في الصورة الأولى.

وأمّا في الصورة الثانية فلا يحقّق ذلك ؛ لأنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم وجوب الوفاء واقعا ، وهو غير محرز وجدانا ، وإنّما يثبت تعبّدا بالأصل دون أن ينشأ علم تفصيلي بوجوب الحجّ ، ولهذا لا يكون جريان الأصل في الصورة الثانية موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، وبالتالي لا يكون وجود العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريانه.

ومن أجل ذلك قد يقال هنا بعدم جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء على القول بالعلّيّة ؛ لأنّ مانعيّة العلم الإجمالي عن جريانه ممكنة ؛ لعدم توقّف العلم الإجمالي على عدم جريانه.

وأمّا في الصورة الثانية حيث كان وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب الوفاء بالدين واقعا ، فلا يكون جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء محقّقا لموضوع وجوب الحجّ وجدانا وحقيقة ؛ لأنّ موضوع وجوب الحجّ هو عدم وجوب الوفاء واقعا وهذا غير محرز ؛ لأنّ الأصل يثبت لنا الظاهر فقط.

ولذلك لن يحصل لنا علم تفصيلي بوجوب الحجّ ، بل يحصل لنا علم تعبّدي بوجوبه ، والعلم التعبّدي لا يوجب الانحلال الحقيقي كما تقدّم سابقا ؛ لأنّ الانحلال أمر واقعي تابع لعلّته وسببه الواقعي ، ومجرّد التعبّد بالمعلول لا يثبت ولا يستلزم التعبّد بالعلّة ؛ لأنّ دليل التعبّد يتحدّد بالمقدار المدلول عليه بالدليل والخطاب ، وهو لا يثبت أكثر من التعبّد بوجود المعلول.

وعليه لا يكون هناك انحلال حقيقي ولا انحلال تعبّدي أو تعبّد بالانحلال ؛ إذ لا

٤٠٤

محصّل لذلك كما تقدّم ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي متوقّفا على عدم جريان الأصل ، أي أنّ العلم الإجمالي ثابت سواء جرى الأصل أم لا ، فإنّ جريان الأصل لا يوجب زوال العلم الإجمالي وانحلاله.

وهذا فارق بين الصورتين ، ويترتّب على هذا الفارق أمر آخر ، وهو : أنّه بناء على مسلك الاقتضاء سوف يكون سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بسبب اختلال ركنه الثالث ؛ لأنّ الأصل في أحدهما يجري بلا معارض لأنّه سببي والآخر مسبّبي ، والأصل السببي مقدّم على الأصل المسبّبي ؛ لأنّه ينقّح الموضوع للآخر ، فيكون داخلا في القاعدة الكلّيّة المتقدّمة سابقا من جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض.

وأمّا بناء على مسلك العلّيّة فإنّ جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض لا تأثير له ما دام العلم الإجمالي موجودا وثابتا ؛ لأنّ وجود العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة فيمنع من جريان الأصول الترخيصيّة سواء في الطرفين أم في الطرف الواحد أيضا.

ولذلك يكون العلم الإجمالي هنا مانعا من جريان هذا الأصل فتبقى المنجّزيّة على حالها ، والنكتة في ذلك هي أنّ العلم الإجمالي في هذا الفرض ليس متوقّفا على عدم جريان الأصل ليقال : إنّه مع جريان الأصل يسقط العلم الإجمالي ، بل يجتمع العلم الإجمالي مع الأصل ويكون مانعا من جريانه لعلّيّته المذكورة.

وهذا فارق آخر بين الصورتين ، فإنّ الصورة الأولى كان سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة تامّا على المسلكين أي الاقتضاء والعلّيّة ، بينما في الصورة الثانية يسقط بناء على مسلك الاقتضاء دون مسلك العلّيّة.

وهناك فارق آخر بين الصورتين ، وهو : أنّه في الصورة الأولى يجري الأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء سواء كان تنزيليّا أم لا ، ويحقّق على أي حال موضوع وجوب الحجّ وجدانا.

وأمّا في الصورة الثانية فإنّما يجري إذا كان تنزيليّا ، بمعنى أنّ مفاده التعبّد بعدم التكليف المشكوك واقعا ؛ وذلك لأنّ الأصل التنزيلي هو الذي يحرز لنا تعبّدا موضوع وجوب الحجّ ، فيكون بمثابة الأصل السببي بالنسبة إلى الأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، وأمّا الأصل العملي البحت فلا يثبت به تعبّدا العدم الواقعي

٤٠٥

لوجوب الوفاء ، فلا يكون حاكما على الأصل الجاري في الطرف الآخر بل معارضا.

وهناك فارق آخر بين الصورتين وهو : أنّه في الصورة الأولى حيث كان وجوب الحجّ مترتّبا على عدم وجوب الوفاء ولو ظاهرا ، فالأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء لا يشترط فيه أن يكون أصلا تنزيليّا ، بل يجري فيه أيضا الأصل العملي البحت كالبراءة ؛ لأنّ مفاد كلا الأصلين هو النفي الظاهري لوجوب الوفاء ، وهذا هو موضوع وجوب الحجّ ، فكلاهما يحقّقان الموضوع وجدانا وحقيقة ، وبالتالي يثبت الانحلال الحقيقي ؛ لأنّه سوف يعلم بوجوب الحجّ تفصيلا.

وأمّا في الصورة الثانية حيث كان وجوب الحجّ متوقّفا على عدم وجوب الوفاء واقعا ، فالأصل المؤمّن عن وجوب الوفاء ـ بناء على مسلك الاقتضاء ـ إنّما يكون حاكما ومقدّما وأصلا سببيّا بالنسبة للأصل المؤمّن عن وجوب الحجّ ، فيما إذا كان هذا الأصل تنزيليّا كالاستصحاب ، لا أصلا عمليّا بحتا كالبراءة ونحوها ؛ وذلك لأنّ كونه حاكما وسببيّا يعني أنّه يعبّدنا بثبوت الموضوع الواقعي ظاهرا ، لا أنّه ينفي وجوب الوفاء ظاهرا فقط ، بل لا بدّ أن يكون ناظرا إلى الواقع أيضا ، وهذا النظر إلى الواقع لا يكون إلا في الأصل التنزيلي ؛ لأنّ فيه حيثيّة الكشف عن الواقع دون الأصل العملي المحض ، فإنّه لا ينظر إلى الواقع بل يحدّد الوظيفة العمليّة فقط.

ولذلك فإذا كان الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء بالدين تنزيليّا كالاستصحاب ثبت به مضافا إلى نفي وجوب الوفاء ظاهرا ، أنّ هذا الوجوب غير ثابت في الواقع تعبّدا ، أي أنّه يعبّدنا وينزّل لنا المستصحب منزلة الواقع ، فعدم الوجوب للوفاء المستصحب عدم الوجوب واقعا بالتعبّد ، ولذلك يتنقّح موضوع وجوب الحجّ تعبّدا لا وجدانا ولذلك يكون حاكما وأصلا سببيّا.

وأمّا إذا كان الأصل الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء أصلا بحتا كالبراءة ، فهي لا تثبت إلا عدم وجوب الوفاء فقط ، ولا تنظر إلى الواقع أصلا ، ولذلك لا تعبّدنا البراءة بأنّ وجوب الوفاء منتف واقعا ، بل غاية لسانها أنّ الموقف العملي تجاه هذا الوجوب المشكوك كالموقف العملي فيما لو لم يكن ثابتا ، أي أنّه مؤمّن من ناحيته فقط.

ومن أجل ذلك لا يكون الأصل العملي البحت الجاري للتأمين عن وجوب الوفاء

٤٠٦

حاكما على الأصل العملي الجاري للتأمين عن وجوب الحجّ ؛ لأنّه لا ينظر إليه ولا ينقّح موضوعه ، ولذلك لا يكون أصلا سببيّا ، وإنّما يكون معارضا له ومقتضى التعارض التساقط وبقاء العلم الإجمالي على منجّزيّته.

تلخيص للقواعد الثلاث :

خرجنا حتّى الآن بثلاث قواعد : فالقاعدة العمليّة الأولى قاعدة عقليّة وهي أصالة الاشتغال على مسلك حقّ الطاعة ، والبراءة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والقاعدة العمليّة الثانية الحاكمة هي البراءة الشرعيّة.

والقاعدة العمليّة الثالثة هي منجّزيّة العلم الإجمالي ، أي تنجّز الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالي وعدم جريان البراءة عنه.

* * *

٤٠٧
٤٠٨

٣ ـ الوظيفة

عند الشكّ في الوجوب

والحرمة معا

١ ـ الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين :

٤٠٩
٤١٠

٣ ـ الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا

١ ـ الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين :

حتّى الآن كنّا نتكلّم عن الشكّ في التكليف ، وما هي الوظيفة العمليّة المقرّرة فيه عقلا أو شرعا ، سواء كان شكّا بدويّا أو مقرونا بالعلم الإجمالي ، إلا أنّنا كنّا نقصد بالشكّ في التكليف الشكّ الذي يستبطن احتمالين فقط ، وهما :

احتمال الوجوب واحتمال الترخيص ، أو احتمال الحرمة واحتمال الترخيص.

والآن نريد أن نعالج الشكّ الذي يستبطن احتمال الوجوب واحتمال الحرمة معا ، وهذا الشكّ تارة يكون بدويّا أي مشتملا على احتمال ثالث للترخيص أيضا ، وأخرى يكون مقرونا بالعلم الإجمالي بالجامع بين الوجوب والحرمة ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر بين المحذورين.

فهنا مبحثان كما يأتي إن شاء الله تعالى :

تكلّمنا سابقا عن حالتين من حالات الشكّ ، إحداهما الشكّ البدوي والأخرى الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي ، وعرفنا الوظيفة المقرّرة في كلتا الحالتين سواء كانت حكما شرعيّا أم حكما عقليّا.

إلا أنّ الكلام السابق كان في موارد الشكّ في التكليف الدائر بين احتمال الوجوب أو الحرمة من جهة وبين احتمال الترخيص والإباحة من جهة ثانية.

وأمّا هنا فسوف نبحث عن الحكم والوظيفة فيما إذا كان الشكّ في التكليف دائرا بين احتمال الوجوب والحرمة معا ، وهذا النحو من الشكّ فيه صورتان :

الأولى : أن يكون الشكّ في الوجوب والحرمة بدويّا بمعنى أنّه يحتمل الوجوب أو الحرمة أو الترخيص ، ويسمّى بالشكّ البدوي في الوجوب والحرمة.

٤١١

الثانية : أن يكون الشكّ في الوجوب والحرمة مقرونا بالعلم الإجمالي بجامع التكليف بينهما ، بأن يعلم بالإلزام ويشكّ في كونه وجوبا أو تحريما ، فهاهنا لا احتمال للترخيص ، وهذا ما يسمّى بدوران الأمر بين المحذورين.

١ ـ الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة :

الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة هو الشكّ المشتمل على احتمال الوجوب واحتمال الحرمة واحتمال الترخيص ، وسندرس حكمه بلحاظ الأصل العملي العقلي ، وبلحاظ الأصل العملي الشرعي.

الصورة الأولى : ما اذا كان الشكّ في الوجوب والحرمة بدويّا ، أي كان احتمال الوجوب واحتمال الحرمة مشتملا أيضا على احتمال الترخيص والإباحة ، فيدور الأمر بين الإلزام والترخيص في الدقّة ، ولذلك يسمّى بالشكّ البدوي إذ يحتمل ألاّ يكون هناك إلزام أصلا ، فلا وجوب ولا حرمة وبالتالي لا تكليف ، فهو شكّ بدوي في التكليف بهذا اللحاظ ، وإن كان التكليف الإلزامي المشكوك دائرا أيضا بين نوعين هما الوجوب والحرمة.

وحكم هذه الصورة تارة يبحث بلحاظ حكم العقل أي الأصل العملي العقلي والذي هو ( البراءة أو الاحتياط ) ، وأخرى يبحث عنها بلحاظ حكم الشرع أي الأصل العملي الشرعي الشامل للبراءة والاحتياط والاستصحاب والتخيير ونحوها من الأصول الشرعيّة.

أمّا باللحاظ الأوّل فعلى مسلك قبح العقاب بلا بيان لا شكّ في جريان البراءة عن كلّ من الوجوب والحرمة ، وعلى مسلك حقّ الطاعة يكون كلّ من الاحتمالين منجّزا في نفسه ، ولكنّهما يتزاحمان في التنجيز لاستحالة تنجيزهما معا ، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فتبطل منجّزيّتهما معا وتجري البراءة أيضا.

أمّا حكم العقل فهو البراءة العقليّة.

والوجه في ذلك هو : أمّا بناء على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالحكم العقلي الأوّلي هو البراءة ما دام التكليف غير معلوم ولم يتمّ عليه البيان ، وفي مقامنا حيث لا يعلم بالحرمة بخصوصها ولا بالوجوب بخصوصه للدوران بينهما ، وحيث لا يعلم بأصل الإلزام وجامع التكليف لأنّه يحتمل الترخيص والإباحة ،

٤١٢

فلن يكون لدينا علم إجمالي بل الشبهة بدويّة فيتنقّح موضوع البراءة العقليّة ، وهذا واضح ولا شكّ فيه.

وأمّا بناء على المسلك المختار من حكم العقل باشتغال الذمّة والاحتياط عند احتمال التكليف ، فالحكم هنا هو البراءة أيضا ؛ وذلك لأنّ احتمال الوجوب في نفسه وإن كان منجّزا وكذا احتمال الحرمة ؛ لمنجّزيّة الاحتمال والكاشف عقلا لأنّ دائرة حقّ الطاعة واسعة وشاملة لكلّ انكشاف للتكليف.

إلا أنّ هذه المنجّزيّة لا يمكن الأخذ بها ؛ إذ الأخذ بمنجّزيّة الوجوب والحرمة معا يعني اجتماع الضدين ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجبا وحراما ، بمعنى واجديّته لمبادئ وملاكات الوجوب والحرمة معا ، وتنجيز أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ؛ إذ الاحتمال الموجود فيهما على حدّ واحد ، فيتعيّن سقوطهما معا عن المنجّزيّة إذ لا يوجد حلّ آخر يصار إليه ، وبهذا يثبت الترخيص والبراءة بحكم العقل ، من جهة أنّ المنجّزيّة في المقام مستحيلة.

وبتعبير آخر : أنّ المخالفة القطعيّة مستحيلة والموافقة القطعيّة مستحيلة أيضا عمليّا ؛ لأنّه إمّا أن يفعل أو يترك فيحكم العقل بالبراءة عنها إذ لا محذور فيها حينئذ.

وأمّا باللحاظ الثاني فأدلّة البراءة الشرعيّة شاملة للمورد بإطلاقها ، وعليه فالفارق بين هذا الشكّ وما سبق من شكّ : أنّ هذا مورد للبراءة عقلا وشرعا معا حتّى على مسلك حقّ الطاعة ، بخلاف الشكّ المتقدّم.

وأمّا حكم الشرع فهو البراءة أيضا ، أي أنّ أدلّة البراءة الشرعيّة تشمل بإطلاقها هذه الصورة أيضا ؛ لأنّها من موارد الشكّ البدوي في التكليف ، فقوله ( صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : « رفع ما لا يعلمون » يشمل كلّ تكليف غير معلوم ، سواء كان هذا التكليف المجهول دائرا بين أمرين أو ثلاثة ، فلا فرق بين الشكّ في الوجوب والإباحة أو الحرمة والترخيص ، وبين الشكّ في الوجوب والحرمة والترخيص ، في كون النحوين من الشكّ ينطبق عليهما عنوان الشك البدوي في التكليف وفي كون التكليف فيهما غير معلوم.

نعم ، يوجد فارق بين النحوين من الشكّ بناء على مسلك حق الطاعة وهو : أنّ الشكّ البدوي في الوجوب والإباحة أو الحرمة والإباحة كان موردا لأصالة الاشتغال

٤١٣

العقلي والاحتياط بناء على منجّزيّة مطلق الانكشاف ، فكان حكم العقل هو الاحتياط ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم العقلي مقيّد بعدم صدور الإذن والترخيص من الشارع كما تقدّم ، وأدلّة البراءة الشرعيّة تعتبر إذنا وترخيصا ، فيكون حكم العقل هو الاحتياط بينما حكم الشرع هو البراءة ، وهي مقدّمة لكونها رافعة لموضوع حكم العقل.

بينما الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة والإباحة فهو مجرى للبراءة العقليّة والشرعيّة معا ، حتّى على مسلك حقّ الطاعة ؛ لأنّ العقل لا يمكنه أن يحكم بالتنجيز واشتغال الذمّة لا لهما معا ولا لأحدهما فقط ، فتسقط المنجّزيّة ، فتكون الشبهة لا منجّز عقلي لها ، وحيث إنّ العقل يدور أمره بين الحكم بالتنجيز أو عدم التنجيز أو الحكم بالاحتياط أو البراءة ، فحيث لا احتياط فتتعيّن البراءة ؛ لأنّه إمّا أن يدرك حقّ الطاعة في هذا المورد أو لا يدركه ، ولا شقّ ثالث بينهما ، وهذا الحكم العقلي بالبراءة موافق لحكم الشارع ؛ لأنّه يحكم بالبراءة أيضا ؛ لأنّ أدلّتها شاملة لهذه الصورة بإطلاقها.

وبهذا ينتهي الكلام عن الصورة الأولى.

٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين :

وهو الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي بجنس الإلزام ، وتوضيح الحال فيه :

أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجّزا ؛ لأنّ تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة غير ممكن ؛ لأنّها غير مقدورة ، وتنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة ممتنع أيضا ؛ لأنّها غير ممكنة ، وتنجيزه لأحد التكليفين المحتملين بالخصوص دون الآخر غير معقول ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إليهما نسبة واحدة ، وبهذا يتبرهن عدم كون العلم الإجمالي منجّزا.

الصورة الثانية : فيما إذا كان الشكّ في الوجوب والحرمة مقرونا بالعلم الإجمالي بجامع الإلزام ، أي أنّ المكلّف يعلم بأنّ هذه الواقعة حكمها الإلزام لا الترخيص ، ولكنّه لا يدري ما هو الإلزام الموجود فيها هل هو الوجوب أو هو الحرمة؟ فيكون الشكّ في الوجوب والحرمة في كون المعلوم بالإجمال على أيّهما ينطبق ، أي أنّهما طرفان للعلم الإجمالي.

٤١٤

والسؤال هنا هو : هل هذا العلم الإجمالي الدائر بين الوجوب والحرمة منجّز أو لا؟

والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي يستحيل أن يكون منجّزا لشيء من هذين الطرفين. والوجه في ذلك : أمّا تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة ـ سواء على مسلك الاقتضاء أم على مسلك العلّيّة ـ فهو غير ممكن ؛ إذ لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة معا على شيء واحد ، ولذلك تكون الموافقة القطعيّة خارجة عن قدرة المكلّف تكوينا وواقعا ؛ لأنّ المكلّف غير قادر تكوينا على الجمع بين الضدّين وهما هنا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة متضادّة فيما بينها بلحاظ المبادئ وبلحاظ الامتثال والمتطلّبات.

وأمّا تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة على المسلكين فهو غير ممكن أيضا ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة العمليّة يستحيل صدورها ووقوعها في الخارج ؛ لأنّ المكلّف تكوينا أمام هذه الواقعة المشكوكة إمّا أن يفعل أو يترك ، والجمع بين الفعل والترك مستحيل ، وارتفاع الفعل والترك مستحيل وممتنع أيضا ، ولذلك لا تتصوّر المخالفة القطعيّة أصلا لكي يمنع عنها بالعلم الإجمالي ، أي أنّ عدم المخالفة ثابت في الواقع فلا معنى للنهي عن المخالفة شرعا ما دامت لن تتحقّق تكوينا.

وأمّا تنجيزه لأحد التكليفين بعينه دون الآخر فهو غير معقول أيضا ؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالي إلى التكليفين المشكوكين على حدّ واحد ، فيكون ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجّح ، وهو ممتنع عقلا ، فلا يصدر من الشارع.

وبهذا يثبت لنا بالبرهان أنّ العلم الإجمالي في هذه الصورة ساقط عن المنجّزيّة (١).

ولكن هل تجري البراءة العقليّة والشرعيّة عن الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة أو لا؟

سؤال اختلف الأصوليّون في الإجابة عليه.

__________________

(١) وينبغي أن يعلم أنّ فرض الدوران بين المحذورين تارة يكون بين الوجوب والحرمة ، كتكليفين عباديّين يشترط فيهما قصد القربة وامتثال الأمر ، وأخرى يكونان توصّليّين ، وثالثة يكون أحدهما توصّليّا والآخر تعبّديّا.

ومحلّ بحثنا هنا الوجوب والحرمة التوصّليّان فقط ، كما إذا حلف على شيء فعلا أو تركا كالسفر ، وأمّا إذا كانا تعبّديّين أو أحدهما فحينئذ تكون المخالفة القطعيّة ممكنة ، بأن لا ينوي القربة في هذا ويأتي بذاك أو لا ينوي القربة فيهما ويقوم بهما معا.

٤١٥

فهناك من قال بجريانها (١) ، إذ ما دام العلم الإجمالي غير منجز فلا يمكن أن يكون مانعا عن جريان البراءة عقلا وشرعا.

وهناك من قال بعدم جريان البراءة على الرغم من عدم منجّزيّة العلم الإجمالي.

وأثيرت عدّة اعتراضات على إجراء البراءة في المقام ، ويختصّ بعض هذه الاعتراضات بالبراءة العقليّة ، وبعضها بالبراءة الشرعيّة ، وبعضها ببعض ألسنة البراءة الشرعيّة ، ونذكر فيما يلي أهم تلك الاعتراضات :

بعد أن عرفنا أنّ العلم الإجمالي في المقام غير منجّز لشيء من الوجوب والحرمة ، يطرح السؤال التالي : هل تجري البراءة العقليّة والشرعيّة عن الوجوب والحرمة المشكوكين أم لا؟

وهذا السؤال اختلفت كلمات الأصحاب في الإجابة عنه على قولين رئيسين :

١ ـ أنّ البراءة العقليّة والشرعيّة تجري في المقام ؛ لأنّ المورد من موارد الشكّ في التكليف ، وهذا الشكّ وإن كان مقرونا ابتداء بالعلم الإجمالي المانع عن جريان البراءة ونحوها من الأصول الترخيصيّة ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة بحسب الفرض ، وسقوطه كذلك يعني زوال المانع من جريان البراءة ؛ لأنّ المقتضي لجريانها موجود وهو كون الواقعة مشكوكة التكليف ، والمانع قد فرض ارتفاعه ؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزيّة ، فلا محذور عقلا ولا إشكال شرعا في جريان البراءة في المقام.

أمّا المحذور العقلي فلم يكن إلا العلم الإجمالي المنجّز وهو هنا غير منجّز ، وأمّا المحذور الشرعي فهو غير موجود أصلا ؛ لأنّ أدلّة البراءة تشمل المقام ؛ لأنّه تكليف مشكوك.

٢ ـ أنّ البراءة العقليّة والشرعيّة لا تجري في المقام ؛ لأنّ العلم الإجمالي وإن كان ساقطا عن المنجّزيّة ولكنّه موجود حقيقة ، بمعنى أنّه غير منحلّ لتصير الشبهة بدويّة ، فالشبهة هنا لا ينطبق عليها عنوان الشكّ البدوي في التكليف فموضوع البراءة غير محرز ليقال بجريانها.

__________________

(١) منهم السيّد الخوئي كما في مصباح الأصول ٢ : ٣٢٨.

٤١٦

نعم ، هذه الشبهة حكمها ليس التنجيز من جهة العلم الإجمالي ؛ لأنّه ساقط عن المنجّزيّة ، وحينئذ بما أنّ هذه الواقعة لا منجّزيّة فيها ولا ترخيص فيها فيكون المكلّف مخيّرا بين الأمرين.

ثمّ إنّه قد أثيرت على القول الأوّل عدّة اعتراضات تمنع من جريان البراءة ، وهذه الاعتراضات على أقسام ثلاثة :

الأوّل : الاعتراضات الموجّهة على البراءة العقليّة فقط ، كالاعتراض الأوّل الآتي.

الثاني : الاعتراضات الموجّهة على البراءة الشرعيّة بشكل عامّ أي بلحاظ كلّ أدلّتها وألسنتها ، كالاعتراض الثالث.

الثالث : الاعتراضات الموجّهة على بعض ألسنة البراءة الشرعيّة.

وسوف نبحث أهمّ تلك الاعتراضات لنرى مدى صحّتها ومانعيّتها عن جريان البراءة ، أو عدم ذلك.

الأوّل : الاعتراض على البراءة العقليّة والمنع عن جريانها في المقام حتّى على مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وتوضيحه على ما أفاده المحقّق العراقي قدّس الله روحه : أنّ العلم الإجمالي هنا وإن لم يكن منجّزا ـ وهذا يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك ـ ولكن ليس كلّ ترخيص براءة ، فإنّ الترخيص تارة يكون بملاك الاضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز ، وأخرى يكون بملاك عدم البيان ، والبراءة العقليّة هي ما كان بالملاك الثاني.

الاعتراض الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي من المنع عن جريان البراءة العقليّة دون الشرعيّة ، وإن كان من المحتمل جريان البراءة الشرعيّة ونحوها من الأصول الترخيصيّة كقاعدة الحلّ والإباحة ، والأصول المرخّصة والاستصحاب النافي للتكليف ، والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الترخيص على نحوين :

الأوّل : الترخيص بملاك عدم البيان ، وهذا ما يسمّى بالبراءة العقليّة على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو بالبراءة الشرعيّة على مسلك حقّ الطاعة ، فموضوع هذا الترخيص هو عدم البيان والعلم.

الثاني : الترخيص بملاك الاضطرار والعجز ، وهذا ما يسمّى بالتخيير بين الفعل والترك

٤١٧

من جهة أنّه عاجز عن الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعيّة ، فيحكم العقل بإباحة الفعل أو الترك وكون المكلّف مخيّرا فيهما من جهة عجزه التكويني واضطراره إلى أحدهما.

وعليه ، فليس كلّ ترخيص عقلي يعني البراءة ، بل قد يعني التخيير وإباحة الفعل أو الترك ، فالترخيص أعمّ من البراءة ، فإذا ثبت الترخيص لا يلزم منه ثبوت البراءة ، بل قد تثبت وقد لا تثبت ، بينما البراءة أخصّ من الترخيص أي أنّها نوع خاصّ من الترخيص وهو الترخيص الناشئ من ملاك عدم البيان فقط.

وفي مقامنا يحكم العقل بالترخيص من جهة الاضطرار والعجز التكويني عن الجمع بين الفعل والترك وعن تركهما معا ، وهذا يعني التخيير لا البراءة ، وتفصيل الكلام في ذلك أن يقال :

وعليه ، فإن أريد في المقام إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي بنفس البراءة العقليّة فهو مستحيل ؛ لأنّها فرع عدم البيان ، فهي لا تحكم بأنّ هذا بيان وذاك ليس ببيان ؛ لأنّها لا تنقّح موضوعها ، فلا بدّ من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة على إجراء البراءة ، وهذا ما يتحقّق في موارد الشكّ وجدانا وتكوينا ؛ لأنّ الشكّ ليس بيانا ، وأمّا في مورد العلم الإجمالي بجنس الإلزام في المقام فالعلم بيان وجدانا وتكوينا ، فلكي نجرّده من صفة البيانيّة لا بدّ من تطبيق قاعدة عقليّة تقتضي ذلك ، وهذه القاعدة ليست نفس البراءة العقليّة ، لما عرفت من أنّها لا تنقّح موضوعها ، وإنّما هي قاعدة عدم إمكان إدانة العاجز التي تبرهن على عدم صلاحيّة العلم الإجمالي المذكور للمنجّزيّة والحجّيّة ، وبالتالي سقوطه عن البيانيّة.

بعد أن عرفنا أنّ الترخيص الثابت هو الترخيص بملاك الاضطرار والعجز فنقول : إن أريد من إجراء البراءة العقليّة في المقام إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي بنفس البراءة فهذا مستحيل ؛ وذلك لأنّ البراءة موضوعها عدم البيان والعلم ، فلا بدّ من إثبات عدم البيان والعلم أوّلا ثمّ إجراء البراءة ؛ لأنّها متفرّعة ومترتّبة على موضوعها فلا تثبت إذا لم يكن موضوعها ثابتا.

وحينئذ لا بدّ من كون العلم الإجمالي ساقطا عن المنجّزيّة والحجّيّة والبيانيّة لكي يكون المورد من موارد عدم العلم والبيان ، وهذا الأمر لا يمكن إثباته بنفس البراءة ؛ لأنّ الشيء لا يثبت موضوعه أي أنّ البراءة لا تثبت أنّ هذا المورد ليس علما وبيانا ، وإلا

٤١٨

لكان الشيء مثبتا لموضوعه وهو واضح البطلان ، فهو نظير التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، فكما أنّ العامّ لا يثبت مصداقه وموضوعه فكذلك البراءة لا تثبت موضوعها.

وهذا يعني أنّه لا بدّ من إثبات عدم العلم والبيان ، وبالتالي إسقاط العلم الإجمالي في مرحلة سابقة عن إجراء البراءة.

وعليه ، فنقول : إن كان المورد مشكوكا شكّا بدويّا وجدانا فيكون عدم العلم ثابتا بالوجدان ، ولا تحتاج إلى دليل آخر لإثباته فتجري البراءة بلا محذور.

وإن كان المورد مقرونا بالعلم الإجمالي فلا بدّ من تجريد العلم الإجمالي عن صفة البيان والعلم وإسقاطه عن الحجّيّة والمنجّزيّة بدليل ، وهذا الدليل ليس هو البراءة نفسها لما تقدّم ، وإنّما هو حكم العقل بعدم إمكان تكليف العاجز تكوينا عن الجمع بين الفعل والترك وعن تركهما معا ، وهذا ما يعبّر عنه بالإباحة في اختيار أحد الأمرين أو التخيير العقلي بينهما ، فيثبت لنا بهذه القاعدة الترخيص وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والبيانيّة.

وبهذا يتبيّن لنا أنّ البراءة العقليّة لا يمكنها إسقاط العلم الإجمالي بنفسها ، بل المسقط له قاعدة أخرى غيرها ، فلو كان المراد من إجرائها إثبات هذا الأمر فهي قاصرة عن إثباته ، فلا يكون هناك مبرّر لجريانها.

وإن أريد إجراء البراءة العقليّة بعد إبطال منجّزيّة العلم الإجمالي وبيانيّته بالقاعدة المشار إليها فلا معنى لذلك ؛ لأنّ تلك القاعدة بنفسها تتكفّل الترخيص العقلي ولا محصّل للترخيص في طول الترخيص.

وإن أريد من إجراء البراءة العقليّة أنّها تجري بعد سقوط العلم الإجمالي عن الحجّيّة والمنجّزيّة والبيانيّة ـ كما هو الصحيح والمعقول ـ بالقاعدة العقليّة المتقدّمة ـ أي الاضطرار والعجز وعدم إمكان تكليف العاجز ـ فهذا لغو ؛ لأنّه بمجرّد أن تجري تلك القاعدة سوف يثبت لنا الترخيص العقلي المسمّى بالتخيير العقلي وإباحة أحد الأمرين ، فلا يكون هناك مبنى محصّل لجريان البراءة لإثبات الترخيص ؛ لأنّه ثابت في مرحلة سابقة ، وإثبات الترخيص في طول ثبوته لغو وتحصيل للحاصل ، فلا يكون هناك أثر ولا فائدة من جريان البراءة.

٤١٩

وهكذا نصل إلى أنّ جريان البراءة العقليّة ممتنع ، إمّا لأنّه لا موضوع لها ، وإمّا لأنّه لا أثر ولا فائدة منها ، فيتعيّن الحكم بالتخيير العقلي وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة.

ونلاحظ على ذلك : أنّ المدّعى إجراء البراءة بعد الفراغ عن عدم منجّزيّة العلم الإجمالي ، وليس الغرض منها إبطال منجّزيّة هذا العلم والترخيص في مخالفته حتّى يقال : إنّه لا محصّل لذلك ، بل إبطال منجّزيّة كلّ من احتمال الوجوب واحتمال الحرمة في نفسه ، ومن الواضح أنّ كلاّ من الاحتمالين في نفسه ليس بيانا تكوينا ووجدانا ، فتطبّق عليه البراءة العقليّة لإثبات التأمين من ناحيته.

وجوابه : أنّنا نختار الشقّ الثاني ولا يلزم منه محذور اللغويّة وتحصيل الحاصل ؛ وذلك لأن المراد من إجراء البراءة هو التأمين من ناحية التكليف المشكوك في المقام حتّى بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والحجّيّة والبيانيّة ، أي بعد سقوطه نريد إثبات التأمين عن التكليف المشكوك ، فإنّ التكليف في موردنا يتصوّر له منجّزان :

أحدهما : التكليف المنجّز بالعلم الإجمالي ، وهذا ما يثبت التأمين من ناحيته بجريان تلك القاعدة ، أي قاعدة الاضطرار وعدم إمكان تكليف وإدانة العاجز ؛ لأنّ المورد من موارد العجز والاضطرار إلى الفعل أو الترك ، فلا يعقل تكليفه بالجمع بينهما أو بتركهما معا.

والآخر : التكليف المنجّز باحتماله ، فإنّه بعد سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة وثبوت التأمين من ناحيته ، يبقى احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ثابتا ، إذ يحتمل أن يكون هذا المورد واجبا ويحتمل أن يكون حراما.

وهذان الاحتمالان يجتمعان مع احتمال الترخيص والإباحة وعدم التكليف. وعليه ، فلا بدّ من إثبات التأمين من ناحية هذا الاحتمال ، وهذا ما تثبته البراءة العقليّة ؛ لأنّ موضوعها ثابت وجدانا وتكوينا ؛ لأنّه لا علم بالوجوب أو الحرمة فيتحقّق عدم البيان وجدانا ، فتجري البراءة لثبوت موضوعها ؛ ولوجود الأثر لها وهو التأمين من ناحية هذا الاحتمال ، وهذا التأمين لم يكن ثابتا في مرحلة سابقة ؛ لأنّ تلك القاعدة تثبت التأمين من ناحية العلم الإجمالي لا من ناحية نفس الاحتمال للتكليف.

وبتعبير أدقّ : إنّ جريان قاعدة عدم إمكان تكليف وإدانة العاجز تثبت لنا سقوط

٤٢٠