شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

١ ـ منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر

عن الأصول المؤمّنة الشرعيّة

والبحث في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي إنّما يتّجه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث إنّ كلّ شبهة من أطراف العلم مؤمّن عنها بالقاعدة المذكورة ، فيحتاج تنجّز التكليف فيها إلى منجّز ، ولا بدّ من البحث حينئذ عن حدود منجّزيّة العلم الإجمالي ، ومدى إخراجه لأطرافه عن موضوع القاعدة.

وأمّا بناء على مسلك حقّ الطاعة فكلّ شبهة منجّزة في نفسها بقطع النظر عن الأصول الشرعيّة المؤمّنة ، وينحصر البحث على هذا المسلك في الأمرين الأخيرين.

الأمر الأوّل : البحث في أصل منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن جريان الأصول الترخيصيّة وعدم جريانها ، فهو يتّجه على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك سوف تكون كلّ شبهة في نفسها مؤمّن عنها.

أي أنّنا إذا لاحظنا أطراف العلم الإجمالي كلّ طرف لوحده فهو مشكوك في نفسه ، وعليه فيكون مشمولا للبراءة العقليّة ، فكيف يصبح منجّزا إذن؟ فيحتاج تنجّز كلّ طرف إلى وجود منجّز ، وهذا المنجّز هو العلم الإجمالي عندهم ، ولذلك لا بدّ أن يبحث عن حدود منجّزيّة العلم الإجمالي ، وهل هذه المنجّزيّة تكفي لإخراج الأطراف من دائرة البراءة العقليّة أو لا؟

وبتعبير آخر : هل العلم الإجمالي يعتبر بيانا كالعلم التفصيلي لتكون الأطراف منجّزة أو لا؟

وأمّا على مسلك حقّ الطاعة فهذا البحث غير متّجه ؛ وذلك لأنّه على هذا المسلك

١٨١

تكون كلّ شبهة منجّزة بنفسها على أساس منجّزيّة مطلق الانكشاف ولو احتمالا ، وهذه الأطراف يحتمل فيها التكليف فتكون منجّزة لمنجّزيّة احتمال التكليف عقلا.

نعم ، هنا يتّجه البحث حول الأمرين الثاني والثالث ، بمعنى أنّه هل يوجد محذور ثبوتي أو إثباتي في جريان الأصول الترخيصيّة الشرعيّة في كلّ الأطراف أو في بعضها ، أو لا يوجد محذور في ذلك؟

وعلى أيّ حال فنحن نتكلّم في الأمر الأوّل على أساس افتراض قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وعليه فلا شكّ في تنجيز العلم الإجمالي لمقدار الجامع بين التكليفين ؛ لأنّه معلوم وقد تمّ عليه البيان ، سواء قلنا بأنّ مردّ العلم الإجمالي إلى العلم بالجامع أو العلم بالواقع.

بعد أن عرفنا أنّ البحث في الأمر الأوّل أي أصل منجّزيّة العلم الإجمالي يتّجه على مسلك المشهور القائل بالبراءة العقليّة على أساس قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، نقول : إنّ منجّزيّة العلم الإجمالي لها مرحلتان :

الأولى : في حرمة المخالفة القطعيّة بالإتيان بكلّ الأطراف ، أو بترك كلّ الأطراف في الشبهات التحريميّة أو الوجوبيّة.

الثانية : في وجوب الموافقة القطعيّة ، وذلك بالإتيان بكلّ الأطراف في الشبهات الوجوبيّة ، أو بترك كلّ الأطراف في الشبهات التحريميّة.

أمّا المرحلة الأولى فلا شكّ في أنّ العلم الإجمالي ينجّز مقدار الجامع المعلوم بين الأطراف ، فإذا شكّ في وجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة فالجامع بينهما معلوم وهو وجوب صلاة ما فيتنجّز.

وكذا إذا شكّ في نجاسة أحد الإناءين فإنّ الجامع وهو وجود نجاسة معلوم فيتنجّز ، فيخرج الجامع عن دائرة القاعدة ؛ لأنّه قد تمّ البيان عليه وصار معلوما ، وهذا المقدار ثابت على جميع المسالك في تفسير حقيقة العلم الإجمالي من أنّه العلم بالجامع والشكّ في الأطراف ، أو أنّه العلم بالواقع ، أو أنّه العلم بالفرد المردّد ، كما سيأتي شرحها بالتفصيل ، لأنّه على جميع هذه المسالك يكون الجامع معلوما فيتنجّز ، ومنجّزيّته تعني حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه إذا ترك كلا الصلاتين أو ارتكب كلا

١٨٢

الإناءين يكون قد خالف الجامع المعلوم قطعا ، فيكون مستحقّا للعقاب لتماميّة البيان على الجامع.

والوجه في ذلك :

أمّا على الأوّل فواضح ، وأمّا على الثاني فلأنّ الجامع معلوم ضمنا حتما ، وعليه يحكم العقل بتنجّز الجامع ، ومخالفة الجامع إنّما تتحقّق بمخالفة كلا الطرفين ؛ لأنّ ترك الجامع لا يكون إلا بترك كلا فرديه ، وهذا يعنى حرمة المخالفة القطعيّة عقلا للتكليف المعلوم بالإجمال.

وأمّا الوجه في كون العلم الإجمالي منجّزا لحرمة المخالفة القطعيّة على القول بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد فواضح ؛ لأنّ الجامع معلوم تفصيلا حيث تمّ البيان القطعي عليه ، ومعه فيحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة لهذا الجامع وحرمة المخالفة والمعصية من حيث إنّه تكليف معلوم فيدخل في العهدة والذمّة.

فإن كانت المخالفة القطعيّة جائزة لزم التنافي والتهافت ؛ لأنّ معنى المخالفة القطعيّة جواز ارتكاب كلا الإناءين أو جواز ترك كلتا الصلاتين ، وهذا يعني مخالفة الجامع ؛ لأنّ الجامع موجود ضمن الطرفين ، فمع مخالفتهما تتحقّق مخالفة الجامع ، والمفروض أنّ الجامع يجب امتثاله وإطاعته.

وأمّا الوجه في ذلك بناء على القول بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع أو بالفرد المردد ، فالجامع نفسه غير منجّز ؛ لعدم تماميّة البيان عليه مباشرة ، إلا أنّه لمّا كان الجامع موجودا ضمن أفراده في الخارج ، فحيث إنّ الفرد الواقعي هو المنجّز فيكون الجامع الموجود ضمنه منجّزا أيضا ، فيحكم العقل بلزوم امتثاله وحرمة مخالفته ، ومخالفة الجامع هنا تكون بترك كلا الطرفين أو بارتكاب كلا الطرفين ؛ لأنّ الجامع موجود ضمنا في أحدهما الواقعي غير المعلوم تفصيلا ، وبالتالي سوف يقع في التنافي والتهافت بين الجامع المعلوم ضمنا وبين ترك كلا الطرفين أو ارتكابهما معا.

وهذا المقدار يسمّى منجّزيّة العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة ، وهو ممّا لا إشكال فيه عند أحد.

وإنّما المهمّ البحث في تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة عقلا ، فقد وقع الخلاف في ذلك :

١٨٣

فذهب جماعة كالمحقّق النائيني (١) والسيّد الأستاذ (٢) إلى أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي بحدّ ذاته الموافقة القطعيّة ، وتنجيز كلّ أطرافه مباشرة.

وذهب المحقّق العراقي (٣) وغيره (٤) إلى أنّ العلم الإجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة ، كما يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة.

ويظهر من بعض هؤلاء المحقّقين أنّ المسألة مبنيّة على تحقيق هويّة العلم الإجمالي ، وهل هو علم بالجامع أو بالواقع؟

وعلى هذا الأساس سوف نمهّد للبحث بالكلام عن هويّة العلم الإجمالي والمباني المختلفة في ذلك ، ثمّ نتكلّم في مقدار التنجيز على تلك المباني.

وأمّا المرحلة الثانية : وهي وجوب الموافقة القطعيّة فهي الأساس في هذا البحث.

والسؤال المطروح هنا هو : هل العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة عقلا أو لا؟

والجواب على ذلك مختلف ، فذهب الميرزا والسيّد الخوئي إلى أنّ العلم الإجمالي بنفسه لا يستلزم وجوب الموافقة القطعيّة عقلا ، أي أنّ العلم الإجمالي بنفسه وبحدّ ذاته لا يستلزم أكثر من حرمة المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ؛ لتماميّة البيان عليه كما تقدّم ، إمّا مستقلاّ وإمّا ضمنا.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة الاحتماليّة فهذا لا يستلزمه نفس العلم الإجمالي. نعم ، هذا المقدار يتنجّز لجهة أخرى وهي جريان الأصول الترخيصيّة في كلّ الأطراف وتعارضها وتساقطها كما سيأتي ، وهذا المسلك يسمّى بمسلك الاقتضاء.

بينما ذهب المحقّق العراقي وغيره إلى أنّ العلم الإجمالي بنفسه وذاته كما يستدعي حرمة المخالفة القطعيّة كذلك يستدعي وجوب الموافقة القطعيّة بنحو يمنع حتّى عن المخالفة الاحتماليّة ، فكلّ الأطراف يجب امتثالها في الشبهات الوجوبيّة أو يجب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٢.

(٢) مصباح الأصول ٢ : ٣٤٨ ـ ٣٥٠.

(٣) مقالات الأصول ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٤) كالمحقّق الخراساني في كفاية الأصول : ٤٠٨.

١٨٤

تركها في الشبهات التحريميّة ، والمنجّز لذلك هو نفس العلم الإجمالي ، ولا مدخليّة للأصول الترخيصيّة في ذلك ، وهذا المسلك يسمّى بمسلك العلّيّة.

وذهب آخرون إلى أنّ وجوب الموافقة القطعيّة أو عدم وجوبها مبني على تحقيق الحال في هويّة العلم الإجمالي ، فإن قيل بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد كان معناه أنّه يستلزم حرمة المخالفة القطعيّة فقط دون وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المنجّز هو الجامع فقط ، فيحرم تركه بترك الطرفين ، وأمّا امتثاله فهو يتحقّق بالامتثال لأحدهما ؛ لأنّ الجامع موجود في كلا الطرفين فيمكنه أن يحقّقه ضمن أي الفردين شاء.

وإن قيل بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع كان الواقع منجّزا عليه وداخلا في العهدة ، وامتثاله لا يتحقّق بالإتيان بأحد الطرفين ؛ إذ قد لا يكون هو الواقع المنجّز فتبقى الذمّة مشغولة ؛ ولذلك يجب الامتثال بالإتيان بكلا الطرفين لكي يتحقّق الامتثال والفراغ اليقيني من باب أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، فتكون الموافقة القطعيّة واجبة ؛ لأنّها مقدّمة علميّة لتحقّق الامتثال والفراغ اليقيني.

وبهذا يكون الكلام عن الموافقة القطعيّة مرتبطا بالمباني الموجودة في حقيقة العلم الإجمالي ، ولذلك يجب أوّلا استعراض هذه المباني لنرى أنّه هل يمكن على أساسها تخريج وجوب الموافقة القطعيّة أو لا يمكن ذلك؟

وهنا توجد ثلاثة اتّجاهات لتفسير حقيقة العلم الإجمالي لا بدّ من ذكرها مع أدلّتها :

الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي :

ويمكن تلخيص الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي في ثلاثة مبان :

الأوّل : المبنى القائل بأنّ العلم الإجمالي علم تفصيلي بالجامع مقترن بشكوك تفصيليّة بعدد أطراف ذلك العلم ، وهذا ما اختاره المحقّقان النائيني (١) والأصفهاني (٢).

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ١٠ ـ ١٢.

(٢) نهاية الدراية ٤ : ٢٣٧.

١٨٥

وهذا المبنى يشتمل على جانب إيجابي وهو اشتمال العلم الإجمالي على العلم بالجامع وهذا واضح بداهة ، وعلى جانب سلبيّ وهو عدم تعدّي العلم من الجامع.

الاتّجاه الأوّل : ما اختاره المحقّقان النائيني والأصفهاني ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالي عبارة عن علم تفصيلي بالجامع وشكّ في الأطراف ، أي شكّ بدوي في كلّ فرد فرد من الأفراد التي وقعت ضمن دائرة العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : يمكننا تحليل العلم الإجمالي إلى جانبين : أحدهما إيجابي والآخر سلبي.

أمّا الجانب الإيجابي فهو العلم بالجامع بنحو تفصيلي ؛ لأنّ من يعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يعلم تفصيلا بوجوب صلاة ما.

وأمّا الجانب السلبي فهو أنّ هذا العلم الإجمالي لا يتعدّى ولا يسري إلى الأطراف ، بل هذه الأطراف مشكوكة في نفسها ، فالظهر في نفسه مشكوك والجمعة في نفسها مشكوكة أيضا ، إذ لا يعلم بوجوب إحداهما بنحو تفصيلي ؛ وإلا لصار العلم تفصيليّا.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهاني برهن على صحّة هذا الاتّجاه بقوله :

وبرهانه : أنّه لو فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع فهو : إمّا أن يكون بلا متعلّق ، أو يكون متعلّقا بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن ، أو بالفرد بحدّ شخصيّ مردّد بين الحدّين أو الحدود ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ العلم صفة ذات الإضافة ، فلا يعقل فرض انكشاف بلا منكشف.

وأمّا الثاني فلبداهة أنّ العالم بالإجمال لا يعلم بهذا الطرف بعينه ولا بذاك بعينه.

وأمّا الثالث فلأنّ المردّد إن أريد به مفهوم المردّد فهذا جامع انتزاعي ، والعلم به لا يعني تعدّي العلم عن الجامع ، وإن أريد به واقع المردّد فهو ممّا لا يعقل ثبوته فكيف يعقل العلم به؟ لأنّ كلّ ما له ثبوت فهو متعيّن بحدّ ذاته في أفق ثبوته.

والبرهان على صحّة هذا الاتّجاه ، وأنّه لا يوجد إلا علم تفصيلي واحد وهو العلم

١٨٦

بالجامع فقط أن يقال : إنّه لو فرض وجود علم آخر غير العلم بالجامع ، فهذا العلم لا يخلو من أحد أمور أربعة ، وهي :

١ ـ أن يكون هذا العلم لا متعلّق له أي علم بلا معلوم.

٢ ـ أن يكون لهذا العلم متعلّق ومتعلّقه الفرد الشخصي المتعيّن في الخارج بحدّه الشخصي ، أي هذا الفرد بعينه.

٣ ـ أن يكون متعلّقه الفرد المردّد بين الفردين أو بين الأفراد ، أي أحدهما.

٤ ـ أن يكون متعلّقه كلا الفردين معا بحدّهما الشخصي أي كلاهما.

وكلّ هذه الاحتمالات باطلة :

أمّا الأوّل : فهو خلف حقيقة العلم ؛ لأنّ العلم صفة من صفات ذات الإضافة ، فهو يحتاج دائما إلى متعلّق وموصوف ، ولا يمكن تعقّله من دون ذلك ، ففرض عدم وجود متعلّق للعلم يعني أنّه لا علم إذ لا معلوم.

وبتعبير آخر : أنّ حقيقة العلم هي كونه كاشفا فلا بدّ أن يكون هناك منكشف ؛ إذ لا يعقل الكاشف من دون فرض الانكشاف والمنكشف ، نظير العلّة والمعلول فكون شيء علّة يعني وجود معلول له.

وأمّا الثاني : فهو يوجب الانقلاب ؛ لأنّ المفروض أنّه يوجد لدينا علم إجمالي بوجوب إحدى الصلاتين الظهر أو الجمعة ، ففرض أنّ هذا العلم له متعلّق ومتعلّقه أحد الطرفين بحدّه الشخصي المتعيّن في الخارج ، معناه أنّ العلم سرى إلى الفرد المعيّن فصار وجوب الظهر معلوما بالتفصيل أو وجوب الجمعة كذلك ، وهذا معناه أنّنا نعلم تفصيلا بالفرد والطرف ، وهذا خلاف المفروض من أنّنا نعلم إجمالا.

وأمّا الثالث : فلأنّ كون متعلّق العلم هو الفرد المردّد يحتمل أحد أمرين :

الأول : أن يكون المراد مفهوم الفرد المردّد أي عنوان ( أحدهما ) بما هو صورة ذهنيّة تعلّق بها العلم ، فهذا العنوان أي ( أحدهما ) عنوان انتزاعي من الفردين جامع بينهما ؛ لأنّه يصدق في الخارج على هذا وعلى ذاك ، فإذا فرض أنّه متعلّق للعلم كان معناه أنّ العلم متعلّق بالجامع ؛ لأنّ هذا العنوان لم يتعدّ إلى الفرد ، فهو نفس العلم السابق المتعلّق بالجامع ، وليس شيئا زائدا عليه وإنّما هو تعبير آخر عنه فقط.

الثاني : أن يكون المراد واقع الفرد المردّد أي عنوان ( أحدهما ) الموجود في

١٨٧

الخارج والواقع ، فهذا مستحيل ؛ لأنّ عنوان أحدهما أو الفرد المردّد لا وجود له في الخارج ؛ إذ الموجود في الخارج الفرد المشخّص بحدّه الشخصي لا المردّد ، والعنوان والمفهوم لا يمكن وجوده في الخارج إلا ضمن المصداق الجزئي ؛ لأنّ كلّ ما هو ثابت في الواقع والخارج إنّما يكون ثابتا بشخصه وحده الذي يميّزه عن غيره ، فهذا العنوان إن ادّعي ثبوته بهذا الفرد بعينه وشخصه عاد إلى الاحتمال الثاني وفيه ما تقدّم ، وإن كان ثابتا لوحده فهذا غير معقول ؛ إذ لا ثبوت للمفهوم أي ضمن الحدّ الشخصي.

وأمّا الرابع : وهو أن يكون العلم متعلّقا بالفردين فهو واضح البطلان ؛ ولذلك لم يذكره هنا ، ووجهه أنّ المفروض أنّنا نعلم بوجوب صلاة من الصلاتين لا أنّنا نعلم بوجوب كلتا الصلاتين ، فهذا خلاف ما هو المفروض.

وبهذا ظهر أنّ كلّ الاحتمالات المذكورة باطلة ، فيتعيّن ألاّ يكون هناك علم آخر سوى العلم التفصيلي بالجامع ، وأمّا الأفراد فلا يمكن تعلّق العلم بها بأي نحو من الأنحاء ، فتكون مشكوكة بالشكّ المقترن بالعلم السابق.

الثاني : المبنى القائل بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي يسري من الجامع إلى الحدّ الشخصي ، ولكنّه ليس حدّا شخصيّا معيّنا ؛ لوضوح أنّ كلاّ من الطرفين بحدّه الشخصي المعيّن ليس معلوما ، بل حدّا مردّدا في ذاته بين الحدّين.

وهذا ما يظهر من صاحب ( الكفاية ) اختياره ، حيث ذكر في بحث الواجب التخييري من ( الكفاية ) (١) : ( أنّ أحد الأقوال فيه هو كون الواجب الواحد المردّد ) وأشار في تعليقته على ( الكفاية ) إلى الاعتراض على ذلك : بأنّ الوجوب صفة ، وكيف تتعلّق الصفة بالواحد المردّد مع أنّ الموصوف لا بدّ أن يكون معيّنا في الواقع؟

وأجاب على الاعتراض : بأنّ الواحد المردّد قد يتعلّق به وصف حقيقي ذو الإضافة كالعلم الإجمالي ، فضلا عن الوصف الاعتباري كالوجوب.

الاتّجاه الثاني : ما اختاره صاحب ( الكفاية ) في حاشية ( الكفاية ) على الواجب التخييري ، حيث قال : إنّ أحد الأقوال في الواجب التخييري كونه الواحد المردّد ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٧٥.

١٨٨

كما هو الحال في خصال كفّارة الإفطار العمدي ، فإنّ الواجب منها الفرد المردّد لا أحدها المعيّن ولا الجامع.

وهنا اختار نفس ما اختاره هناك ، فالعلم الإجمالي عنده متعلّق بالفرد المردّد ، ويدلّ على اختياره لذلك أنّه عند ما اعترض على كون الواجب التخييري هو الواجب الواحد المردّد بقوله : ( إنّ الوجوب صفة وكيف تتعلّق الصفة بالواحد المردّد ، من حيث إنّ الموصوف لا بدّ أن يكون معيّنا في الواقع لكي يتّصف بصفة ، فإنّ الصفة عبارة عن الحكم والحكم لا يكون على المجهول أو المردّد ، بل على المشخّص والمتعيّن؟ ).

فأجاب عن ذلك بأنّ الواحد المردّد لا مانع من تعلّق الوجوب به ؛ لأنّه يتعلّق به العلم الإجمالي ، والمفروض أنّ الوجوب صفة اعتباريّة وليست حقيقيّة ، بينما العلم الإجمالي صفة حقيقيّة ذات الإضافة ، فيما أنّ العلم الإجمالي يمكن تعلّقه بالفرد المردّد مع كونه صفة حقيقيّة ، فمن الأولى أن يتعلّق الوجوب الذي هو صفة اعتباريّة بالفرد المردّد ؛ لأنّ الاعتبار سهل المئونة.

والحاصل : أنّ صاحب ( الكفاية ) اختار في العلم الإجمالي كونه متعلّقا في الفرد المردّد ، فإذا علمنا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، فهذا معناه أنّنا نعلم بالفرد المردّد بين هذين الفردين ، فليس العلم الإجمالي مقتصرا على الجامع ، بل يسري منه إلى الفرد لكن لا إلى الفرد المعيّن الشخصي بحدّه المتميّز به عن الآخر ؛ لوضوح أنّ الظهر بحدّها الذي يميّزها عن الجمعة ليست معلومة ، وكذا الكلام في الجمعة ، وإلا لكان لدينا علم تفصيلي بالفرد المتعيّن والمتشخّص بحدّه.

فالعلم إذا يسري من الجامع إلى الفرد من دون أن يكون لهذا الفرد تشخّص في حدّ معيّن ، وإنّما هذا الفرد حدّه مردّد بين الحدّين ، فلا هو ذاك بعينه ولا هذا بعينه ، وإنّما هو أحد الفردين والحدّين.

ويمكن الاعتراض عليه بأنّ المشكلة ليست هي مجرّد أنّ المردّد كيف يكون لوصف من الأوصاف نسبة وإضافة إليه؟ بل هي استحالة ثبوت المردّد ووجوده بما هو مردّد ؛ وذلك لأنّ العلم له متعلّق بالذات وله متعلّق بالعرض ، ومتعلّقه بالذات هو الصورة الذهنيّة المقوّمة له في أفق الانكشاف ، ومتعلّقه بالعرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من الخارج.

١٨٩

والفرق بين المتعلّقين : أنّ الأوّل لا يعقل انفكاكه عن العلم حتّى في موارد الخطأ بخلاف الثاني.

وهذا المسلك يمكن الاعتراض عليه بغير ما ذكره صاحب ( الكفاية ) وأجاب عنه ، فنقول : إنّ المشكلة التي ذكرها صاحب ( الكفاية ) من أنّ الوجوب صفة والفرد المردّد موصوف ، فلا بدّ أن يكون الموصوف متعيّنا ومتشخّصا لكي تتعلّق به الصفة ، ليست هي المشكلة بالدقّة ؛ لأنّ هذا الاعتراض يمكن الجواب عنه بما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ الوجوب صفة اعتباريّة لا مانع من تعلّقها بالفرد المردّد.

وإنّما المشكلة في أنّ الفرد المردّد لا ثبوت له لكي يتعلّق به ما هو صفة اعتباريّة ، أو ما هو صفة حقيقيّة ذات الإضافة كالعلم الإجمالي.

فمحلّ الكلام ينبغي أن ينصبّ حول هذه النقطة وهي : أنّ الفرد المردّد هل له ثبوت أو لا؟ فإن كان له ثبوت فكما يمكن أن يتّصف بصفة اعتباريّة يمكن أن يتّصف بصفة حقيقيّة ، وإن لم يكن له ثبوت فكما يستحيل اتّصافه بصفة حقيقيّة يستحيل أيضا اتّصافه بصفة اعتباريّة ؛ إذ لا ثبوت له لكي يقبل حمل الصفة عليه سواء الوجوديّة الاعتباريّة أو الحقيقيّة.

وللجواب عن هذا السؤال نذكر مقدّمة حاصلها : أنّ الوجود على قسمين : ذهني وخارجي ، ولكلّ من الوجودين حدّ يميّزه عن غيره.

فمثلا الإنسان العالم الموجود في الخارج والإنسان الجاهل الموجود كذلك ، لكلّ منهما حدّ يميّزه عن الآخر وهو وجود صفة العلم في هذا ، وعدم وجودها في ذاك.

والصورة الذهنيّة للعالم حدّها المميّز لها ثبوت صفة العلم في الذهن بمعنى لحاظ صفة العلم ، بخلاف الصورة الذهنيّة للجاهل فهي لحاظ عدم صفة العلم ، والجامع بين الإنسان العالم والجاهل لا وجود له في الخارج بنحو مستقلّ ، وإنّما هو موجود بحدّ الفرد الخارجي أي ضمن هذا أو ذاك.

إلا أنّ له ثبوتا في الذهن ؛ لوجود الصورة الذهنيّة المتشخّصة في نفسها وذاتها ، وهي صورة الإنسان الذي حدّه الحيوان الناطق الذي يميّزه عن غيره من الصور الذهنيّة ، ولذلك يمكن تعلّق العلم به.

١٩٠

وكذا الحال لو أخذنا صفة العلم فإنّ العلم له متعلّق ؛ لأنّه من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، ومتعلّقه على قسمين :

متعلّق بالذات وهو الصورة الذهنيّة للمعلوم ، وهذه الصورة هي المقوّمة للعلم في أفق النفس والانكشاف ؛ إذ لو لا ثبوت المعلوم بصورته الذهنيّة لما تحقّق العلم.

ومتعلّق بالعرض وهو الوجود الخارجي المطابق لهذه الصورة ، أو الوجود الخارجي الذي يمكن أن تنطبق عليه الصورة الذهنيّة بنحو تكون حاكية وكاشفة عنه ؛ لأنّ المطلوب أن تكون الصورة الذهنيّة حاكية عن الخارج ، إلا أنّ حكايتها قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة.

ولأجل ذلك قد يكون المعلوم بالعرض ثابتا في الخارج فتكون الصورة الذهنيّة مطابقة للواقع الخارجي ومصيبة له ، وقد يكون المعلوم بالعرض غير ثابت في الخارج فتكون الصورة الذهنيّة مخطئة وغير مصيبة للواقع الخارجي ، إلا أنّه في كلتا الحالتين تبقى الصورة الذهنيّة ثابتة ومتحقّقة في أفق انكشافها وهو الذهن أو النفس ؛ لأنّ العلم تعلّق أوّلا وبالذات بها ، فهي حاضرة لديه وهو مصيب بمعنى كون العلم منصبّا عليها لا على شيء آخر.

والحاصل : أنّ العلم هو نفس حضور الصورة الذهنيّة وتعلّقه بها ، سواء كان المعلوم بالعرض ثابتا أم لا ، ولذلك كان العلم يمكن فيه الخطأ والإصابة بلحاظ المعلوم بالعرض ، وأمّا بلحاظ المعلوم بالذات فهو مصيب دائما ؛ لأنّ الصورة الذهنيّة حاضرة عنده وتعلّق بها.

وبعد ذلك نعود للكلام عن العلم الإجمالي وإمكان تعلّقه بالفرد المردّد أو عدم إمكان ذلك ، فنقول :

وعليه فنحن نتساءل : ما هو المتعلّق بالذات للعلم في حالات العلم الإجمالي؟

فإن كان صورة حاكية عن الجامع لا عن الحدود الشخصيّة رجعنا إلى المبنى السابق.

وإن كان صورة للحدّ الشخصي ولكنّها مردّدة بحدّ ذاتها بين صورتين لحدّين شخصيّين فهذا مستحيل ؛ لأنّ الصورة وجود ذهني وكلّ وجود متعيّن في صقع ثبوته ، وتتعيّن الماهيّة تبعا لتعيّن الوجود لأنّها حدّ له.

وهنا نطرح السؤال التالي وهو : أنّ تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد ما ذا يراد به؟

١٩١

فإن كان المراد به مفهوم الفرد المردّد والذي هو عنوان وجامع انتزاعي ، فهذا يعني أنّ العلم تعلّق بهذا الجامع أي بالصورة الذهنيّة التي هي عبارة عن مفهوم أحد الفردين أو أحدهما ، وهذا في نفسه جامع غير أنّه جامع انتزاعي ، فيرجع هذا المبنى إلى المبنى السابق من تعلّق العلم الإجمالي بالجامع الحقيقي وهو وجوب صلاة ما.

وإن كان المراد به واقع الفرد المردّد أي الفرد المردّد الموجود والثابت ، فتارة يراد به الوجود الخارجي وأخرى الوجود الذهني.

فإن كان المراد الوجود الخارجي ، فمن الواضح أنّه في الخارج لا يوجد فرد زائد عن الظهر أو الجمعة يسمّى بالفرد المردّد ؛ لأنّ الموجود الخارجي إمّا الظهر أو الجمعة ، ولا وجود في الخارج للصلاة المردّدة بينهما.

وإن كان المراد الوجود الذهني أي صورة الفرد المردّد بحدّها الشخصي المتعيّن من بين الصورة الذهنيّة لصلاة الظهر بحدّها الشخصي والصورة الذهنيّة لصلاة الجمعة بحدّها الشخصي ، فهذا مستحيل وغير معقول ؛ وذلك لأنّ الصورة الذهنيّة عبارة عن الوجود الذهني للفرد المردّد.

وقد ذكرنا أنّ كلّ وجود سواء الخارجي أو الذهني لا بدّ أن يكون متعيّنا بحدّه الشخصي الذي به يتميّز عن غيره من الصور الذهنيّة ، وهذا يفرض ثبوت الماهيّة للفرد المردّد ؛ لأنّ تعيّن الوجود يستتبع تعيّن الماهيّة وتشخّصها.

وبما أنّ المفروض تعيّن الفرد المردّد في الوجود الذهني فلا بدّ من فرض تعيّن وتشخّص لماهيّته في صقع ثبوته أي عالم الذهن.

وهذا يفرض أن يكون الفرد المردّد متعيّنا ، إمّا في الصورة الذهنيّة لصلاة الظهر بحدّها ، وإمّا في الصورة الذهنيّة لصلاة الجمعة بحدّها ، وإمّا بالصورتين معا بحدّهما ، وإمّا بصورة ذهنيّة رابعة وكلّ ذلك غير معقول ؛ لأنّ الأوّل والثاني يعني سريان العلم من الفرد المردّد إلى العلم بالفرد المعيّن تفصيلا وهو خلف المفروض ؛ ولأنّ الثالث يعني أنّنا نعلم بوجوب كلتا الصلاتين وهو خلف المفروض في العلم الإجمالي من العلم بوجوب صلاة واحدة فقط ؛ ولأنّ الرابع يعني ثبوت صلاة مردّدة بين الظهر والجمعة وهذه لا وجود لها في الواقع.

فيتعيّن كون العلم الإجمالي غير متعلّق بالفرد المردّد لعدم ثبوت هذا الفرد لا في

١٩٢

الخارج ولا في الذهن ؛ لأنّ العلم صفة وهي تستلزم ثبوت الموصوف وتعيّنه ، سواء كان الصفة حقيقة كالعلم أو اعتباريّة كالوجوب.

الثالث : ما ذهب إليه المحقّق العراقي (١) من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ، بمعنى أنّ الصورة الذهنيّة المقوّمة للعلم والمتعلّقة له بالذات لا تحكي عن مقدار الجامع من الخارج فقط ، بل تحكي عن الفرد الواقعي بحده الشخصي ، فالصورة شخصيّة ومطابقها شخصي ولكنّ الحكاية إجماليّة.

فهي من قبيل رؤيتك لشبح زيد من بعيد دون أن تتبيّن هويّته ، فإنّ الرؤية هنا ليست رؤية للجامع بل للفرد ، ولكنّها رؤية غامضة.

الاتّجاه الثالث : ما اختاره المحقّق العراقي من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع.

وتوضيحه : أنّ العلم كما تقدّم له متعلّق بالذات وهو الصورة الذهنيّة المنكشفة للنفس ، وله متعلّق بالعرض وهو المطابق الخارجي لهذه الصورة الذهنيّة.

والعلم يتعلّق بالصورة الذهنيّة للواقع أي صورة الواقع لا الواقع نفسه ، سواء كان العلم تفصيليّا أم إجماليّا ، بمعنى أنّ المعلوم بالذات هو الصورة الذهنيّة والمعلوم بالعرض هو الواقع الخارجي.

فكما أنّ العلم التفصيلي يتعلّق بصورة الواقع الحاكية عن الواقع ، كذلك العلم الإجمالي يتعلّق بصورة الواقع الحاكية عن الواقع ، غاية الأمر الفرق بينهما في كيفيّة هذه الصورة ، بمعنى أنّه في العلم التفصيلي تكون صورة الواقع واضحة وجليّة بينما في العلم الإجمالي تكون غامضة ومشوبة ، مع كونهما معا متعلّقين بصورة الواقع ، فلا فرق بينهما في المعلوم وإنّما الفرق في كيفيّة العلم فقط.

وعلى هذا نقول : إنّ متعلّق العلم الإجمالي هو الواقع أي أنّ الصورة الذهنيّة للواقع هي المقوّمة للعلم الإجمالي ، وهي المتعلّق له أوّلا وبالذات ، وهذه الصورة لا تحكي عن الجامع ، وإنّما تحكي عن الفرد الواقعي بحدّه الشخصي المتعيّن به في الواقع والذي يتميّز به عن غيره من الأفراد.

فهما نظير المرآة الصافية التي ترى الصورة واضحة وجليّة ، والمرآة المشوبة التي ترى الصورة بشيء من الغموض.

__________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٢٣٠.

١٩٣

وهذا من قبيل رؤية الشخص فإن كانت الرؤية من قرب فهي رؤية واضحة وجليّة كالعلم التفصيلي ، وإن كانت الرؤية من بعد فهي رؤية لشبح الشخص أي للشخص ولكن بغموض وتشويش ، إلا أنّه في الحالتين تكون الرؤية للشخص الموجود المتعيّن في الواقع بحدّه الشخصي ، وليست الرؤية للجامع كما هو واضح.

وبهذا ظهر أنّ الاختلاف بين العلمين التفصيلي والإجمالي في نفس الصورة الذهنيّة من حيث الوضوح والغموض ، وأمّا المحكي في الصورتين فهو شيء واحد وهو الواقع الخارجي.

ويمكن أن يبرهن على ذلك بأنّ العلم في موارد العلم الإجمالي لا يمكن أن يقف على الجامع بحدّه ؛ لأنّ العالم يقطع بأنّ الجامع لا يوجد بحدّه في الخارج ، وإنّما يوجد ضمن حدّ شخصي ، فلا بدّ من إضافة شيء إلى دائرة المعلوم ، فإن كان هذا الشيء جامعا كلّيّا عاد نفس الكلام حتّى ننتهي إلى العلم بحدّ شخصي.

ولمّا كان التردّد في الصورة مستحيلا كما تقدّم تعيّن أن يكون العلم متقوّما بصورة شخصيّة معيّنة مطابقة للفرد الواقعي بحدّه ، ولكنّ حكايتها عنه إجماليّة.

ثمّ إنّه يمكننا أن نذكر برهانا لهذا الاتّجاه وحاصله أن يقال : إنّه في موارد العلم الإجمالي كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة يوم الجمعة ، لا يمكن أن يكون متعلّق علمنا هو الجامع بحدّه الجامعي ، أي المفهوم الكلّي المنتزع من الأفراد بعد تجريدها عن الخصوصيّات وإلغاء المميّزات والمشخّصات ؛ وذلك لأنّ مثل هذا الجامع لا وجود له في الخارج بنحو مستقلّ كما هو واضح ؛ لأنّ الوجود مساوق للتشخّص وهو ملاك الفرديّة والجزئيّة.

وحينئذ لا بدّ أن يكون هناك شيء آخر منضمّا إلى هذا الجامع ليعقل تعلّق العلم الإجمالي به ، وهذه الخصوصيّة إمّا أن تكون كلّيّة وإمّا أن تكون شخصيّة.

فإن كانت كلّيّة عاد المحذور السابق ؛ لأنّ الكلّي لا يوجد في الخارج بحدّه الكلّي فلا بدّ من ضمّ شيء معه ، وهكذا لا بدّ أن ننتهي إلى كون تلك الخصوصيّة ليست كلّيّة بل شخصيّة.

وهذه الخصوصيّة الشخصيّة إمّا أن تكون مردّدة وإمّا أن تكون متعيّنة بحدّ شخصي.

١٩٤

فإن كانت مردّدة لزم المحذور المتقدّم سابقا على المسلك القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد ، من أنّ واقع الفرد المردّد لا ثبوت له في الخارج ولا في الذهن ؛ لأنّ كلّ ما هو ثابت فهو متعيّن ومتشخّص بحدّه ، ولا حدّ للفرد المردّد زائدا عن الحديث الشخصيّين للظهر أو الجمعة ، ومن أنّ مفهوم الفرد المردّد عبارة عن الجامع فيعود الكلام السابق.

وبهذا يتعيّن أن تكون تلك الخصوصيّة التي تعلّق بها العلم والتي ينضمّ إليها الجامع هي خصوصيّة الفرد المعيّن المتشخّص بحدّه الذاتي والشخصي أي الفرد الواقعي.

غاية الأمر أنّ هذا الفرد الواقعي تعلّق به العلم بنحو غامض ومشوب أي صورته ليست واضحة وجليّة كما هو الحال في موارد العلم التفصيلي ، إلا أنّ هذا لا يمنع من تعلّق العلم به كذلك كنظائره المتقدّمة.

وينبغي التنبيه هنا على شيء وهو : أنّ المقصود من تعلّق العلم الإجمالي بالواقع هو الصورة الذهنيّة للفرد الواقعي والتي هي متعلّق العلم بالذات ، وليس المقصود من الواقع نفس الفرد الموجود في الخارج فإنّه متعلّق للعلم بالعرض.

* * *

١٩٥
١٩٦

تخريجات

وجوب الموافقة القطعيّة

١٩٧
١٩٨

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة

إذا اتّضحت لديك هذه المباني المختلفة فاعلم : أنّه قد ربط استتباع العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة إثباتا ونفيا بهذه المباني ، بدعوى : أنّه إذا قيل بالمبنى الأوّل مثلا فالعلم الإجمالي لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان المزعومة سوى الجامع ؛ لأنّه المعلوم فقط. والجامع بحدّه لا يقتضي الجمع بين الأطراف ، بل يكفي في موافقته تطبيقه على أحد أفراده.

وإذا قيل بالمبنى الثالث مثلا فالعلم الإجمالي يخرج الواقع المعلوم بتمام حدوده عن موضوع البراءة العقليّة ويكون منجّزا بالعلم ، وحيث إنّه محتمل في كلّ طرف فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة للخروج عن عهدة التكليف المنجّز.

بعد أن عرفنا الاتّجاهات المختلفة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي نأتي للكلام عن كون العلم الإجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعيّة أو لا؟

فقد قيل في الجواب عن هذا السؤال بأنّه مرتبط بتفسير العلم الإجمالي بدعوى أنّنا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع وشكّ في الفرد كما هو المسلك الأوّل ، فحيث إنّه يوجد علم تفصيلي بمقدار الجامع ، فيكون هذا المقدار خارجا عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ الجامع قد تمّ عليه البيان فيتنجّز ، ومعنى منجّزيّته وجوب امتثاله وحرمة مخالفته.

أمّا حرمة مخالفته فقد تقدّمت وأنّه لا يجوز ترك كلا الطرفين مثلا كما في مثال الظهر والجمعة.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة فحيث إنّ الجامع هو المعلوم بحدّه الجامعي فهذا يعني أنّ المطلوب هو إيجاد الجامع ، ومن الواضح أنّ الجامع يكفي في إيجاده إيجاد فرد واحد وذلك بالإتيان بإحدى الصلاتين فقط ؛ لأنّه بالإتيان بالظهر فقط أو بالجمعة

١٩٩

فقط سوف يتحقّق الإتيان بالجامع ، وأمّا الإتيان بكلتا الصلاتين فهذا لا يقتضيه نفس تنجّز الجامع ، بل يحتاج إلى دليل من خارج العلم الإجمالي.

وأمّا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي علم بالواقع أي بالفرد الواقعي بحدّه الشخصي ، فهذا يعني أنّ المعلوم وهو الفرد قد خرج من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه صار معلوما وقد تمّ عليه البيان ، فتحرم مخالفته القطعيّة بترك كلتا الصلاتين.

وأمّا وجوب الموافقة القطعيّة فلأنّ هذا الفرد قد اشتغلت به الذمّة يقينا ودخل في العهدة ، فإذا أتى المكلّف بإحدى الصلاتين فقط فيحتمل ألاّ يكون الفرد الواقعي منطبقا عليها فتبقى الذمّة مشغولة ، فلكي يتحقّق الفراغ اليقيني والخروج عن العهدة يقينا لا بدّ من الإتيان بكلتا الصلاتين من باب أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني عقلا ، وبهذا تجب الموافقة القطعيّة على هذا المبنى (١).

ولكنّ الصحيح هو : أنّ المبنى الثالث لا يختلف في النتيجة المقصودة في المقام عن المبنى الأوّل ؛ لأنّ الصورة العلميّة الإجماليّة على الثالث وإن كانت مطابقة للواقع بحدّه ولكنّ المفروض على هذا المبنى اندماج عنصري الوضوح والإجمال في تلك الصورة معا ، وبذلك تميّزت عن الصورة التفصيلية ، وما ينكشف ويتّضح للعالم إنّما هو المقدار الموازي لعنصر الوضوح في الصورة ، وهذا لا يزيد على الجامع.

ومن الواضح أنّ البراءة العقليّة إنّما يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازي جانب الوضوح لا الإجمال ؛ لأنّ الإجمال ليس بيانا.

إلا أنّ الصحيح هو أنّ المبنى الثالث لا يختلف من حيث النتيجة عن المبنى الأوّل فلا يتنجّز به أكثر من الجامع.

وتوضيح ذلك : أنّ المبنى الثالث كان يفترض أنّ العلم الإجمالي فيه جانبان :

__________________

(١) وأمّا إذا قلنا بالمسلك الثاني من كون العلم الإجمالي متعلّقا بالفرد المردّد ، فهو على فرض إمكانه سوف يعود إلى المبنى الأوّل ؛ لأنّ الاحتمال المعقول له هو كونه متعلّقا بمفهوم الفرد المردّد والذي هو جامع انتزاعي.

فعلى هذا التصوّر سوف لا يتنجّز إلا الجامع وهو إحدى الصلاتين فقط ، فيكفي الإتيان بصلاة واحدة ؛ لأنّه يصدّق عليها هذا العنوان.

٢٠٠