شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

العلم الإجمالي عن المنجّزيّة والبيانيّة ، وبالتالي يثبت لنا الترخيص أيضا من هذه الناحية ، وحينئذ يصبح المورد من موارد الشكّ البدوي بين الوجوب والحرمة ؛ لأنّ احتمال الوجوب واحتمال الحرمة انضمّ إليهما ببركة هذه القاعدة احتمال الترخيص أيضا ؛ لأنّها أسقطت العلم الإجمالي ونفت البيان في المورد ، فصار المورد كالصورة الأولى والتي تجري فيها البراءة العقليّة والشرعيّة أيضا لتحقّق الموضوع ، ولوجود الأثر الذي لم يكن موجودا قبل جريانها ، فهذا الاعتراض غير تامّ.

الثاني : الاعتراض على البراءة الشرعيّة ، وتوضيحه على ما أفاده المحقّق النائيني قدس‌سره (١) : أنّ ما كان منها بلسان أصالة الحلّ لا يشمل المقام ؛ لأنّ الحلّيّة غير محتملة هنا ، بل الأمر مردّد بين الوجوب والحرمة.

وما كان منها بلسان رفع ما لا يعلمون لا يشمل أيضا ؛ لأنّ الرفع يعقل حيث يعقل الوضع ، والرفع هنا ظاهري يقابله الوضع الظاهري وهو إيجاب الاحتياط ، ومن الواضح أنّ إيجاب الاحتياط تجاه الوجوب المشكوك والحرمة المشكوكة مستحيل ، فلا معنى للرفع إذن.

الاعتراض الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من المنع عن جريان البراءة الشرعيّة ، وتوضيحه : أنّ ألسنة البراءة الشرعيّة على قسمين :

الأوّل : ما كان منها بلسان أصالة الحلّيّة أو الإباحة ، وهذه لا موضوع لها في مقامنا ؛ لأنّ مورد جريانها إنّما هو احتمال الحلّيّة أو الإباحة ، وهنا لا يحتمل سوى الوجوب والحرمة ، ولا يوجد احتمال ثالث ؛ لأنّ الأمر يدور بينهما فالإلزام معلوم ولكنّه مردّد بين الوجوب والحرمة فقط ، ولذلك فجريان هذا النحو من ألسنة البراءة معناه ثبوت الحلّيّة أو الإباحة ، وهذا يتنافى مع ثبوت الإلزام إجمالا.

الثاني : ما كان منها بلسان « رفع ما لا يعلمون » ، وهذا لا يشمل المقام أيضا ؛ وذلك لأنّنا عرفنا فيما سبق أنّ الرفع في هذا الحديث ظاهري ولا يمكن حمله على الرفع الواقعي ، والمقصود من الرفع الظاهري رفع إيجاب الاحتياط.

وحينئذ نقول : إنّ الرفع إنّما يكون ممكنا فيما إذا كان الوضع ممكنا أيضا ، فلا يصحّ الرفع إلا في الموضع الذي يصحّ فيه الوضع.

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ٤٤٥ و ٤٤٨.

٤٢١

وفي مقامنا لا يصحّ الوضع ؛ لأنّه مستحيل ، إذ الاحتياط بفعلهما معا محال ؛ لأنّ الجمع بين النقيضين محال ، والاحتياط بتركهما معا ممتنع ؛ لأنّه فاعل أم تارك في الواقع ، فالاحتياط بكلا قسميه متعذّر وغير ممكن. وعليه ، فيتعذّر الرفع أيضا ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم.

وبهذا يظهر أنّ البراءة الشرعيّة غير جارية في المقام ؛ لأنّ أدلّتها قاصرة عن الشمول للمورد ، فيتعيّن القول بالتخيير العقلي فقط ، استنادا على قاعدة عدم إمكان تكليف وإدانة العاجز.

وقد يلاحظ على كلامه :

أوّلا : أنّ إمكان جعل حكم ظاهري بالحلّيّة لا يتوقّف على أن تكون الحلّيّة الواقعيّة محتملة ، ودعوى أنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ صحيحة ، ولكن لا يراد بها تقوّمه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له ، بل تقوّمه بعدم العلم بالحكم الواقعي الذي يراد التأمين عنه أو تنجيزه ، إذ مع العلم به لا معنى لجعل شيء مؤمّنا عنه أو منجّزا له.

وجوابه ، أوّلا : أنّ ما ذكره من عدم شمول أدلّة البراءة التي لسانها من قبيل أصالة الحلّيّة أو الإباحة غير صحيح ؛ وذلك لأنّه لا يشترط في جريانها أن تكون الحلّيّة الواقعيّة محتملة ، ليقال : إنّ المورد هنا لا يحتمل فيه الحلّيّة الواقعيّة للدوران بين الوجوب والحرمة ، بل يشترط فيها كما يشترط في سائر الأصول العمليّة والأحكام الظاهريّة عموما من كون المورد مشكوكا وغير معلوم تفصيلا ، وهذا موجود في المقام ، إذ لا يعلم بالحكم التفصيلي للواقعة المذكورة لا الوجوب بخصوصه ولا الحرمة بخصوصها.

فإن قيل : إنّ الحكم الظاهري متقوّم بالشكّ في الحكم الواقعي ، فلا بدّ من الشكّ في الحلّيّة الواقعيّة لكي تثبت الحلّيّة الظاهريّة.

كان الجواب : أنّ تقوّم الحكم الظاهري بالشكّ صحيح ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّه يشترط أن يكون الشكّ الذي هو موضوع الأصل يعني احتمال مماثلة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، بل تقوّمه بالشكّ يعني ألاّ يكون الحكم الواقعي معلوما ، فيثبت التأمين أو التنجيز عن هذا الحكم الواقعي المشكوك ، إذ لو كان الحكم الواقعي معلوما لم يكن معنى لجريان التأمين أو التنجيز ظاهرا.

٤٢٢

فظهر أنّ مثل أصالة الحلّ والإباحة تجري بلحاظ الحكم الواقعي المشكوك ، وهذا متحقّق في مقامنا إذ لا يعلم بالحكم الواقعي ، فالموضوع متحقّق.

وثانيا : أنّ الرفع الظاهري في كلّ من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده ، وهو ممكن فيكون الرفع ممكنا أيضا ، ومجموع الوضعين وإن كان مستحيلا ولكنّ كلاّ من الرفعين لا يقابل إلا وضعا واحدا لا مجموع الوضعين.

والجواب الثاني : أنّ ما ذكره من عدم جريان البراءة التي لسانها من قبيل رفع ما لا يعلمون غير صحيح أيضا ؛ وذلك لأنّ المراد من الموصول هو الشيء بعينه المجهول والمشكوك ، وحينئذ نقول : إنّ الوجوب بنفسه ممكن أن يوضع ، إذن فيمكن أن يرفع أيضا ، أي أنّه كما يحتمل صدور إلزام ظاهري للحفاظ على ملاكات الإلزام المحتملة يحتمل أيضا صدور ترخيص ظاهري للحفاظ على ملاكات الترخيص المحتملة.

وهكذا الحال بالنسبة للحرمة نفسها فيمكن وضع الاحتياط بلحاظها ولذلك يمكن رفع إيجاب الاحتياط ظاهرا.

وتكون النتيجة إمكان صدور ترخيصين : أحدهما بلحاظ الوجوب المشكوك ، والآخر بلحاظ الحرمة المشكوكة.

ولا يلزم من ذلك أن يكون المطلوب هو الجمع بين الضدّين ليقال بأنّه مستحيل فيستحيل طلب تركهما ، بل المراد أنّ كلّ واحد من الوجوب والحرمة فيه وضع مستقلّ لإيجاب الاحتياط ، ويراد بأدلّة البراءة الشرعيّة رفع كلّ واحد من هذين الوضعين بنحو مستقلّ ، ولا يلزم من ذلك الجمع بين الوضعين ، وإن لزم منه الجمع بين الرفعين ؛ إذ من الممكن التفكيك بين التلازم بأن يكون الجمع بين الوضعين مستحيلا ، ولكن الجمع بين الرفعين ممكن.

نظير قدرة الإنسان على الإتيان بالأفعال المتضادّة كل واحد منها مستقلاّ عن الآخر ، كالسفر إلى هذا البلد والسفر إلى ذاك وهكذا ، بحيث يستحيل أن يجمع بين هذه الأسفار في وقت واحد ، ولكنّه قادر على الجمع بين تركها بألاّ يسافر إلى أي بلد منها.

وهنا من هذا القبيل ، فإنّ المكلّف غير قادر على الجمع بين الفعل والترك ، والشارع لا يمكنه طلب الجمع بينهما ؛ لأنّه من طلب المستحيل ، إلا أنّه يمكنه الترخيص عن

٤٢٣

الوجوب والترخيص عن الحرمة كلّ واحد مستقلاّ ، ولازمه ألاّ يجب عليه شيء من الفعل والترك ، فهو مختار لأن يفعل أو يترك من دون أن يتّصف فعله أو تركه بالوجوب أو الحرمة ، بل بالإباحة والترخيص.

فهذا الاعتراض غير تامّ.

الثالث : الاعتراض على شمول أدلّة البراءة الشرعيّة عموما بدعوى انصرافها عن المورد ؛ لأنّ المنساق منها علاج المولى لحالة التزاحم بين الأغراض الإلزاميّة والترخيصيّة في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الإلزامي ، لا علاج حالة التزاحم بين غرضين إلزاميّين ، وعليه فالبراءة الشرعيّة لا تجري ، ولكنّ العلم الإجمالي غير منجّز لما عرفت.

الاعتراض الثالث : ما يذكره السيّد الشهيد من المنع عن جريان البراءة الشرعيّة بكافّة ألسنتها.

وتوضيحه : أنّ الأصول الترخيصيّة نوع من الأحكام الظاهريّة التي يجعلها الشارع في موارد التزاحم الحفظي بين ملاكات الإلزام وملاكات الترخيص ، حيث يستدعي كلّ واحد منها الحفاظ عليه بنحو يفوّت الآخر ، فإذا كانت ملاكات الترخيص هي الأهمّ أصدر حكما ظاهريّا بالترخيص في المحتملات.

إذن فملاك جريان الأصول الترخيصيّة هو التزاحم الحفظي بين ملاكات الإلزام وملاكات الترخيص ، بحيث تكون ملاكات الترخيص هي الأهمّ.

وفي مقامنا لا يوجد تزاحم من هذا القبيل ؛ لأنّ المورد يدور أمره بين الوجوب والحرمة فقط ، للعلم إجمالا بجنس الإلزام ، وهذا يعني أنّ التزاحم بين الملاكات الإلزاميّة من جهتين ونوعين أي التزاحم بين ملاكات الوجوب وهو غرض لزومي ، وبين ملاكات الحرمة وهي غرض لزومي أيضا ، فالتزاحم بين غرضين لزوميّين ، لا بين غرض لزومي وغرض ترخيصي.

إذن فلا تجري الأصول الترخيصيّة كلّها ؛ لأنّ أدلّتها غير شاملة لهذا المورد ، إذ هي لم تشرّع لمثل هذا النحو من التزاحم الملاكي ، فالمورد خارج تخصّصا عن مورد جريان الأصول الترخيصيّة.

وهكذا يتّضح لنا حكم هذه الصورة وهو أنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزية

٤٢٤

والأصول الترخيصيّة لا تجري ، فالحكم هو التخيير العقلي فقط دون أن يكون هناك موقف للشارع منها.

وينبغي أن يعلم أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يكون في واقعة واحدة ، وقد يكون في أكثر من واقعة ، بأن يعلم إجمالا بأنّ عملا معيّنا إمّا محرّم في كلّ أيّام الشهر أو واجب فيها جميعا. وما ذكرناه كان يختصّ بافتراض الدوران في واقعة واحدة.

وأمّا مع افتراض كونه في أكثر من واقعة فنلاحظ أنّ المخالفة القطعيّة تكون ممكنة حينئذ ، وذلك بأن يفعل في يوم ويترك في يوم ، فلا بدّ من ملاحظة مدى تأثير ذلك على الموقف ، وهذا ما نتركه لدراسة أعلى.

وهنا تنبيه : وهو أنّ دوران الأمر بين المحذورين قد يفرض وجوده في واقعة واحدة ، وقد يفرض في أكثر من واقعة ، فهنا صورتان :

الأولى : ما إذا كان الدوران بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة ، كما إذا علم بصدور حلف منه إمّا على فعل السفر أو على تركه يوم الجمعة.

وهذه الصورة هي التي كانت مقصودة في الأبحاث الماضية.

الثانية : ما إذا كان الدوران بين الوجوب والحرمة في أكثر من واقعة ، كما إذا علم بصدور حلفين منه إمّا على فعل السفر وإمّا على تركه يوم الخميس ويوم الجمعة معا ، وكما إذا علم بحرمة شيء في تمام أيّام الشهر أو بوجوبه في تمام أيّام الشهر كذلك.

فهنا يمكننا فرض المخالفة القطعيّة بخلافه في الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّه إذا فعل في يوم وترك في يوم ، أو سافر في كلا اليومين أو ترك السفر فيهما معا ، فإنّه يعلم بحصول المخالفة القطعيّة جزما.

ومن هنا ينفتح البحث مجدّدا في مؤثّريّة مثل هذا العلم الإجمالي في المنجّزيّة أو عدم كونه مؤثّرا فيها ، وفي جريان الأصول الترخيصيّة في الطرفين أو الأطراف أو عدم جريانها.

وهذا البحث نؤجّله إلى درس الخارج إن شاء الله تعالى.

٤٢٥
٤٢٦

الفهرس

خصائص الأصول العمليّة........................................................ ٥

الأصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة............................................... ١٥

الأصول التنزيليّة والمحرزة...................................................... ٢٥

مورد جريان الأصول العمليّة................................................... ٣٥

١ ـ الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ............................................ ٤٩

الوظيفة الأوّليّة في حالة الشكّ.................................................. ٥١

١ ـ مسلك قبح العقاب بلا بيان ............................................ ٥٢

٢ ـ مسلك حقّ الطاعة .................................................... ٦٣

الوظيفة الثانويّة في حالة الشكّ................................................. ٦٥

أدلّة البراءة من الكتاب........................................................ ٦٩

هناك جوابان على هذا الاعتراض ............................................. ٧٣

أدلّة البراءة من السنّة.......................................................... ٨٩

واستدلّ من السنّة بروايات ................................................... ٩١

حديث « كل شيء مطلق ... » ............................................. ٩١

حديث « رفع عن أُمتي ... »................................................ ٩٨

الاعتراضات العامّة.......................................................... ١٢٥

تحديد مفاد البراءة........................................................... ١٤٣

استحباب الاحتياط.......................................................... ١٦١

٢ ـ الوظيفة في حالة العلم الإجمالي........................................... ١٧٣

قاعدة منجّزيّة العلم الإجمالي.................................................. ١٧٥

٤٢٧

١ ـ منجّزيّة العلم الإجمالي بقطع النظر عن الأصول المؤمنة الشرعية............. ١٧٩

الاتّجاهات في تفسير العلم الإجمالي .......................................... ١٨٥

تخريجات وجوب الموافقة القطعيّة.............................................. ١٩٧

٢ ـ جريان الأصول في جميع الأطراف وعدمه................................. ٢١٣

٣ ـ جريان الأصول في بعض الأطراف وعدمه................................ ٢٢٥

أما مقام الثبوت............................................................ ٢٢٧

وأما مقام الثبوت........................................................... ٢٣٩

جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض................................... ٢٥٩

أركان منجّزيّة العلم الإجمالي.................................................. ٢٧٥

الرکن الأول : وجود العلم بالجامع .......................................... ٢٧٧

الرکن الثاني : وقوف العلم على الجامع....................................... ٢٨٣

الرکن الثالث : شمول الأصل المؤمن للطرفين.................................. ٢٩٣

الرکن الرابع : الوقوع في المخالفة القطعية بالترخيص بالطرفين.................. ٢٩٧

تطبيقات منجّزيّة العلم الإجمالي................................................ ٣٠١

١ ـ زوال العلم بالجامع ................................................... ٣٠٣

٢ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف.......................................... ٣١٤

٣ ـ انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي ....................................... ٣٢٤

٤ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول .................................. ٣٣٠

٥ ـ اشتراك علمين إجماليّين في طرف ...................................... ٣٣٩

٦ ـ حكم ملاقي أحد الأطراف ........................................... ٣٤٥

٧ ـ الشبهة غير المحصورة ................................................. ٣٥٠

٨ ـ إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور ..................... ٣٧٤

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيّات ............................................ ٣٨٧

١٠ ـ الطوليّة بين طرفي العلم الإجمالي ...................................... ٣٩٨

٣ ـ الوظيفة عند الشكّ في الوجوب والحرمة معا............................. ٤٠٩

١ ـ الشكّ البدوي في الوجوب والحرمة .................................... ٤١٢

٤٢٨

٢ ـ دوران الأمر بين المحذورين ............................................ ٤١٤

الفهرس..................................................................... ٤٢٧

٤٢٩